هل إفتدانا المسيح على الصليب ؟؟


عاشرا: خطيئة آدم والذنب الموروث

تبدأ قصة الخطيئة ثم الخلاص والفداء عندما خلق الله آدم في جنته ونهاه عن الأكل من أحد أشجارها، فأغواه إبليس، فوقع الأبوان في شراك كيده وأكلا من الشجرة المحرمة، فعاقبهما الله بما يستحقا، وأنزلهما إلى الأرض.

فمدخل عقيدة الخلاص والفداء هي تلكم القصة التي حصلت في فجر البشرية، فلنر ماذا يقول الكتاب المقدس عن تلك القصة، ولنبدأ باستعراض قصة ذنب آدم كما جاءت في سفر التكوين.


قصة خطيئة آدم في سفر التكوين :

" وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها، وأوصى الرب الإله آدم قائلاً:من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل أكلاً. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت...

وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله فقالت للمرأة: أحقاً قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة، فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة تأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه، ولا تمساه لئلا تموتاه.

فقالت الحية للمرأة لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر، فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها، وأكلت، وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر.

وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم، وقال له: أين أنت ؟

فقال سمعت صوتك في الجنة، فخشيت لأني عريان فاختبأت فقال من أعلمك أنك عريان ؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها، فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت.

فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت ؟ فقالت المرأة: الحية غرّتني فأكلتُ.

فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم. ومن جميع وحوش البرية على بطنك تسعين، وتراباً تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينكِ وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه.

وقال للمرأة: تكثيراً أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك.

وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك، وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلاً: لا تأكل منها. ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تنبت لك، وتأكل عشب الحقل، بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب، وإلى تراب تعود...

وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر، والآن لعله يمد يده، ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً، ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها، فطرد الإنسان، وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة ". (التكوين 2/15-3/24).



نقد القصة التوراتية للخطيئة الأولى :

إن التأمل في القصة التوارتية يثير عدداً كبيراً من الأسئلة ويشكك في مصداقية الرواية التي بنى عليها النصارى أحد أكبر أوهامهم.

وأول ما نلاحظه أن الرواية التوراتية تتحدث عن الذات الإلهية بما لا يليق وشمولية علم الله وتنزهه ومنه " وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب النهار، فاختبأ آدم وامرأته في وجه الرب الإله في وسطر شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم، وقال له: أين أنت ؟ ".

كما نسبت الرواية التوراتية الإغواء إلى الحية، فلئن كانت الحية حقيقية كما يذهب إليه مفسرو آهل الكتاب فالسؤال هل الحيوان يكلف ويعاقب، وهل تكليفه قبل آدم أم بعده، وهل أرسل له رسل من جنسه، وأين أشار العهد القديم لمثل هذا التكليف الغريب ؟

كما يجعل السفر التوراتي سبب إخراج آدم من الجنة الخوف من تسلط آدم على شجرة الحياة " والآن لعله يمد يده، ويأخذ من شجرة الحياة، ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ".

ويبقى السؤال الأهم: ما هي معصية آدم؟ وتأتي الإجابة التوراتية واضحة لقد أكل من الشجرة المحرمة شجرة معرفة الخير والشر، لقد عرفا الخير والشر.

فماذا ترتب على هذه المعرفة من ثمرة ؟ لا يذكر النص التوراتي لهذه الفعلة أثر سوى أنه آدم وحواء عرفا بأنهما عريانان، إذ انكشفت لهما الأمور بمعرفتهما للخير والشر.

لكن المعرفة سلم للوصول إلى الحقيقة، ولم تحرم إلا في زمن الطغاة والمستبدين فهل كان بحثه عنها جريمة! أليس ذلك تحقيقاً لإقامة الجنس البشري.

ثم من الظلم أن يعاقب آدم - حسب النص - على ذنب ما كان له أن يدرك قبحه إذ لم يعرف الخير من الشر، ونتساءل كيف وقع آدم في الإثم وهو غير ميال للشر والخطيئة التي دخلت للإنسان بعده كما يزعم النصارى.

أما الإسلام فيعترف بالجبلة البشرية التي خلق الله الإنسان عليها فهو مستعد للخير والشر، مدرك لهما، ولذا فهو مكلف بفعل الخير وبالامتناع عن الشر، ومحاسب على ذلك.

وثمة مسألة أخرى هامة من الذي يتحمل وزر الذنب آدم أم حواء ؟

يذكر النص التوارتي ما يفهم منه براءة آدم وإدانة حواء، ففيه أن حواء التي أغوتها الحية فأكلت " وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل ".

ولما سئل عن فعلته قال آدم: " المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت "  وبراءة آدم هي ما صرح به بولس " وآدم لم يغو، لكن المرأة أغويت، فحصلت في التعدي " (تيموثاوس (1) 2/14 ).

ولا ريب أن لهذا كبير علاقة مع النظرة اليهودية للمرأة حيث تزري بها شرائع اليهودية، وهي في هذا النص تعتبرها سبباً للخطيئة.

والقرآن الكريم عندما تحدث عن خطيئة آدم حمل آدم المسئولية الأولى [ وعصى آدم ربه فغوى ] (طه:121)

كما تحدث النص التوراتي عن عقوبات ثلاث طالت آدم وحواء والحية.

أما الحية فكانت عقوبتها أنها " ملعونة أنت من جميع البهائم، ومن جميع وحوش البرية على بطنك تسعين، وتراباً تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه ".

وأما عقوبة حواء " تكثيراً أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك ".

وأما عقوبة آدم " ملعونة الأرض بسببك، وبالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تنبت لك، وتأكل عشب الحقل، بعرق وجهك تأكل خبزاً ".
ولنا أن نتساءل: هل كانت الحية قبل مستوية القامة حسناء لا تأكل التراب، بل تبلع الحيوان.

وأما المرأة فعوقبت بأمرين: أحدهما: جسماني، وهو أتعاب الحمل والولادة، وثانيهما: معنوي نفسي، وهو دوام اشتياقها للرجل، وأنه يسود عليها.

ونلحظ أن هذه العقوبة تختلف عن العقوبة التي هدد فيها من يأكل من الشجرة " وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت ".

ولا يمكن أن يقال بأن الموت موت معنوي لأنه لا يفهم من السياق، ولقول بولس " كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع " ( رومية 5/23 ).

و مما يصرف الموت عن المجاز إلى الحقيقة أن النص يقول: " لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت " فكما الأكل حقيقي ، الموت حقيقي .


فلسفة النصارى لمسألة الخطيئة والكفارة :

قرأنا النص التوراتي من خلال الملاحظات السابقة، فما هو رأي النصارى في خطيئة آدم وعقوبتها وأبعادها ؟

يعتبر سانت أوغسطينوس في مقدمة النصارى الذين قدموا تفسيراً متكاملاً لهذه المسألة، ويعتبره العثماني في كتابه: "ما هي النصرانية" الوحيد الذي استوعب قضية الكفارة.

وخلاصة رأيه كما نقله العثماني :

- أن الله خلق الإنسان وترك فيه قوة الإرادة في حرية كاملة، وأنعم عليه، وحرم عليه تناول القمح.

لكن آدم وضع قوته الإرادية في غير موضعها عندما تناول ما حرم عليه، ولم يكن صعباً عليه تحاشي المعصية، إذ لم يكن يعرف يومذاك عواطف الهوس والشهوة.

- ذنب آدم ذنب عظيم لأنه يتضمن ذنوباً عديدة :

أولها: الكفر إذ اختار آدم أن يعيش محكوماً بسلطته بدل أن يعيش في ظل الحكم الإلهي.

وثانيها: كفر وإساءة أدب مع الله، لأن الإنسان لم يتيقن في الله.

وثالثها: قتل نفسه، إذ جعل حكمها الموت.

ورابعها: الزنا المعنوي، لأن إخلاص الروح الإنسانية قد ضاع من أجل التصديق بقول الحية المعسول.

وخامسها: السرقة إذ نال ما لا يحل له.

وسادسها: الطمع.

وهكذا كانت هذه الخطيئة أماً لكل الأخطاء البشرية " والحق أنك مهما أمعنت في حقيقة أي إثم فستجد له انعكاساً في هذه الخطيئة الواحدة ".

- جزاء هذه الخطيئة الشنيعة الموت الدائم، أو العذاب الدائم " لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت"، كما سلب آدم بعدها الحرية الإرادية بعد أن هزمه الذنب، فأصبح حراً في إتيان الإثم، وغير حرٍ في صنع المعروف، فالعقاب المعقول للذنب هو الذنب بعده، بعد تخلي رحمة الله عنه، وهكذا أصبحت الخطيئة مركبة من طبيعة الأبوين، وانتقلت منهما وراثة إلى سائر أبنائهما.

ونلحظ في طرح أوغسطينوس التضخيم الكبير لمعصية آدم، والغاية منه كما هو واضح قفل طريق الرجعة بالتوبة تمهيداً لإشاعة عقيدة المخلص يسوع عليه السلام، وما ذكره أوغسطينوس في ذنب آدم من تهويل من الممكن أن نقوله عن سائر الذنوب، وذنب آدم كسائر الذنوب دون عفو الله ومغفرته.

ولو توقف النصارى عند هذا الحد لكانت القضية شخصية، لكن أوغسطينوس وغيره من النصارى يصرون على أن هذا الذنب لابد له من عقوبة قاسية، كما يرتبون على هذا الذنب مسألة خطيرة، وهي وراثة البشرية جمعاء لذنب أبويهم واستحقاقهم لتلك العقوبة القاسية.

ويؤكد أوغسطينوس على وراثة البشرية لذنب الأبوين إذ أصبحت الخطيئة كامنة في طبيعتهما فانتقلت وراثة إلى سائر الأبناء، فيولد الطفل وهو مذنب، لأن وباء الخطيئة كما يقول جان كالوين قد سرى إلى هذا الطفل وراثة، ويصوره أكويناس بالذنب تذنبه الروح لكنه ينتقل إلى أعضاء وجوارح الإنسان.

وهكذا أصبح البشر جميعاً خطاة لأنه كما يقول عوض سمعان في كتابه " فلسفة الغفران في المسيحية ": وبما أن آدم الذي ولد منه البشر جميعاً كان قد فقد بعصيانه حياة الاستقامة التي خلقه الله عليها، وأصبح خاطئاً قبل أن ينجب نسلاً، إذن كان أمراً بدهياً أن يولد أبناؤه جميعاً خطاة بطبيعتهم نظيره، لأننا مهما جلنا بأبصارنا في الكون لا نجد لسنة الله تبديلاً أو تحويلاً، ولذلك قال الوحي: " بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم " ( رومية 5/12 - 21 ).

ويشبه كالوني أحد علماء البروتستانت انتقال الخطيئة لبني آدم بانتقال الوباء، فيقول " حينما يقال: إننا استحققنا العذاب الإلهي من أجل خطيئة آدم، فليس يعني ذلك أننا بدورنا كنا معصومين أبرياء، وقد حملنا ظلماً ذنب آدم.... الحقيقة أننا لم نتوارث من آدم العقاب فقط، بل الحق أن وباء الخطيئة مستقر في أعماقنا، على سبيل الإنصاف الكامل، وكذلك الطفل الرضيع تضعه أمه مستحقاً للعقاب، وهذا العقاب يرجع إلى ذنبه هو، وليس من ذنب أحد غيره ".

وشعر علماء النصرانية بما تحويه عقيدة وراثة الخطيئة من ظلم للإنسانية، فعلموا على تبريرها لتقبلها العقول وعقوبتها من دون اعتراض ولا إحساس بالظلم، فيقول ندرة اليازجي: " آدم هو مثال الإنسان، الإنسان الذي وجد في حالة النعمة وسقط، إذن سقوط آدم من النعمة هو سقوط كل إنسان، إذن خطيئة آدم هي خطيئة كل إنسان، فليس المقصود أن الخطيئة تنتقل بالتوارث والتسلسل لأنها ليست تركة أو ميراثاً.

إنما المقصود أن آدم الإنسان قد أخطأ، فأخطأ آدم الجميع إذن، كل واحد قد أخطأ، وذلك لأنه إنسان ".

يرى جويل بويد أن لا ظلم في صلب المسيح، إذ أن المسيح بتجسده الإنساني قد أصبح خاطئاً متقمصاً شخصية الإنسان المجرم الخاطئ، وعليه فقد استحق قول التوراة: " النفس التي تخطئ هي تموت ".


نقض فلسفة وراثة الخطيئة الأصلية :

وهذه التبريرات المتهافتة ما كان لها أن تقنع أحداً ممن يرى في وراثة الذنب ظلماً يتنزه الله عنه.

فتشبيههم لوراثة الذنب بعدوى المرض باطل، لأن المرض شيء غير اختياري فلا يقاس الذنب عليه، كما المرض لا يعاقب عليه الإنسان.

وفصل أكونياس بين الروح والجسد وقوله بأن الخطيئة تسري من الروح للجوارح خطأ، لأن الخطأ عندما يقع فيه الإنسان، فإنما يقع فيه بروحه وجسده، فالإنسان مركب منهما، ويمارس حياته من خلالهما معاً. أما آدم فهو غير مركب في آدم وأبنائه.

لذا نصر على اعتبار وراثة الذنب نوعاً من الظلم لا يليق نسبته لله عز وجل.

وهذا المعتقد لا دليل عليه في التوراة، بل الدليل قام على خلافه، إذ جاءت النصوص تنفي وراثة الذنب، وتؤكد على مسئولية كل إنسان عن عمله ومنها:

- " النفس التي تخطيء هي تموت، الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، بر البار عليه يكون وشر الشرير عليه يكون " (حزقيال 18/20 - 21 ).

- " لا يقتل الآباء عن الأولاد، ولا يقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيئته يقتل " ( تثنية 24/16 ).

- " بل كل واحد يموت بذنبه، كل إنسان يأكل الحصرم تضرس أسنانه " (إرمياء 31/30 ).

- " الذي عيناك مفتوحتان على كل طرق بني آدم لتعطي كل واحد حسب طرقه، وحسب ثمرة أعماله " ( إرميا 32/19 )

- " لا تموت الآباء لأجل البنين، ولا البنون يموتون لأجل الآباء، بل كل واحد يموت لأجل خطيته " ( أيام (2) 25/4 ).

- " فإنه لا يموت بإثم أبيه " ( حزقيال 18/17 ).

- " أفتهلك البار مع الأثيم، عسى أن يكون خمسون باراً في المدينة، أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين باراً الذين فيه حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر: أن تميت البار مع الأثيم، فيكون البار كالأثيم. حاشا لك، أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً " ( تكوين 18/23 - 25 ).

كما أنكر المسيح الخطيئة الأصلية بقوله: " لو لم آت وأكلمهم، لم تكن لهم خطيئة، وأما الآن فليس لهم حجة في خطيئتهم... لو لم أعمل بينهم أعمالاً لم يعملها آخر، لما كانت لهم خطيئة، أما الآن فقد رأوا وأبغضوني " ( يوحنا 15/22 - 24 )

فالنص لا يتحدث عن خطأ سابق عن وجوده، بل عن خطأ وقع فيه بنو إسرائيل تجاهه، هو عدم الإيمان بالمسيح، وليس فيه أي ذكر للخطيئة الموروثة بل هو لا يعرف شيئاً عنها.


بطلان وراثة الخطيئة بإثبات براءة الكثيرين من الخطيئة الأصلية :

تشهد الكتب المقدسة عند النصارى لكثيرين بالخيرية وتثني عليهم، ولو كانوا مسربلين بالخطيئة الأصلية لما استحقوا هذا الثناء، ومنهم الأطفال الذين قال فيهم المسيح في إحدى وصاياه
" الحق أقول لكم، إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات، فمن وضع نفسه مثل هذا الولد، فهو الأعظم في ملكوت السماوات " ( متى 18/3 - 4 )، ( وانظر مرقس 10/13/16 ).

وعندها نهر تلاميذه أطفالاً قال: " دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات " ( متى 19/13 - 14 ) فيفهم من هذين النصين طهرة الأطفال من الخطيئة الأصلية، لذلك جعلهم مثلاً للأبرار الذين يدخلون الجنة.

لكن القديس أوغسطينوس كان يحكم بالهلاك على جميع الأطفال غير المعمدين، وكان يفتي بأنهم يحرقون في نار جهنم.

والأبرار أيضاً لم يحملوا هذه الخطيئة لذلك يقول المسيح: " لم آت لأدعو أبراراً، بل خطاة إلى التوبة " ( لوقا 5/32 ) فكيف يوجد أبرار ولما يصلب المسيح.

وهؤلاء الأبرار ذكرتهم نصوص التوراة وأثنت عليهم ولم تتحدث عن قيدهم بالخطيئة الموروثة " كان كلام الرب إلى قائلاً: ما لكم أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل قائلين: الآباء أكلوا الحصرم، وأسنان الأبناء ضرست. حي يقول السيد الرب... الإنسان الذي كان باراً وفعل حقاً وعدلاً، لم يأكل على الجبال، ولم يرفع عينيه إلى أصنام بيت إسرائيل، ولم ينجس امرأة قريبه، ولم يقرب طامثاً، ولم يظلم إنساناً... فهو بار، حياة يحيا يقول السيد الرب". ( حزقيال 18/19 - 23).

ومن هؤلاء الأبرار الذين لم تكبلهم الخطيئة، وأثنت عليهم التوراة الأنبياء، ولو كانوا حاملين للخطيئة لما كانوا أهلاً لهداية الناس، فإن قيل عفي عنهم، فلم تره لم يعف عن الباقين كما عفى - من غير دم - عن الأنبياء الذين اختار الله منهم كليماً وخليلاً.

ومن الأنبياء الذين أثنت عليهم التوراة أخنوخ " وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد لأن الله أخذه" ( تكوين 5/24 ).

وأيضاً نوح " وكان نوح رجلاً باراً كاملاً في أجياله، وسار نوح مع الله " ( تكوين 6/9).

وأيضاً إبراهيم فقد قيل له: " لا تخف يا إبرام أنا ترس لك، أجرك كثير جداً " ( تكوين 11/1)، وقيل عنه " بارك الرب إبراهيم في كل شيء " ( تكوين 24/1 ).

وإيليا أيضاً " فيما هما يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار، وخيل من نار، ففصلت بينهما، فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء" ( ملوك (2) 2/11 ).

ومن هؤلاء الأبرار أيوب، كما امتدحته التوراة: " قد قلت في مسامعي، وصوت أقوالك سمعت. قلت: أنا بريء بلا ذنب، زكي أنا ولا إثم لي" (أيوب 33/8).

وأيضاً يوحنا المعمدان " الحق أقول لكم: لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان " ( متى 11/11)، ويقول عنه لوقا: " لأنه يكون عظيماً أمام الرب، وخمراً ومسكراً لا يشرب" (لوقا 1/15)، فهؤلاء جميعاً لم يرثوا الخطيئة، ولم تؤثر بهم مع أنهم من ذرية آدم، والكتاب يعلن صلاحهم وعدم احتياجهم إلى الخلاص بدم المسيح أو غيره..

كما أثنت التوراة على أشخاص من غير الأنبياء فدل ذلك على عدم حملهم للخطيئة الأصلية.

منهم هابيل بن آدم الذي تقبل الله منه ذبيحته لصلاحه، ولم يقبلها من أخيه فلم تمنعه الخطيئة الأصلية عن أن يكون عند الله مقبولاً ( انظر التكوين 4/4)، وقد قال عنه بولس: " بالإيمان قدم هابيل للّه ذبيحة أفضل من قايين، فبه شهد له أنه بار، إذ شهد الله لقرابينه" (عبرانيين 11/4).

وكذلك الناجون مع نوح كلهم من الأبرار " ورأى الله الأرض، فإذا هي فسدت، إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض فقال الله لنوح: نهاية كل بشر أتت أمامي... وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط" ( تكوين 6/12-7/23 ) ولو كانت الخطيئة موروثة لما كان مبرر لهذا التفريق.

وأيضاً شهد المسيح بنجاة لعاذر، وقد مات قبل الصلب المزعوم للمسيح " فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، ومات الفتى أيضاً، ودفن، فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب ورأى إبراهيم من بعيد ولعاذر في حضنه، فنادى وقال: يا أبي إبراهيم، ارحمني " ( لوقا 16/21 -24 ).


إبطال نظرية الذنب الموروث بشهادات النصارى :

ومما يبطل نظرية وراثة الخطيئة الأصلية الإنكار الذي صدر عن النصارى قديماً وحديثاً، فعبروا عن رفضهم لهذا الظلم وعن تحمل تبعات خطيئة لم يرتكبوها ولم يستشاروا فيها، بل ولم يشهدوها، ومن ذلك :

- أن بولس صاحب فكرة الخطيئة الموروثة صدق في أحد أقواله حين قال: " كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم " (رومية 5/12 ) فكلمة " كأنما " تشكيك في حصول ذلك.

- أن مخطوطات نجع حمادي المكتشفة بعد الحرب العالمية الثانية خلت من الحديث عن الخطيئة والغفران الذي يتحدث عنه آباء الكنيسة.

- أن ثمة منكرون لهذه العقيدة في النصارى، ومنهم الراهبان في روما في مطلع القرن الخامس بيلاجوس وسليتوس وأصحابهما، فقد أنكروا سريان الخطيئة الأصلية إلى ذرية آدم، واعتبروه مما يمنع السعادة الأبدية، وقالوا بأن الإنسان موكول بأعماله.

ومنهم كوائيليس شيس الذي نقلت عنه دائرة المعارف البريطانية أنه قال: " ذنب آدم لم يضر إلا آدم، ولم يكن له أي تأثير على بني النوع البشري، والأطفال الرضعاء حين تضعهم أمهاتهم يكونون كما كان آدم قبل الذنب ".

ومنهم الدكتور نظمي لوقا في كتابه " محمد الرسالة والرسول " حيث تحدث عن الآثار السلبية التي تتركها هذه العقيدة فيقول: " الحق أنه لا يمكن أن يقدر قيمة عقيدة خالية من أعباء الخطيئة الأولى الموروثة إلا من نشأ في ظل تلك الفكرة القاتمة التي تصبغ بصبغة الخجل والتأثم كل أفعال الفرد، فيمضي حياته مضي المريب المتردد، ولا يقبل عليها إقبال الواثق بسبب ما أنقض ظهره من الوزر الموروث.

إن تلك الفكرة القاسية تسمم ينابيع الحياة كلها، ورفعها عن كاهل الإنسان منة عظمى، بمثابة نفخ نسمة حياة جديدة فيه، بل هو ولادة جديدة حقاً...
وإن أنسى لا أنسى ما ركبني صغيراً من الفزع والهول من جراء تلك الخطيئة الأولى، وما سيقت فيه من سياق مروع يقترن بوصف جهنم... جزاء وفاقاً على خطيئة آدم بإيعاز من حواء... وإن أنسى لا أنسى القلق الذي ساورني وشغل خاطري على ملايين البشر قبل المسيح أين هم، وما ذنبهم حتى يهلكوا بغير فرصة للنجاة".

ويقول الميجور جيمس براون عن فكرة وراثة الذنب الأول: "فكرة فاحشة مستقذرة، لا توجد قبيلة اعتقدت سخافة كهذه ".

وأخيراً: فهل ذنب آدم هو الذنب الوحيد الذي يسرى في ذريته أم أن جميع الخطايا تتوارث. فإن خصوا ذنب آدم بالتوارث فقد خصصوا، ولا مخصص. وهكذا بطل القول بسريان الخطيئة إلى ذرية آدم، من خلال النصوص الصريحة في الكتب المقدسة وبشهادة العقلاء من أبناء النصرانية.
 

عودة