مختصر ابن كثير  
   سورة المرسلات   
   ( 141 من 178 )  
  السابق   الآيات القرآنية  الأحاديث   الفهرس   التالي  
   الموضوعات
 

  
 

 سورة المرسلات

 مقدمة

روى البخاري، عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏ بينما نحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غار بمنى، إذ نزلت عليه‏:‏ ‏{‏والمرسلات‏}‏ فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فِيهِ، وإن فاه لرطب بها، إذا وثبت علينا حية، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقتلوها‏)‏ فابتدرناها، فذهبت، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وقيت شركم كما وقيتم شرها‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري، ورواه مسلم من طريق الأعمش به‏"‏‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ ثّنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد اللّه عن ابن عباس عن أمه أنها سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عُرفاً، وعن ابن عباس أن أُمّ الفضل سمعته يقرأ‏:‏ ‏{‏والمرسلات عُرفاً‏}‏ فقالت‏:‏ يا بني أذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت من رسول اللّه يقرأ بها في المغرب ‏"‏أخرجاه في الصحيحين من طريق مالك عن الزهري‏"‏‏.‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 1 ‏:‏ 15‏)‏

‏{‏ والمرسلات عرفا ‏.‏ فالعاصفات عصفا ‏.‏ والناشرات نشرا ‏.‏ فالفارقات فرقا ‏.‏ فالملقيات ذكرا ‏.‏ عذرا أو نذرا ‏.‏ إنما توعدون لواقع ‏.‏ فإذا النجوم طمست ‏.‏ وإذا السماء فرجت ‏.‏ وإذا الجبال نسفت ‏.‏ وإذا الرسل أقتت ‏.‏ لأي يوم أجلت ‏.‏ ليوم الفصل ‏.‏ وما أدراك ما يوم الفصل ‏.‏ ويل يومئذ للمكذبين ‏}‏

روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة ‏{‏والرسلات عُرفاً‏}‏ قال‏:‏ هي الملائكة وهو قول مسروق وأبي الضحى والسدي والربيع بن أنَس وروى عن أبي صالح أنه قال‏:‏ هي الرسل‏.‏ وقال الثوري، عن أبي العبدين قال‏:‏ سألت ابن مسعود عن المرسلات عُرفاً، قال‏:‏ الريح‏:‏ وكذا قال في‏:‏ ‏{‏العاصفات عصفاً والناشرات نشراً‏}‏ إنها الريح، وكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة، وتوقف ابن جرير في‏:‏ ‏{‏المرسلات عرفاً‏}‏ هل هي الملائكة إذا أرسلت بالعرف، أو كعرف الفرس يتبع بعضهم بعضاً، أو هي الرياح إذا هبت شيئاً فشيئاً‏؟‏ وقطع بأن ‏{‏العاصفات عصفاً‏}‏ الرياح، وتوقف في ‏{‏الناشرات نشراً‏}‏ هل هي الملائكة أو الريح كما تقدم، وعن أبي صالح أن ‏{‏الناشرات نشراً‏}‏ هي المطر، والأظهر أن ‏{‏المرسلات‏}‏ هي الرياح، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأرسلنا الرياح لواقح‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته‏}‏، وهكذا ‏{‏العاصفات‏}‏ هي الرياح، يُقال‏:‏ عصفت الرياح إذا هبت بتصويت، وكذا ‏{‏الناشرات‏}‏ هي الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء كما يشاء الرب عزَّ وجلَّ‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالفارقات فرقاً * فالملقيات ذكراً * عذراً أو نذراً‏}‏ يعني الملائكة فإنها تنزل بأمر اللّه على الرسل تفرق بين الحق والباطل، والهدى والغي، والحلال والحرام، وتلقي إلى الرسل وحياً فيه إعذار إلى الخلق، وإنذار لهم عقاب اللّه إن خالفوا أمره، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما توعدون لواقع‏}‏ هذا هو المقسم عليه أي ما وعدتم به من قيام الساعة والنفخ في الصور وبعث الأجساد وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ومجازاة كل عامل بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، إن هذا كله لواقع أي لكائن لا محالة، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا النجوم طمست‏}‏ أي ذهب ضوءها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا النجوم انكدرت‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا السماء فرجت‏}‏ أي فطرت وانشقت وتدلت أرجاؤها ووهت أطرافها، ‏{‏وإذا الجبال نسفت‏}‏ أي ذهب بها فلا يبقى لها عين ولا أثر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم يغادر منهم أحداً‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا الرسل أقتت‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ جمعت، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يجمع اللّه الرسل‏}‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏أقتت‏}‏ أجلت، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لأي يوم أجلت * ليوم الفصل * وما أدراك ما يوم الفصل * ويل يومئِذ للمكذبين‏}‏ يقول تعالى‏:‏ لأي يوم أجلت الرسل وأرجئ أمرها حتى تقوم الساعة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تحسبن اللّه مخلف وعده رسله إن اللّه عزيز ذو انتقام‏}‏ وذلك في يوم الفصل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليوم الفصل‏}‏ ثم قال تعالى معظماً لشأنه‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما يوم الفصل‏}‏‏؟‏ ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ أي ويل لهم من عذاب اللّه غداً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏16 ‏:‏ 28‏)‏

‏{‏ ألم نهلك الأولين ‏.‏ ثم نتبعهم الآخرين ‏.‏ كذلك نفعل بالمجرمين ‏.‏ ويل يومئذ للمكذبين ‏.‏ ألم نخلقكم من ماء مهين ‏.‏ فجعلناه في قرار مكين ‏.‏ إلى قدر معلوم ‏.‏ فقدرنا فنعم القادرون ‏.‏ ويل يومئذ للمكذبين ‏.‏ ألم نجعل الأرض كفاتا ‏.‏ أحياء وأمواتا ‏.‏ وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ‏.‏ ويل يومئذ للمكذبين ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نهلك الأولين‏}‏ يعني المكذبين للرسل المخالفين لما جاءوهم به، ‏{‏ثم نتبعهم الآخرين‏}‏ أي ممن أشبههم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك نفعل بالمجرمين * ويل يومئذ للمكذبين‏}‏، ثم قال تعالى ممتناً على خلقه ومحتجاً على الإعادة بالبداءة‏:‏ ‏{‏ألم نخلقكم من ماء مهين‏}‏ أي ضعيف حقير بالنسبة إلى قدرة الباري عزَّ وجلَّ، كما تقدم في سورة يس‏:‏ ‏(‏ابن آدم أنّى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه‏؟‏‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة‏"‏‏.‏‏{‏فجعلناه في قرار مكين‏}‏ يعني جمعناه في الرحم، وهو حافظ لما أودع فيه من الماء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى قَدَرٍ معلوم‏}‏ يعني إلى مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فقدرنا فنعم القادرون * ويل يومئذ للمكذبين‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نجعل الأرض كفاتاً * أحياء وأمواتاً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يكفت الميت فلا يرى منه شيء، وقال الشعبي‏:‏ بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم، ‏{‏وجعلنا فيها رواسي شامخات‏}‏ يعني الجبال رسى بها الأرض لئلا تميد وتضطرب، ‏{‏وأسقيناكم ماء فراتاً‏}‏ أي عذباً زلالاً من السحاب، أو مما أنبعه من عيون الأرض، ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ أي ويل لمن تأمل هذه المخلوقات، الدّالة على عظمة خالقها، ثم بعد هذا يستمر على تكذيبه وكفره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏29 ‏:‏ 40‏)‏

‏{‏ انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ‏.‏ انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ‏.‏ لا ظليل ولا يغني من اللهب ‏.‏ إنها ترمي بشرر كالقصر ‏.‏ كأنه جمالة صفر ‏.‏ ويل يومئذ للمكذبين ‏.‏ هذا يوم لا ينطقون ‏.‏ ولا يؤذن لهم فيعتذرون ‏.‏ ويل يومئذ للمكذبين ‏.‏ هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين ‏.‏ فإن كان لكم كيد فكيدون ‏.‏ ويل يومئذ للمكذبين ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن الكفار المكذبين بالمعاد والجزاء أنهم يُقال لهم يوم القيامة ‏{‏انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون * انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب‏}‏ يعني لهب النار إذا ارتفع وصعد معه دخان، فمن شدته وقوته أن له ثلاث شعب، ‏{‏لا ظليل ولا يغني من اللهب‏}‏ أي ظل الدخان المقابل للهب لا ظليل هو في نفسه ‏{‏ولا يغني من اللهب‏}‏ يعني ولا يقيهم حرّ اللهب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنها ترمي بشرر كالقصر‏}‏ أي يتطاير الشرر من لهبها كالقصر، قال ابن مسعود‏:‏ كالحصون، وقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ يعني أُصول الشجر ‏{‏كأنه جمالة صفر‏}‏ أي كالإبل السود، قاله مجاهد والحسن واختاره ابن جرير، وعن ابن عباس ‏{‏جمالة صفر‏}‏ يعني حبال السفن، وعنه ‏{‏جمالة صفر‏}‏‏:‏ قطع نحاس، عن عبد الرحمن بن عابس‏:‏ قال‏:‏ سمعت ابن عباس رضي اللّه عنهما‏:‏ ‏{‏إنها ترمي بشرر كالقصر‏}‏ قال‏:‏ كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع، وفوق ذلك فنرفعه للبناء، فنسميه القصر ‏{‏كأنه جمالة صفر‏}‏ حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال ‏"‏أخرجه البخاري‏"‏‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏هذا يوم لا ينطقون‏}‏ أي لا يتكلمون، ‏{‏ولا يؤذن لهم فيعتذرون‏}‏ أي لا يقدرون على الكلام ولا يؤذن لهم فيه ليعتذروا بل قد قامت عليهم الحجة، ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون، وعرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة وعن هذه الحال تارة، ليدل على شدة الأهوال والزلازل يومئذ، ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين * فإن كان لكم كيد فكيدون‏}‏ وهذه مخاطبة من الخالق تعالى لعباده يقول لهم‏:‏ ‏{‏هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين‏}‏ يعني أنه جمعهم بقدرته في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كان لكم كيد فكيدون‏}‏، تهديد شديد ووعيد أكيد أي إن قدرتم على أن تتخلصوا من قبضتي، وتنجوا من حكمي فافعلوا، فإنكم لا تقدرون على ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان‏}‏‏.‏ عن عبادة بن الصامت أنه قال‏:‏ إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الأولين والآخرين في صعيد واحد ينفذهم ويسمعهم الداعي ويقول اللّه‏:‏ ‏{‏هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين * فإن كان لكم كيد فكيدون‏}‏ اليوم لا ينجو مني جبار عنيد، ولا شيطان مريد ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏41 ‏:‏ 50‏)‏

‏{‏ إن المتقين في ظلال وعيون ‏.‏ وفواكه مما يشتهون ‏.‏كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ‏.‏ إنا كذلك نجزي المحسنين ‏.‏ ويل يومئذ للمكذبين ‏.‏كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ‏.‏ ويل يومئذ للمكذبين ‏.‏ وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ‏.‏ ويل يومئذ للمكذبين ‏.‏ فبأي حديث بعده يؤمنون ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن عباده المتقين، إنهم يوم القيامة يكونون في جنات وعيون أي بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من ظل اليحموم وهو الدخان الأسود المنتن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفواكه مما يشتهون‏}‏ أي ومن سائر أنواع الثمار مهما طلبوا وجدوا، ‏{‏كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون‏}‏ أي يقال لهم ذلك على سبيل الإحسان إليهم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كذلك نجزي المحسنين‏}‏ أي هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل، ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون‏}‏ خطاب للمكذبين بيوم الدين، وأمرهم أمر تهديد ووعيد، فقال تعالى ‏{‏كلوا وتمتعوا قليلاً‏}‏ أي مدة قليلة قريبة قصيرة، ‏{‏إنكم مجرمون‏}‏ أي ثم تساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها، ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون‏}‏ أي إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة امتنعوا من ذلك واستكبروا عنه ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعده يؤمنون‏}‏‏؟‏ أي إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأي كلام يؤمنون به‏؟‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعد اللّه وآياته يؤمنون‏}‏‏؟‏ روي عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏إذا قرأ ‏{‏والمرسلات عُرفاً‏}‏ فقرأ ‏{‏فبأي حديث بعده يؤمنون‏}‏‏؟‏ فليقل آمنت باللّه وبما أنزل‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏

  السابق   الآيات القرآنية  الأحاديث   الفهرس   التالي