بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين . .

أولاً :
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله :
و قد سلكوا في تأويل الأقانيم مسلكًا ألزمهم القول بوجود ثلاثة آلهة ، في الذهن و الخارج ، متباينة ذواتها و حقائقها ، أو نفي ذات الإله جل اسمه ، و ذلك أن جعلوا الأب عبارة عن الذات بقيد الأبوة ، و الابن عبارة عن الذات بقيد البنوة ، و روح القدس عبارة عن الذات بقيد الانبثاق ، ثم يقولون : إله واحد .
فإذا ضويقوا في ذلك ، و تبينوا أن ذات الأب مختصة بصفة الأبوة ، غير قابلة لوصفها بالبنوة ، و كذلك القول في الابن و روح القدس و ليست من الذوات المتضايفة ، فتقدر أبًا لشخص و ابنًا لغيره ، قالوا : إن الذات واحدة و وصفها بجميع هذه الصفات ممكن ، لكنّا إذا وصفناها بصفة قدرنا نفي ما يباينها ، و هذا مكان الجهل و الغفلة !
لأنهم يقولون بقدم هذه الذوات أولاً و بقدم صفاتها ، فإذًا هي ملزومات لصفاتها ، و صفاتها لازمة لها ، و متى وجد الملزوم وجد اللازم ، و متى انتفى اللازم انتفى الملزوم .
فإذا قدر نفي الصفة الملازمة للذات ، قدر نفي الذات ، و إلى هذا المعنى إشارة الكتاب العزيز بقوله : { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } ( المائدة : 73 ).
أبو حامد الغزالي ، الرد الجميل لألوهية عيسى بصريح الإنجيل ص156-157 .

وهذا نص صريح في تفنيد التثليث ورد بعد كلامه الذي نقله المدلس النصراني بقليل ، وهو إلزام محكم للنصارى بتعدد الآلهة لا يمكنهم الفكاك منه .. ولا يجوز عند العقلاء أن يشيد بعقيدة التثليث من يفندها ويدحضها بهذه الصرامة .

ثانيًا :
لا أظن أنه من السليم إنكار ثبوت كتاب الرد الجميل للغزالي رغم أنه قول لبعض أهل العلم لكن الراجح أن الكتاب للغزالي حقًا خاصة لمن له صلة ودراية بكلام الغزالي وأسلوبه رحمه الله .

ثالثًا :
قول الكاتب "الحكيم" : (( فالغزالي يشهد للمسيحيين بالتوحيد. ويشهد لهم بصحة اصطلاحهم في تفسير التثليث في التوحيد ,بناءً على الاعتبارين اللذين ساقهما عنهم : الأول على اعتبار الأقانيم في الله صفات ذاتية ,في الذات الإلهية الواحدة ,والثاني على اعتبار الأقانيم في الله أفعالاً ذاتية في الذات الإلهية الواحدة ))

والاعتباران اللذان نقلهما الغزالي عن النصارى ليس في أيهما أن الأقانيم صفات أو أفعال البته ؛ بل فيه أن الأقنوم هو حاصل الذات مع الصفة فتكون الذات باعتبار صفة معينة أقنومًا معينًا وتكون باعتبار صفة أخرى أقنومًا آخر وتكون باعتبار صفة ثالثة أقنومًا ثالثًا ، وهذا هو التثليث !

لكن الاختلاف بين الاعتبارين هو أن الصفات في الاعتبار الأول هي الوجود والعلم وكونها معقولة ، وفي الثاني هي الذات المجردة من الصفات وكونها عاقلة وكونها معقولة لها .. فلا صفات ذاتية ولا أفعال ذاتية في الأمر ، بل مجرد اعتبارات للذات بحسب الصفة .

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على غباوة هذا الكاتب "الحكيم" وعدم وعيه لما ينقل من كلام الغزالي عن دينه وعقيدته التثليثية .

رابعًا :
قول الكاتب "الحكيم" : (( والقول الصحيح الذي يجمع الأفعال الذاتية والصفات الذاتية ,في الله الواحد الأحد , كونها صلات كيانية بين الله الآب وكلمته وروحه ,في الجوهر الإلهي الفرد ))

هذا تخبط عجيب في المصطلحات ؛ فالصفات أو الأفعال عند هذا "الحكيم" ترادف الصلات ، فهو يصف الأقانيم مرة بأنها صفات ذاتية ومرة بأنها صلات كيانية ، والصفات والصلات مترادفتان عنده فهو لا يميز بينهما .

و الجواب على هذا التخبط في المفاهيم سهل وبسيط : فالصفات عبارة عن موجودات حقيقية قائمة بالموصوف كالعلم و القدرة و السمع و البصر ، و لا يمكن تخليها في الذهن أو الخارج إلا قائمة بموصوف .

أما الصلات فهي نسب عدمية ليس لها وجود حقيقي ، بل هي مجرد اعتبارات في الذهن قائمة بين موجودين أو أكثر ، و لا يمكن تخليها إلا بين موجودين اثنين أو أكثر .. و مثال لها الفوقية و التحتية و الأبوة و البنوة و غيرها .

مثال واقعي : الرأس و العنق عبارة عن موجودين حقيقيين ، و الصلة بينهما أن الرأس فوق العنق ، و العنق تحت الرأس .. و صلة الفوقية أو التحتية ليست موجودًا حقيقيًا بل هي مجرد نسبة بين الرأس و العنق .

كذلك الأبوة و البنوة عبارة عن صلة بين اثنين : أب و ابن .. فإثبات الصلة يقتضي إثبات موجودين هما الأب و الابن .. و هذه الصلة عبارة عن نسبة عدمية أو اعتبار في الذهن ، و ليست كيانًا حقيقيًا في الواقع .

و إثبات وقوع الصلات في ذات الله ينافي التوحيد لأن الصلة هي نسبة بين منتسبين ، و الواحد لا يكون بينه و بين نفسه نسبة ؛ لأن النسبة هاهنا لا تكون إلا بين منتسبين .. فإذا فرضنا أن الله واحد ، فلا يوجد منتسبان ، بل واحد فقط .. فكيف يتصور قيام نسبة بين هذا الواحد و بين نفسه من حيث هو واحد ؟ .. إنه لا يمكن القول بذلك إلا إذا كان غير واحد .

وفي النهاية نقول :
لا عجب أن ينقل اسكندر جديد هذا الكلام عن الغزالي دون أن يعيه أو يفهمه ويكتب عنه تعليقًا غبيًا يدل على أنه لم يفهم حرفًا من كلام الغزالي .

ولا عجب أن ينقله رجل دين جاهل مثل بسيط أبو الخير الذي لا يجيد إلا القص واللزق واصطياد الشباب المسلم الصغير ليردد أمامه شبهات يحفظها بلا فهم ولا وعي ولا عقل .

ولا عجب كذلك أن ينقله دكتور داود رياض الذي يتباهى دومًا بأنه حاصل على دكتوراه في الفلسفة من الولايات المتحدة الأمريكية وهو لا يفقه نصف كلمة في علوم الفلسفة والإلهيات .

بل أعجب من هذا أن هؤلاء يسعون لتنصير المسلمين أصحاب العقيدة السليمة المتينة عن طريق الكلام الفلسفي في الإلهيات وهو المجال الذي حقق فيه النصارى أخيب نتائج وأبشع هزائم على اختلاف مللهم وطوائفهم ، وقد اشتهروا بين أرباب الأديان بأنهم أغبى الأمم في العقليات !

فائدة :
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (65) سورة آل عمران

قال ابن كثير:عن ابن عباس رضي الله عنه قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فأنزل الله تعالى : { يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم } الاية أي كيف تدعون أيها اليهود أنه كان يهوديا وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى ؟ وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانيا وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر ؟ ولهذا قال تعالى : { أفلا تعقلون }

حقًا لا يعقلون !
 

الرئيسيه