مختصر ابن كثير  
   سورة الملك   
   ( 131 من 178 )  
  السابق   الآيات القرآنية  الأحاديث   الفهرس   التالي  
   الموضوعات
 

  
 

 سورة الملك

 ما ورد في فضلها‏:‏ روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر له‏:‏ تبارك الذي بيده الملك‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد وأهل السنن الأربعة وقال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏"‏‏.‏ وعن أنَس قال، قال رسول اللّه صلى

اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة‏:‏ تبارك الذي بيده الملك‏)‏ ‏"‏رواه الطبراني والحافظ المقدسي‏"‏‏.‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ ضرب بعض أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم خباءه على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه ضربت خبائي على قبر، وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا إنسان يقرأ سورة الملك‏:‏ تبارك، حتى ختمها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر‏)‏ ‏"‏رواه الترمذي، وقال غريب من هذا الوجه‏"‏‏.‏ وعن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ‏:‏ ‏(‏‏{‏الم تنزيل‏}‏، و‏{‏تبارك الذي بيده المُلْك‏}‏‏)‏ ‏"‏أخرجه الترمذي‏"‏‏.‏ وقال ليث، عن طاووس‏:‏ يفضلان كل سورة في القرآن بسبعين حسنة، وعن ابن عباس أنه قال لرَجُل‏:‏ ألا أتحفك بحديث تفرح به‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ اقرأ ‏{‏تبارك الذي بيده المُلْك‏}‏ وعلّمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك، فإنها المنجية، والمجادلة تجادل أو تخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطالب له أن ينجيه من عذاب النار، وينجي بها صاحبها من عذاب القبر، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لوددت أنها في قلب كل إنسان من أُمّتي‏)‏ ‏"‏أخرجه عبد بن حميد في مسنده‏"‏‏.‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 5‏)‏

‏{‏ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ‏.‏ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور ‏.‏ الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ‏.‏ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ‏.‏ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير ‏}‏

يُمَجِّد تعالى نفسه الكريمة، ويخبر أنه ‏{‏بيَدِهِ المُلْكُ‏}‏ أي هو المتصرف في جميع المخلوقات، بما يشاء، لامعقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل، لقهره وحكمته وعدله، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلق الموت والحياة‏}‏ ومعنى الآية أنه أوجد الخلائق من العدم ليبلوهم، أي يختبرهم أيهم أحسن عملاً‏.‏ عن قتادة قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن اللّه أذل بني آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء‏)‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليبلوكم أيكم أحسن عملاً‏}‏ أي خيرعملاً كما قال محمد بن عجلان، ولم يقل أكثر عملاً، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو العزيز الغفور‏}‏ أي هو العزيز العظيم، المنيع الجناب، وهو غفور لمن تاب إليه وأناب، بعد ما عصاه وخالف أمره، فهو مع ذلك يرحم ويصفح ويتجاوز، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلق سبع سموات طباقاً‏}‏ أي طبقة بعد طبقة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت‏}‏ أي ليس فيه اختلاف ولا تنافر، ولا نقص ولا عيب ولا خلل، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فارجع البصر هل ترى من فطور‏}‏ أي انظر إلى السماء فتأملها، هل ترى فيها عيباً أو نقصاً أو خللاً أو فطوراً‏؟‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ ‏{‏هل ترى من فطور‏}‏ أي شقوق، وقال السدي‏:‏ أي من خروق، وقال قتادة‏:‏ أي هل ترى خللاً يا ابن آدم‏؟‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ارجع البصر كرتين‏}‏ مرتين، ‏{‏ينقلب إليك البصر خاسئاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ذليلاً، وقال مجاهد‏:‏ صاغراً، ‏{‏وهو حسير‏}‏ يعني وهو كليل، وقال مجاهد‏:‏ الحسير المنقطع من الإعياء، ومعنى الآية‏:‏ إنك لو كررت البصر مهما كررت، لانقلب إليك أي لرجع إليك البصر ‏{‏خاسئاً‏}‏ عن أن يرى عيباً أو خللاً، ‏{‏وهو حسير‏}‏ أي كليل قد انقطع من الإعياء، من كثرة التكرر ولا يرى نقصاً، ولما نفى عنها في خلقها النقص، بيّن كمالها وزينتها فقال‏:‏ ‏{‏ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح‏}‏ وهي الكواكب التي وضعت فيها السيارات والثوابت، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلناها رجوماً للشياطين‏}‏ عاد الضمير في قوله ‏{‏وجعلناها‏}‏ على جنس المصابيح لا على عينها، لأنه لا يرمى بالكواكب التي في السماء، بل بشهب من دونها، وقد تكون مستمدة منها، واللّه أعلم‏.‏ ‏{‏وأعتدنا لهم عذاب السعير‏}‏ أي جعلنا للشياطين هذا الخزي في الدنيا، وأعتدنا لهم عذاب السعير في الأخرى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب‏}‏ قال قتادة‏:‏ إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال‏:‏ خلقها اللّه زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به ‏"‏رواه ابن جرير وابن أبي حاتم‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏6 ‏:‏ 11‏)‏

‏{‏ وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير ‏.‏ إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور ‏.‏ تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ‏.‏ قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير ‏.‏ وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ‏.‏ فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وأعتدنا للذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير‏}‏ أي بئس المآل والمنقلب، ‏{‏إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً‏}‏ يعني الصياح، ‏{‏وهي تفور‏}‏ قال الثوري‏:‏ تغلي بهم كما يغلي الحَبُ القليل في الماء الكثير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تكاد تميز من الغيظ‏}‏ أي تكاد ينفصل بعضها من بعض، من شدة غيظها عليهم وحنقها بهم، ‏{‏كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل اللّه من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير‏}‏‏.‏ يذكر تعالى عدله في خلقه، وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا‏؟‏ قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين‏}‏، وهكذا عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة، فقالوا‏:‏ ‏{‏لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير‏}‏، أي لو كانت لنا عقول ننتفع بها لما كنا على ما كنا عليه، من الكفر باللّه والاغترار به، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير‏}‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم‏)‏ ‏"‏رواه الإمام أحمد من حديث أبي البختر الطائي‏"‏، وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏لايدخل أحد النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏12 ‏:‏ 15‏)‏

‏{‏ إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير ‏.‏ وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ‏.‏ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ‏.‏ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ مخبراً عمن يخاف مقام ربه، فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات، حيث لا يراه أحد إلا اللّه تعالى، بأنه له ‏{‏مغفرة وأجر كبير‏}‏ أي تكفّر عنه ذنوبه، ويجازى بالثواب الجزيل، كما ثبت في الصحيحين‏:‏ ‏(‏سبعة يظلهم اللّه تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله‏(‏ فذكر منهم رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال‏:‏ إني أخاف اللّه، ورجلاً تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ثم قال تعالى منبهاً على أنه مطلع على الضمائر والسرائر ‏{‏وأسروا قولكم أو أجهروا به إنه عليم بذات الصدور‏}‏ أي بما يخطر في القلوب ‏{‏ألا يعلم من خلق‏}‏ أي ألا يعلم الخالق‏؟‏ وقيل معناه‏:‏ ألا يعلم اللّه مخلوقه‏؟‏ والأول أولى لقوله‏:‏ ‏{‏وهو اللطيف الخبير‏}‏ ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض، وتذليله إياها لهم، بأن جعلها قارة ساكنة لا تميد ولا تضطرب، بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلك فيها من السبل، وهيأ فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها‏}‏ أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره اللّه لكم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكلوا من رزقه‏}‏ فالسعي في السبب لا ينافي التوكل، كما قال رسول اللّه‏:‏ ‏(‏لو أنكم تتوكلون على اللّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عمر بن الخطاب مرفوعاً‏"‏فأثبت لها رواحاً وغدواً لطلب الرزق مع توكلها على اللّه عزَّ وجلَّ، وهو المسخر المسير المسبب ‏{‏وإليه النشور‏}‏ أي المرجع يوم القيامة، قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ مناكبها‏:‏ أطرافها وفجاجها ونواحيها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏16 ‏:‏ 19‏)‏

‏{‏ أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ‏.‏ أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ‏.‏ ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير ‏.‏ أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير ‏}‏

وهذا أيضاً من لطفه ورحمته بخلقه، أنه قادر على تعذيبهم بسبب كفر بعضهم، وهو مع هذا يحلم ويصفح، ويؤجل ولا يعجل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة‏}‏ الآية، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور‏}‏ أي تذهب وتجيء وتضطرب، ‏{‏أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً‏}‏ أي ريحاً فيها حصباء تدمغكم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً ثم لا تجدوا لكم وكيلاً‏}‏، وهكذا توعدهم ههنا بقوله‏:‏ ‏{‏فستعلمون كيف نذير‏}‏ أي كيف يكون إنذاري، وعاقبة من تخلف عنه وكذب به، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد كذب الذين من قبلهم‏}‏ أي من الأمم السالفة والقرون الخالية، ‏{‏فكيف كان نكير‏}‏ أي فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم‏؟‏ أي عظيماً شديداً أليماً، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن‏}‏ أي تارة يصففن أجنحتهن في الهواء، وتارة تجمع جناحاً وتنشر جناحاً، ‏{‏ما يمسكهن‏}‏ أي في الجو ‏{‏إلا الرحمن‏}‏ أي بما سخر لهن من الهواء من رحمته ولطفه، ‏{‏إنه بكل شيء بصير‏}‏ أي بما يصلح كل شيء من مخلوقاته، وهذه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا اللّه إن في ذلك لآية لقوم يؤمنون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏20 ‏:‏ 27‏)‏

{‏ أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور ‏.‏ أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور ‏.‏ أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم ‏.‏ قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ‏.‏ قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ‏.‏ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ‏.‏ قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين ‏.‏ فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون ‏}‏

يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا معه غيره يبتغون عندهم نصراً ورزقاً منكراً عليهم‏:‏ ‏{‏أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن‏}‏‏؟‏ أي ليس لكم من دونه من ولي ولا واق، ولا ناصر لكم غيره، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الكافرون إلا في غرور‏}‏‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه‏}‏‏؟‏ أي من هذا الذي إذا قطع اللّه عنكم رزقه يرزقكم بعده‏؟‏ أي لا أحد يعطي ويمنع، ويخلق ويرزق إلا اللّه وحده لا شريك له، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل لجوا‏}‏ أي استمروا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم، ‏{‏في عتو‏}‏ أي في معاندة واستكبار ‏{‏ونفور‏}‏ على إدبارهم عن الحق، لا يسمعون له ولا يتبعونه، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم‏}‏‏؟‏ وهذا مثل ضربه اللّه للمؤمن والكافر، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي ‏{‏مكباً على وجهه‏}‏ أي يمشي منحنياً لا مستوياً ‏{‏على وجهه‏}‏ أي لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب، بل تائه حائر ضال، أهذا أهدى ‏{‏أمن يمشي سوياً‏}‏ أي منتصب القامة ‏{‏على صراط مستقيم‏}‏‏؟‏ أي على طريق واضح بيّن، هذا مثلهم في الدنيا، وكذلك يكونون في الآخرة، فالمؤمن يحشر يمشي سوياً على صراط مستقيم، مفض به إلى الجنة الفيحاء، وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم ‏{‏فاهدوهم إلى صراط الجحيم‏}‏‏.‏ عن أنَس بن مالك قال، قيل‏:‏ يارسول اللّه كيف يحشر الناس على وجوههم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادراً على أن يمشيهم على وجوههم‏)‏‏؟‏ ‏"‏الحديث أخرجه أحمد وأصله في الصحيحين عن أنَس بن مالك‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هو الذي أنشأكم‏}‏ أي ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، ‏{‏وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة‏}‏ أي العقول والإدراك، ‏{‏قليلاً ما تشكرون‏}‏ أي قلّما تستعملون هذه القوى، التي أنعم اللّه بها عليكم في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره‏.‏ ‏{‏قل هو الذي ذرأكم في الأرض‏}‏ أي بثكم ونشركم في أقطار الأرض، مع اختلاف ألسنتكم ولغاتكم وألوانكم، ‏{‏وإليه تحشرون‏}‏ أي تجتمعون بعد هذا التفرق و الشتات، يجمعكم كما فرقكم ويعيدكم كما بدأكم، ثم قال تعالى مخبراً عن الكفار، المنكرين للمعاد، المستبعدين وقوعه ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏‏؟‏ أي متى يقع هذا الذي تخبرنا عنه، ‏{‏قل إنما العلم عند اللّه‏}‏ أي لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا اللّه عزَّ وجلَّ، لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه ‏{‏وإنما أنا نذير مبين‏}‏ أي وإنما عليَّ البلاغ وقد أديته إليكم، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فلما رأوه زلفة سيئت وجوه

الذين كفروا‏}‏ أي لما قامت القيامة وشاهدها الكفّار، ورأوا أن الأمر كان قريباً، فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك، وجاءهم من أمر اللّه ما لم يكن لهم في بال ولا حساب، ‏{‏وبدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون‏}‏، ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ ‏{‏هذا الذي كنتم به تدّعون‏}‏ أي تستعجلون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 28 ‏:‏ 30‏)‏

‏{‏ قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ‏.‏ قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين ‏.‏ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد لهؤلاء المشركين باللّه الجاحدين لنعمه ‏{‏أرأيتم إن أهلكني اللّه ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم‏}‏ أي خلصوا أنفسكم، فإنه لا منقذ لكم من اللّه إلا التوبة والإنابة، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال، فسواء عذبنا اللّه أو رحمنا، فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا‏}‏ أي آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم، وعليه توكلنا في جميع أُمورنا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاعبده وتوكل عليه‏}‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فستعلمون من هو في ضلال مبين‏}‏ أي منا ومنكم، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والأخرة‏؟‏ ثم قال تعالى إظهاراً للرحمة في خلقه ‏{‏قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً‏}‏ أي ذاهباً في الأرض إلى أسفل، فلا ينال بالفؤوس الحداد ولا السواعد الشداد، والغائر عكس النابع، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يأتيكم بماء معين‏}‏ أي نابع سائح جار على وجه الأرض، أي لا يقدر على ذلك إلا اللّه عزَّ وجلَّ، فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه، وأجراها في سائر أقطار الأرض، بحسب ما يحتاج العباد إليه من القلة والكثرة، فللّه الحمد والمنة‏.‏

  السابق   الآيات القرآنية  الأحاديث   الفهرس   التالي