مختصر ابن كثير  
   سورة النجم   
   ( 117 من 178 )  
  السابق   الآيات القرآنية  الأحاديث  الأشعار   الفهرس   التالي  
   الموضوعات
 

  
 

 سورة النجم

روى البخاري، عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ أول سورة أنزلت فيها سجدة ‏{‏والنجم‏}‏، قال‏:‏ فسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم وسجد من خلفه، إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب، فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قُتِل كافراً، وهو أُمية بن خلف ‏"‏أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي، وجاء في بعض الروايات أنه عتبة بن ربيعة ‏.‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏4‏)‏

‏{‏ والنجم إذا هوى ‏.‏ ما ضل صاحبكم وما غوى ‏.‏ وما ينطق عن الهوى ‏.‏ إن هو إلا وحي يوحى ‏}‏

قال الشعبي‏:‏ الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق، واختلف المفسرون في معنى قوله‏:‏ ‏{‏والنجم إذا هوى‏}‏ فقال مجاهد‏:‏ يعني بالنجم الثريا إذا سقطت مع الفجر، واختاره ابن جرير، وزعم السدي‏:‏ أنها الزهرة، وقال الضحّاك‏:‏ ‏{‏والنجم إذا هوى‏}‏ إذا رمي به الشياطين، وهذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون

عظيم * إنه لقرآن كريم‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ضل صاحبكم وما غوى‏}‏ هذا هو المقسم عليه، وهو الشهادة للرسول صلى اللّه عليه وسلم بأنه راشد، تابع للحق ليس بضال، والغاوي‏:‏ هو العالم بالحق العادل عنه قصداً إلى غيره، فنزه اللّه رسوله عن مشابهة أهل الضلال، كالنصارى وطرائق اليهود، وهي علم الشيء وكتمانه، والعمل بخلافه، بل هو صلاة اللّه وسلامه عليه، وما بعثه اللّه به من الشرع العظيم، في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما ينطق عن الهوى‏}‏ أي ما يقول قولاً عن هوى وغرض ‏{‏إن هو إلا وحي يوحى‏}‏ أي إنما يقول ما أمر به، يبلغه إلى الناس كاملاً موفوراً، من غير زيادة ولا نقصان، كما روى الإمام أحمد، عن عبد اللّه بن عمرو قال‏:‏ كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، فقالوا‏:‏ إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد وأبو داود وفي بعض الروايات‏:‏ بشرٌ يتكلم في الرضى والغضب‏"‏‏.‏ وقال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أخبرتكم أنه من عند اللّه فهو الذي لا شك فيه‏)‏ ‏"‏أخرجه الحافظ البزار‏"‏‏.‏ وعن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا أقول إلا حقاً‏)‏ قال بعض أصحابه‏:‏ فإنك تداعبنا يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إني لا أقول إلا حقاً‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏5 ‏:‏ 18‏)‏

‏{‏ علمه شديد القوى ‏.‏ ذو مرة فاستوى ‏.‏ وهو بالأفق الأعلى ‏.‏ ثم دنا فتدلى ‏.‏ فكان قاب قوسين أو أدنى ‏.‏ فأوحى إلى عبده ما أوحى ‏.‏ ما كذب الفؤاد ما رأى ‏.‏ أفتمارونه على ما يرى ‏.‏ ولقد رآه نزلة أخرى ‏.‏ عند سدرة المنتهى ‏.‏ عندها جنة المأوى ‏.‏ إذ يغشى السدرة ما يغشى ‏.‏ ما زاغ البصر وما طغى ‏.‏ لقد رأى من آيات ربه الكبرى ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن عبد ورسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم أنه علَّمه ‏{‏شديد القوى‏}‏ وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين‏}‏‏.‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏ذو مرة‏}‏ أي ذو قوة، قاله مجاهد، وقال ابن عباس‏:‏ ذو منظر حسن، وقال قتادة‏:‏ ذو خَلْق طويل حسن، ولا منافاة بين القولين فإنه عليه السلام ذو منظر حسن وقوة شديدة، وقد ورد في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مِرّة سوي‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستوى‏}‏ يعني جبريل عليه السلام ‏{‏وهو بالأفق الأعلى‏}‏ يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى، قال عكرمة ‏{‏الأفق الأعلى‏}‏ الذي يأتي منه الصبح، وقال مجاهد‏:‏ هو مطلع الشمس، قال ابن مسعود‏:‏ إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين‏:‏ أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأُفق، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وهو بالأُفق الأعلى‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏ وهذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء بل قبلها ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الأرض، فهبط عليه جبريل عليه السلام وتدلى إليه، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه اللّه عليها له ستمائة جناح، ثم رآه بعد ذلك نزلة أُخْرى عند سدرة المنتهى يعني ليلة الإسراء، وكانت الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة، فأوحى اللّه إليه صدر سورة اقرأ، روى الإمام أحمد، عن عبد اللّه أنه قال‏:‏ ‏(‏رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جبريل في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأُفق يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما اللّه به عليم‏)‏ ‏"‏انفرد بهذه الرواية الإمام أحمد‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكان قاب قوسين أو أدنى‏}‏ أي فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض، حتى كان بينه وبين محمد صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏قاب قوسين‏}‏ أي بقدرهما إذا مدّا، قاله مجاهد وقتادة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أو أدنى‏}‏ هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه، ونفي ما زاد عليه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة‏}‏ أي ما هي بألين من الحجارة بل مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏يخشون الناس كخشية اللّه أو أشد خشية‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون‏}‏ أي ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة أو يزيدون عليها، فهذا تحقيق للمخبر به لا شك، وهكذا هذه الآية ‏{‏فكان قاب قوسين أو أدنى‏}‏ وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني إنما هو جبريل عليه السلام، هو قول عائشة وابن مسعود وأبي ذر كما سنورد أحاديثهم قريباً إن شاء اللّه تعالى‏.‏ وروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏(‏رأى محمد ربه بفؤاده مرتين‏)‏ فجعل هذه إحداهما، وجاء في حديث الإسراء‏:‏ ‏(‏ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى‏)‏ ولهذا قد تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أُخْرَى، لا أنها تفسير لهذه الآية، فإن هذه كانت ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء، ولهذا قال بعده‏:‏ ‏{‏ولقد رآه نزلة أُخْرَى عند سدرة المنتهى‏}‏ فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض، وقال ابن جرير، قال عبد اللّه بن مسعود في هذه الآية‏:‏ ‏{‏فكان قاب قوسين أو أدنى‏}‏ قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رأيت جبريل له ستمائة جناح‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير، ورواه البخاري في صحيحه‏"‏‏.‏ وروى البخاري، عن الشيباني قال‏:‏ سألت زراً عن قوله‏:‏ ‏{‏فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى‏}‏ قال‏:‏ حدثنا عبد اللّه هو عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح‏.‏ فعلى ما ذكرناه يكون قوله‏:‏ ‏{‏فأوحى إلى عبده ما أوحى‏}‏ معناه فأوحى جبريل إلى عبد اللّه محمد ما أوحى، أو فأوحى اللّه إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل؛ وكلا المعنيين صحيح، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى‏}‏ قال مسلم، عن أبي العالية، عن ابن عباس ‏{‏ما كذب الفؤاد ما رأى‏}‏، ‏{‏ولقد رآه نزلة أُخْرَى‏}‏ قال‏:‏ رآه بفؤاده مرتين، وقد خالفه ابن مسعود وغيره، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب، وقول البغوي في تفسيره‏:‏ وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنَس والحسن وعكرمة فيه نظر، واللّه أعلم‏.‏

وروى الترمذي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ رأى محمد ربه، قلت‏:‏ أليس اللّه يقول‏:‏ ‏{‏لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين ‏"‏أخرجه الترمذي وقال‏:‏ حسن غريب‏"‏‏.‏ وفال أيضاً‏:‏ لقي ابن عباس كعباً بعرفة فسأله عن شيء فكبّر حتى جاوبته الجبال، فقال ابن عباس‏:‏ إنا بنو هاشم، فقال كعب‏:‏ إن اللّه قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين، وقال مسروق‏:‏ دخلت على عائشة فقلت‏:‏ هل رأى محمد ربه‏؟‏ فقالت‏:‏ لقد تكلمت بشيء وقف له شعري، فقلت‏:‏ رويداً، ثم قرأت‏:‏ ‏{‏لقد رأى من آيات ربه الكبرى‏}‏، فقالت‏:‏ أين يذهب بك‏؟‏ إنما هو جبريل، من أخبرك أن محمداً رأى ربه، أو كتم شيئاً مما أمر به، أو يعلم الخمس التي قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه عنده علم الساعة وينزل الغيث‏}‏ فقد أعظم على اللّه الفرية، ولكنه رأى جبريل؛ لم يره في صورته إلا مرتين‏:‏ مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد، وله ستمائة جناح قد سد الأفق‏)‏ ‏"‏أخرجه الترمذي في سننه‏"‏‏.‏ وروى النسائي، عن ابن عباس قال‏:‏ أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد عليهم السلام‏؟‏ وفي صحيح مسلم، عن أبي ذر قال‏:‏ سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هل رأيت ربك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏نورٌ أنّى أراه‏)‏‏؟‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏رأيت نوراً‏)‏

وروى ابن أبي حاتم، عن عباد بن منصور قال‏:‏ سألت عكرمة عن قوله‏:‏ ‏{‏ما كذب الفؤاد ما رأى‏}‏ فقال عكرمة‏:‏ تريد أن أخبرك أنه قد رآه‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، قال‏:‏ قد رآه، ثم قد رآه، قال‏:‏ فسألت عنه الحسن، فقال‏:‏ ‏(‏قد رأى جلاله وعظمته ورداءه‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏ فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رأيت ربي عزَّ وجلَّ‏)‏ فإنه إسناده على شرط الصحيح، لكنه مختصر من حديث المنام، كما رواه أحمد عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أتاني ربي الليلة في أحسن صورة - أحسبه يعني في النوم - فقال‏:‏ يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى‏؟‏ قال، قلت‏:‏ لا، فوضع يده بين كتفيَّ حتى وجدت بردها بين ثدييَّ - أو قال نحري - فعلمت ما في السماوات وما في الأرض، ثم قال‏:‏ يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى‏؟‏ قال، قلت‏:‏ نعم، يختصمون في الكفارات والدرجات، قال‏:‏ وما الكفارات‏؟‏ قال، قلت‏:‏ المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه‏.‏ وقال‏:‏ قل يا محمد إذا صليت‏:‏ اللهم اني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك‏:‏ فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون، وقال‏:‏ والدرجات، بذل الطعام وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد رآه نزلة أُخْرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى‏}‏ هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه اللّه عليها وكانت ليلة الإسراء، روى الإمام أحمد، عن عامر قال‏:‏ أتى مسروق عائشة فقال‏:‏ يا أُم المؤمنين هل رأى محمد صلى اللّه عليه وسلم ربه عزَّ وجلَّ‏؟‏ قالت‏:‏ سبحان اللّه لقد قفَّ شعري لما قلت‏!‏ أين أنت من ثلاث، من حدثكهن فقد كذب‏؟‏ من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت‏:‏ ‏{‏لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار‏}‏، ‏{‏وما كان لبشر أن يكلمه اللّه إلا وحياً أو من وراء حجاب‏}‏، ومن أخبرك أنه يعلم ما في غد، فقد كذب، ثم قرأت‏:‏ ‏{‏إن اللّه عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام‏}‏ الآية، ومن أخبرك أن محمداً قد كتم فقد كذب، ثم قرأت ‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏؛ ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين ‏"‏أخرجه أحمد في المسند‏"‏، وروى الإمام أحمد أيضاً عن مسروق قال‏:‏ كنت عند عائشة فقلت أليس اللّه يقول ‏{‏ولقد رآه بالأفق المبين‏}‏، ‏{‏ولقد رآه نزلة أُخرى‏}‏ فقالت‏:‏ أنا أول هذه الأمة سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنها فقال‏:‏ ‏(‏إنما ذاك جبريل لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين، رآه منهبطاً من السماء إلى الأرض ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض‏)‏ ‏"‏أخرجه الشيخان والإمام أحمد‏"‏‏.‏

وقال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد رآه نزلة أُخْرى‏}‏ قال‏:‏ رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جبريل في صورته مرتين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ يغشى السدرة ما يغشى‏}‏ قد تقدم في أحاديث الإسراء أنه غشيتها الملائكة مثل الغربان، وغشيها نور الرب، وغشيها ألوان ما أدري ما هي‏.‏ روى الإمام أحمد، عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ لما أسري برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، ‏{‏إذ يغشى السدرة ما يغشى‏}‏ قال‏:‏ فراش من ذهب، قال‏:‏ وأعطي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثاً‏:‏ أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك باللّه شيئاً من أمته المقحمات ‏"‏أخرجه مسلم والإمام أحمد‏"‏‏.‏ وعن مجاهد قال‏:‏ كان أغصان السدرة لؤلؤاً وياقوتاً وزبرجداً، فرآها محمد صلى اللّه عليه وسلم ورأى ربه بقلبه، وقال ابن زيد‏:‏ قيل يا رسول اللّه أي شيء رأيت يغشى تلك السدرة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏رأيت يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح اللّه عزَّ وجلَّ‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما زاغ البصر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ما ذهب يميناً ولا شمالاً، ‏{‏وما طغى‏}‏ ما جاوز ما أمر به، ولا سأل فوق ما أعطي، وما أحسن ما قال الناظم‏:‏

رأى جنة المأوى وما فوقها ولو * رأى غيره ما قد رآه لتاها

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد رأى من آيات ربه الكبرى‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏لنريه من آياتنا‏}‏ أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏19 ‏:‏ 26‏)‏

‏{‏ أفرأيتم اللات والعزى ‏.‏ ومناة الثالثة الأخرى ‏.‏ ألكم الذكر وله الأنثى ‏.‏ تلك إذا قسمة ضيزى ‏.‏ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ‏.‏ أم للإنسان ما تمنى ‏.‏ فلله الآخرة والأولى ‏.‏ وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ‏}‏

يقول تعالى مقرعاً للمشركين في عبادتهم الأصنام والأوثان، واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن، ‏{‏أفرأيتم اللات‏}‏‏؟‏ وكانت اللات صخرة بيضاء منقوشة، عليها بيت بالطائف، له أستار وسدنة، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش، قال ابن جرير‏:‏ وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم اللّه فقالوا‏:‏ اللات يعنون مؤنثة منه، تعالى اللّه عن قولهم علواً كبيراً، وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما في قوله‏:‏ ‏{‏اللات والعزى‏}‏ قال‏:‏ كان اللات رجلاً يلت السويق سويق الحاج ‏"‏أخرجه البخاري‏"‏، قال ابن جرير‏:‏ وكذا العزى من العزيز وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة وهي بين مكة والطائف كانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أُحُد‏:‏ لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قولوا اللّه مولانا ولا مولى لكم‏)‏ وروى البخاري، عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا اللّه، ومن قال لصاحبه‏:‏ تعال أُقامرك فليتصدق‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري أيضاً‏"‏، فهذا محمول على من سبق لسانه في ذلك كما كانت ألسنتهم قد اعتادته من زمن الجاهلية، كما قال النسائي، وأما مناة فكانت بالمشلل بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها، قال ابن اسحاق‏:‏ كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها، كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب تطوف بها كطوافها بها وتنحر عندها، فكانت لقريش ولبني كنانة العزى بنخلة، وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم، قلت‏:‏ بعث إليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول‏:‏

يا عز كفرانك لا سبحانك * إني رأيت اللّه قد أهانك

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأُخْرى‏}‏‏؟‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى‏}‏‏؟‏ أي أتجعلون له ولداً وتجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكر، فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت ‏{‏قسمة ضيزى‏}‏ أي جوراً باطلة، فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة، التي لو كانت بين مخلوقين كانت جوراً وسفهاً‏؟‏

ثم قال تعالى منكراً عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة ‏{‏إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم‏}‏ أي من تلقاء أنفسكم ‏{‏ما أنزل اللّه بها من سلطان‏}‏ أي من حجة ‏{‏إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس‏}‏ أي ليس له مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم، الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظ نفوسهم وتعظيم آبائهم الأقدمين، ‏{‏ولقد جاءهم من ربهم الهدى‏}‏ أي ولقد أرسل اللّه إليهم الرسل، بالحق المنير والحجة القاطعة، ومع هذا ما اتبعوا ما جاءهم به ولا انقادوا له، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أم للإنسان ما تمنى‏}‏ أي ليس كل من تمنى خيراً حصل له، ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب‏}‏ ولا كل من ود شيئاً يحصل له، كما روي‏:‏ ‏(‏إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته‏)‏ ‏"‏تفرد به الإمام أحمد‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فللّه الآخرة والأولى‏}‏ أي إنما الأمر كله للّه، مالك الدنيا والآخرة والمتصرف فيهما، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء ويرضى‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏}‏، ‏{‏ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له‏}‏ فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون - أيها الجاهلون - شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند اللّه‏؟‏ وهو تعالى لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها‏؟‏

 الآية رقم ‏(‏27 ‏:‏ 30‏)‏

‏{‏ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى ‏.‏ وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ‏.‏ فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ‏.‏ ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ‏}‏

يقول تعالى منكراً على المشركين، في تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى، وجعلهم لها أنها بنات اللّه، تعالى اللّه عن ذلك، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم‏؟‏ ستكتب شهادتهم ويسألون‏}‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما لهم به من علم‏}‏ أي ليس لهم علم صحيح يصدق ما قالوه، بل هو كذب وزور وافتراء وكفر شنيع، ‏{‏إن يتبعون إلا الظن لا يغني من الحق شيئاً‏}‏ أي لا يجدي شيئاً ولا يقوم أبداً مقام الحق، وقد ثبت في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأعرض عمن تولى عن ذكرنا‏}‏ أي أعرض عن الذي أعرض عن الحق واهجره، وقوله‏:‏ ‏{‏ولم يرد إلا الحياة الدنيا‏}‏ أي وإنما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا، فذاك عو غاية ما لا خير فيه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك مبلغهم من العلم‏}‏ أي طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه، وقد روي عن أم المؤمنين عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد ورواه الشيخان أيضاً‏"‏، وفي الدعاء المأثور‏:‏ ‏(‏اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى‏}‏ أي هو الخالق لجميع المخلوقات، والعالم بمصالح عباده، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏31 ‏:‏ 32‏)‏

‏{‏ ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ‏.‏ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ‏}‏

يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض، وأنه الغني عما سواه، الحاكم في خلقه بالعدل، وخلق الخلق بالحق ‏{‏ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى‏}‏ أي يجازى كلاً بعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، أي لا يتعاطون المحرمات الكبائر، وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم كما قال في الآية الأُخْرى‏:‏ ‏{‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً‏}‏، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم‏}‏، وهذا استثناء منقطع لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال‏.‏ عن ابن عباس قال‏:‏ ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنَّفْس تمنّى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد ورواه الشيخان أيضاً‏"‏‏.‏ وقال عبد الرحمن ابن نافع‏:‏ سألت أبا هريرة عن قول اللّه‏:‏ ‏{‏إلا اللمم‏}‏، قال‏:‏ القُبْلة، والغمزة، والنظرة، والمباشرة، فإذا مس الختان الختان، فقد وجب الغسل وهو الزنا، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏إلا اللمم‏}‏ إلا ما سلف، وكذا قال زيد بن اسلم، وروى ابن جرير، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏إلا اللمم‏}‏ قال‏:‏ الذي يلم بالذنب ثم يدعه، قال الشاعر‏:‏

إن تغفر اللهم تغفر جماً * وأيّ عبد لك ما ألما‏؟‏

وعن الحسن في قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم‏}‏ قال‏:‏ اللمم من الزنا، أو السرقة، أو شرب الخمر ثم لا يعود، وروى ابن جرير، عن عطاء، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إلا اللمم‏}‏ يلم بها في الحين، قلت‏:‏ الزنا‏؟‏ قال‏:‏ الزنا ثم يتوب، وعنه قال‏:‏ اللمم الذي يلم المرة، وقال السدي‏:‏ قال أبو صالح‏:‏ سئلت عن اللمم، فقلت‏:‏ هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب، وأخبرت بذلك ابن عباس فقال‏:‏ لقد أعانك عليها ملك كريم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربك واسع المغفرة‏}‏ أي رحمته وسعت كل شيء، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه إن اللّه يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض‏}‏ أي هو بصير بكم، عليم بأحوالكم وأفعالكم، حين أنشأ أباكم آدم من الأرض، واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذر، ثم قسمهم فريقين‏:‏ فريقاً للجنة وفريقاً للسعير، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم‏}‏ قد كتب الملك الذي يوكل به رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تزكوا أنفسكم‏}‏ أي تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم ‏{‏هو أعلم بمن اتقى‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ الآية‏.‏ روى مسلم في صحيحه، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال‏:‏ سميت ابنتي برة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة‏:‏ إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت برة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تزكوا أنفسكم إن اللّه أعلم بأهل البر منكم‏)‏ فقالوا‏:‏ بم نسميها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏سموها زينب‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم في صحيحه‏"‏‏.‏ وقد ثبت أيضاً، عن أبي بكرة قال‏:‏ مدح رجل رجلاً عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويلك قطعت عنق صاحبك - مراراً - إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلاناً واللّه حسيبه، ولا أزكي على اللّه أحداً، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة‏"‏‏.‏ وروى الإمام أحمد، عن همام بن الحارث قال‏:‏ جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه، قال‏:‏ فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب، ويقول‏:‏ أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب ‏"‏أخرجه مسلم وأبو داود والإمام أحمد‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏33 ‏:‏ 41‏)‏

‏{‏ أفرأيت الذي تولى ‏.‏ وأعطى قليلا وأكدى ‏.‏ أعنده علم الغيب فهو يرى ‏.‏ أم لم ينبأ بما في صحف موسى ‏.‏ وإبراهيم الذي وفى ‏.‏ ألا تزر وازرة وزر أخرى ‏.‏ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ‏.‏ وأن سعيه سوف يرى ‏.‏ ثم يجزاه الجزاء الأوفى ‏}‏

يقول تعالى ذاماً لمن تولى عن طاعة اللّه ‏{‏فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى‏}‏، ‏{‏وأعطى قليلاً وأكدى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أطاع قليلاً ثم قطعه، قال عكرمة‏:‏ كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئراً فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل، فيقولون‏:‏ أكدينا ويتركون العمل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعنده علم الغيب فهو يرى‏}‏‏؟‏ أي أعند هذا الذي أمسك يده خشية الإنفاق، وقطع معروفه، أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده حتى أمسك عن معروفه فهو يرى ذلك عياناً‏؟‏ أي ليس الأمر كذلك، وإنما أمسك عن الصدقة والبر والصلة بخلاً وشحاً وهلعاً، ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏أنفق بلالاً، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري‏"‏، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفّى‏}‏‏؟‏ أي بلّغ جميع ما أمر به، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وفّى‏}‏ للّه بالبلاغ، وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏وفّى‏}‏ ما أمر به، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وفّى‏}‏ طاعة اللّه وأدى رسالته إلى خلقه، وهذا القول هو اختيار ابن جرير وهو يشمل الذي قبله، ويشهد له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً‏}‏ فقام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الرسالة على التمام والكمال، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماماً يقتدى به‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين‏}‏‏.‏ روى ابن حاتم، عن أبي أمامة قال‏:‏ تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية ‏{‏وإبراهيم الذي وفّى‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏أتدري ما وفّى‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏وفّى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار‏)‏ وعن سهل بن معاذ ابن أنَس، عن أبيه، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ألا أخبركم لم سمى اللّه تعالى إبراهيم خليله الذي وفّى‏؟‏ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى‏:‏ ‏{‏فسبحان اللّه حين تمسون

وحين تصبحون‏}‏‏)‏ حتى ختم الآية ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير‏"‏‏.‏

ثم شرع تعالى يبيّن ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى فقال‏:‏ ‏{‏أن لا تزر وازرة وزر أُخْرَى‏}‏ أي كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب، فإنما عليها وزرها لا يحمله عنها أحد، كما قال‏:‏ ‏{‏وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى‏}‏، ‏{‏وأن ليس للإنسان إلا ما سعى‏}‏ أي كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه، ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه اللّه، أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي اللّه عنهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما، وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به‏)‏ فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه‏)‏ والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم‏}‏ الآية، والعلم الذي نشره في الناس فافتدى به الناس بعده هو أيضاً من سعيه وعمله، وثبت في الصحيح‏:‏ ‏(‏من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن سعيه سوف يرى‏}‏ أي يوم القيامة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون‏}‏، فيجزيكم عليه أتم الجزاء إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وهكذا قال ههنا ‏{‏ثم يجزاه الجزاء الأوفى‏}‏ أي الأوفر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏42 ‏:‏ 55‏)‏

‏{‏ وأن إلى ربك المنتهى ‏.‏ وأنه هو أضحك وأبكى ‏.‏ وأنه هو أمات وأحيا ‏.‏ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ‏.‏ من نطفة إذا تمنى ‏.‏ وأن عليه النشأة الأخرى ‏.‏ وأنه هو أغنى وأقنى ‏.‏ وأنه هو رب الشعرى ‏.‏ وأنه أهلك عادا الأولى ‏.‏ وثمود فما أبقى ‏.‏ وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى ‏.‏ والمؤتفكة أهوى ‏.‏ فغشاها ما غشى ‏.‏ فبأي آلاء ربك تتمارى ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وأن إلى ربك المنتهى‏}‏ أي المعاد يوم القيامة، عن عمرو بن ميمون الأودي قال‏:‏ قام فينا معاذ بن جبل فقال‏:‏ يا بني أود‏!‏ إني رسول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليكم، تعلمون أن المعاد إلى اللّه، إلى الجنة أو إلى النار ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏، وذكر البغوي، عن أُبي بن كعب، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وأن إلى ربك المنتهى‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏لا فكرة في الرب‏)‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏يأتي الشيطان أحدكم فيقول‏:‏ من خلق كذا من خلق كذا‏؟‏ حتى يقول‏:‏ من خلق ربك‏؟‏ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ باللّه ولينته‏)‏ وفي الحديث الذي في السنن‏:‏ ‏(‏تفكروا في مخلوقات اللّه ولا تفكروا في ذات اللّه، فإن اللّه تعالى خلق ملكاً ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة ثلاثمائة سنة‏(‏ أو كما قال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنه هو أضحك وأبكى‏}‏ أي خلق الضحك والبكاء وهما مختلفان ‏{‏وأنه هو أمات وأحيا‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏الذي خلق الموت والحياة‏}‏، ‏{‏وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى * من نطفة إذا تمنى‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإنسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من مني يمنى‏}‏‏؟‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن عليه النشأة الأُخْرى‏}‏، أي كما خلق البداءة هو قادر على الإعادة، وهي النشأة الآخرة يوم القيامة ‏{‏وأنه هو أغنى وأقنى‏}‏ أي ملّك عباده المال وجعله لهم قنية مقيماً عندهم لا يحتاجون إلى بيعه، فهذا تمام النعمة عليهم، وعن مجاهد ‏{‏أغنى‏}‏ موّل ‏{‏وأقنى‏}‏ أخدم، وقال ابن عباس ‏{‏أغنى‏}‏‏:‏ أعطى، ‏{‏وأقنى‏}‏‏:‏ رضّى، وقوله‏:‏ ‏{‏وأنه هو رب الشعرى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو هذا النجم الوقاد الذي يقال له مرزم الجوزاء، كانت طائفة من العرب يعبدونه، ‏{‏وأنه أهلك عاداً الأولى‏}‏ وهم قوم هود ويُقال لهم عاد بن إرم ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد‏}‏‏؟‏ فكانوا من أشد الناس وأقواهم، وأعتاهم على اللّه تعالى وعلى رسوله فأهلكهم اللّه ‏{‏بريح صرصر عاتية‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وثمود فما أبقى‏}‏ أي دمرهم فلم يبق منهم أحداً، ‏{‏وقوم نوح من قبل‏}‏ أي من قبل هؤلاء ‏{‏إنهم كانوا هم أظلم وأطغى‏}‏ أي أشد تمرداً من الذين بعدهم، ‏{‏والمؤتفكة أهوى‏}‏ يعني مدائن لوط قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فغشاها ما غشى‏}‏ يعني من الحجارة التي أرسلها عليهم ‏{‏فبأي آلاء ربك تتمارى‏}‏‏؟‏ أي ففي أي نعم اللّه عليك أيها الإنسان تمتري قاله قتادة، وقال ابن جريج‏:‏ ‏{‏فبأي آلاء ربك تتمارى‏}‏‏؟‏ يا محمد، والأول أولى وهو اختيار ابن جرير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏56 ‏:‏ 62‏)‏

‏{‏ هذا نذير من النذر الأولى ‏.‏ أزفت الآزفة ‏.‏ ليس لها من دون الله كاشفة ‏.‏ أفمن هذا الحديث تعجبون ‏.‏ وتضحكون ولا تبكون ‏.‏ وأنتم سامدون ‏.‏ فاسجدوا لله واعبدوا ‏}‏

‏{‏ هذا نذير‏}‏ يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم، ‏{‏من النذر الأولى‏}‏ أي من جنسهم أرسل كما أرسلوا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل ما كنت بدعاً من الرسل‏}‏، ‏{‏أزفت الآزفة‏}‏ أي اقتربت القريبة وهي القيامة، ‏{‏ليس لها من دون اللّه كاشفة‏}‏ أي لا يدفعها إذاً من دون اللّه أحد، ولا يطلع على علمها سواه، و‏{‏النذير‏}‏ الحذر لما يعاين من الشر، الذي يخشى وقوعه فيمن أنذرهم، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏أنا النذير العريان‏)‏ أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئاً، بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك، فجاءهم عرياناً مسرعاً وهو مناسب لقوله‏:‏ ‏{‏أزفت الآزفة‏}‏ أي اقتربت القريبة يعني يوم القيامة، قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مثلي ومثل الساعة كهاتين‏)‏ وفرّق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام، ثم قال تعالى منكراً على المشركين في استماعهم القرآن وإعراضهم عنه وتلهيهم ‏{‏أفمن هذا الحديث تعجبون‏}‏‏؟‏ من أن يكون صحيحاً، ‏{‏وتضحكون‏}‏ منه استهزاء وسخرية، ‏{‏ولا تبكون‏}‏ أي كما يفعل الموقنون به كما أخبر عنهم، ‏{‏ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم سامدون‏}‏ قال ابن عباس ‏{‏سامدون‏}‏ معرضون، وكذا قال مجاهد وعكرمة، وقال الحسن‏:‏ غافلون، وهو رواية عن علي بن أبي طالب، وفي رواية عن ابن عباس‏:‏ تستكبرون، وبه يقول السدي ‏"‏في اللباب‏:‏ وأخرج ابن أبي حاتم‏:‏ كانوا يمرون على الرسول وهو يصلي شامخين فنزلت ‏{‏وأنتم سامدون‏}‏‏"‏‏.‏ ثم قال تعالى آمراً لعباده بالسجود له والعبادة‏:‏ ‏{‏فاسجدوا للّه واعبدوا‏}‏، أي فاخضعوا له وأخلصوا ووحِّدوه‏.‏ روى البخاري عن ابن عباس قال‏:‏ سجد النبي صلى اللّه عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ‏"‏انفرد به البخاري دون مسلم‏"‏‏.‏

  السابق   الآيات القرآنية  الأحاديث  الأشعار   الفهرس   التالي