مختصر ابن كثير  
   سورة لقمان   
   ( 95 من 178 )  
  السابق   الآيات القرآنية  الأحاديث  الأشعار   الفهرس   التالي  
   الموضوعات
 

  
 

 سورة لقمان

بسم الله الرحمن الرحيم

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 5‏)‏

{‏ الم ‏.‏ تلك آيات الكتاب الحكيم ‏.‏ هدى ورحمة للمحسنين ‏.‏ الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ‏.‏ أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ‏}

تقدم في أول سورة البقرة عامة الكلام على ما يتعلق بصدر هذه الآية، وهو أنه سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن هدى وشفاء ورحمة للمحسنين، وهم الذين أحسنوا العمل في اتباع الشريعة، فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأوقاتها، وما يتبعها من نوافل راتبة وغير راتبة، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، ووصلوا أرحامهم وقراباتهم، وأيقنوا بالجزاء في الدار الآخرة، فرغبوا إلى اللّه في ثواب ذلك، لم يراؤوا ولا أرادوا جزاء من الناس ولا شكوراً، فمن ذلك كذلك فهو من الذين قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ أي على بصيرة وبينة ومنهج واضح جلي ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ أي في الدنيا والآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏6 ‏:‏ 7‏)‏

{‏ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ‏.‏ وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم ‏}

لما ذكر تعالى حال السعداء، وهم الذين يهتدون بكتاب اللّه وينتفعون بسماعه، عطف بذكر حال الأشقياء، الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام اللّه، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء، بالألحان وآلات الطرب قال السيوطي‏:‏ أخرج ابن جويبر‏:‏ نزلت في النضر بن الحارث، اشترى قينة، وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، يقول‏:‏ أطعميه واسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمد، وقيل‏:‏ إن النضر هذا كان من بني عبد الدار،

وكان قد تعلم أخبار فارس في الجاهلية ‏.‏ روى ابن جرير عن أبي الصهباء البكري أنه سمع عبد الّله بن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل اللّه‏}‏ فقال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ الغناء، واللّه الذي لا إله إلا هو، يردها ثلاث مرات، وقال الحسن البصري‏:‏ نزلت هذه الآية ‏{‏ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل اللّه بغير علم‏}‏ في الغناء والمزامير، وقيل‏:‏ أراد بقوله‏:‏ ‏{‏يشتري لهو الحديث‏}‏ اشتراء المغنيات من الجواري، قال ابن أبي حاتم عن أبي أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏ لا يحل بيع المغنيات، ولا شراؤهن، وأكل أثمانهم حرام، وفيهن أنزل اللّه عزَّ وجلَّ عليَّ‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل اللّه‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الترمذي وابن جرير‏"‏، قال الضحّاك‏:‏ ‏{‏لهو الحديث‏}‏ يعني الشرك، وبه قال ابن أسلم، واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات اللّه واتباع سبيله، وقوله‏:‏ ‏{‏ليضل عن سبيل اللّه‏}‏ أي إنما يصنع هذا للتخالف للإسلام وأهله،وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويتخذها هزواً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ ويتخذ سبيل اللّه هزواً يستهزئ بها، وقال قتادة‏:‏ يعني ويتخذ آيات اللّه هزواً، وقول مجاهد أولى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك لهم عذاب مهين‏}‏ أي كما استهانوا بآيات اللّه وسبيله، أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً‏}‏ أي هذا المقبل على اللهو واللعب والطرب، إذا تليت عليه الآيات القرآنية، ولى عنها وأعرض وأدبر، وتصامم وما به من صمم‏:‏ كأنه ما سمعها لأنه يتأذى بسماعها، إذ لاانتفاع له بها ولا أرب له فيها، ‏{‏فبشره بعذاب أليم‏}‏ أي يوم القيامة يؤلمه كما تألم بسماع كتاب اللّه وآياته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏8 ‏:‏ 9‏)‏

{‏ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم ‏.‏ خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم ‏}

هذا ذكر مآل الأبرار، من السعداء في الدار الآخرة، الذين آمنوا باللّه وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة التابعة لشريعة اللّه ‏{‏لهم جنات النعيم‏}‏ أي يتنعمون فيها بأنواع الملاذ، من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، والمراكب، والنساء، والنضرة، والسماع، الذي لم يخطر ببال أحد، وهم في ذلك مقيمون دائماً لا يظعنون ولا يبغون عنها حولا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعد اللّه حقاً‏}‏ أي هذا كائن لا محالة، لأنه وعد اللّه، واللّه لا يخلف الميعاد لأنه الكريم المنان، الفعال لما يشاء، القادر على كل شيء، ‏{‏وهو العزيز‏}‏ الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء، ‏{‏الحكيم‏}‏ في أقواله وأفعاله الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين، ‏{‏قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏10 ‏:‏ 11‏)‏

{‏ خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم ‏.‏ هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين ‏}

يبين سبحانه بهذا قدرته العظيمة على خلق السماوات والأرض، وما فيهما وما بينهما، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏خلق السموات بغير عمد‏}‏ قال الحسن وقتادة‏:‏ ليس لها عمد، وقال ابن عباس‏:‏ لها عمد لا ترونها، وقد تقدم تقرير هذه المسألة في أول سورة الرعد، ‏{‏وألقى في الأرض رواسي‏}‏ يعني الجبال أرست الأرض وثقلتها لئلا تضطرب بأهلها على وجه الماء، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أن تميد بكم‏}‏ أي لئلا تميد بكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبث فيها من كل دابة‏}‏ أي وذرأ فيها من أصناف الحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها، ولما قرر سبحانه أنه الخالق نبه على أنه الرزاق، بقوله‏:‏ ‏{‏وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا من كل زوج كريم‏}‏ أي من كل زوج من النبات ‏{‏كريم‏}‏ أي حسن المنظر، وقال الشعبي‏:‏ من دخل الجنة فهو كريم ومن دخل النار فهو لئيم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا خلق اللّه‏}‏ أي هذا الذي ذكره تعالى من خلق السماوات والأرض وما بينهما صادر عن فعل اللّه وخلقه وتقديره وحده لا شريك له في ذلك، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأروني ماذا خلق الذين من دونه‏}‏ أي مما تعبدون وتدعون من الأصنام والأنداد، ‏{‏بل الظالمون‏}‏ يعني المشركين باللّه العابدين معه غيره ‏{‏في ضلال‏}‏ أي جهل وعمى ‏{‏مبين‏}‏ أي واضح ظاهر لا خفاء به‏.‏

 الآية رقم ‏(‏12‏)‏

{‏ ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ‏}

اختلف السلف في لقمان‏:‏ هل كان نبياً أو عبداً صالحاً‏؟‏ على قولين‏:‏ الأكثرون على الثاني، قال ابن عباس‏:‏ كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً، وقال سعيد بن المسيب‏:‏ كان لقمان من سودان مصر ذا مشافر، أعطاه اللّه الحكمة ومنعه النبوة، وقال ابن جرير عن خالد الربعي قال‏:‏ كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً، فقال له مولاه‏:‏ اذبح لنا هذه الشاة فذبحها، قال أخرج أطيب مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب، ثم مكث ما شاء اللّه، ثم قال اذبح لنا هذه الشاة فذبحها فقال‏:‏ أخرج أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب، فقال له مولاه‏:‏ أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما‏:‏ فقال لقمان؛ أنه ليس من شيء

أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا، وقال مجاهد‏:‏ كان لقمان عبداً صالحاً ولم يكن نبياً، غليظ الشفتين مصفح القدمين قاضياً على بني إسرائيل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا لقمان الحكمة‏}‏ أي الفهم والعلم والتعبير، ‏{‏أن اشكر للّه‏}‏ أي أمرناه أن يشكر اللّه عزَّ وجلَّ على ما آتاه اللّه ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصصه به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه‏}‏ أي إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن كفر فإن اللّه غني حميد‏}‏ أي غني عن العباد لا يتضرر بذلك ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعاً، فإنه الغني عما سواه؛ فلا إله إلا اللّه ولا نعبد إلا إياه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏13 ‏:‏ 15‏)‏

{‏ وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون‏}

يقول تعالى مخبراً عن وصية لقمان لولده، وقد ذكره اللّه تعالى بأحسن الذكر، وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف، ولهذا أوصاه أولاً بأن يعبد اللّه وحده ولا يشرك به شيئاً، ثم قال محذراً له ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ أي هو أعظم الظلم‏.‏ عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏ شق ذلك على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا‏:‏ أينا لم يلبس إيمانه بظلم‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه ليس بذلك، ألا تسمع إلى قول لقمان ‏{‏يا بنيَّ لا تشرك باللّه إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود‏"‏، ثم قرن بوصيته إياه بعبادة اللّه وحده، البر بالوالدين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً‏}‏ وكثيراً ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن؛ وقال ههنا‏:‏ ‏{‏ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن‏}‏، قال مجاهد‏:‏ مشقة وهن الولد؛ وقال قتادة‏:‏ جهداً على جهد؛ وقال عطاء الخراساني‏:‏ ضعفاً على ضعف، وقوله‏:‏ ‏{‏وفصاله في عامين‏}‏ أي تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة‏}‏ الآية، ومن ههنا استنبط ابن عباس وغيره من اللأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وحمله وفصاله ثلاثون شهراً‏}‏، وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة، وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهاراً، ليذكّر الولد بإحسانها المتقدم إليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقل رب ارحمهما كما

ربياني صغيراً‏}‏، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير‏}‏ أي فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء‏.‏ عن شعيب بن وهب قال‏:‏ قدم علينا معاذ بن جبل وكان بعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقام فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ إني رسول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليكم أن تعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تطيعوني لا آلوكم خيراً، وإن المصير إلى اللّه إلى الجنة أو إلى النار، إقامة فلا ظعن، وخلود فلا موت ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم، وهذا القول من كلام معاذ بن جبل رضي اللّه عنه‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمها‏}‏ أي إن حرصا عليك كل الحرص، على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعك ذلك أن تصاحبهما في الدنيا ‏{‏معروفاً‏}‏ أي محسناً إليهما، ‏{‏واتبع سبيل من أناب إليّ‏}‏ يعني المؤمنين، ‏{‏ثم إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون‏}‏، روى الطبراني عن داود بن أبي هند أن سعد بن مالك سعد بن مالك هو سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي اللّه عنه قال‏:‏ أنزلت فيّ هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما‏}‏ الآية، قال‏:‏ كنت رجلاً براً بأمي، فلما أسلمت قالت‏:‏ يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت‏؟‏ لتدعنَّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتعيّر بي، فيقال‏:‏ يا قاتل أمه، فقلت‏:‏ لا تفعلي يا أمه، فإني لا أدع

ديني هذا لشيء؛ فمكثت يوماً وليلة لم تأكل فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوماً آخر وليلة لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل، فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت يا أمه تعلمين واللّه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نَفساً نَفْساً ما تركت ديني هذا لشيء؛ فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي، فأكلت‏.‏

 الآية رقم ‏(‏16 ‏:‏ 19‏)‏

{‏ يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ‏.‏ يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ‏.‏ ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور ‏.‏ واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ‏}

هذه وصايا نافعة حكاها اللّه سبحانه عن لقمان الحكيم ليمتثلها الناس ويقتدوا بها، فقال‏:‏ ‏{‏يا

بنيّ إنها إن تك مثقال حبة من خردل‏}‏ أي إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة خردل، وكانت مخفية في السماوات أو في الأرض ‏{‏يأت بها اللّه‏}‏ أي أحضرها اللّه يوم القيامة حين يضع الموازين القسط، وجازى عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً‏}‏ الآية، ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء، أو ذاهبة في أرجاء السماوات والأرض، فإن اللّه يأتي بها لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه لطيف خبير‏}‏ أي لطيف العلم فلا تخفى عليه الأشياء، وإن دقّت ولطفت وتضاءلت، ‏{‏خبير‏}‏ بدبيب النمل في الليل البهيم، وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏فتكن في صخرة‏}‏ أنها صخرة تحت الأرضين السبع، والظاهر - واللّه أعلم - أن المراد أن هذه الحبة في حقارتها لو كانت داخل صخرة فإن اللّه سيبديها ويظهرها بلطيف عمله، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لخرج عمله للناس كائناً ما كان‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏يا بنيَّ أقم الصلاة‏}‏ أي بحدودها وفروضها وأوقاتها، ‏{‏وأمر بالمعروف وانه عن المنكر‏}‏ أي بحسب طاقتك وجهدك، ‏{‏واصبر على ما أصابك‏}‏ لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، لا بد أن يناله من الناس أذى فأمره بالصبر، وقوله‏:‏ ‏{‏إن ذلك من عزم الأمور‏}‏ أي أن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تصعر خدك للناس‏}‏ يقول‏:‏ لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك، احتقاراً منك لهم واستكباراً عليهم، ولكن أََلِنْ جانبك وابسط وجهك إليهم، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط‏)‏، قال ابن عباس يقول‏:‏ لا تتكبر فتحتقر عباد اللّه وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك، وقال زيد بن أسلم ‏{‏ولا تصعر خدك للناس‏}‏‏:‏ لا تتكلم وأنت معرض، وقال إبراهيم النخعي‏:‏ يعني بذلك التشدق في الكلام، والصواب القول الأول، قال الشاعر هو عمرو بن حيي التغلبي ‏:‏

وكنا إذا الجبار صعَّر خده * أقمنا له من ميله فتقوما

وقوله تعالى‏:‏ رولا تمش في الأرض مرحاً‏}‏ أي خيلاء متكبراً جباراً عنيداً، لا تفعل ذلك يبغضك اللّه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يحب كل مختال فخور‏}‏ أي مختال معجب في نفسه ‏{‏فخور‏}‏ أي على غيره، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً‏}‏‏.‏ عن ثابت بن قيس بن شماس قال‏:‏ ذكر الكبر عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فشدد فيه فقال‏:‏ ‏(‏إن اللّه لا يحب كل مختال فخور‏)‏ فقال رجل من القوم‏:‏ واللّه يا رسول اللّه إني لأغسل ثيابي فيعجبني بياضها ويعجبني شراك نعلي وعلاَّقة سوطي، فقال‏:‏ ‏(‏ليس ذلك الكبر، إنما الكبر أن تسفه الحق، وتغمط الناس‏)‏ ‏"‏أخرجه الطبراني عن ثابت بن قيس وفيه قصة طويلة‏"‏، وقوله‏:‏ ‏{‏واقصد في مشيك‏}‏ أي أمش مقتصدأً مشياً ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط بل عدلاً وسطاً بين بين وقوله‏:‏ ‏{‏واغضض من صوتك‏}‏ أي لا تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن أنكر الأصولت لصوت الحمير‏}‏ قال مجاهد‏:‏ إن أقبح الأصوات لصوت الحمير، أي غاية من رفع صوته أنه يشبه بالحمير في علوه ورفعه، ومع هذا هو بغيض إلى اللّه تعالى، وهذا التشبيه بالحمير يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه‏)‏، وروى النسائي عند تفسير هذه الآية عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا اللّه من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا باللّه من الشيطان، فإنها رأت شيطاناً‏)‏ ‏"‏أخرجه النسائي وبقية الجماعة سوى ابن ماجة‏"‏‏.‏ فهذه وصايا نافعة جداً، وهي من قصص القرآن العظيم، عن لقمان الحكيم، وقد روي عنه من الحكم والمواعظ أشياء كثيرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏20 ‏:‏ 21‏)‏

{‏ ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ‏.‏ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ‏}

يقول تعالى منبهاً خلقه عاى نعمه عليهم في الدنيا والآخرة، بأنه سخر لهم ما في السموات، من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم، وما يخلق فيها من سحاب وأمطار، وما خلق لهم في الأرض من أنهار وأشجار وزروع وثمار، وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة، ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم، بل منهم من يجادل في اللّه أي في توحيده وإرساله الرسل، ومجادلته في ذلك بغير علم ولا مستند، من حجة صحيحة ولا كتاب مأثور صحيح، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس

من يجادل في اللّه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير‏}‏ أي مبين مضيء ‏{‏وإذا قيل لهم‏}‏ أي هؤلاء المجادلين في توحيد اللّه ‏{‏اتبعوا ما أنزل اللّه‏}‏ أي على رسوله من الشرائع المطهرة، ‏{‏قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا‏}‏ أي لم يكن لهم حجة إلا اتباع الآباء الأقدمين، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون‏}‏ أي فما ظنكم أيها المحتجون بصنيع آبائهم أنهم كانوا على ضلالة وأنتم خلف لهم فيما كانوا فيه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏22 ‏:‏ 24‏)‏

{‏ ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ‏.‏ ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور ‏.‏ نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ‏}

يقول تعالى مخبراً عمن أسلم وجهه للّه أي أخلص له العمل، وانقاد لأمره واتبع شرعه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وهو محسن‏}‏ أي في عمله باتباع ما به أمر، وترك ما عنه زجر ‏{‏فقد استمسك بالعروة الوثقى‏}‏ أي فقد أخذ موثقاً من اللّه متيناً أنه لا يعذبه، ‏{‏وإلى اللّه عاقبة الأمور * ومن كفر فلا يحزنك كفره‏}‏ أي لا تحزن عليهم يا محمد في كفرهم باللّه وبما جئت به، فإن قدر اللّه نافذ فيهم، وإلى اللّه مرجعهم ‏{‏فينبئهم بما عملوا‏}‏ أي فيجزيهم عليه، ‏{‏إن اللّه عليم بذات الصدور‏}‏ فلا تخفى عليه خافية، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏نمتعهم قليلاً‏}‏ أي في الدنيا، ‏{‏ثم نضطرهم‏}‏ أي نلجئهم ‏{‏إلى عذاب غليظ‏}‏ أي فظيع صعب شاق على النفوس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏25 ‏:‏ 26‏)‏

{‏ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ‏.‏ لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد ‏}

يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء المشركين، أنهم يعرفون أن اللّه خالق السماوات والأرض، وحده لا شريك له، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها خلق له وملك له، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن اللّه قل الحمد للّه‏}‏ أي إذ قامت عليكم الحجة باعترافكم ‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏للّه ما في السموات والأرض‏}‏ أي هي خلقه وملكه، ‏{‏إن اللّه هو الغني الحميد‏}‏ أي الغني عما سواه وكل شيء فقير إليه، ‏{‏الحميد‏}‏ في جميع ما خلق له الحمد في السماوات والأرض، وهو المحمود في الأمور كلها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏27 ‏:‏ 28‏)‏

{‏ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ‏.‏ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير ‏}

يقول تعالى مخبراً عن عظمته وكبريائه، وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها، كما قال سيد البشر‏:‏ ‏(‏لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك‏)‏، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات اللّه‏}‏ أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً، وجعل البحر مداداً وأمده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللّه‏}‏ أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً، وجعل البحر مداداً وأمده سبعة أبحر معه، فكتبت بها كلمات اللّه الدالة على عظمته وصفاته وجلاله، لتكسرت الأقلام ونفذ ماء البحر ولو جاء أمثالها مدداً، وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة ولم يرد الحصر، فقد قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً‏}‏، فليس المراد بقوله‏:‏ ‏{‏بمثله‏}‏ آخر فقط، بل بمثله ثم بمثله، ثم بمثله ثم هلم جرا، لأنه لا حصر لأيات اللّه وكلماته، قال الحسن البصري‏:‏ لو جعل شجر الأرض أقلاماً وجعل البحر مداداً، وقال اللّه‏:‏ إن من أمري كذا لنفذ ماء البحر وتكسرت الأقلام، وقال الربيع بن أنس‏:‏ إن مثل علم العباد كلهم في علم اللّه كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل اللّه ذلك‏:‏ ‏{‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام‏}‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة‏}‏ أي ما خلق جميع الناس، وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته، إلا كنسبة خلق نفس واحدة، الجميع هيّن عليه، ‏{‏إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون‏}‏، ‏{‏وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر‏}‏ أي لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة فيكون ذلك الشيء لا يحتاج إلى تكرره وتوكيده، ‏{‏فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه سميع بصير‏}‏ أي كما هو سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم، كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة، كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة‏}‏ الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏29 ‏:‏ 30‏)‏

{‏ ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير‏.‏ ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ‏}

يخبر تعالى أنه ‏{‏يولج الليل في النهار‏}‏ يعني يأخذ منه في النهار فيطول ذلك ويقصر هذا، وهذا يكون زمن الصيف يطول النهار إلى الغاية، ثم يشرع في النقص فيطول الليل ويقصر النهار وهذا يكون في الشتاء ‏{‏وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى‏}‏ قيل إلى غاية محدودة، وقيل إلى يوم القيامة، وكلا المعنيين صحيح ويستشهد للقول الأول بحديث أبي ذر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس‏؟‏‏)‏ قلت اللّه ورسوله أعلم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ثم تستأذن ربها فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئت‏)‏ ‏"‏أخرجه الشيخان عن أبي ذر الغفاري مرفوعاً‏"‏، وعن ابن عباس أنه قال‏:‏ الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها، فإذا غربت جرت بالليل في فلكها، تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها، قال‏:‏ وكذلك القمر ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفاً‏"‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن اللّه بما تعملون خبير‏}‏ المعنى أنه تعالى الخالق العالم بجميع الأشياء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأن اللّه هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل‏}‏ أي إنما يظهر لكم آياته لتستدلوا بها على أنه الحق أي الإله الحق، وأن كل مل سواه باطل، فإنه الغني عما سواه وكل شيء فقير إليه، الجميع خلقه وعبيده، لا يقدر أحد منهم على تحريك ذرة إلا بإذنه، ولو اجتمع كل أهل الأرض على أن يخلقوا ذباباً لعجزوا عن ذلك، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأن اللّه هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن اللّه هو العلي الكبير‏}‏ أي العلي الذي لا أعلى منه، الكبير الذي هو أكبر من كل شيء، فالكل خاضع حقير بالنسبة إليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏31 ‏:‏ 32‏)‏

{‏ ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ‏.‏ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ‏}

يقول تعالى أنه هو الذي سخر البحر، لتجري فيه الفلك بأمره، أي بلطفه وتسخيره، فإنه لولا ما جعل في الماء من قوة يحمل بها السفن لما جرت، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ليريكم من آياته‏}‏ أي من قدرته ‏{‏إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏}‏ أي صبار في الضراء، شكور في الرخاء، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا غشيهم موج كالظلل‏}‏ أي كالجبال والغمام ‏{‏دعوا اللّه مخلصين له الدين‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مسكم الضر في البحر ضلّ من تدعون إلا إياه‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا ركبوا في الفلك‏}‏ الآية، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما نجاهم إلى البر فمنهم متقصد‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أي كافر، كأنه فسر المقتصد ههنا بالجاهد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون‏}‏، وقال ابن زيد، هو المتوسط في العمل، وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد‏}‏ الآية، فالمقتصد ههنا هو المتوسط في العمل، ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك الأهوال، والأمور العظام، والآيات الباهرات في البحر، ثم بعدما أنعم اللّه عليه بالخلاص، كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام، والدؤوب في العبادة، والمبادرة إلى الخيرات، فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصراً واللّه أعلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور‏}‏ الختار‏:‏ هو الغدّار، قاله مجاهد والحسن وهو الذي كلما عاهد نقض عهده، والختر أتم الغدر وأبلغه‏.‏ قال عمرو بن معد يكرب‏:‏

وإنك لو رأيت أبا عمير * ملأت يديك من غدر وختر

وقوله‏:‏ ‏{‏كفور‏}‏ أي جحود للنعم لا يشكرها بل يتناساها ولا يذكرها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏33‏)‏

{‏ يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ‏}

يقول تعالى منذراً للناس يوم المعاد، وآمراً لهم بتقواه والخوف منه، والخشية من اللّه من يوم القيامة حيث ‏{‏لا يجزي والد عن ولده‏}‏ أي لو أراد أن يفديه بنفسه لما قبل منه، وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه لم يقبل منه، ثم عاد بالموعظة عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تعزنكم الحياة الدنيا‏}‏ أي لا تلهينكم بالطمأنينة فيها عن الدار الآخرة، ‏{‏ولا يغرنكم باللّه الغرور‏}‏ يعني الشيطان قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة ، فإنه يغر ابن آدم ويعده ويمنيه، وليس من ذلك شيء، بل كان كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏}‏، قال وهب بن منبه‏:‏ قال عزير عليه السلام‏:‏ لما رأيت بلاء قومي اشتد حزني وكثر همي وأرق نومي، فتضرعت إلى ربي وصليت وصمت، فأنا في ذلك التضرع أبكي إذ أتاني الملَك، فقلت له‏:‏ خبرني هل تشفع أرواح الصديقين المظلمة، أو الآباء لأبنائهم‏؟‏ قال‏:‏ إن القيامة فيها فصل القضاء، وملك ظاهر ليس فيه رخصة لا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الرحمن، ولا يؤخذ فيه والد عن ولده ولا ولد عن والده، ولا أخ عن أخيه، ولا عبد عن سيده، ولا يهتم أحد به بغيره، ولا يحزن لحزنه ولا أحد يرحمه، كل مشفق على نفسه، ولا يؤخذ إنسان عن إنسان، كل يهمه همه ويبكي ذنبه، ويحمل وزره ولا يحمل وزره معه غيره ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏34‏)‏

{‏ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ‏}

هذ مفاتيح الغيب التي استأثر اللّه تعالى بعلمها، فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها، فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب ‏{‏لا يجليها لوقتها إلا هو‏}‏، وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا اللّه، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك، ومن يشاء اللّه من خلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى، شقياً أو سعيداً، علم الملائكة الموكلون بذلك، وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غداً في دنياها وأخراها،، ‏{‏وما تدري نفس بأي أرض تموت‏}‏ في بلدها أو غيره من أي بلاد اللّه كان، لا علم لأحد بذلك وهذه شبيهة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو‏}‏ الآية، وقد ورد السنّة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب، وروى الإمام أحمد عن أبي بريدة سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏خمسٌ لا يعلمهن إلا اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏إن اللّه عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن اللّه عليم خبير‏}‏‏)‏، عن ابن عمر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏‏(‏ مفاتيح الغيب لا يعلمهن إلا اللّه ‏{‏إن اللّه عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن اللّه عليم خبير‏}‏ ‏"‏أخرجه البخاري والإمام أحمد‏"‏‏.‏

وعن مجاهد قال‏:‏ جاء رجل من أهل البادية فقال‏:‏ إن امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد‏؟‏ وبلادنا مجدبة، فأخبرني متى ينزل الغيث‏؟‏ وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت‏؟‏ فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏إن اللّه عنده علم الساعة - إلى قوله - عليم خبير‏}‏ قال مجاهد وهي مفاتيح الغيب التي قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وعنده مفاتيح الغيب لايعلمها إلا هو‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم وابن جرير‏"‏، وروى مسروق عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت‏:‏ من حدثك أنه يعلم ما في غد، فقد كذب، ثم قرأت ‏{‏وما تدري نفس ماذا تكسب غداً‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تدري نفس أرض تموت‏}‏ قال قتادة‏:‏ أشياء استأثر اللّه بهن فلن يطلع عليهن ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ‏{‏إن اللّه عنده علم الساعة‏}‏ فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة أة في أي شهر أو ليل أو نهار، ‏{‏وينزل الغيث‏}‏ فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلاً أو نهاراً، ‏{‏ويعلم ما في الأرحام‏}‏ فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أنثى، أحمر أو أسود وما هو، ‏{‏وما تدري نفس ماذا تكسب غداً‏}‏ أخير أم شر، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت لعلك الميت غداً لعلك المصاب غداً، ‏{‏وما تدري نفس بأي أرض تموت‏}‏ أي ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض، أفي بحر أم بر، أو سهل أو جبل‏.‏ وقد جاء في الحديث‏:‏‏(‏ إذا أراد اللّه قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة‏)‏ ‏"‏أخرجه الطبراني في المعجم الكبير‏"‏‏.‏ وروي مثله عن ابن مسعود، وبمعناه عن أسامة‏.‏

  السابق   الآيات القرآنية  الأحاديث  الأشعار   الفهرس   التالي