إنجبيل

 

وهى مأخوذة من الكلمة اليونانية "إفاجيليون" ومعناها "بشارة" أو "خبر طيب" فالإنجيل إعلان الأخبار المفرحة عن الخلاص وتستخدم الكلمة أحيانا للدلالة على قصة حياة ربنا يسوع المسيح (مرقس 1: 1) بما فى ذلك كل تعاليمه (أع 20: 24) وكلمة "إنجيل" الآن تعنى فى المقام الأول الرسالة التى تكرز بها المسيحية فهى "الخبر الطيب" فالإنجيل عطية من الله إنه إعلان غفران الخطايا واسترداد البنوة لله بواسطة المسيح إنه يعنى مغفرة الخطايا والمصالحة مع الله وليس الإنجيل هو رسالة الخلاص فحسب بل هو أيضا الوسيلة التى من خلالها يعمل الروح القدس (رومية 1: 16).

ويختلف الإنجيل عن الناموس فى كونه معلنا بكامله من الله فهو واضع فى كل ملئه فى الإعلان المعطى فى العهد الجديد ويوجد أيضا فى العهد القديم وإن يكن بصورة غامضة إنه يبدأ بالنبوة عن "نسل المرأة" (تك 3: 15) ووعد الله لإبراهيم بأن فيه ستتبارك كل قبائل الأرض (تك 12: 3 ، 15: 5) كما نجد الإشارة الى ذلك فى سفر الأعمال (10: 43) وفى الحوار المذكور فى الإصحاح الرابع من الرسالة الى رومية.

وكلمة "إنجيل" فى العهد الجديد لا تعنى مطلقا مجرد كتاب ولكنها تعنى الرسالة التى نادى بها المسيح ورسله ويسمى فى بعض المواضع "إنجيل الله" (رو 1: 1 ، 1 تس 2: 2 ,9، 1 تى 1 : 11) كما يسمى "إنجيل المسيح" (مر 1: 1 ، رو 1: 16 ، 15: 19 ، 1 كو 9: 12 و18، غل 1: 7) ويسمى أيضا "بشارة نعمة الله" (أع 20: 24) وفى موضع أخر "إنجيل السلام" (أف 6: 15) وفى موضع أخر "إنجيل خلاصكم" (أف 1: 13) كما يسمى أيضا "إنجيل مجد المسيح" (2 كو 4: 4) والإنجيل هو المسيح فالمسيح هو موضوعه وغايته وجوهره لقد كرز هو به (مت 4: 23 ، 11: 5، مز 1: 14 ، لو 4: 18) وكرز به الرسل (أع 16: 10، رو 1: 15 ، 2: 16 ، 1 كو 9: 16) كما كرز به المبشرون (أع 8: 25).

ويجب ملاحظة التباين الواضح بين الناموس والإنجيل فالتمييز بين الاثنين بالغ الأهمية لأن الإنجيل – كما يقول لوثر – يحتوى على كل العقيدة المسيحية كما يقول "إن الناموس لا يقصد به سوى كلمة الله والوصية التى تبين ما يجب عمله وما يجب تركه ويطلب منا طاعة الأعمال أما الإنجيل فهو تعليم كلمة الله الذى لا يطلب أعمالنا ولا يأمرنا بفعل أى شئ بل يعلن لنا النعمة الممنوحة لنا لغفران الخطايا والخلاص الأبدى فنحن هنا – فى الإنجيل – لا نفعل شيئا سوى أن نأخذ ما وهب لنا بالكلمة".

فالإنجيل إذا هو رسالة الله وتعليم المسيحية والفداء فى المسيح يسوع ابن الله الوحيد وبواسطته وهو مقدم لكل الجنس البشرى وكما أن الإنجيل مرتبط تماما بحياة المسيح فسيرته وسجل أعماله والإعلان عما يهبه جميع هذه تجتمع فى هذه الكلمة الواحدة التى لا يمكن أن نقدم لها تعريفا أفضل مما قاله ملانكثون : "الإنجيل هو الوعد المجانى لغفران الخطايا من أجل المسيح" والتمسك بصلابة وعناد بأنه فى هذا الإنجيل لنا إعلان خارق للطبيعة ليتفق تماما مع روح البحث العلمى فالإنجيل باعتباره رسالة الخلاص الكاملة وباعتباره فعالا بقوة فى انسحاق القلب والإيمان والتبرير والتجديد والتقديس فإنه يتناول حقائق الوحى والاختبار.

 

الأناجيل الثلاثة الأولى :

أولا – المقدمة :

1- مجال هذا البحث : يقتصر هذا البحث على دراسة العلاقات والمقومات العامة للأناجيل الثلاثة الأولى (متى ومرقس ولوقا) وتسمى عادة بالأناجيل المتشابهة لأنها بالمقابلة مع الإنجيل الرابع نجدها تكاد تتضمن نفس الوقائع ونفس النظرة العامة لحياة المسيح وتعاليمه فى أثناء خدمته على الأرض وموته وقيامته أما الإنجيل الرابع فى ذاته وفى علاقته بالأناجيل الثلاثة الأولى مع سائر كتابات يوحنا فسيعالج فى موضع لاحق.

2- الأناجيل فى التقليد الكنسى : إن مكان الأناجيل فى التقليد الكنسى راسخ أكيد إذ أن يوسابيوس يضع الاناجيل الأربعة بين الأسفار التى لم يدر حولها أى جدل فى الكنيسة ومن المعترف به أنه فى نهاية القرن الثانى كانت هذه الأناجيل الأربعة – منسوبة للكتاب الذين تحمل أسماءهم – متداولة فى كل المسكونة ومستخدمة بلا أى اعتراض فى كل الكنيسة كما كانت على رأس قوائم أسفار الكنيسة فى كل الترجمات وفى كل مكان كان يستخدمها الجميع ليس آباء الكنيسة (إيريناوس ، وترتليان وأكليمندس ، وأوريجانوس ... إلخ) فحسب بل استخدمها أيضا الهراطقة والوثنيون الذين كانوا ينسبونها أيضا الى تلاميذ المسيح فيوستنيوس الشهيد – فى منتصف القرن الثانى – يقتبس كثيرا من "ذكريات الرسل" التى تسمى "أناجيل" والتى كتبها الرسل والذين تبعوهم" وما كانت عليه هذه الأناجيل يتجلى فى "الدياتسرون" أو "اتفاق الأناجيل الأربعة" الذى كتبه تلميذه تاتيان (حوالى 170م) جامعا إياه من الأناجيل الأربعة التى بين أيدينا وأول من ذكر متى ومرقس بالاسم هو بابياس من هيرابوليس (حوالى 120 – 130م) ويميل دكتور سانداى بالعودة الى المقتطفات المأخوذة عن بابياس الى حوالى 100م كما يقول دكتور موفات : "لقد كانت كتابات متى ومرقس متداولة فى نهاية القرن الأول" وجوهر شهادة بابياس هو "أن مرقس – وقد أصبح مترجما لبطرس – كتب بدقة وإن يكن بغير ترتيب – ما قاله يسوع وما فعله" "وأن متى كتب الأقوال (اللوجيا) بالعبرية أى الارامية وكل واحد فسرها بقدر ما استطاع" وواضح أن يوسابيوس أخذ ذكره عن متى ومرقس من بابياس فى إشارة واضحة للأناجيل التى بين أيدينا ولكن هناك مشكلة فيما يختص باللوجيا الأرامية التى يقول إن متى قد كتبها وعلاقة ذلك بإنجيل متى فى اليونانية المعروف لنا وهو أيضا إنجيل متى الوحيد الذى كان معروفا عند الآباء والأوائل وليس ثمة أساس لافتراض أن الإنجيل اليهودى المسيحى "إنجيل العبرانيين" كان هو أصل إنجيل متى اليونانى ولكنه قد يكون مأخوذا عنه وقد استخدم ماركيون الغنوسى إنجيلا مشوها من إنجيل لوقا وسيأتى الكلام بالتفصيل عن كل إنجيل من الأناجيل.

 

ثانيا – مشكلة الأناجيل الثلاثة الاولى :

1- طبيعة المشكلة : كانت على الدوام ثمة مشكلة بخصوص الأناجيل الثلاثة الأولى ناشئة عن طبيعتها الفريدة منذ ظهور الأناجيل الثلاثة معا فى الأسفار القانونية للعهد الجديد فلا يستطيع أحد أن يقرأ بعناية هذه الاناجيل بالتتابع دون أن يدرك وجوه التشابة ووجوه الخلاف فى محتوياتها فكل كاتب من الثلاثة يدون تاريخه بدون الإشارة الى الأثنين الاخرين وباستثناء لوقا (1: 1-4) لم يقل الكاتب لقرائه شيئا عن مصادر إنجيله لهذا نشأت مشكلة حول علاقة الثلاثة الأناجيل أحدها بالأخرين ورغم أن المشكلة تكاد تجد لها حلا إلا أنها لم تحل تماما حتى الآن ويوجد ملخص هذه المشكلة فى الكثير من المؤلفات الحديثة وافضلها هى المقدمة التى كتبها "زاهن" حيث يذكر باختصار ماهية المشكلة وكيف ظهرت فى الكنيسة فى القرون الأولى ويعطى بالتفصيل تاريخ ما دار حولها من مناقشات منذ وقت "ليسنج" – (1778) الى وقتنا الحاضر ولا يسعنا فى إطار هذا البحث إلا أن نشير باختصار الى هذه المناقشات ولعله يلزمنا أن نقول إنه باستمرار المناقشات أثيرت مسائل كثيرة ويبدو أن كل محاولة للحل زادت من صعوبة الوصول الى حل واف وهكذا بدا أنه لم تعترض النقد الأدبى مشكلة أعقد من تلك التى تثيرها المتشابهات والاختلافات فى الاناجيل الثلاثة الاولى.

2- حلول مقترحة : من أهم الافتراضات التى تحاول تعليل وجود هذه المتشابهات والاختلافات ما يأتى:

أ- أفتراض التقليد الشفهى : وقد سقطت هذه النظرية ولم تعد تحظى بالقبول عند النقاد المحدثين فيقول دكتور ستانتون – مثلا – "لا يمكن تعليل العلاقات بين الأناجيل الثلاثة تعليلا كافيا على أساس التقليد الشفهى" وهكذا يقول موفات أيضا والنظرية باختصار تفترض ان كل واحد من البشيرين كتب مستقلا عن الآخرين واستقى المادة التى كتبها لا من مصادر مكتوبة بل من روايات شفهية لأقوال يسوع واعمال ومن كثرة تكرار هذه الروايات اتخذت صورة ثابتة نسبيا فتعليم الرسل الذى نادوا به فى أورشليم أولا وأصبح موضوعا للحفظ (لو 1: 4) وقد اختزنته ذاكرات مدربة بين المؤمنين كل ذلك يكفى لتعليل العلاقة بين هذه الأناجيل الثلاثة وقد أخذ الإنجيل الشفهى صورته الأساسية فى فلسطين وبدأت نسخ مكتوبة منه تظهر شيئا فشيئا بصورة تكاد تكون مكملة (لو 1: 1) وأول من دافع عن الفرض الشفهى هو جيسلر (1818) وأيد هذا الأفتراض فى بريطانيا ألفورد ووستكوت ويدافع عنه اليوم مع بعض التعديلات دكتور رايت فى كتابه عن الأناجيل الثلاثة الأولى فى اليونانية (الطبعة الثانية - 1908).

ب- افتراض الاستخدام المتبادل : هذا الافتراض القديم الذى يعود الى أوغسطينوس والذى يفترض استخدام اثنين من البشيرين للإنجيل الآخر منها قد دافع عنه علماء مشهورون فى تاريخ النقد وقد ظهرت صور كثيرة لهذه النظرية فكل إنجيل من الأناجيل الثلاثة اعتبر أنه الأصل وأخذ عنه الآخران واستخدمت فى ذلك كل التباديل الممكنة (وعددها ستة تباديل) وحيث أن المدافعين عن هذا الافتراض الآن قليلون فليس من اللازم دراسة هذه التباديل والتوافيق بدقة ويمكن استبعاد اثنين منها : هما الذين وضعوا لوقا أولا والذين وضعوا مرقس أخيرا (رأى أوغسطينوس فى الازمنة الحديثة – ف. بوير ومدرسة توبنجن).

ج- افتراض المصادر : ولعل هذه النظرية هى التى تكتسح الميدان فى الوقت الحاضر ويميل النقاد الى قبول مصدرين رئيسيين للأناجيل الثلاثة:

1-المصدر الأول هو إنجيل شبية – إن لم يكن هو بعينه – إنجيل مرقس الموجود بين أيدينا وفيما يتعلق بالأنجيل الثانى (مرقس) فهناك شبة إجماع على أنه سابق للأثنين الأخرين وان الأثنين الآخرين قد استخدماه مرجعا لهما وكثيرون من النقاد البارزين ومن مدارس فكرية مختلفة يتفقون على هذا الرأى حيث أن معظم محتويات مرقس قد تضمنها الاثنان الآخران وأن ترتيب الأحداث فى مرقس قد سار على منواله – الى حد بعيد متى ولوقا وأن الاختلاف عن اسلوب مرقس يرجع الى افتراض تنقيح الكاتب.

2- المصدر الثانى والذى يرفع الآن بالاسم "Q" ظهر أولا نتيجة فحص المادة التى لا يحتويها الإنجيل الثانى ولكنها موجودة فى متى ولوقا وبينما توجد اختلافات حول طبيعة هذا المصدر الثانى ، يوجد شبة اتفاق على وجوده ولكن لا يوجد اتفاق عما اذا كان هذا المصدر قد احتوى على رواية الأحداث وكذلك الأقوال أو أنه كان سجلا للأقوال فقط (والرأى الأول يعتبرونه الأرجح) كما لا يوجد اتفاق عما إذا كان قد احتوى على رواية أحدث أسبوع الآلام (انظر موفات بخصوص الآراء المختلفة عن "Q") وبينما توجد اختلافات فى وجهات النظر حول هذه النقاط وغيرها فان الاتجاه العام هو قبول نظرية "المصدرين" فى صورة من الصور لتعليل الظواهر الموجودة فى هذه الأناجيل.

د- مصادر أخرى : لكى تكون نظرية المصدر محتملة لابد من اعتبار مصادر أخرى بجانب المصدرين المذكورين سابقا اذ يحتوى كل من الإنجيلين الأول والثالث على مادة غير موجودة فى هذين المصدرين فهناك المقدمة التاريخية فى متى (1: 2) التى لا توجد إلا فى هذا الإنجيل مع أشياء أخرى لم يسجلها سوى متى (9: 27 – 34 ، 12: 22 ، 14: 28-33 ، 17: 24 ... إلخ) ثم ان لوقا ليس له مقدمة تاريخية فحسب (1،2) ولكن جزءا كبيرا منه يتكون من مادة لا توجد فى الأناجيل الأخرى (مثلا 7: 11-16 ,36-50 ، 10: 25.. والأمثلة فى الأصحاحات 15 ، 16 ، 18: 1-14 إلخ) وهذه الظاهرة فى إنجيل متى ولوقا سنتناولها بالتفصيل عند الحديث عن كل إنجيل على حده وهنا يكفى القول بأنه لا يمكن الجزم فى هذا الأمر الى أن يوجد مصدر محتمل:

1- لما هو مشترك بينها جميعا

2- لما هو مشترك بين كل اثنين منها

3- ما هو قاصر على كل إنجيل من الأناجيل إن المؤلفات عن هذا الموضوع كثيرة وتملأ مجلدات ولهذا لا يسعنا إلا ذكر القليل منها بالإضافة الى ما سبق أن ذكرناه والمؤلفات الآتية تكفى لتوضيح الموقف من المشكلة: "مقدمة للعهد الجديد" ومؤلفات أخرى تعليم ب. ويس – "لوقا الطبيب" و"أقوال يسوع" ، و"أعمال الرسل" و"زمن كتابة أعمال الرسل" و"الأناجيل الثلاثة الأولى" "لهارناك – "دراسات فى كل إنجيل من الأناجيل الثلاثة" لفلهاوزن – "دراسات فى مشكلة الأناجيل الثلاثة" لدكتور سانداى.

 

ثالثا– التحليل الأدبى والتقليد الشفهى :

1- المشكلة ليست أدبية فحسب : فإذا نظرنا إليها على أنها مشكلة تحليل أدبى فإننا لا نتقدم كثيرا عما جاء فى مؤلفات هارناك وسانداى ومعاونيه وستانتون المشار إليهم آنفا لقد استلزم العمل الذى تم كثيرا من الصبر والمثابرة فلم يهمل خيط ولم يوفر جهد ولقد استكشفت بصورة جامعة مانعة كل العلاقات بين الانماجيل الثلاثة ومع هذا ظلت المشكلة بلا حل اذ يجب ألا ننسى أن مواد الأناجيل الثلاثة الاولى كانت موجودة قبل أن تتخذ الصورة المكتوبة إن التحليل الادبى لنسيان هذه الحقيقة الواضحة والأعتماد على المقارنة الأدبية وحدها ويقر الجميع بأن الإنجيل كان أولا ولعدة سنوات إنجيلا شفهيا ويجب أن يحسب حساب هذه الحقيقة عند أى محاولة جادة لفهم هذه الظواهر فلا يكفى أن نقول إنه لا يمكن تعليل العلاقات بين الأناجيل الثلاثة تعليلا وافيا على أساس التقليد الشفهى فسيواجهنا السؤال : هل يمكن تعليل العلاقات بين الأناجيل الثلاثة الأولى بنتائج التحليل الأدبى فحسب مهما كان هذا التحليل جامعا مانعا؟ لنسلم بأن التحليل الأدبى قد انجز عملا كبيرا وأنه قد حاز موافقة الجميع – تقريبا – على افتراض المصدرين وأنه أثبت – أخيرا – الأسبقية لمرقس وأنه اكتشف مصدرا محتملا يشتمل أساسا على أقوال يسوع فسيظل هناك – مع هذا – مشاكل كثيرة لا يمكن للتحليل الادبى أن يلمسها أو على الأقل لم يلمسها فتوجد مشكلة ترتيب الأحداث فى الأناجيل وهو الترتيب الذى سار عليه الثلاثة الى حد كبير فكيف لنا أن نعلل هذا الترتيب ؟ هل يكفى القول – كما يزعم البعض – بأن مرقس قد وضع أسلوب قصة الإنجيل وأن الآخرين قد سارا على نهجه ؟ وكل الأناجيل ينبغى أن تسير على النهج الذى وضعه مرقس هكذا يؤكدون ولكن لو كان هذا صحيحا فكيف انحرف متى ولوقا عن هذا النهج بكتابة مقدمة تاريخية ؟ لماذا كتبا سلسلتى النسب ؟ ولماذا أعطيا مثل هذا المكان الكبير لأقوال يسوع وأضافا الكثير مما لا يحويه الإنجيل الذى – على زعمهم – قد وضع النموذج لما ينبغى أن يكون عليه الإنجيل ؟ هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها بافتراض أن الآخرين قد سارا على نمط قد وضعه مرقس واحيانا يوصف الإنجيل الثانى كما لو أنه أطلق فجأة بقوة على العالم المسيحى وكما لو أن أحدا لم يسمع من قبل بالقصة التى يحتويها قبل كتابة مرقس لها لا شك فى أن الكنيسة كانت تعرف الكثير من الحقائق فى حياة يسوع كما كانت تعرف الكثير من تعاليمه قبل كتابة الأناجيل ويتضح هذا بجلاء من كتابات الرسول بولس إذ ما أكثر الحقائق عن يسوع وما أكثر التعاليم التى يمكن استخراجها من هذه الرسائل فنحن نتعلم الكثير من الرسول بولس عن حياة يسوع.

2- تأثير التعليم الشفهى : قامت الكنيسة الأولى فى صورتها الأولى على تعليم ومثال وتأثير الرسل فى أورشليم وقد تأسست على شهادة الرسل عن حياة وشخصية وتعليم وموت وقيامة يسوع المسيح وكان موضوع هذه الشهادة هو ما فعله يسوع وما علم به وإيمان الرسل بما كانه يسوع وبما ظل عليه إننا نقرأ عن الكنيسة الأولى : "كانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة ..." (أع 2: 4) وكان تعليم الرسل يتكون من ذكرياتهم عن الرب وتفسير الحقائق المختصة بيسوع والاتفاق بين هذه الحقائق وما جاء فى العهد القديم وكان التعليم للكنيسة فى البداية شفهيا فلا شك فى هذه الحقيقة مطلقا ولكن كم من الزمن ظل هذا التعليم شفهيا ؟ هذا مالا نستطيع الجزم به ولكن يحتمل أنه ظل هكذا طيلة وجود الرسل معا فى أورشليم فقد كان فى الامكان الرجوع إليهم دائما كما كان هناك تعليم بطريقة السؤال والجواب كان يقدم للمتجددين وذلك حسبما كان متبعا فى المجامع اليهودية حيث كان الاعتماد أساسا على الذاكرة ولابد أنه كان هناك تعليم دقيق فى الفصول التعليمية ومواعظ لعامة الناس – فى الاجتماعات الأسبوعية – على قد ما يستطيعون استيعابه وتذكره علاوة على الذين كانوا مجتمعين فى يوم الخمسين وغيرهم ممن كانوا يترددون على أورشليم فى الأعياد ويسمعون بشارة الإنجيل ويحملون معهم عند عودتهم الى بيوتهم بعض المعرفة عن حياة يسوع وموته وقيامته وصعوده ولعل ما حمله هؤلاء الى أنطاكية ورومية وغيرهما من المدن التى كان يقيم فيها شتات اليهود كان إنجيلا بسيطا وهذا لا شك فيه لأنه على أساس شهادتهم قامت الكنيسة فى أنطاكيا حيث كان المسيحيين – بلا أدنى ريب – معرفة بالإنجيل فعليه بنوا إيمانهم وبه استرشدوا فى كل تصرفاتهم.

 

رابعا – ترتيب الأحداث وأزمانها فى الأناجيل الثلاثة :

1- مجال الشهادة الرسولية : نعرف من سفر الأعمال أن الموضوع الرئيسى لكرازة الرسل كان قيامة الرب : "وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع" (أع 4: 33) ومع هذا فمن الواضح أن شهادة الرسل لم تكن مقصورة على أحداث أسبوع الآلام أو على حقيقة القيامة كان هناك عطش الى معرفة كل ما يتعلق بحياة يسوع وكل ما فعله وكل ما قاله وأسلوب حياته والتعليم الذى علمه ولابد أن الرسل رووا كل ما يعلمونه وظل المؤمنون يحتفظون بالقصة كما سمعوها من الرسل وإذا رويت لطفل قصة فسيكلب منك دائما أن ترويها بنفس الصورة التى سمعها بها أول مرة إن السامعين لقصة يتبرمون بأى تغيير فى روايتها بعد ذلك والذاكرة تتمسك جدا بما سمعته فى المرة الأولى وتقاوم أى تغيير.

2- اتجاه الترتيب : من الواضح أن الدروس الأولى التى قدمها الرسل كانت عن أحداث أسبوع الآلام وعن القيامة ولكنها استرجعت أيضا الوقائع والأحداث فى حياة يسوع وإذا نقرأ الأناجيل الثلاثة الأولى نرى أن الأحداث نفسها هى التى أملت هذا الترتيب وأنها لم تجمع على هذه الصورة إلا لأنها هكذا حدثت ومعظم الأحداث يربط بينها خيط جغرافى واحد وواضح لكل قارئ حصيف أن الإنجيل الثانى يحتفظ بالترتيب التقليدى بدقة بالغة أما فى الأناجيل الثلاثة الأخرى فإن الكثير من القصص نجدها مرتبة فى حلقات منتظمة ولنأخذ مثالا واحدا – وهناك الكثير من الامثلة : شفاء المرأة نازفة الدم نراه وكأنه حدث فى الطريق الى بيت يايرس (مر 5: 21) والتفسير الوحيد لذلك هو أن ذلك كان الأسلوب الواقعى إذ كانت تجرى الأحداث والوقائع فى أثناء رحلات يسوع وتلاميذه كما أنه كان أيضا يدلى بأحاديثه فى تلك الاثناء وعندما كان التلاميذ يستعيدون ذكريات الرحلة كانوا يذكرون ما حدث فى الطريق وفى الحقيقة اننا عندما نتابع الرحلة من الجليل الى سواحل صور وصيدا مرورا بالسامرة ونزولا الى وادى الأردن ثم مرورا بأريحا الى أورشليم نجد أن تنسيق مادة الأناجيل قد أملته الوقائع فمعظم ما سجل منها حدث فى أثناء التجوال واحتفظت به ذاكرة التلاميذ بترتيب حدوثه فليس الترتيب اعتباطا ولا من نتاج التفكير ولكنه محصلة الحقائق وإذا تابعنا نهج كل واحد من البشيرين لوجدنا  أن لوقا – أحيانا – ومتى – فى أغلب الأحيان – يخرجان عن ترتيب مرقس ولكن مما تجدر ملاحظته هو أنهما لا يفعلان هكذا معا أبدا وكما يقول بروفسور "بيركت" : "لا يتفق متى ولوقا أبدا فى وضع حادثة فى غير ما وضعها فيه مرقس فأحيانا يخرج لوقا عن ترتيب مرقس وكثيرا ما يفعل متى ذلك ولكن فى هذه الحالات نجد دائما أن الإنجيل الآخر يؤيد مرقس" ففى إنجيل متى بعد العدد الأول من الإصحاح التاسع عشر تسير الأحداث فى تتابع كما فى مرقس تماما.

3- زمن الحدوث : عندما يدرس شخص المشاهد المتغيرة – الى حد ما – للجغرافيا السياسية لفلسطين فى الأربعين السنة الأولى بعد ميلاد المسيح يجد كثيرا من البراهين على دقة الوضع التاريخى كما هو فى الأناجيل كان ميلاد يسوع فى زمن هيرودس الكبير عندما كانت فلسطين بأكملها تحت حكم واحد ولكن بعد موت هيرودس أصبحت فلسطين مقسمة بين عدد من الحكام فحكم أرخيلاوس اليهودية حتى السنة التاسعة بعد الميلاد وأصبح الجليل تحت سيطرة هيرودس أنتيباس حتى عام 37م وكان فيلبس رئيس ربع على إيطورية وحوالى سنة 40م أصبحت فلسطين مرة أخرى تحت حكم حاكم واحد هو هيرودس أغريباس وواضح الآن أن وقائع الأناجيل حدثت فى أثناء حكم هيرودس أنتيباس على الجليل وبيرية بينما كان بيلاطس واليا على اليهودية ولا تقتصر أهمية ذلك على مجرد التواريخ بل كما ذكر بروفسور بيركت (فى فصل بعنوان : "يسوع فى المنفى") فى تعليقه على خط سير الرحلة المسجل فى الإصحاح الخامس من مرقس أننا نجد أن الأجزاء التى تجنبا لذهاب إليها هى التى كانت تحكم تحت حكم هيرودس أنتيباس اذ نقرأ : "فخرج الفريسيون للوقت مع الهيرودسيين وتشاوروا عليه ليقتلوه" (مر 3: 6) وأهمية هذا التحالف بين الفريسيين والهيرودسيين يوضحها لنا جيدا بيركت فى مؤلفه المذكور آنفا فمرقس البشير يذكر ذلك دون أى تعليق منه ولكن المؤامرة كان لها تاثير عظيم على عمل يسوع فبعد ذلك بقليل لا نرى يسوع فى أى مجمع من مجامعهم فقد انصرف الى تعليم الاثنى عشر فى مناطق خارج ممتلكات هيرودس أنتيباس ويجب ألا ننسى أنه أثناء هذه الشهور كان يسوع منفيا من وطنه وفى أثناء هذه الفترة من النفى بدأ يتكلم بجلاء عن هدف خدمته ومنذ أن حدث الاعتراف العظيم فى قيصرية فيلبس بدأ يعلن لتلاميذه ما كان ينتظره فى أورشليم (مت 16: 13 وما بعدها).

 

 

خامسا – تاريخ الأناجيل الثلاثة الأولى :

سنتناول موضوع التواريخ التى ظهرت فيها الأناجيل الثلاثة الأولى وانتشرت عند الكلام عن كل إنجيل منها.

1- عودة الى التاريخ المبكر : يلزم القول هنا أن الرأى الآن يميل الى الأخذ بالتواريخ المبكرة عما كان شائعا حتى وقت قريب فكل الكتاب – ما عدا المتطرفين منهم – يقرون الآن أن الأناجيل الثلاثة الأولى قد كتبت فى حدود العصر الرسولى ويقول هارناك فى مقدمة كتابه عن لوقا مذكرا قراءه "أنه منذ عشر سنوات أصبحنا فى نقد المراجع القديمة للمسيحية نتراجع شيئا فشيئا الى التقليد" فقد كانت التواريخ التى يؤيدها سابقا هى أن مرقس كتب فيما بين 65 ، 70 م ومتى بين 70 ، 75 ولوقا بين 78، 93 أما رأى هارناك الأخير فيما يختص بتاريخ سفر الأعمال فهو أنه "يبدو الآن أنه قد ثبت – بلا أدنى ريب – أن كلا السفرين اللذين كتبهما هذا المؤرخ العظيم ، قد

كتبا والرسول مازال حياً (تاريخ الأعمال والأناجيل الثلاثة-124)، ولا شك أن لهذا أثر حاسم فى موقف النقاد. فإذا كان سفر الأعمال قد كتب فى أثناء حياة الرسول بولس (أنظر أع 28: 30)، فلا بد أن يكون الإنجيل الثالث قد كتب قبل ذلك. ويحتمل أن لوقا كان قد جمع كل مادته فى أثناء سجن بولس فى قيصرية، وإذا كان قد استعأن بالإنجيل الثاني، فلا بد أن مرقس قد كتب إنجيله فى تاريخ سابق، وبذلك يحدث أنقلاب ثورى فى تحديد تواريخ الأناجيل. والأمر الجوهرى المؤكد هو أن الثلاثة الأناجيل قد كتبت وأنتشرت قبل خراب أورشليم (70م)، وليس فى محتوياتها، ما يجعل الدفاع عن هذا الرأى صعباً.

2- المادة نفسها أقدم من ذلك : ويجب أن نذكر أيضاً أن المواد التى تتكون منها الأناجيل كانت موجودة من قبل أن تدون كتابة، ويجب أن تؤخذ هذه الحقيقة فى الاعتبار دائماً. كما أن سائر أسفار العهد الجديد تستلزم فاقتراض وجود هذه القصص عن حياة يسوع المدونة فى الأناجيل الثلاثة الأولى. ولقراء الأناجيل كل الحق فى أن يثقوا فى صدقها وكفايتها كوقائع حياة يسوع وما كان عليه وما قاله وما فعله، وهى تحمل فى طياتها أقوى دليل على صدقها.

سادساً : الفكرة المسيأنية وأهميتها بالنسبة لتاريخية الأناجيل :

1- المسيا عند اليهود وعند المسيحيين : يذكر فلهاوزن فى تعليقه على إنجيل مرقس، الفرق الواضح بين المفاهيم اليهودية والمفاهيم المسيحية عن المسيا، ونحن نقتبس أقواله، رغم أن فلهاوزن لم يعتبر مرقس (8: 31) وما بعده صحيحاً من الناحية التاريخية، فهو يرى أن ما جاء بهذا الجزء ليس صورة ليسوع التاريخى ، بل صورة للكنيسة المضطهدة. يقول فلهاوزن: "أن اعتراف بطرس: " أنت المسيح (المسيا) " كان فرصة لإعلأن ما ظل حتى ذلك الوقت مستوراً. لقد دفع سؤال المسيح بطرس إلى هذا الاعتراف .وقد قبله يسوع مع بعض التصويب، بأنه ليس المسيا ملك إسرائيل، ولكنه مسيا يختلف عن ذلك، فهو لا يذهب إلى أورشليم ليقيم مملكته ، ولكنه يذهب إليها ليصلب، وعن طريق الألم والموت، يرتفع إلى المجد. أنه بهذه الوسيلة وحدها، يمكن للآخرين أيضاً أن يدخلوا إلى المجد. أن ملكوت الله ليس ملكوتاً يهودياً، لوكن الملكوت هو من نصيب أفراد مختارين، منهم التلاميذ. لقد اختفت فكرة التوبة للشعب كله، وحل محل الأمر بالتوبة الموجه لجميع الناس، الأمر باتباعه الموجه للقلة القليلة جداً. لقد تحول مفهوم الاتباع الأن إلى معنى أعظم وأسمى، فلم يعد يعنى ما كان يعنيه حتى ذلك الوقت ، أى مرافقته واتباعه فى أثناء حياته، أنه يتخطى الأن هذا المعنى. على الشخص أن يتبعه حتى  ولو للموت، فالاتباع أمر ممكن فقط بعد موته. وهذا ما لا يبلغه إلا القليلون . ينبغى على الشخص أن يحمل صليبه ويتبعه أن موقف الكنيسة الأولى، هو ما يتنبأ عنه يسوع هنا وهو فى طريقه ليواجه الصليب.

2- أصالة المفهوم المسيحى : يقر فلهاوزن فى مكان آخر بأن أقسام الأناجيل التالية للمشهد فى قيصرية فيلبس، تحوى ما عرف بالإنجيل المميز للكنيسة الرسولية، ولكن هذا الإنجيل يدين بوجوده للكنيسة الرسولية ذاتها، أنها مسألة فى غاية الأهمية، ولا يمكن القطع فيها عن طريق النقد الأدبى فقط. هل المفهوم المسيحى عن المسيا يرجع إلى يسوع؟ أم هو راجع إلى تصور الكنيسة ؟ أيهما اكثر احتمالاً؟ من المتفق عليه- بشهادة فلهاوزن- أن المفهوم المسيحى قد قضى على المفهوم اليهودى، وأن الاثنين على النقيض من وجوه كثيرة. من السهل أن نفهم الفكر المسيحى وأنتصاره على المفهوم اليهودي بين الشعب المسيحى ، لو أن السيد نفسه هو الذى أوضحه ، ولكن يعسر علينا جداً اعتباره شيئاً بدأ ونشأ فى الجماعة ذاتها. أن مفهوم المسيا المصلوب والمخلص المتألم، كان فى أثناء خدمة يسوع على الأرض، مفهوماً فى فكرة وحده، ولم يكن فى فكر التلاميذ حتى قام من الأموات ، وبالحرى لم يكن فى مفهوم معاصريه، لكنه كان المفهوم السائد فى كنيسة أورشليم كما فى رسائل الرسول بولس. بكل تأكيد ، لم يكن مفهوم المخلص المتألم من اختراع الكنيسة، ولا نشأ من فكرها نتيجة لظروفها واحتياجاتها، ولكنه كان عطية لها من الرب المتألم المقام. أن الناس لا يستبدلون الأفكار التى  ترعرعت فى أذهأنهم أجيالاً طويلة ، بدون أن يكون هناك دافع قوى، أو بدون مصدر قوى للإقناع ، وبدون هذا لا يمكنهم قبول الأفكار المناقضة والهدامة لكل ما كانوا يتمسكون به بكل قوة وصلابة.

ولذلك فنحن نقبل هذه الأصحاحات على أنها أقوال تاريخية تتحدث عن يسوع التاريخى، وإذا فعلنا ذلك، فأن الموضوع يصبح واضحاً ومفهوما، وليس العكس ، ونلاحظ أيضاً فى هذه العلاقة ، أن احتياجات الكنيسة كانت احتياجات جديدة، فليس فى العهد الجديد ما يشبع احتياجات الأنسأن الطبيعى . أن الرأى النقدى كثيراً ما يضع العربة أمام الحصأن ، وهذه صورة للواقع. أن احتياجات الكنيسة هى من صنع المسيح، وهى احتياجات جديدة، أو هى احتياجات لم تشعر بها البشرية- قبل تجسد المسيح- إلا بصورة ناقصة.

3- الرجاء المسيانى : لتكن احتياجات الكنيسة عظيمة بقدر ما يمكن أن تكون، إلا أنها ليست خلاقة فى ذاتها ، أنها مجرد استجابة للدعوة العليا. وليس ثمة أساس لما يفترضه فلهاوزن وغيره من النقاد، فمنذ زمن "بوير" ، كثيراً ما قيل أن الرجاء المسيأنى هو الذى أعطى للمسيحية واقعيتها وصلابتها، وأنه من خلال سيطرة هذا الرجاء المسيأنى، تمكنت المسيحية من مواصلة مسيرتها إلى النصر. وهذه صورة أخرى لقلب الأوضاع . أن يسوع المسيح التاريخى هو الذى أعطى المفاهيم المسيأنية واقعيتها ووضوحها، لأنه فى لب المفهوم المسيحى، كانت هذه الصورة الراسخة الكريمة ، ويسبب التأثير القوى الفعال ليسوع المسيح، دخلت هذه الصورة المسيأنية إلى الحياة البشرية وازدهرت ورسخت ومازالت معنا حتى اليوم. أما الصور المسيأنية الأخرى فليس لها الأن إلا قيمة أثرية، يمكن مناقشتها كموضوع أدبى، ولكن لا قيمة لها من الناحية العملية. ولا شك فى أن الكنيسة فحصت بكل تدقيق كل الأفكار المسيأنية، لترى إمكانية استخدامها لبيأن عظمة يسوع المسيح، ولكن جوهر الموضوع لم يكن فيها، بل فيه هو الذى عرفوه وأحبوه وخدموه. لقد حأن الوقت الذى يجب أن يوجد فيه فرض نقدى أحدث من الفرض القديم البالى من أن الكنيسة قد اخترعت المسيح، أننا لا نعرف إلا القليل عن الكنيسة الأولى، ولكننا نعرف قصورها ومحدوديتها ونعرف شيئاً أيضاً عن اليهود فى زمن وجود ربنا على الأرض ، ونرى من الأناجيل كيف تجاوزوا قصورهم وأنتصروا على محدوديتهم، ولكن كيف حدث ذلك؟ بحقيقة المسيح، أنه عظيم جداً لدرجة لابد معها أن يكون حقيقياً.

سابعاًً : العهد القديم وتأييده للأناجيل الثلاثة الأولى :

ينبغى أن نذكر دائماً أن العهد القديم كان هو الكتاب المقدس للكنيسة الأولى، فقد قبلوه ككلمة الله، له كامل السلطأن للقيادة فى الحياة والسلوك . أن لإقرار بهذا وتأكيده شئ ، أما القول بأن قصة العهد القديم هى التى صاغت ووجهت قصة يسوع كما هى فى الأناجيل الثلاثة الأولى، فشئ آخر. لقد زعموا هذا بشدة ولكن بدون دليل كاف . حقاً أن المسيحية عندما قبلت العهد القديم على أنه كلمة الله ، فسرته بطريقة لم تكن معروفة من قبل . لقد فسرته فى ضوء يسوع المسيح. لقد أصبحت الأهداف والحقائق والمعأنى الواردة فى العهد القديم، واضحة، وكان الكتاب المقدس للمسيحيين هو الكتاب الذى يشهد للمسيح. ما كان يرتكز عليه اليهود، قد تراجع إلى الوراء، وما كانو يهملونه برز إلى مكان الصدارة . وقد أوضح الرسول بولس هذا الرأى: "لكن حتى  اليوم حين يقرأ موسى ، البرقع موضوع على قلبهم" (2 كو 3: 15)، أو كما نقرأ فى لوقا : " أيها الغبيان والبطيئا القلوب فى  الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء ، أما كان ينبغى أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده ؟ " (لو 24: 25و 26) ، فالتفسير المسيحي يركز على المعانى التى أهملها القراء اليهود ، وهكذا قرأت الكنيسة العهد القديم فى الضوء الجديد ، والأمور التى كانت مستترة سابقاً ، قفزت إلى النور، فعبد الرب المتألم أصبح هو مفتاح العهد القديم، وأصبحت الذبائح الطقسية وأعياد العهد القديم، ذات معنى جديد، وأصبحت قصص إسرائيل والآباء وموسى والكهنة والملوك والأنبياء ، غنية بالمعانى ، وفتشوا المزامير والنبوات لأنها تشهد للمسيح. وليس هناك مجال البحث فى صحة هذا التفسير المسيحى، ولكنها حقيقة لا يمكن أنكارها. والخلاصة هى أن العهد القديم كما فهمه اليهود- لم يؤثر على مفاهيم الكنيسة عن المسيح ، بل بالحرى لقد أعطى المسيح وشخصيته المسيطرة وتاريخه الرائع، معنى جديداً للعهد القديم، معنى لم يكن أحد يحلم به من قبل. ويمكن أن نعطى الرسالة إلى العبرانيين عنواناً بديلاً هو "كيف تجد المسيح فى العهد القديم" . لقد كان لشخصية يسوع وحياته الكاملة وتعليمه وموته وقيامته ، تأثير قوى للغاية على التلاميذ حتى أنهم رأوا كل شئ فى ضوء ذلك. والصعوبة فى تبرير الإشارات إلى النبوة، فى ضوء النقد التاريخى، أنما هى شهادة حقيقة أن النبوة لم تصنع الحقيقة بل أن الحقيقة هى التى أعطت للنبوة مرماها. والحقيقة العليا السامية فى هذا الصدد، هى شخصية يسوع.

ثامناًً : يسوع الأناجيل كمفكر :

1-  أخلاق يسوع : إذ ننتقل من مفهوم المخلص المتألم فى الأناجيل، تأتى إلى جأنب آخر من حياة يسوع كمعلم وكمفكر ، وهنا نجد وفرة من البراهين على الصفة التاريخية لقصة الإنجيل، ويكفى القول هنا أن مفهومه عن الأخلاق والسلوك كما يظهر فى تعليمه مفهوم بالغ الاتساع، وبدراسته بالتفصيل نجد أنساناً مثالياً فى ذاته وفى علاقته بالآخرين ، مما يفوق ويسمو على سائر التعاليم الأخلاقية التى عرفتها البشرية، وهذا ولا بد راجع إلى شخصيته الفريدة ، لا إلى فكر الكنيسة.

2- يسوع كمفكر : لنلق نظرة على هذا الجانب من حياة يسوع كمفكر، وهنا يقف يسوع فريداً . أنه يتكلم بسلطان ، وعلى كل من يفهم أن يطيع. والأناجيل الثلاثة الأولى فريدة فى هذا الخصوص ، ولا مثيل لها فى كل الآداب، بل لا يوجد فى سائر أسفار الكتاب ما يضاهيها، ولا نجد حتى فى أسفار العهد الجديد الأخرى مثيلاً لموقف يسوع من شئون الحياة العامة، وليس فى كل الآداب فى العالم ما يضارع أمثال الأناجيل ، وهنا نقف على أرض صلبة عندما نقول أنها ليست وليدة فكر الكنيسة ، فأن لها طابعها المميز الذى يؤكد أنها نتاج فكر واحد. ويمكن أن يقال الكثير عن الملامح المميزة لفكر يسوع. أنه المفكر الوحيد الذى ينتقل مباشرة من الأمور العادية للحياة اليومية والاختبار اليومى إلى أعمق أسرار الحياة ، فأعمق الأفكار التى يمكن أن يصل إليها أنسان، يراها هو بكل بساطة فى كل ما يقع تحت بصر أى أنسان أو كل ما يفعله، وليس من السهل تقدير هذا الجانب من الأناجيل الثلاثة حق قدره، فيسوع يعلم تماماً كل أمور الحياة العامة وكل مشاغلها ، لأنه يدرك وجود الآب فيها جميعها، ويالها من مجموعة رائعة من صور العالم ومشاغل الناس، تلك التى يمكن أن نستجمعها من هذه الأناجيل ! لطالما أهمل هذا الجانب، حتى عاد الناس بتأثير أعمال الشعراء والفنانين إلى الاستمتاع بمظاهر الطبيعة، وهكذا بدأنا نرى ما فى هذه الأناجيل من ثروة فى هذه الناحية. أن الاستمتاع الشاعرى بالطبيعة أمر حديث نسبياً ، ومع هذا فهو موجود فى الأناجيل، فالريح والجبل والوادى ، ومواسم الزرع والحصاد والصيف والشتاء، والبيع والشراء، كل هذه وغيرها نجدها متجلية فى أروع صورها وأسماها ناطقة بأسرار ملكوت الله. يتقدم المفكرون الآخرون تدريجيا وبخطوات وئيدة- من الاختبار العادى إلى ما يرونه لزاماً عليهم أن يستعرضوه من الفكر الأسمى والتعميمات الأشمل، التى من خلالها يحاولون تفسير سر الحياة والكون، أما هذا المفكر فلا يحتاج إلى هذه المراحل المتوسطة، فهو يرى على سبيل المثال- امرأة تعد الخبز لعائلتها، وفى الحال يرى فيها سر ملكوت السموات، وحالما يلمس هذه الأشياء العامة، فأنها تتجلى بصورة أروع وتتلألأ بنور من العالم الروحى، فتمتلئ الأرض بالسماء، وتشتعل كل عليقة من مجد الرب.

أننا نذكر هذه الأشياء لأن لها أهميتها بالنسبة لأصل وطبيعة الأناجيل الثلاثة الأولى . أنها تحمل طابع الشخصية الخلاقة الفريدة ، فمنها كانت الخطوات التى مرت بها مواد الأناجيل، فأنها لم تطمس أو تمح المميزات الأساسية لهذه الشخصية الفريدة، وبعد استنفاد كل المقارنات بين المتشابهات والاختلافات فى الأناجيل، تظل مشكلة أصلها قائمة، وليس من سبيل إلى حلها إلا بالاعتراف بهذه الشخصية الفريدة الخلاقة التى لم ير لها العالم شبيهاً أو مثيلاً.

تاسعاًً : مشكلة الأناجيل :

أن يسوع الأناجيل هو ابن الله، ولقد كانت أمام البشيرين مشكلة من أعوص المشاكل، ألا وهى كيف يستطيعون التعبير عن كائن إلهى فى صورة بشرية، وأن يرسموا له صورة ليس فيها ما يغض من لاهوته ، وما لا يتفق مع الأحوال البشرية التى فيها عاش وعمل. أنها أعوص مشكلة واجهها الأدب فى كل تاريخه. ولكنا نجد فى الأناجيل كيف استطاع البشيرون حلها، حتى أن كاتباً مثل "بوسيه " يقر بأنه "بالنسبة لمرقس، لم يكن يسوع مسياً الشعب اليهودى فحسب ، بل ابن الله الأزلى الأبدى الذى أشرق نوره على العالم لأن إيمأن الجماعة، الذى كان يؤمن به أقدم البشيرين (مرقس)، هو أن يسوع هو ابن الله العجيب الذى يؤمن به الناس ويضعونه جنباً إلى جنب مع الله" ، أن ما كانوا يزعمونه من وجود اختلاف بين يسوع الأناجيل الثلاثة ومسيح بولس ويوحنا، قد بدأ يتلاشى . أن الغرض فى الأناجيل الثلاثة الأولى ، كما فى إنجيل يوحنا أيضاً ، أنما هو قيادة  الناس إلى الإيمان بأن "يسوع هو المسيح ابن الله ولكى تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (يو 20: 31).

إنجيل الآلام      :      أنظر أبو كريفا

إنجيل بطرس    :      أنظر أبو كريفا

إنجيل الطفولة   :      أنظر أبو كريفا

إنجيل العبرانيين :      أنظر أبو كريفا

 

 

 

دائرة المعارف الكتابية