إخباره بمصارع أعدائه


ومن دلائل نبوته وأمارات رسالته e ما أخبر منه من أخبار أعدائه وكيفية مصرعهم، وهو علم لا يعرفه النبي من تلقاء نفسه، لأن النبي كسائر البشر لا يعلم الغيب } قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملكٌ { (الأنعام: 50)، } قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذيرٌ وبشيرٌ لقومٍ يؤمنون { (الأعراف: 188).
فقد تنبأ r بهلاك عمه أبي لهب وزوجِه على الكفر، حين أخبر - فيما نقله عن ربه - ببقائهما على الكفر وهلاكهما على ذلك، قال تعالى: } تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ % مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ % سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ % وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ% فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ { (المسد: 1-5)، فكيف جزم النبي e بضلال عمه، وهو أقرب الناس إليه، ومَظِنة الميل إليه؟ هل كان ذلك إلا بإعلام الله له.
قال ابن كثير: " قال العلماء: وفي هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة فإنه منذ نزل قوله تعالى : } سيصلى نارا ذات لهب % وامرأته حمالة الحطب % في جيدها حبل من مسد { فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان، لم يُقيَضْ لهما أن يؤمنا، ولا واحدٌ منهما، لا باطناً ولا ظاهراً، لا مُسِراً ولا معلناً، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة".
كما أخبر r بقتل المسلمين لأمية بن خلف ، وهذا متضمن شهادة له بأنه يموت على الكفر، وتفصيل ذلك أن سعد بن معاذ كان صديقاً لأمية ، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مرَّ بمكة نزل على أمية، فلما قدم رسول الله e المدينة؛ انطلق سعد معتمراً، فنزل على أمية بمكة ...(فتحاورا) فقال سعد: يا أمية، فوالله لقد سمعت رسول الله e يقول: ((إنهم قاتلوك)). فقال أمية: بمكة؟ قال سعد: لا أدري، ففزع لذلك أمية فزعاً شديداً.
فلما رجع أمية إلى أهله قال: يا أم صفوان، ألم تري ما قال لي سعد؟ قالت: وما قال لك؟ قال: زعم أن محمداً أخبرهم أنهم قاتلي، فقلتُ له: بمكة؟ قال: لا أدري. فقال أمية: والله لا أخرج من مكة.
فلما كان يومُ بدر؛ استنفر أبو جهلٍ الناسَ، قال: أدركوا عيركم، فكره أمية أن يخرج، فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، إنك متى ما يراك الناس قد تخلفتَ وأنت سيد أهل الوادي؛ تخلفوا معك، فلم يزل به أبو جهل، حتى قال: أما إذ غلبتني، فوالله لأشترين أجود بعير بمكة.
ثم قال أمية: يا أم صفوان، جهزيني. فقالت له: يا أبا صفوان، وقد نسيتَ ما قال لك أخوك اليثربي!؟ قال: لا، ما أريد أن أجوز معهم إلا قريباً.
فلما خرج أمية أخذ لا ينزل منزلاً إلا عَقَل بعيرَه، فلم يزل بذلك، حتى قتله الله عز وجل ببدر".
والعجب كل العجب من يقين أمية بتحقق موعده r وفرقه من ذلك ] فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [ (الأنعام: 33).
قال ابن حجر: "وفي الحديث معجزات للنبي e ظاهرة، وما كان عليه سعد بن معاذ من قوة النفس واليقين".

ومن أخبار الغيب التي أخبر بها النبي إخباره عن سوء خاتمة رجل قاتل مع المسلمين فأحسن البلاء، يقول أبو هريرة t : شهدنا مع رسول الله e فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: (( هذا من أهل النار)).
يقول أبو هريرة: فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً، فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله، الذي قلتَ له: إنه من أهل النار؛ فإنه قد قاتل اليوم قتالاً شديداً، وقد مات! فقال النبي e : ((إلى النار)) قال أبو هريرة: فكاد بعض الناس أن يرتاب.
فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت، ولكن به جراحاً شديداً، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح، فقتل نفسه، فأُخبر النبي e بذلك، فقال: ((الله أكبر، أشهد أني عبدُ الله ورسولُه)) ثم أمر بلالاً فنادى بالناس: ((إنه لا يدخلُ الجنة إلا نفسٌ مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجلِ الفاجر)).
وروى الشيخان من حديث سهل بن سعد الساعدي t نحواً من هذه القصة ، وهي قصة رجل يدعى قزمان، حيث ذكر أن المسلمين اقتتلوا مع المشركون , وفي أصحاب رسول الله e قزمان لا يدع لهم شاذّة ولا فاذّة إلا اتّبَعها يضربها بسيفه, فقيل: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان (أي قزمان). فقال رسول الله e: ((أما إنه من أهل النار))، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه.
قال سهل: فخرج معه، كلما وقف وقف معه, وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجُرح الرجل جرحاً شديداً، فاستعجل الموت، فوضع سيفَه بالأرض، وذُبابَه بين ثدييه ، ثم تحامل على سيفه، فقتل نفسه.
فخرج الرجل الذي يتابعه إلى رسول الله e فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال e: ((وما ذاك؟)) فأخبره بخبر الرجل، فقال رسول الله e عند ذلك: ((إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة - فيما يبدو للناس - وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار - فيما يبدو للناس - وهو من أهل الجنة)).
قال ابن حجر: "في الحديث إخباره e بالمغيبات، وذلك من معجزاته الظاهرة".
ويروي الإمام مسلم إخباره r عن موت منافق من المنافقين، وقد عرف ذلك r لهبوب ريح شديدة ، فبينما هو r وأصحابه قادمون من سفر؛ هاجت ريحٌ شديدة، تكاد أن تدفن الراكب، فقال رسول الله e: ((بُعِثَت هذه الريح لموت منافق))، فلما قدم المدينة، فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات.
قال النووي عن هذه الريح: "أي عقوبةً له، وعلامةً لموته وراحةِ البلاد والعباد به".
وفي اليوم السابق ليوم بدر بدر، جعل رسول الله يتفقد أرض المعركة المرتقبة، ويشير إلى مواضع مقتل المشركين فيها، ويقول : ((هذا مصرع فلان)) قال أنس: ويضع يده على الأرض هاهنا هاهنا. قال أنس: فما ماطَ أحدهم عن موضع يد رسول الله r.
وقد عدّ النووي هذا الحديث من أعلام النّبوّة ومعجزاتها، وذلك لإنبائه r بمصرع جبابرتهم , وتحديده أماكنَه، وقد وقع كما أخبر r .
وهذه الأخبار المتواترة في معناها دليل على نبوة النبي r وأنه مؤيد ببعض علم الغيب من ربه ] عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً _ إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً _ ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً [ (الجن: 26-28).