http://www.saaid.net/

 

ماذا خسر العالم

بانحطاط المسلمين؟

 

أبو الحسن علي الحسني الندوي

 

 

ومقدمة بقلم الشهيد

سَيّد قطب

http://www.saaid.net/


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

 

مقدمة

بقلم الباحث الإسلامي الأستاذ سيد قطب

 

ما أحوج المسلمين اليوم إلى من يرد عليهم إيمانهم بأنفسهم وثقتهم بماضيهم ورجاءهم في مستقبلهم .. وما أحوجهم لمن يرد عليهم إيمانهم بهذا الدين الذي يحملون اسمه ويجهلون كنهه، ويأخذونه بالوراثة أكثر مما يتخذونه بالمعرفة.

وهذا الكتاب الذي بين يدي: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" لمؤلفه (السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي) من خير ما قرأت في هذا الاتجاه ، في القديم والحديث سواء.

إن الإسلام عقيدة استعلاء، من أخص خصائصها أنها تبعث في روح المؤمن بها إحساس العزة من غير كبر ، وروح الثقة في غير اعتزاز، وشعور الاطمئنان في غير تواكل. وأنها تشعر المسلمين بالتبعة الإنسانية الملقاة على كواهلهم، تبعة الوصاية على هذه البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، وتبعة القيادة في هذه الأرض للقطعان الضالة، وهدايتها إلى الدين القيم، والطريق السوي، وإخراجها من الظلمات إلى النور بما آتاهم الله من نور الهدى والفرقان :
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } ... { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } .

وهذا الكتاب الذي بين يدي يثير في نفس قارئه هذه المعاني كلها، وينفث في روعه تلك الخصائص جميعها، ولكنه لا يعتمد في هذا على مجرد الاستثارة الوجدانية أو العصبية الدينية ، بل يتخذ الموضوعية أداته، فيعرضها على النظر والحس العقل والوجدان جميعاً، ويعرض الوقائع التاريخية والملابسات الحاضرة عرضاَ عادلاَ مستنيراَ ،ويتحاكم في القضية التي يعرضها كاملة إلى الحق والواقع والمنطق والضمير، فتبدو كلها متساندة في صفة وفي صف قضيته، بلا تمحل ولا اعتساف في مقدمة أو نتيجة. وتلك مزية الكتاب الأولى.

إنه يبدأ فيرسم صورة صغيرة سريعة- ولكنها واضحة- لهذا العالم قبل أن تشرق عليه أنوار الإسلام الأولى. رسم الصورة لهذا العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، من الهند و الصين إلى فارس والروم، صورة المجتمع وصورة الضمير في هذه الدنيا العريضة، في الجماعات التي تظلها الديانات السماوية، كاليهودية والمسيحية، والتي تظلها الديانات الوثنية، كالهندوكية والبوذية والزرادشتية .. وما إليها ..

إنها صورة جامعة تعرض رقعة العالم وتصفها وصفاً بيناً، لا يعتسف المؤلف فيه، ولا يستبد به، إنما يشرك معه الباحثين والمؤرخين من القدامى والمحدثين ، ممن يدينون بغير الإسلام ، فلا شبهة في أن يكونوا مغرضين له ، وللدور الذي أداه في ذلك العالم القديم .

إنه يصف العالم تسيطر عليه روح الجاهلية ، ويتعفن ضميره ، وتأسن روحه ، وتختل فيه القيم والمقاييس ، ويسوده الظلم والعبودية ، وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التاعس ، وتغشاه غاشية من الكفر والضلال والظلام ، على الرغم من الديانات السماوية ، التي كانت فد أدركها التحريف ، وسرى فيها الضعف ، وفقدت سيطرتها على النفوس ، واستحالت جامدة ، لا حياة فها ولا روح ، وبخاصة المسيحية.

... فإذا فرغ المؤلف من رسم صورة العالم بجاهليته هذه ، بدأ يعرض دور الإسلام في حياة البشرية . دوره في تخليص روح البشر من الوهم والخرافة ، ومن العبودية والرق ، ومن الفساد والتعفن ، ومن القذارة والانحلال ، ودوره في تخليص المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفكك والانهيار ، ومن فوارق الطبقات واستبداد الحكام واستذلال الكهان ، ودوره في بناء العالم على أسس من العفة والنظافة والإيجابية والبناء ، والحرية والتجدد ، ومن المعرفة واليقين ، والثقة والإيمان . والعدالة والكرامة ، ومن العمل الدائب لتنمية الحياة وترقية الحياة ، وإعطاء كل ذي حق حقه في الحياة .

كل أولئك في إبان الفترة التي كانت القيادة فيها للإسلام في أي مكان ، والتي كان الإسلام فيها يعمل ، وهو لا يستطيع أن يعمل أن يعمل ألا أن تكون له القيادة ، لأنه بطبيعته عقيدة استعلاء ، ومنهج قيادة ، وشرعة ابتداع لا إتباع .

ثم تجيء الفترة التي فقد الإسلام فيها الزمام ، بسبب انحطاط المسلمين ، وتخليهم عن القيادة التي يفرضها عليهم هذا الدين ، والوصاية التي يكلفهم بها على البشرية ، والتبعات التي ينوطها بهم في كل اتجاه .

وهنا يستعرض المؤلف أسباب هذا لانحطاط الروحية والمادية ، ويصف ما حل بالمسلمين أنفسهم عندما تخلوا عن مبادئ دينهم ، ونكصوا عن تبعاتهم ، وما نزل بالعالم كله من فقدانه لهذه القيادة الراشدة ، ومن انتكاسه إلى الجاهلية الأولى ، ويرسم خط الانحدار الرهيب الذي ترتكس فيه الإنسانية في ذات الوقت الذي تفتح فيه آفاق العالم الباهرة . يرسم هذا الخط عن طريق التأمل الفاحص ، لا بالجمل النارية والتعبيرات المجنحة . فالحقائق الواقعة ، كما عرضها المؤلف غنية عن كل بهرج وكل تزويق .

ومن خلال هذا الاستعراض ، يحس القارئ ، بمدى الحاجة البشرية الملحة إلى تغيير القيادة الإنسانية ، وردها إلى الهدى الذي انبثق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ومن الجاهلية إلى المعرفة ، ويشعر بالقيمة الكلية لوجود هذه القيادة في الأرض ، وبمدى الخسارة التي حلت بالبشر جميعاً ، لا بالمسلمين وحدهم في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل القريب والبعيد .

كذلك يثور في نفس لمسلم بصفة خاصة روح الندم ، على ما فرّط ، وروح الاعتزاز بما وُهب وروح الاستشراف إلى القيادة التي ضيَّع .

ولعله مما يلفت النظر تعبير المؤلف دائماً عن النكسة التي حاقت بالبشرية كلها منذ أن عجز المسلمون عن القيادة بكلمة " الجاهلية " .

وهو تعبير دقيق الدلالة على فهم المؤلف للفارق الأصيل بين روح الإسلام ، والروح المادي الذي سيطر على العالم قبله ، ويسيطر عليه اليوم بعد تخلي الإسلام عن القيادة .. إنها (الجاهلية) في طبيعتها الأصلية ، فالجاهلية ليست فترة من الزمن محدودة ، ولكنها طابع روحي وعقلي معين ، طابع يبرز بمجرد أن تسقط القيم الأساسية للحياة البشرية ، كما أرادها الله ، وتحل محلها قيم مصطنعة تستند إلى الشهوات الطارئة ، وهذا ما تعانيه البشرية اليوم في حالة الارتقاء الأولى ، كما كانت تعانيه من قبل في أيام البربرية الأولى .

فرسالة العالم الإسلامي هي الدعوة إلى الله ورسوله والإيمان باليوم الآخر. وجائزته هي الخروج من الظلمات إلى النور ، ومن عبادة الناس إلى عبادة الله وحده والخروج من ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام . وقد ظهر فضل هذه الرسالة . وسهل فهمها في هذا العصر أكثر من كل عصر ، فقد افتضحت الجاهلية ، وبدت سوأتها للناس ، واشتد تذمر الناس منها ، فهذا طور انتقال العالم من قيادة الجاهلية إلى قيادة الإسلام ، لو نهض العالم الإسلامي ، واحتضن هذه الرسالة بكل إخلاص وحماس وعزيمة ، ودان بها (( كالرسالة الوحيدة التي تستطيع أن تنقذ العالم من الانهيار والانحلال )) ، كما يقول المؤلف الفاضل قرب نهاية الكتاب .

وأخيراً ، فإن الخصيصة البارزة في هذا الكتاب كله هي الفهم العميق لكليات الروح الإسلامية في محيطها الشامل وهو لهذا لا يعد نموذجاً للبحث الديني والاجتماعي فحسب ، بل نموذجاً للتاريخ كما ينبغي أن يكتب من الزاوية الإسلامية.

لقد مضى الأوربيون يؤرخون للعالم كله من زاوية النظر الغربية ، متأثرين بثقافاتهم المادية ، وفلسفتهم المادية ، ومتأثرين كذلك بالعصبية الغربية والعصبية الدينية – شعروا بذلك أم لم يشعروا ومن ثمَّ وقعت في تاريخهم أخطاء وانحرافات ، نتيجة إغفالهم لقيم كثيرة في هذه الحياة لا يستقيم تاريخ الحياة ولا يصح تفسير الحوادث والنتائج بدونها ، ونتيجة عصبيتهم التي تجعل أوروبا في نظرهم هي محور العالم ومركزه دائماً ، ولإغفالهم العوامل الأخرى التي أثرت في تاريخ البشرية ، أو التهوين من شأنها إذا لم يكن مصدرها هو أوروبا .

ولقد درجنا نحن على أن نتلقف التاريخ من أيدي أوربا كما نتلقف كل شيء آخر نتلقفه بأخطائه تلك ، وهي أخطاء في المنهج بإغفال قيم كثيرة وعوامل كثيرة ، وأخطاء في التصوير نتيجة النظر من زاوية واحدة للحياة البشرية ، وأخطاء في النتائج تبعاً للأخطار المنهجية والتصويرية.

وهذا الكتاب الذي بين يدي نموذج للتاريخ الذي ينظر للأمور كلها ، وللعوامل جميعها ، وللقيم على اختلافها . ولعل القارئ لم يكن ينتظر من رجل مسلم ، واثق بقوة الروح الإسلامي ، متحمس لرد القيادة العالمية إليه ، أن يتحدث عن مؤهلات القيادة ، فلا ينسى بجوار (الاستعداد الروحي) أن يلح في (الاستعداد الصناعي ولحربي) و (التنظيم العلمي الجديد)وأن يتحدث عن (الاستقلال التجاري والمالي ) .

إنه الإحساس المتناسق بكل مقومات الحياة البشرية . وبهذا الإحساس المتناسق سار في استعراضه التاريخي ، وفي توجيهه للأمة الإسلامية سواء ، ومن هنا يعد هذا الكتاب نموذجاً للتاريخ ، كما يجب أن يتناوله المسلمون مستقلين . عن التأثر بالطريقة الأوروبية ، التي ينقصها هذا التناسق وهذه العدالة وهذا التحقيق  .

وإنه ليسعدني أن أتحدث عن هذا الكتاب بذلك الإحساس ذاته ، وأن أسجل هذه الظاهرة ، وأنا مغتبط بهذه الفرصة التي أتاحت لي أن أطلع عليه في العربية .. اللغة التي آثر صاحبه أن يكتبه بها ، وأن ينشره في مصر للمرة الثانية : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }   

سيد قطب

  


مقدمة الطبعة الرابعة

 

الحمد لله ، وسلام على عباده الذين اصطفى .

أما بعد ، فقد ظهرت الطبعة الأولى لكتاب (( ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين )) سنة 1950 م فكان الإقبال عليه عظيماً تخطى قياس المؤلف ورجاءه ، فقد كان كتاباً لا يسترعي اهتمام القراء إلا موضوعه- الذي يكاد يكون طريفاً- وما يحتوي عليه من مادة ومعنى ، ولم يكن من ورائه شخصية المؤلف وشهرته ، فلم يكن قد ظهر لمؤلفه كتاب آخر قبل هذا الكتاب في العالم العربي ، ولم يعرفه الناس في هذه الأقطار . فكانت العناية بهذا الكتاب عناية خالصة مجردة للكتاب وللموضوع، ليس فيها نصيب لشخصية المؤلف وشهرته.

ولا يُعلَّل هذا الإقبال النادر الذي حظي به الكتاب إلا بفضل الله تعالى ولطفه ، وبعد ذلك بأنّ هذا الكتاب قد جاء في أوانه ، وصادف رغبة غامضة واتجاهاً مبهماً في النفوس ، وبأنه يتجاوب مع شعور كثير من المفكرين والمثقفين في العالم لعربي ، ويلتقي مع أفكارهم وآرائهم ودراستهم .  

       وعلى كُلٍّ فقد كان الكتاب واسع الانتشار في العواصم العربية والأوساط العلمية ، وتناولته طبقات الأمة وبعض قادة الفكر بالدراسة والبحث ، وأشار المربون والمعلمون على الشباب بمطالعة هذا الكتاب ، والحمد لله الذي بعزّته وجلاله تتم الصالحات .

وقد قامت لجنة التأليف والترجمة والنشر في القاهرة بالطبعة ، وكان لها- ولاشك- فضل في ظهور هذا الكتاب في مظهر جميل لائق ، وفي نفوذه في الأوساط العلمية والأدبية ، وحرصت جماعة الأزهر للنشر والتأليف- وفيها أصدقاء المؤلف- على إعادة طبع الكتاب ، فصرّحت لها بذلك ، ووافق عليه المرحوم الأستاذ  الكبير الدكتور أحمد أمين (بك) رئيس اللجنة فظهرت الطبعة الثانية سنة 1951 م ، وفيها مقدمات للدكتور محمد يوسف موسى ، والكاتب الإسلامي الأستاذ سيد قطب ، وصديق المؤلف الشيخ أحمد الشرباصي ، زادت في قيمة الكتاب .

ظهرت الطبعة الثانية ، وأنا في جولتي في الشرق الأوسط ، فلم أتمكن من أن أضيف إليها زيادات كنت أفكر فيها وأشعر بالحاجة إليها ، وهيأ الله أسباب الطبعة الثالثة ، ووقعت إليّ مصادر جديدة ، وجدّ عندي بعض الآراء ونواح جديدة فألحقتها بالكتاب ، وتأخرت هذه الطبعة لبعض الأسباب إلى سنة 1959 م ، ونفدت في مدة قريبة ، وها هي الطبعة الرابعة مزيدة منقحة .

وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بهذه الطبعة- وما يليها من طبعات إن شاء الله – كما نفع بالطبعات الأولى(1) ، وأن يجعل هذا الكتاب وسيلة للوعي الجديد ، والإيمان الجديد الذي تشتد حاجة العالم الإسلامي إليه ، إنه على كل شيء قدير.

 

أبو الحسن علي الحسني الندوي

                                                                      لكهنؤ (الهند)

 

**********************************

 

http://www.saaid.net/
تصدير

بقلم فضيلة الأستاذ

الدكتور محمد يوسف موسى

 

اتصال السماء بالأرض لأداء رسالة من الله المتفرد في سموه وعليائه ، إلى عبيده المحتاجين لهديه وإرشاده ، حدث من الأحداث العظام ، وخرق لنواميس الطبيعة التي لا تتغير من طريقها المرسوم إلا حين الحاجة القصوى ، ولغاية قدرها العزيز العليم .

وليس يحدث أو يكون أمر في هذا العالم إلا عن سبب اقتضى حدوثه وكونه ، ولغاية أريدت منه.

وظهور الإسلام ، وهو أعظم ما رأى العالم من أحداث ، لا بد له من أسبابه التي استلزمته ، وممهداته التي أعدت له ، وغايته التي تنتظر دائماً منه .

ولسنا الآن بسبيل الحديث ، ولو بالإيجاز الشديد ، عن هذه الأسباب والممهدات التي أعدت لظهور الإسلام ، بعد أن خلا العالم الذي كان معروفاً حينذاك من المجتمع الصالح والدين الصحيح ، ولسنا كذلك بسبيل الحديث عن الغاية التي جاء الإسلام من أجلها ، وعمل نبيه ورجاله الأولون جاهدين على الوصول إليها ، فسعد به العالم ، زمناً طويلاً كل ذلك معروف ، يصبح الكلام فيه حديثاً معاداً ، ولا محل لمثل هذا الحديث الآن في الكلمة التي يسعدني أن أقدم بها لهذا الكتاب ، استجابة لطلب مؤلفه صديقنا الأستاذ الجليل السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي ، أحد دعاة الإسلام من الطراز الأول في هذا العصر الذي نعيش فيه .

على أن الكتاب في غير حاجة حقاً لتقدمة مقدم ، فقد تقبله القراء بقبول حسن ، وخصوه بحفاوة لم يظفر بها كتاب ظهر عن الإسلام في هذه الأيام ، وإنما هو تواضع وفضل من المؤلف المؤمن الصادق الإيمان جعلاه يطلب مني هذه الكلمة ، وأشهد أني قرأت الكتاب حين ظهرت طبعته الأولى في أقل من يوم ، وأغرمت به غراماً شديداً ، حتى لقد كتبت في آخر نسختي وقد فرغت منه (( إن قراءة هذا الكتاب فرض على كل مسلم يعمل لإعادة مجد الإسلام )) ، وكل هذا قبل أن أعرف المؤلف الفاضل ، فلما سعدت بمعرفته والحديث معه مرات عديدة ، فهمت كيف ولماذا فتنت بالكتاب ، وعرفت أن مرد هذا كله- فوق ما فيه من ثمرات التوفر على البحث ونشدان الحق- إلى معرفة الكاتب بالإسلام معرفة حقه وأخ نفسه في حياته به ، والإخلاص في الدعوة الصحيحة له .

لقد أحس صديقنا الفاضل أبو الحسن ما نحسه جميعاً في حسرة بالغة ، وألم شديد ، وهو ما ارتضته الدول الإسلامية لنفسها من السير في المؤخرة وراء العالم الغربي ، تميل إلى ما يميل ، وتقبل حكمه فيما يعرض له من شؤونها ، وترضى ما يقره من (قيم) حسب موازينه الخاصة به .وكان من هذا أن فقد العربي- والمسلم بعامة- ثقته بنفسه وجنسه ودينه ومعاييره ، وقيمه العالية التي كان يحرص عليها أجداده وأسلافه الأماجد ، ويحلونها من أنفسهم المكان العلي المرموق . وهذه علتنا التي يجب أن نطب لها ، وفي ذلك تتركز مشكلتنا ، أو مشاكلنا التي يجب علينا أن نجد الحل الناجع لها من صميم ديننا وتاريخنا وتراثنا الروحي العقلي الخالد ، وإلى هذا كله نظر مؤلف كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" ، وإليه جميعه عنى نفسه وعمل جهده .

حقاً ليست مشكلة العالم الإسلامي اليوم في عدم الدعاوة للإسلام بين غير المسلمين ، ولا في اكتساب مسلمين جدد وإنما هذه المشكلة هي انصراف المسلمين عن الإسلام ، وعن الشرق إلى الغرب بحضارته وقيمه التي يدعو إليها وموازينه التي بها يزن الأمور .ومن ثمَّ صرنا مسلمين بالاسم الولادة والموقع الجغرافي فحسب ، وعزفنا عن الإسلام بالفعل ، حتى أصبحنا ولا نعرفه في تشريعنا وتقاليدنا التي نأخذ هذه الأيام أنفسنا بها ، ولسنا في حاجة في هذا لضرب الأمثال التي نحسها ونلمسها جميعاً في رجال الحكم ، وفي ممثلي البلاد الإسلامية في الشرق والغرب ، وفيمن يجب أيكون القدوة الطيبة بحكم مناصبهم الدينية في مصر وغير مصر ، والأمر لله من قبل ومن بعد .

ولقد اختتم الله بالإسلام رسالاته للعالم ، فليس لنا أن ننتظر اتصالاً جديداً من السماء بالأرض يطهرها مما كاد يعمها من شرك وضلال وفساد ، ولا نبياً آخر بعد رسول الإسلام ، يخرج العالم برسالة جديدة من الظلمات إلى النور ، ولا قرآناً جديداً يهدي الإنسانية الحائرة إلى سبيل الرشد والسعادة . ولكن الله الرحمن الرحيم ترك فينا بعد هذا ، أو بسبب هذا ، كتاباً لن يضل من اتبعه ، وشريعته لن يشقى من عمل بها .

وكل ما يجب أن نعمل له ، لنخرج والعالم كله من هذه الجاهلية التي احتوتنا من جميع الأطراف ، هو إعادة الثقة بديننا حتى يكون أساس حياتنا في كل مقوماتها ، وليس لنا أن نطلب من أحد أن يؤمن بهذا الدين قبل أن نؤمن نحن أولاً به ، ولن يكون هذا الإيمان إلا بالقدوة الطيبة الصالحة نقدمها للناس جميعاً .

إن العالم ، وهذا أمر لمسناه بأنفسنا لمساً بأوربا ، يتخذ من فشل المسلمين سياسياً واقتصادياً دليلاً حاسماً على عدم صلاح الإسلام لقيادة المسلمين بله العالم كله ! مع أن هذا العالم المسيحي نفسه حين كان المسلمون مسلمين حقاً من ناحية العقيدة والعمل على السواء ، قد تزعزع عن مسيحيته عندما شاهد ما أحرزته سيوف المسلمين من نجاح منقطع النظير ، إذ اعتقدوا- بحق – أن نجاح المسلمين هذا دليل قاطع على صدق دينهم ، مادام الله لا يؤتي نصره إلا لعباده المختارين(2) .

وليس ما نقول ، من أثر القوى الطيبة الصالحة في الدعاوة للإسلام ، بالقول الذي لا يرتكز على دليل وشواهد من التاريخ الصحيح . إن صاحب كتاب الدعوة إلى الإسلام نفسه يذكر ما يأتي حرفياً :

(( ويظهر أن أخلاق صلاح الدين ، وحياته التي انطوت على البطولة ، قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيراً سحرياً خاصاً ، حتى أن نفراً من الفرسان المسيحيين ، قد بلغ من قوة انجذابهم إليه ، أن هجروا ديانتهم المسيحية ، وهجروا قومهم وانضموا إلى المسلمين ، وكذلك كانت الحال عندما طرح النصرانية فارس انكليزي من فرسان المعبد يدعى (( روبرت أوف سانت ألبانس )) Robert of St. Albans عام 1185 م واعتنق الإسلام ، ثم تزوج بإحدى حفيدات صلاح الدين وبعد عامين غزا صلاح الدين ((فلسطين)) وهزم الجيش المسيحي هزيمة منكرة في واقعة((حطين)) وكان جوي Guy ملك بيت المقدس بين الأسرى.

وحدث في مساء المعركة أن ترك الملك ستة من فرسانه ، وفروا إلى معسكر صلاح الدين  بمحض إرادتهم(3) )) .

هذا شاهد من الشواهد التي لا تحصى كثرة ، والتي تزخر بها كتب التاريخ في القديم والحديث ، ومنها نعلم أثر القدوة الطيبة في النفوس ، حتى في نفوس غير المسلمين الذين كنا نراهم خصوماً لنا وأعداء ، ومنها نعلم أيضاً سبباً من الأسباب القوية التي يسرت للمسلمين ما فتح الله عليهم من فتوح ، وما ظفروا به من أمجاد .

إن هذا الإسلام لا يصلح اليوم إلا بما صلح به في الأمس ، إيمان به إيماناً يخالط شغاف قلب المؤمن ، واستعذاب للتضحية في سبيله بما يعتز به المرء من مال ونفس ، واعتزاز بما جاء به من تشاريع ومبادئ وتقاليد صالحة لإنهاض العالم وإسعاده ، ودعوة له بالعمل الصالح والقوى الطيبة ، وعدم القضاء إلا بحكمه ، وجعل الحياة في كل جوانبها لا تقوم إلا عليه .

 

علينا إذا أردنا أن نأخذ مكاننا من جديد في قيادة الإنسانية أن نعتقد اعتقاداً حقاً يظهر أثر في كل ما نقول أو نعمل- ما يراه شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال من أن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ، ويساير الركب البشري حيث اتجه وسار ، بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدينة ، ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم اليقين . ولأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه . فليس مقامه مقام التقليد والإتباع إن مقامه مقام الإمامة و القيادة ومقام الإرشاد والتوجيه . ومقام الآمر الناهي . وإذا تنكر له الزمام ، وعصاه المجتمع وانحرف عن الجادة ، لم يكن له أن يستسلم ويخضع ويضع أوزاره ويسالم الدهر ، بل عليه أن يثور عليه وينازله . ويظل في صراع معه وعراك ، حتى يقضي الله في أمره . إن الخضوع والاستكانة للأحوال القاسرة والأوضاع القاهرة ، ولاعتذار بالقضاء والقدر من شأن الضعفاء والأقزام . أما المؤمن القوي فهو بنفسه قضاء الله الغالب وقدره الذي لا يرد(4) .

وبعد : ماذا أريد أن أقول بعد ذلك في هذه الكلمة التي أحسبها طالت بعض الشيء في تقديم كتاب هو بنفسه وبكاتبه غني عن كل تقديم ، كما قلت في أول الحديث ؟ .

إني- علم الله- لست أذكر فيما قرأت من القديم والحديث كتاباً حوى من الخير ما حواه هذا الكتاب ، ولا كتاب وضع أيدينا على دواء ما نشكو منه من أدواء وأمراض ، كما فعل هذا الكتاب ، ولا كتاباً نفذ كاتبه إلى روح الإسلام ، وأخلص ويخلص في الدعوة له ، ويقف كل جهوده على هذا السبيل كهذا الكتاب .

علينا إذاً أن نفيد من هذا الكتاب ، ومن الوسائل التي يدعو مؤلفه الفاضل لاصطناعها ، لنصل إلى النهضة المرجوة ، والكرامة والمجد في هذه الحياة ، وفي الحياة الأخرى ، وذلك ما لا يكون لنا إلا إذا غيرنا من أوضاع التعليم ومناهجه غاياته عندنا ، وإلا إذا جعلنا همنا تربية النشء على أسس إسلامية صحيحة ، وجعلنا الغاية من التربية والتعليم عندنا النهضة بالعالم الإسلامي حتى يصل إلى ما يجب أن يكون له من مكانة ملحوظة في هذا العالم ، واصطنعنا لهذا ، الوسائل الناجعة حقاً .

إن هذا ، حين يتم ، إن أراد الله لأمة الإسلام إفاقة من نومها ، ونهضة من كبوتها ، يجعل من تلاميذ رجالات مسلمين حقاً في المستقبل ، يحسنون تصريف شؤون الأمة حين توضع أمور الأمة بين أيديهم ، ويجعل منهم رجالاً شجعاناً أمناء لدينهم وأمتهم ، لا هم لهم في حياتهم إلا إعادة مجد الإسلام ، والعالم الإسلامي .

والوسائل الناجعة للوصول إلى تلك الغاية المجيدة من التربية والتعليم جد كثيرة ومعروفة إن أردناها ، ولكن يحسن أن نختم هذه الكلمة بقبس من كلام الأستاذ أبي الحسن الندوي نفسه ، إنه يقول :

(( والقرآن وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم قوتان عظيمتان تستطيعان أن تشعلا في العالم الإسلامي نار الحماسة والإيمان ، وتحدثا في كل وقت ثورة عظيمة على العصر الجاهلي وتجعلا من أمة مستسلمة منخذلة ناعسة ، أمة فتية ملتهبة حماسة وغيرة وحنقاً على الجاهلية ، وسخطاً على النظم الخائرة . إن علة علل العالم الإسلامي اليوم هي الرضا بالحياة الدنيا والاطمئنان بها . والارتياح إلى الأوضاع الفاسدة . والتبذير الزائد في الحياة . فلا يقلقه فساد . ولا يزعجه انحراف . ولا يهيجه منكر . ولا يهمه غير مسائل الطعام واللباس . ولكن بتأثير القرآن والسيرة النبوية . إن وجدا إلى القلب سبيلاً . يحدث صراع بين الإيمان والنفاق . واليقين والشك . بين المنافع العاجلة والدار الآخرة ، وبين راحة الجسم ونعيم القلب ، وبين حياة البطولة وموت الشهادة . صراع أحدثه كل نبي في وقته . و يصلح العالم إلا به . حينئذ يقوم في كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي . في كل أسرة إسلامية { ِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى{13} وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } . هنالك تفوح روائح الجنة ، وتهب نفحات القرن الأول . ويولد للإسلام عالم جديد لا يشبه العالم القديم في شيء )) ! .

من هذه الكلمات التي قبسناها من هذا الكتاب الذي نكتب هذا التقديم له ، نرى أي روح كبيرة أملت على المؤلف ما كتب ! نفع الله به وبكل آثاره ، وجزاه عن الإسلام وأمته خير الجزاء .

 

محمد يوسف موسى

      

********************************


صورة وصفية :

أخي أبو الحسن ! ..

بقلم فضيلة الأستاذ أحمد الشرباصي

 

لقيت أخي أبا الحسن أول مرة في شتاء سنة 1951 م ، بدار (الشبان المسلمين) في القاهرة ، عقب محاضرة لي من (( محاضرات الثلاثاء )) وقد أقبل علي يطلب في أدب جم وتواضع ظاهر ليلة من ليالي الثلاثاء ، ليلقي فيها محاضرة عن ((العالم في مفترق الطريق)) .. فرأيت رجلاً نحيف البدن ، نحيل العود ، له لحية سمراء ، وملابسه قليلة خفيفة الوزن والثمن ، ونظراته عميقة نفاذة ، ونبراته دقيقة أخاذه فيها بحة ، عرفت فيما بعد أنها ملازمة له من جهد وإجهاد ، وبعد اللقاء الأول العاجل توثقت بيني وبينه أسباب الأخوة والمحبة ، وعن خبر به أكتب هذه السطور.

هو العالم المؤمن الداعية المحتسب السيد أبو الحسن علي الحسني الهندي الندوي ، من المنتسبين إلى عترة الحسن بن علي رضي الله عليهما ، ووالده هو الشريف العلامة عبد الحي بن فخر الدين بن عبد العلي ، ينتهي نسبه إلى عبد الله بن الأشتر بن محمد ذي النفس الزكية بن عبدالله المحض بن المحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب ، ولوالده كتب كثير من المطبوع ومنها المخطوط أشهرها ((نزهة الخواطر)) في ثمانية مجلدات(5) وقد توفي سنة 1341 هجرية .

وقد ولد السيد أبو الحسن في مديرية بالهند تسمى ((راي بريلي)) ، وهي تبعد عن ((لكهنؤ)) سبعين كيلو متراً  تقريباً ، وكانت الولادة بقرية ((تكية)) في شهر المحرم سنة 1332هـ ، مد الله في عمره وأدام به نفع الإسلام والمسلمين .

وأسرة أخي أبي الحسن من أصل عربي ، لا تزال تحافظ على أنسابها إلى هذا اليوم وهي تحافظ على صلاتها بأصلها وإن كانت تتكلم الهندية وتعيش في الهند منذ قرون ، وتمتاز بالمحافظة على التوحيد والسنة والبعد عن البدع والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ، وللسيد أبي الحسن أخ أكبر منه هو السيد الدكتور عبد العلي عبد الحي(6) وهو طبيب ، وقد تخرج في ندوة العلماء ومعهد ديوبند ، كما تخرج في جامعة لكهنؤ بتفوق وامتياز ، فهو بذلك يجمع بين الثقافتين الدينية والعصرية ، وله فضل كبير في تربية السيد أبي الحسن وثقافته ، ويدير ندوة العلماء خلفاً لأبيه الراحل ... وقد تزوج السيد أبو الحسن منذ عشر سنوات من الأسرة نفسها ، لأن هذا تقليد محترم يعاقب من يخرج عليه .

بدأ السيد أبو الحسن تعلمه القرآن الكريم في البيت تعاونه أمه ، وأمه من فضليات النساء والسيدات الفاضلات الصالحات ، تحفظ القرآن ، وتكتب ، وتؤلف ثم تعلم اللغتين الأوردية والفارسية ، ثم بدأ وهو في الثانية عشرة من عمره يتعلم الإنجليزية والعربية معاً ، وبدأ تعلم العربية على الشيخ خليل بن محمد اليمني ، وتوفر سنتين كاملتين على دراسة الأدب العربي وحده ، وقرأ كثيراً من كتب الأدب ، وشغف بها على خلاف العادة يومئذ في الهند ، لأنهم يزهدون في الأدب العربي ، وعني عناية خاصة بالعكوف على كتب ثلاثة هي : نهج البلاغة ، ودلائل الإعجاز ، والحماسة ، ثم التحق بجامعة لكهنؤ ، وهي جامعة تدرس العلوم المدنية باللغة الإنجليزية ، وفيها قسم لآداب اللغة العربية التحق بها السيد أبو الحسن ، وكان يومئذ أصغر طلاب الجامعة سناً ، وضاق بدروس القواعد أولاً فأخره ذلك قليلاً ، ثم سار في تعلمه ممتازاً فائقاً سابقاً ، ثم أتم دراسته الأدبية على الدكتور الشيخ تقي الدين الهلالي المراكشي رئيس تدريس الأدب العربي في ندوة العلماء- وهي جمعية تشرف على دار العلوم هناك- ثم دخل الندوة ، ومكث بها سنتين يدرس علوم الحديث ، واستفاد كثيراً من شيخ الحديث الشيخ حيدر حسن خان . ومكث في دار العلوم ديوبند مدة شهور ، وحضر دروس العالم الكبير المجاهد الشيخ حسين أحمد المدني في الحديث .

وسافر إلى لاهور ، وقرأ التفسير على الشيخ أحمد علي المفسر المشهور ، ولم تكن دراسته في أغلب أدوارها دراسة نظامية بشهادات ، بل كانت دراسة حرة لوجه العلم والمعرفة ، ولما أتم دراسته رجع إلى لكهنؤ ، وعين مدرساً في دار العلوم هناك ، ومكث فيها عشر سنوات يدرس علوماً مختلفة ، واشتغل بجوار ذلك بالكتابة في مجلة " الضياء " العربية التي تصدرها ندوة العلماء ، ورئيس تحريرها الأستاذ مسعود الندوي ، واشتغل كذلك بالتأليف في الأوردية ، وأظهر كتابه (( سيرة السيد أحمد الشهيد )) فكان الإقبال عليه عظيماً حتى طبع ثلاث مرات .

ثم انتقل إلى دلهي ، والتقى بالداعية المجدد العظيم الشيخ محمد إلياس ، وكان هذا اللقاء نقطة تحول في حياة أبي الحسن ، لأن الشيخ محمد إلياس كان مرشداً شعبياً ، له صلة عميقة وثيقة بالجماهير عن طريق الدعوة إلى الله . وأبو الحسن لم يكن متصلاً بالشعب قبل ذلك ، بل كان مقتصراً على الدراسة والتأليف . فأخذ يتصل بأهل القرى والدساكر ، ويقوم برحلات إسلامية قد تستغرق الواحدة منها شهراً ، لنشر الدعوة في قرى الهند ومدنها ، وكان الشيخ إلياس- ولا يزال – هو مثل أبي الحسن الأعلى في الحكمة الدينية العميقة وفي قوة الإيمان لأن الشيخ إلياس -كما يقول أخونا- كان صورة من السلف الصالح ، وكان مخلصاً غيوراً ، يتألم لحال المسلمين ، ويعمل من أجلهم ، ويسير في شئونهم ، ويحترق بروحه القوية الوثابة في سبيلهم(7) .

وتلقى التربية الروحية من العارف الجليل المربي الكبير الشيخ عبد القادر الرأي يوري واستفاد من صحبته ومجالسته .

ورأس أبو الحسن تحرير مجلة " الندوة " العلمية التي كانت تصدر بالأوردية ، وكانت لسان حال الندوة ، وكلفته الجامعة الإسلامية في (عليكره) بوضع مناهج لطلبة (البكالوريا) في التعليم الديني ، فألف في ذلك كتاباً أسماه (إسلاميات) وقبلت الجامعة هذا الكتاب وأخذت به وكافأت صاحبه عليه ؛ ودعي لإلقاء محاضرات في الجامعة الملية الإسلامية بدلهي ، فألقى محاضرة في موضوع : (الدين والمدنية) كانت موضع الاستحسان ، ونشرت وكان لها تأثير واسع النطاق .

وألف في هذه الفترة كتباً لطلبة المدارس العربية في الهند ، منها كتاب " مختارات في الأدب العربي " وقد قررت دار العلوم في الهند وبعض الجامعات في تدريسه .  ومنها كتاب ((قصص النبيين )) في ثلاثة أجزاء ، وغير ذلك من الكتب ، وأصدر مجلة (التعمير) التي كانت تصدر بالأوردية مرتين في الشهر ، وأسس جمعية للتبشير بالإسلام بين الهندوس ، وأصدرت هذه الجمعية التبشيرية الإسلامية عدة رسائل وبحوث عن الملة الغراء باللغة الإنجليزية المنتشرة هناك . وأسس (المجمع الإسلامي العلمي) في لكهنؤ سنة 1960 م وله نشاط وإنتاج في اللغات الإنجليزية والهندية والأوردية والعربية ، ومطبوعات قيمة .

وأخي المفضال أبو الحسن له غرام أصيل عميق باقتناء الكتب ومسامرتها والحديث عنها . وأعز ما يحرص عليه من عرض الحياة هو كتبه . وأغلى ما يهدي إليه كتاب يرضيه ويغذيه ، ولا يقتني أبو الحسن الكتب ليزين بها داره ، بل ليهضمها قراءة وبحثاً ونقداً ، وكتاباته المختلفة فيها دلاله واضحة على ذلك ، وقد أفادته هذه المطالعات والمسامرات – بجوار الهبة والتجربة- فدرة على الارتجال بالعربية ، فهو يتدفق كالسيل بلغة بليغة فيها الصور البيانية والتعبير الجميل وأغلب محاضراته يستعد لها ، وكثيراً ما يكتبها ، وأسلوبه يغلب عليه العنصر العاطفي الملتهب  ومع ذلك إذا طرق باب البحث أجاد وأفاد وأمتع أيضاً ، وهو كما عرفت عنه وكما حدثني مراراً لا يحب أن يهجم على الحديث في موضوع ذي بال إلا إذا احتفل به وتهيأ له ، وليس ذلك عن قلة بضاعة ولكنه احتراس العالم الذي يريد أن يستيقن ويتثبت ! .. وقد غلب النثر على أبي الحسن فلم تطاوعه قريحته يوماً على نظم الشعر ...

وقد ظل الأستاذ أبو الحسن يمارس ألواناً من الألعاب الرياضية ككرة القدم والسباحة والصيد والهوكي والتنس ثم انقطع عنها أخيراً ، وعلى الرغم من هذا أصابته أمراض استمرت مدة طويلة ، وخاصة في الصدر ، ثم عافاه الله منها ، وبقي له سعال يعاوده من حين لآخر .

وهو يكره التصوير بجميع أنواعه ، ويحرمه على نفسه في تشديد ملحوظ ، ولقد زرت معه إحدى دور الطبع والنشر الكبرى بالقاهرة ، ورغب مصور الدار أن يلتقط لنا صوراً تذكارية فرفض أبو الحسن ، وأصر على الرغم من طول المحاولة والرجاء ، وذكر أن المسلمين في الهند (متفقون) على حرمة التصوير !! ..

ولقد سألته ذات مرة عن السابقين الذين تأثر بهم ، فأجابني بأنهم الإمام أحمد بن حنبل صاحب الموقف المعروف في المحنة ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، والشيخ أحمد السر هندي (من سر هند ، بلد في البنجاب) المتوفى سنة 1024هـ صاحب الرسائل الخالدة في الشريعة والحقيقة ومحاربة البدع ، والمجدد للملة ، ولشيخ ولي لله الدهلوي المتوفى سنة 1176هـ الباحث الإسلامي العظيم صاحب (حجة الله البالغة) والصاحب أحمد الشهيد مؤسس أول دولة شرعية في الهند في القرن الثالث عشر الهجري(8) ، وقد استمرت هذه الدولة عدة شهور ، ثم ثار عليها الإنجليز بمؤامراتهم فأخذوا عليها الطريق .

وأعظم آمال أبي الحسن أن يرى الإسلام سائداً على الأرض ، وأن يرى الدول الباغية معذبة مقهورة حتى يسلي نفسه ويستبشر ويرى انتقام الله من الذين حاربوا الإسلام وأذلوا المسلمين وهو يعتقد ويرى أن بقاء القلة المسلمة في الهند من الخير ، وفيه فائدة ترجى للهند ، فلعل للإسلام مستقبلاً ذا بال هناك ، ولقد رحل أبو الحسن إلى الحجاز في سنتي 1947-1950 م وقدم إلى مصر سنة 1951 م ، وطوّف بأغلب العالم الإسلامي ، فرأى وشاهد(9) ودرس وكتب وحاضر وخطب ، وكان له في كل أرض نزل بها مجهود وجهود وعهود .

وقد اختير عضواً مراسلاً في المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1957 م . ودعي لإلقاء محاضرات كأستاذ زائر في جامعة دمشق 1956 م (10) .

وقد سألته وهو بيننا في مصر عن حسنات مصر ، فقال موجزاً : الإيمان بالله والدين ، والمحبة للمسلم خاصة إذا كان غريباً ، ورقة القلب ، وسلامة الصدر ، وكثرة الأعمال المنتجة ... ثم سألته عن السيئات فتحرج ثم أجاب : السفور ، وعدم التستر ، والصور الخليعة في الصحف والمجلات ، واستهانة بعض العلماء ببعض المحرمات ، وعدم المحافظة على الجماعات في المساجد برغم كثرتها ، والاندفاع في تقليد الحضارة الغربية بلا تبصر .

وأخي أبو الحسن بعد هذا كله عدو للمظاهر الكاذبة ، يتخفف في ثيابه وطعامه وفراشه ، ويكره التكلف والمجاملة الزائدة ، ولا يقيم للمال وزناً في حياته ، وثقته بربه فوق كل شيء ، ومثابرته على النضال في سبيل ما يؤمن به مضرب الأمثال ، وإخلاصه العميق سر نجاحه بينما يفشل الآخرون .

لقد طال الكلام ، ومع ذلك لم أقل كل شيء عن أخي أبي الحسن ! ..

 

أحمد الشرباصي

المدرس بالأزهر الشريف

 

*************************************


 

 

 

http://www.saaid.net/

 

http://saaid.net/book/index.php
الباب الأول

العصر الجاهلي

الفصل الأول

الإنسانية في الاحتضار

كان القرن السادس والسابع (لميلاد المسيح) من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف ، فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون ، وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي ، فقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها  وشدة في إسفافها ، وكأنَّ الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه ، فنسي نفسه ومصيره ، وفقد رشده ، وقوة التمييز بين الخير والشر ، والحسن والقبيح ، وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن ، والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدهم أو بقيت ، ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلا بعض القلوب فضلاً عن البيوت فضلاً عن البلاد ، وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة ، ولاذوا إلى الأديرة والكنائس والخلوات ، فراراً بدينهم من الفتن وضناً بأنفسهم ، أو رغبة إلى الدعة والسكوت ، وفراراً من تكاليف الحياة وجدها ، أو فشلاً في كفاح الدين والسياسة والروح والمادة ، ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا ، وعاونهم على إثمهم وعدوانهم ، وأكل أموال الناس بالباطل ... على حساب الضعفاء والمحكومين . وإن الإنسانية لا تشقى بتحول الحكم والسلطان والرفاهية والنعيم من فرد إلى فرد آخر من جنسه ، أو من جماعة إلى جماعة أخرى مثلها في الجور والاستبداد وحكم الإنسان للإنسان ، وإن هذا الكون لا يتفجع ولا يتألم فقط بانحطاط أمة أدركها الهرم وسرى فيها الوهن ، وسقوط دولة تآكلت جذورها وتفككت أوصالها ، بل بالعكس تقتضي ذلك سنة الكون ، وإن دموع الإنسان لأعز من أن تفيض كل يوم على ملك راحل وسلطان زائل ، وإنه لفي غنى ، وإنه لفي شغل عن أن يندب من لم يعمل يوماً لإسعاده ، ولم يكدح ساعة لصالحه ، وإن السماء والأرض لتقسوان كثيراً على هذه الحوادث التي تقع ووقعت كل يوم ووقعت ألوف المرات { كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ{25} وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ{26} وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ{27} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ{28} فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ } .

بل إن كثيراً من هؤلاء السلاطين والأمم كانوا كلاً على ظهر الأرض ، وويلاً للنوع الإنساني وعذاباً للأمم الصغيرة والضعيفة ، ومنبع الفساد والمرض في جسم المجتمع البشري ، يسري منه السم في أعصابه وعروقه ، ويتعدى المرض إلى الجسم السليم فكان لا بد من عملية جراحية ، وكان قطع هذا الجزء السقيم وإبعاده من الجسم السليم مظهراً كبيراً لربوبية رب العالمين ورحمته ، يستوجب الحمد والامتنان من جميع أعضاء الأسرة الإنسانية ، بل من جميع أفراد الكون { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، ولكن لم يكن انحطاط المسلمين ووال دولتهم وركود ريحهم- وهم حملة رسالة الأنبياء ، وهم للعالم البشري كالعافية للجسم الإنساني- انحطاط شعب أو عنصر أو قومية ، فما أهون خطبه وما أخف وقعه ، ولكنه انحطاط رسالة هي للمجتمع البشري كالروح ، وانهيار دعامة قام عليها نظام الدين والدنيا .

فهل كان انحطاط المسلمين واعتزالهم في الواقع مما يأسف له الإنسان في شرق الأرض وغربها ، وبعد قرون مضت على الحادث ؟

وهل خسر العالم حقاً- وهو غني بالأمم والشعوب- بانحطاط هذه الأمة شيئاً ؟ وفيم كانت خسارته ورزيته ؟

وماذا آل إليه أمر الدنيا ، وماذا صارت إليه الأمم بعدما تولت قيادها الأمم الأوروبية حتى خلفت المسلمين في النفوذ العالمي ، وأسست دولة واسعة على أنقاض الدولة الإسلامية ؟

وماذا أثر هذا التحول العظيم في قيادة الأمم وزعامة العالم في الدين والأخلاق والسياسة والحياة العامة وفي مصير الإنسانية ؟

وكيف يكون الحال لو نهض العالم الإسلامي من كبوته وصحا من غفوته ، وتملك زمام الحياة ؟

ذلك كله ما نحاول الإجابة عنه في الصفحات الآتية ! ...

أبو الحسن علي الحسني


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

 

ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟

 

لم يكن انحطاط المسلمين أولاً ، وفشلهم وانعزالهم عن قيادة الأمم بعد ، وانسحابهم من ميدان الحياة والعمل أخيراً ، حادثاً من نوع ما وقع وتكرر في التاريخ من انحطاط الشعوب والأمم ، وانقراض الحكومات والدول ، وانكسار الملوك والفاتحين ، وانهزام الغزاة المنتصرين ، وتقلص ظل المدنيات . والجزر السياسي بعد المد . فما أكثر ما وقع مثل هذا في تاريخ كل أمة . وما أكثر أمثاله في تاريخ الإنسان العام ! ولكن هذا الحادث كان غريباً لا مثيل له في التاريخ . مع أن في التاريخ مثلاً وأمثلة لكل حادث غريب .

لم يكن هذا الحادث يخص العرب وحدهم ، ولا يخص الشعوب والأمم  التي دانت بالإسلام ، فضلاً عن الأسر والبيوتات التي خسرت  دولتها وبلادها ، بل هي مأساة إنسانية عامة لم يشهد التاريخ أتعس منها ولا أعم منها . فلو علم العالم حقيقة هذه الكارثة ، ولو عرف مقدار خسارته ورزيته ، انكشف عنه غطاء العصبية ، لاتخذ هذا اليوم النحس – الذي وقعت فيه يوم عزاء ورثاء ، ونياحة وبكاء ، ولتبادلت شعوب العالم وأممه التعازي ، ولبست الأمة ثوب الحداد ، ولكن ذلك لم يتم في يوم ، وإنما وقع تدريجياً في عقود من السنين ، والعالم لم يحسب إلى الآن الحساب الصحيح لهذا الحادث ، ولم يقدره قدره ، وليس عنده المقياس الصحيح لشقائه وحرمانه .

إن العالم لم يخسر شيئاً بانقراض دولة ملكت حيناً من الدهر. وفتحت مجموعاً من البلاد والأقاليم. واستعبدت طوائف من البشر. ونعمت وترفهت .

 

نظرة في الأديان والأمم :

أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين والمتلاعبين ، ولعبة المحرفين والمنافقين ، حتى فقدت روحها وشكلها ، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها ، وأصبحت مهود الحضارة الثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام ، وعسف الحكام ، وشغلت بنفسها ، لا تحمل للعالم رسالة ولا للأمم دعوة ، وأفلست في معنوياتها ، ونضب معين حياتها ، لا تملك مشرعاً صافياً من الدين السماوي ، ولا نظاماً ثابتاً من الحكم البشري.

 

المسيحية في القرن السادس المسيحي :  

لم تكن المسيحية في يوم من الأيام من التفصيل والوضوح ومعالجة مسائل الإنسان ، بحيث تقوم عليه حضارة ، أو تسير في ضوئه دولة ، ولكن كان فيها أثارة من تعليم المسيح ، وعليها مسحة من دين التوحيد البسيط ، فجاء بولس فطمس نورها ، وطعّمها بخرافات الجاهلية التي انتقل منها ، والوثنية التي نشأ عليها ، وقضى قسطنطين على البقية الباقية ، حتى أصبحت النصرانية مزيجاً من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية والأفلاطونية المصرية والرهبانية ، اضمحلت في جنبها تعليم المسيح البسيطة كما تتلاشى القطرة من اليم ، وعادت نسيجاً خشبياً من معتقدات وتقاليد لا تغذي الروح ، ولا تمد العقل ولا تشعل العاطفة ، ولا تحل معضلات الحياة ، ولا تنير السبيل ، بل أصبحت بزيادات المحرفين ، وتأويل الجاهلين ، تحول بين الإنسان والعلم والفكر ، وأصبحت على تعاقب العصور ديانة وثنية ، يقول (Sale) مترجم القرآن إلى الانكليزية عن نصارى القرن السادس الميلادي : ((وأسرف المسيحيون في عبادة القديسين والصور المسيحية حتى فاقوا في ذلك الكاثوليك في هذا العصر(11))) .

 

الحرب الأهلية الدينية في الدول الرومية :  

ثم ثارت حول الديانة وفي صميمها مجادلات كلامية، وسفسطة من الجدل العقيم شغلت فكر الأمة ، واستهلكت ذكاءها ، وابتلعت فدرتها العملية ، وتحولت في كثير من الأحيان حروباً دامية وقتلاً وتدميراً وتعذيباً ، وإغارة وانتهاباً واغتيالاً ، وحولت المدارس والكنائس والبيوت معسكرات دينية متنافسة وأقحمت البلاد في حرب أهلية ، وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية ، وبين نصارى مصر ، أو بين (الملكانية) و (المنوفيسية) بلفظ أصح ، فكان شعار الملكانية عقيدة ازدواج طبيعة المسيح ، وكان المنوفيسيون يعتقدون أن للسيد المسيح طبيعة واحدة ، وهي الإلهية التي تلاشت فيها طبيعة المسح البشرية ، كقطرة من الخل تقع في بحر عميق لا قرار له . وقد اشتد هذا الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع ، حتى صار كأنه حرب عوان بين دينين متنافسين ، أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى ، كل طائفة تقول للأخرى : إنها ليست على شيء . يقول الدكتور ألفرد . ج . بتلر :

(( إن ذينك القرنين كانا عهد نضال متصل بين المصريين والرومانيين ، نضال يذكيه اختلاف في الجنس واختلاف في الدين ، وكان اختلاف الدين أشد من اختلاف الجنس ، إذ كانت علة العلل في ذلك الوقت تلك بين الملكانية والمنوفيسية ، وكانت الطائفة الأولى- كما يدل عليها اسمها- حزب مذهب الدولة الإمبراطورية وحزب الملك والبلاد ، وكانت تعتقد العقيدة السنية الموروثة ، وهي ازدواج طبيعة المسيح ، على حين أن الطائفة الأخرى وهي حزب القبط المنوفيسيين –أهل مصر- كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها ، وتحاربها حرباً عنيفة في حماسة هوجاء يصعب علينا أن نتصورها أو نعرف كنهها في قوم يعقلون ، بلة يؤمنون بالإنجيل (12))) .

وحاول الإمبراطور هرقل (610-641) بعد انتصاره على الفرس سنة 638 جمع مذاهب الدولة المتصارعة وتوحيدها ، وأراد التوفيق ، وتقررت صورة التوفيق ، أن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة السيد المسيح ، وعما إذا كانت له صفة واحدة ، أم صفتان  ولكن عليهم بأن يشهدوا بأن الله له إرادة واحدة أو قضاء واحد . وفي صدر عام 631 حصل وفاق على ذلك وصار المذهب المنوثيلي مذهباً رسمياً للدولة ، ومن تضمهم من أتباع الكنيسة المسيحية ، وصمم هرقل على إظهار المذهب الجديد على ما عداه من المذاهب المختلفة له متوسلاً إلى ذلك بكل الوسائل ، ولكن القبط نابذوه العداء وتبرأوا من هذه البدعة والتحريف ، وصمدوا له واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة ، وحاول الإمبراطور مرة أخرى توحيد المذاهب وحسم الخلاف ، فاقتنع بأن يقر الناس بأن الله له إرادة واحدة ، وأما المسألة الأخرى ، وهي نفاذ تلك الإرادة بالفعل ، فأرجأ القول فيه ، ومنع الناس أن يخوضوا في مناظراتها ، وجعل ذلك رسالة رسمية ، وبعث بها إلى جميع جهات العالم الشرقي ، ولكن الرسالة لم تهدئ العاصفة في مصر ووقع اضطهاد فظيع على يد قيرس في مصر واستمر عشر سنين ، وقع خلالها ما تقشعر منه الجلود ، فرجال كانوا يعذبون ثم يقتلون إغراقاً ، وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياء حتى يسيل الدهن من الجانبين على الأرض ، ويوضع السجين في كيس مملوء من الرمل ويرمى به في البحر ، إلى غير ذلك من الفظائع .

 

الانحلال الاجتماعي والقلق الاقتصادي :

بلغ الانحلال الاجتماعي غايته في الدولة الرومية والشرقية ، وعلى كثرة مصائب الرعية ازدادت الإتاوات ، وتضاعفت الضرائب . حتى أصبح أهل البلاد يتذمرون من الحكومات . ويمقتونها مقتاً شديداً . ويفضلون عليها كل حكومة أجنبية ، وكانت الإيجارات والمصادرات ضغثاً على إبّالة ، وقد حدثت لذلك اضطرابات عظيمة وثورات . وقد هلك عام 532 في الاضطراب ثلاثون ألف شخص في العاصمة(13) . وعلى شدة الحاجة إلى الاقتصاد في الحياة أسرف الناس فيه ، ووصلوا في التبذل إلى أحط الدركات . وأصبح الهم الوحيد اكتساب المال من أي وجه ، ثم إنفاقه في التظرف والترف وإرضاء الشهوات .

ذابت أسس الفضيلة . وانهارت دعائم الأخلاق . حتى صار الناس يفضلون العزوبة على الحياة الزوجية ليقضوا مآربهم في حرية(14) . وكان العدل كما يقول (سيل) يباع ويساوم مثل السلع . وكانت الرشوة والخيانة تنالان من الأمة التشجيع(15) . يقول (جيبون) : ((وفي آخر القرن السادس وصلت الدولة في ترديها وهبوطها إلى آخر نقطة(16) . وكان مثلها كمثل دوحة عظيمة كانت أمم العالم في حين من الأحيان تستظل بظلها الوارف . ولم يبق منها إلا الجذع الذي لا يزداد كل يوم إلا ذبولاً(17) )) . ويقول مؤلفو (تاريخ العالم للمؤرخين) : ((إن المدن العظيمة التي أسرع إليها الخراب ولم تسترد مجدها وزهرتها أبداً ، تشهد بما أصيبت به الدولة البيزنطية في هذا العهد من الانحطاط الهائل الذي كانت نتيجته المغالاة في المكوس والضرائب والانحطاط في التجارة ، وإهمال الزراعة ، وتناقص العمران في البلدان(18) )).

 

مصر في عصر الدولة الرومية ديانة واقتصاداً :

أما مصر ذات النيل السعيد ، والخصب المزيد ، فكانت في القرن السابع من أشقى بلاد الله بالنصرانية ، وبالدولة الرومية معاً ، أما الأولى فلم تستفد منها إلا خلافات ومناظرات في طبيعة المسيح ، وفي فلسفة ما وراء الطبيعة والفلسفة الألهية . وقد ظهرت في القرن السابع في شر مظاهرها ، وأنهكت قوى الأمة العقلية ، وأضعفت قواها العملية ، وأما الأخرى فلم تلق منها إلا اضطهاداً دينياً فظيعاً واستبداداً سياسياً شنيعاً تجرعت في سبيلهما من المرائر في عشر سنين ما ذاقته أوربا في عهد التفتيش الديني في عقود من السنين ، فألهاها ذلك عن كل وطر من أوطار الحياة ، وعن كل مهمة شريفة من مهمات الدين والروح ، فلا هي تتمتع بالحرية السياسية رغم كونها مستعمرة رومية ، ولا هي تتمتع بالحرية الدينية والعقلية ، رغم كونها نصرانية .

ويقول الدكتور غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) :

((ولقد أكرهت مصر على انتحال النصرانية . ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي ، وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر التي كانت مسرحاً للاختلافات الدينية الكثيرة في ذلك الزمن . وكان أهل مصر يقتتلون ويتلاعنون بفعل تلك الاختلافات ، وكانت مصر التي أكلتها الانقسامات الدينية ، وأنهكها استبداد الحكام تحقد أشد الحقد على سادتها الروم . وتنتظر ساعة تحريرها من براثن قياصرة القسطنطينية الظالمين(19) )).

ويقول الدكتور الفرد .ج . بتلر في كتابه (فتح العرب لمصر) :

(( فالحق أن أمور الدين في القرن السابع كانت في مصر أكبر خطراً عند الناس من أمور السياسة ، فلم تكن أمور الحكم هي التي قامت عليها الأحزاب ، واختلف بعضها عن بعض فيها ، بل كان كل الخلاف على أمور العقائد والديانات ، ولم يكن نظر الناس إلى الدين أنه المعين يستمد منه الناس ما يعينهم على العمل الصالح ، بل كان الدين في نظرهم هو الاعتقاد المجرد في أصول معينة .

(( فكان اختلاف الناس ومناظراتهم العنيفة كلها على خيالات صورية من فروق دقيقة بين المعتقدات ، وكانوا يخاطرون بحياتهم في سبيل أمور لا قيمة لها ، وفي سبيل فروق في أصول الدين وفي فلسفة ما وراء الطبيعة يدق فهمها ، ويشق لإدراكها(20) )) .

هذا ، وقد اتخذها الروم شاة حلوباً يريدون أن يستنزفوا مواردها ، ويمتصوا دمها ، يقول ألفرد:

((إن الروم كانوا يجبون من مصر جزية على النفوس وضرائب أخرى كثيرة العدد..مما لاشك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة، وكانت تجري بين الناس على غير عدل(21)))

ويقول مؤلفو (تاريخ العالم للمؤرخين) :

(( إن مصر كانت تضيف إلى مالية الدولة البيزنطية مجموعاً كبيراً من حاصلها ومنتجاتها ، وكانت طبقات الفلاحة المصرية – مع حرمانها من كل قوة سياسية ومن كل نفوذ – مرغمة على أداء الخرج للدولة الرومية ككراء الأرض فضلاً عن الضرائب ، وكانت ثروة مصر في هذا العهد إلى الانتقاص والانحطاط(22) )) .

وهكذا اجتمع لمصر من الاضطهاد الديني ، والاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي ما شغلها بنفسها ، وكدر عليها صفو حياتها ، وألهاها عن كل مكرمة .


الحبشة :

أما جارتها الحبشة فكانت على المذهب (المونوفيسي) كذلك ، وكانت مع ذلك تعبد أوثاناً كثيرة استعارت بعضها من الهمجية ، ولم يكن التوحيد إلا ضرباً راقياً من الوثنية خلعت عليها لباساً من علم ومصطلحات نصرانية ، ولم تكن في الدين بذات روح ، ولا في الدنيا بذات طموح ، وقد قضى مجمع (نيقية) أن ليس لها استقلال بأمورها الدينية ، وإنما هي تابعة للكرسي الإسكندري .

 

الأمم الأوروبية الشمالية الغربية :

أما الأمم الأوروبية المتوغلة في الشمال والغرب فكانت تتسكع في ظلام الجهل المطبق ، والأمية الفاشية ، والحروب الدامية ، لم ينبثق فيها فجر الحضارة والعلم بعد ، ولم تظهر على مسرحها الأندلسي لتؤدي رسالتها في العلم والمدنية ، ولم تصهرها الحوادث ، وكانت بمعزل جادة قافلة الحضارة الإنسانية بعيدة عنها ، لا تعرف عن العالم ولا يعرف العالم المتمدن عنها إلا قليلاً ، ولم تكن – مما يجري في الشرق والغرب مما يغير وجه التاريخ – في عير ولا نفير ، وكانت بين نصرانية وليدة ، ووثنية شائبة ، ولم تكن بذات رسالة في الدين ، ولا بذات راية في السياسة .

يقول هـ . ج . ويلز :

(( ولم تكن في أوربا الغربية في ذلك العهد أمارات الوحدة والنظام(23) )) .

ويقول (Robert Briffault  ) :

((لقد أطبق على أوربا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر ، وكان هذا الليل يزداد ظلاماً وسواداً . قد كانت همجية ذلك العهد أشد هولاً وأفظع من همجية العهد القديم ، لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت ، وقد انطمست معالم هذه الحضارة وقضي عليها بالزوال ، وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في الماضي ، كإيطاليا وفرنسا ، فريسة الدمار والفوضى والخراب(24) )) .

 

اليهود :     

وكانت في أوربا وآسيا وإفريقيا أمة هي أغنى أمم الأرض مادة في الدين ، وأقربها فهماً لمصطلحاته ومعانيه ، أولئك هم اليهود ، ولكن لم يكونوا عاملاً من عوامل الحضارة والسياسة أو الدين يؤثر في غيرهم ، بل قُضي عليهم من قرون طويلة أن يتحكم فيهم غيرهم ، وأن يكونوا عرضة للاضطهاد والاستبداد ، والنفي والجلاء ، والعذاب والبلاء ، وقد أورثهم تاريخهم الخاص وما تفردوا به بين أمم الأرض من العبودية الطويلة والاضطهاد الفظيع والكبرياء القومية ، والإدلال بالنسب ، والجشع وشهوة المال وتعاطي الربا ، أورثهم كل ذلك نفسية غريبة لم توجد في أمة وانفردوا بخصائص خلقية كانت لهم شعاراً على تعاقب الإعصار والأجيال ، منها الخنوع عند الضعف ، والبطش وسوء السيرة عند الغلبة ، والختل والنفاق في عامة الأحوال ، والقسوة والأثرة وأكل أموال الناس بالباطل ، والصد عن سبيل الله . وقد وصفهم القرآن الكريم وصفاً دقيقاً عميقاً يصور ما كانوا عليه في القرنين السادس والسابع من تدهور خلقي ، وانحطاط نفسي ، وفساد اجتماعي، عزلوا بذلك عن إمامة الأمم وقيادة العالم.

 

بين اليهود والمسيحيين :     

وقد تجدد في أوائل القرن السابع من الحوادث ما بغضهم إلى المسيحيين ، وبغض المسيحيين إليهم وشوه سمعتهم ، ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس (610 م ) أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية ، فأرسل الإمبراطور قائده " أبنوسوس" ليقضي على ثورتهم ، فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة ، فقتل الناس جميعاً ، قتلاً بالسيف ، وشنقاً وإغراقاً وتعذيباً ، ورمياً للوحوش الكاسرة .

وكان ذلك بين اليهود والنصارى مرة بعد مرة . قال المقريزي في كتاب الخطط : ((وفي أيام فوقا ملك الروم ، بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر فخربوا كنائس القدس وفلسطين وعامة بلاد الشام ، وقتلوا النصارى بأجمعهم وأتوا إلى مصر في طلبهم ، وقتلوا منهم أمة كبيرة ، وسبوا منهم سبياً لا يدخل تحت حصر وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم . وأقبلوا نحو الفرس من طبرية وجبل الجليل ، وقرية الناصرية صور ، وبلاد القدس ، فنالوا من النصارى كل منال ، وأعظموا النكاية فيهم ، وخربوا لهم كنيستين وأحرقوا أماكنهم ، وأخذوا قطعة من عود الصليب ، وأسروا بطرك القدس وكثيراً من أصحابه(25) )) .

إلى أن قال بعد أن ذكر فتح الفرس لمصر :

((فثارت اليهود في أثناء ذلك بمدينة صور وأرسلوا بقيتهم في بلادهم وتواعدوا على الإيقاع بالنصارى وقتلهم ، فكانت بينهم حرب اجتمع فيها من اليهود نحو عشرين ألفا وهدموا كنائس النصارى خارج صور فقوي النصارى عليهم وكاثروهم فانهزم اليهود هزيمة قبيحة وقتل منهم كثير ، وكان هرقل قد ملك الروم بقسطنطينية ، وغلب الفرس بحيلة دبرها على كسرى حتى رحل عنهم ، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ، ويجدد ما خربها الفرس ، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها ، وقدموا له الهدايا الجليلة طلبوا منهم أن يؤمنهم ويحلف لهم على ذلك فأمنهم وحلف لهم ، ثم دخل القدس وقد تلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة ، فوجد المدينة وكنائسها وقمامتها خراباً ، فساءه ذلك  وتوجع له ، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس وإيقاعهم بالنصارى وتخريبهم الكنائس ، وأنهم كانوا أشد نكاية لهم من الفرس وقاموا قياماً كبيراً في قتلهم من آخرهم ، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم ، وحسنوا له ذلك فاحتج عليه بما كان من تأمينه لهم وحلفه ، فأفتاه رهبانهم وبطاركتهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم ، فإنهم عملوا حيلة حتى أمنهم من غير أن يعلم بما كان منهم ، وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة في كل سنة عنه على ممر الزمان والدهور ، فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها ، حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلا من  فر واختفى الخ )) .

وبهذه الروايات يعلم ما وصل إليه الفريقان ، اليهود والنصارى ، من القسوة والضراوة بالدم الإنساني وتحين الفرص للنكاية في العدو ، وعدم مراعاة الحدود في ذلك ، وبهذه الأخلاق المنحطة والاستهانة بحياة الإنسان لا يمكن لطائفة أو أمة أن تؤدي رسالة الحق والعدل والسلام وتسعد البشرية في ظلها وتحت حكمها .

 

إيران والحركات الهدامة فيها :

أما فارس التي شاطرت الروم في حكم العالم المتمدن فكانت الحقل القديم لنشاط كبار الهدامين الذين عرفهم العالم ، كان أساس الأخلاق متزعزعاً مضطرباً منذ عهد عريق في القدم ، ولم تزل المحرمات النسبية التي تواضعت على حرمتها ومقتها طبائع أهل الأقاليم المعتدلة موضع خلاف ونقاش ، حتى إن يزدجرد الثاني الذي حكم في أواخر القرن الخامس الميلادي تزوج  بنته ثم قتلها(26)، وأن بهرام جوبين الذي تملك في القرن السادس كان متزوجاً بأخته(27)

يقول البروفسور (( أرتهر كرستن سين)) أستاذ الألسنة الشرقية في جامعة كوبنهاجن بالدنمارك المتخصص في تاريخ إيران في كتابه (إيران في عهد الساسانيين) :

(( إن المؤرخين المعاصرين للعهد الساساني مثل (جاتهياس) وغيره ، يصدقون بوجود عادة زواج الإيرانيين بالمحرمات ، ويوجد في تاريخ العهد الساساني أمثلة لهذا الزواج ، فقد تزوج بهرام جوبين وتزوج جشتسب قبل أن يتنصر بالمحرمات(28) ، ولم يكن يعد هذا الزواج معصية عند الإيرانيين ، بل كان عملاً صالحاً يتقربون به إلى الله ، ولعل الرحالة الصيني (هوئن سوئنج) أشار إلى هذا الزواج بقوله : إن الإيرانيين يتزوجون من غير استثناء (29))) .

ظهر "ماني" في القرن الثالث المسيحي ، وكان ظهوره رد فعل عنيف غير طبعي ضد النزعة الشهوية السائدة في البلاد ، ونتيجة منافسة النور والظلمة الوهمية فدعا إلى حياة العزوبة لحسم مادة الفساد الشر من العالم ، وأعلن أن امتزاج النور بالظلمة شر يجب الخلاص منه فحرَّم النكاح استعجالاً للفناء وانتصاراً للنور على الظلمة بقطع النسل . وقتله بهرام سنة 276م قائلاً إن هذا خرج داعياً إلى تخريب العالم فالواجب أن يبدأ بتخريب نفسه قبل أن يتهيأ له شيء من مراده . ولكن تعاليمه لم تمت بموته بل عاشت إلى ما بعد الفتح الإسلامي .

ثم ثارت روح الطبيعة الفارسية على تعاليم ماني المجحفة ، وتقمصت دعوة مزدك الذي ولد 487 م فأعلن أن الناس ولدوا سواء لا فرق بينهم ، فينبغي أن يعيشوا سواء لا فرق بينهم ، ولما كان المال والنساء مما حرصت النفوس على حفظه وحراسته كان ذلك عند مزدك أهم ما تجب فيه المساواة والاشتراك .

قال الشهرستاني(30) . (( أحل النساء وأباح الأموال وجعل الناس شركة فيها كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ )) . وحظيت هذه الدعوة بموافقة الشبان والأغنياء والمترفين وصادفت من قلوبهم هوى ، وسعدت كذلك بحماية البلاط فأخذ قباذ بناصرها ونشط في نشرها وتأييدها حتى انغمست إيران بتأثيرها في الفوضى الخلقية وطغيان الشهوات ، قال الطبري : (( افترض السّفلة ذلك واغتنموا وكاتفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم فابتلى الناس بهم وقوي أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله لا يستطيع الامتناع منهم ، وحملوا قباذ على تزيين ذلك وتوعدوه بخلعه فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى صاروا لا يعرف الرجل ولده ولا المولود أباه ولا يملك شيئاً مما يتسع به(31))) إلى أن قال :  (( ولم يزل قباذ من خيار ملوكهم حتى حملة مزدك على ما حمله عليه فانتشرت الأطراف وفسدت الثغور(32))) .

 

تقديس الأكاسرة :    

وكانت الأكاسرة ملوك فارس يدَّعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي ، وكان الفرس إليهم كآلهة ويعتقدون أن في طبيعتهم شيئاً علوياً مقدساً فكانوا يكفرون لهم ، وينشدون الأناشيد بألوهيتهم ويرونهم فوق القانون وفوق الانتقاد وفوق البشر ، لا يجري اسمهم على لسانهم ، ولا يجلس أحد في مجلسهم ، ويعتقدون أن لهم حقاً على كل إنسان ، وليس لإنسان حق عليهم وأن ما يرضخون لأحد من فضول أموالهم وفتات نعيمهم إنما هو صدقة وتكرم من غير استحقاق ، وليس للناس قِبلهم إلا السمع والطاعة ، وخصصوا بيتاً معيناً – وهو البيت الكياني فكانوا يعتقدون أن لأفراده وحدهم الحق أن يلبسوا التاج ويجبوا الخراج ، وهذا الحق ينتقل فيهم كابراً عن كابر وأباً عن جد لا ينازعهم ذلك إلا ظالم ولا ينافسهم إلا دعي نذل ، فكانوا يدينون بالملك والوراثة في البيت المالك لا يبغون به بدلاً ولا يريدون عنه محيصاً ، فإذا لم يجدوا من هذه الأسرة كبيراً ملكوا عليهم طفلاً ، وإذا لم يجدوا رجلاً ملكوا عليهم امرأة فقد ملكوا بعد شيرويه ولده أزدشير وهو ابن سبع سنين وملك فرُّخ زاد خسروا ابن كسرى أبرويز وهو طفل ، وملكوا بوران بنت كسرى ، وملكت كذلك ابنة كسرى ثانية يقال لها أزرمي دخت(33) ولم يخطر ببالهم أن يملكوا عليهم قائداً كبيراً أو رئيساً من رؤسائهم مثل رستم وجابان وغيرهما لأنهم ليسوا من البيت الملكي .

 

التفاوت بين الطبقات :  

وكذلك اعتقادهم في الببيوتات الروحية والأشراف من قومهم ، فيرونهم فوق العامة في طينتهم وفوق مستوى الناس في عقولهم ونفوسهم . ويعطونهم سلطة لا حد لها ، ويخضعون لها خضوعاً كاملاً- يقول البروفسور أرتهرسين مؤلف تاريخ (إيران في عهد الساسانيين) :

((كان المجتمع الإيراني مؤسساً على اعتبار النسب والحِرف ، وكان بين طبقات المجتمع هوة واسعة لا يقوم عليها جسر ولا تصل بينها صلة(34) ، وكانت الحكومة تحظر على العامة أن يشتري أحد منهم عقاراً لأمير أو كبير(35) ، وكان من قواعد السياسة الساسانية أن يقنع كل واحد بمركزه الذي منحه نسبه ، ولا يستشرف لما فوقه(36) ، ولم يكن لأحد أن يتخذ حرفة(37) غير الحرفة التي خلقه الله لها(38) ، وكان ملوك إيران لا يولون وضيعاً وظيفة من وظائفهم(39) ، وكان العامة كذلك طبقات متميزة بعضها عن بعض تميزاً واضحاً ، وكان لكل واحد مركز محدد في المجتمع(40) )) .

وكان في هذا التفاوت بين طبقات الأمة امتهان للإنسانية يظهر لك جلياً في مجالس الأمراء والأشراف ، حيث يقوم الناس على رؤوس الأمراء كأنهم جماد لا حراك بهم ويجلسون مزجر الكلب ، وقد أكبر ذلك على رسول المسلمين وأنكره ، ويتبين مما روى الطبري ما وصل إليه الفرس من الاستكانة والخضوع لسادتهم جرياً على عاداتهم ، قال :

((عن أبي عثمان النهدي قال لما جاء المغيرة إلى القنطرة فعبرها إلى أهل فارس أجلسوه واستأذنوا رستم في إجازته ، ولم يغيروا شيئاً من شارتهم تقوية لتهاونهم ، فأقبل المغيرة بن شعبة والقوم في زيهم عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب ، وبُسطهم على غلوة ،  ولا يصل إلى صاحبهم حتى يمشي عليها غلوة ، وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى جلس معه على سريره ووسادته ، فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوه ومغثوه ، فقال : كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قوماً أسفه منكم ، إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضاً إلا أن يكون محارباً لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى ، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض ، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه ، ولم آتكم ولكن دعوتموني . اليوم علمت أن أمركم مضمحل ، وأنكم مغلوبون ، وأن ملكاً لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول(41))) .

 

تمجيد القومية الفارسية :

ثم يبالغون في تمجيد القومية الفارسية ويرون أن لها فضلاً على سائر الأجناس والأمم ، وأن الله قد خصها بمواهب ومنح لم يشرك فيها أحداً ، وكانوا ينظرون إلى الأمم حولهم نظرة ازدراء وامتهان ، ويلقبونها بألقاب فيها الاحتقار والسخرية .

عبادة النار وتأثيرها في الحياة :    

كانوا في الزمن القديم يعبدون الله ويسجدون له ، ثم جعلوا يمجدون الشمس والقمر والنجوم وأجرام السماء مثل غيرهم من الأوائل ، وجاء زرادشت صاحب الديانة الفارسية فيقال : إنه دعا إلى التوحيد وأبطل الأصنام ، وقال : إن نور الله يسطع في كل ما يشرق ويلتهب في الكون . وأمر بالاتجاه إلى جهة الشمس والنار وساعة الصلاة لأن النور رمز إلى الإله وأمر بعدم تدنيس العناصر الأربعة وهي : النار والهواء والتراب والماء ، وجاء بعده علماء سنوا للزرادشتيين شرائع مختلفة فحرموا عليهم الاشتغال بالأشياء التي تستلزم النار فاقتصروا في أعمالهم على الفلاحة والتجارة ، ومن هذا التمجيد للنار واتخاذها قبلة في العبادات تدرج الناس إلى عبادتها حتى صاروا يعبدونها عيناً ويبنون لها هياكل ومعابد ، وانقرضت كل عقيدة وديانة غير عبادة النار وجُهلت الحقيقة ونسي التاريخ(42) .

ولما كانت النار لا توحي إلى عبّادها بشريعة ولا ترسل رسولاً ، ولا تتدخل في شئون حياتهم ولا تعاقب العصاة والمجرمين أصبحت الديانة عند المجوس عبارة عن طقوس وتقاليد يؤدونها في أمكنة خاصة في ساعات خاصة ، أما في خارج المعابد ، وفي دورهم ودوائر حكمهم وتصرفهم ، وفي السياسة والاجتماع ، فكانوا أحراراً يسيرون على هواهم . وما تملي عليهم نفوسهم ، أو ما يؤدي إليه تفكيرهم . أو ما توحي به مصالحهم ومنافعهم ، شأن المشركين في كل عصر ومصر .

وهكذا حُرِمت الأمة الفارسية في حياتها ديناً عميقاً جامعاً يكون تربية للنفس ، وتهذيباً للخلق، وقامعاً للشهوات ، وحافزاً على التقوى وفعل الخيرات ، ويكون نظاماً للأسرة وتدبيراً للمنزل وسياسة للدولة ، ودستوراً للأمة ، ويحول بين الناس وطغيان الملوك ، وعسف الحكام ، ويأخذ على يد الظالم ، وينتصف للمظلوم ، وأصبح المجوس لا فرق بينهم وبين اللادينيين والإباحيين في الأخلاق والأعمال .


الصين ديانات : 

وكانت تسود الصين في هذا القرن ثلاث ديانات . ديانة " لا وتسو" وديانة "كونفوشيوس" والبوذية ، أما الأولى ففضلاً عن أنها تحولت وثنية في عهد قريب فهي تُعني بالنظريات أكثر منها بالعمليات ، وكان أتباعها متقشفين زاهدين ، لا يتزوجون ولا ينظرون إلى المرأة ولا يتصلون بها اتصالاً ، فلم يكن لها أن تكون أُسّاً لحياة سديدة أو حكومة رشيدة ، حتى التجأ الذين جاءوا بعد مؤسسها إلى مخالفته والعدول عنه إلى غيره .

أما "كونفوشيوس" فقد كان يعني بالعمليات أكثر من النظريات ، ولكن انحصرت تعاليمه في شؤون هذه الدنيا وتدبير الأمور المادية والسياسية والإدارية ، وقد كان أتباعه لا يعتقدون –في بعض الأزمنة- بعبادة إله معين ، فيعبدون ما يشاءون من الأشجار والأنهار ، وليس فيها نور من يقين ولا باعث من إيمان ولا شرع سماوي ، وإنما هو حكمة حكيم وتجارب خبير ، يستفيد بها الإنسان إذا شاء ويرفضها إذا شاء .

 

البوذية- تطوراتها وانحطاطها :

أما البوذية فقد فقدت بساطتها وحماستها ، وابتلعتها البرهمية الثائرة الموتورة فتحولت وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت. وتبني الهياكل. وتنصب تماثيل بوذا حيث حلت ونزلت. وقد غمرت هذه التماثيل الحياة الدينية والمدنية التي ظهرت في عهد ازدهار البوذية(43) . يقول الأستاذ "إيشوراتوبا" أستاذ تاريخ الحضارة الهندية في إحدى جامعات الهند : (( لقد قامت في ظل البوذية دولة تعني بمظاهر الآلهة وعبادة التماثيل وتغير محيط الرابطات الأخوية البوذية ، وظهرت فيها البدع(44) )). ولا حظ ذلك أيضاً أحد الكتاب العصريين وكبار السياسيين في الهند فقال :

(( جعلت البرهمية بوذا مظهراً للآلهة ، وقلدتها في ذلك البوذية نفسها ، وأصبحت الرابطة الأخوية البوذية تملك ثورة هائلة ، وأصبحت مركزاً لمصالح جماعات خاصة ، وفقدت النظام وتسرب إلى مناهج العبادة السحر والأوهام ، وبدأت الديانة تتقهقر وتنحط بعدما سادت في الهند وازدهرت ألف سنة ، وقد ذكرت (Mrs Rhys DaVids) ما أصيبت به الديانة البوذية في هذا العهد من الوهن والاعتلال فقالت كما نقل عنها "سير رادها كرشنن" في كتابه "الفلسفة الهندية" :

(( لقد أظلت الأفكار العليلة تعليم بوذا الخلقي حتى توارى وراء هذه التخيلات السقيمة ، لقد نشأ مذهب جديد في الديانة وازدهر ، وملك على الناس القلوب ، ثم اضمحل وخلفه مذهب آخر ، وهلم جرا ، حتى تراكمت هذه الأوهام الخلابة ، وحجبت الجو وساد الظلام ، وقد اضمحلت دروس مؤسس الديانة الغالية البسيطة بسبب التدقيقات الكلامية والتنطعات(45) )) .

لقد أصيبت البرهمية والبوذية بالانحطاط ، ودخلت فيها العادات الساقطة ، وأصبح من العسير التمييز بينهما ، لقد اندمجت البوذية في البرهمية وذابت فيها (46))).

ولم يزل وجود الإله الإيمان به في البوذية موضع خلاف وشك عند مؤرخي هذه الديانة ومترجمي مؤسسها ، حتى يحار بعضهم ويتساءل : كيف قامت هذه الديانة العظيمة على أساس رقيق من الآداب التي ليس فيها الإيمان بالله(47) . فلم تكن البوذية إلا طرقاً لرياضة النفس وقمع الشهوات ، والتحلي بالفضائل ، والنجاة من الألم ، والحصول على العلم .

إذن فلم تكن عند الصينيين رسالة دينية للعالم يحلون بها مشاكله ، وكانوا في أقصى شرق العالم المتمدن محتفظين بتراثهم الديني والعلمي، لا يزيدون في ثروتهم ولا في ثروة غيرهم.

 

أمم آسيا الوسطى : 

أما الأمم الأخرى في آسيا الوسطى وفي الشرق ، كالمغول والترك واليابانيين ، فقد كانت بين بوذية فاسدة ، ووثنية همجية ، لا تملك ثروة علمية ، ولا نظاماً سياسياً راقياً ، إنما كانت في طور الانتقال من عهد الهمجية إلى عهد الحضارة ، ومنها شعوب لا تزال في طور البداوة والطفولة العقلية .

 

الهند : ديانة ، واجتماعاً ، وأخلاقاً . 

أما الهند فقد اتفقت كلمة المؤلفين في تاريخها على أن أحط أدوارها ديانة وخلقاً واجتماعاً ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي ، قد ساهمت الهند جاراتها وشقيقاتها في التدهور الخلقي والاجتماعي ، الذي شمل الكرة الأرضية في هذه الحقبة من الزمن وأخذت نصيباً غير منقوص من هذا الظلام الذي مد رواقه على المعمورة ، وامتازت عنها في ظواهر وخلال يمكن أن نلخصها في ثلاث :(1)كثرة المعبودات والآلهة كثرة فاحشة. (2) الشهوة الجنسية الجامحة . (3) التفاوت الطبقي والمجحف والامتياز الاجتماعي الجائر .

 

الوثنية المتطرفة : 

قد بلغت الوثنية أوجها في القرن السادس ، فقد كان عدد الآلهة في "ويد" ثلاثة وثلاثين ، وقد أصبحت في هذا القرن 330 مليون . وقد أصبح كل شيء رائع وكل شيء جذاب وكل مرفق من مرافق الحياة إلهاً يعبد .. وهكذا جاوزت الأصنام والتماثيل والآلهة والإلاهات الحصر وأربت على العد ، فمنها أشخاص تاريخية ، وأبطال تمثل فيهم الله-زعموا- في عهود وحوادث معروفة ، ومنها جبال تجلى عليها بعض آلهتهم ، ومنها معادن كالذهب والفضة تجلى فيها إله ، ومنها نهر الكنج الذي خرج من رأس "مهاديو" الإله ، ومنها آلات الحرب وآلات الكتابة وآلات التناسل وحيوانات أعظمها البقرة والأجرام الفلكية وغير ذلك ، وأصبحت الديانة نسيجاً من خرافات وأساطير وأناشيد وعقائد وعبادات ما أنزل الله بها من سلطان ، ولم يستسغها العقل السليم في زمن من الأزمان .

وقد ارتقت صناعة نحت التماثيل في هذا العهد ، وبلغت أوجها في القرن السادس والسابع ، حتى فاق هذا العصر في ذلك العصور الماضية . وقد عكفت الطبقات كلها وعكف أهل البلاد من الملك إلى الصعلوك على عبادة الأصنام ، حتى لم تجد الديانة البوذية والجينية منها بدا ، وتذرعت هاتان الديانتان بهذه الوسيلة للاحتفاظ بحياتهما وانتشارهما في البلاد . ويدل على ما وصلت إليه الوثنية والتماثيل في هذا العصر ما حكاه الرحالة الصيني الشهير " هوئن سوئنج " الذي قام برحلته بين عام 630 وعام 644 عن الاحتفال العظيم الذي أقامه الملك هرش الذي حكم الهند من عام 606 إلى 647 : (( وأقام الملك احتفالاً عظيماً في قنوج اشترك فيه عدد كبير جداً من علماء الديانات السائدة في الهند ، وقد نصب الملك تمثالاً ذهبياً لبوذة على منارة تعلو خمسين ذراعاً ، وقد خرج بتمثال آخر لبوذة أصغر من التمثال الأول في موكب حافل قام بجنبه الملك " هرش " بمظلة وقام الملك الحليف " كامروب " يذب عنه الذباب(49) )) .

ويقول هذا الرحالة عن أسرة الملك ورجال بلاطه : " إن بعضهم كان من عباد " شو " وبعضهم من أتباع الديانة البوذية ، وكان بعضهم يعبد الشمس وبعضهم يعبد " وشنو " وكان لكل واحد أن يخص من الآلهة أحداً بعبادته أو يعبدهم جميعاً(50) )) .

 

الشهوة الجنسية الجامحة :      

وأما الشهوة فقد امتازت بها ديانة الهند ومجتمعها منذ العهد القديم ، فلعل المواد الجنسية والمهيجات الشهوية لم تدخل في صميم ديانة بلاد مثل ما دخلت في صميم الديانة الهندية ، وقد تناقلت الكتب الهندية وتحدثت الأوساط الدينية عن ظهور صفات الإله وعن وقوع الحوادث العظيمة وعن تعليل الأكوان روايات وأقاصيص عن اختلاط الجنسين من الآلهة وغارة بعضها على البيوت الشريفة تستك منها المسامع ويتندى لها الجبين حياء ، وتأثير هذه الحكايات في عقول المتدينين المخلصين المرددين لهذه الحكايات في إيمان وحماسة دينية وفعلها في عواطفهم وأعصابهم واضح ، زاد إلى ذلك عبادتهم لآلة التناسل لإلههم الأكبر " مهاديو " ، وتصويرها في صورة بشعة ، واجتماع أهل البلاد عليها من رجال ونساء وأطفال وبنات ، زد إليه كذلك ما يحدث به بعض المؤرخين أن رجال بعض الفرق الدينية كانوا يعبدون النساء العاريات والنساء يعبدن الرجال العراة(51) وكان كهنة المعابد من كبار الخونة والفساق الذين كانوا يرزءون الراهبات والزائرات في أعز ما عندهن ، وقد أصبح كثير من المعابد نواخه يترصد فيها الفاسق لطلبته ، وينال فيها الفاجر بغيته ، وإذا كان هذا شأن البيوت التي رفعت للعبادة والدين فما ظن القارئ ببلاط الملوك وقصور الأغنياء ؟ ! فقد تنافس فيها رجالها في إتيان كل منكر وركوب كل فاحشة ، وكان فيها مجالس مختلطة من سادة وسيدات ، فإذا لعبت الخمر برؤوسهم خلعوا جلباب الحياء والشرف وطرحوا الحشمة فتوارى الأدب وتبرقع الحياء   ... هكذا أخذت البلاد موجة طاغية من الشهوات الجنسية والخلاعة ، وأسفّت أخلاق الجنسين إسفافاً كبيراً .

 

نظام الطبقات الجائر :

أما نظام الطبقات فلم يعرف في تاريخ أمة من الأمم نظام طبقي أشد قسوة وأعظم فصلاً بين طبقة وطبقة وأشد استهانة بشرف الإنسان من النظام الذي اعترفت به الهند دينياً ومدنياً ، وخضعت له آلافاً من السنين ولا تزال ، وقد بدت طلائع التفاوت الطبقي في آخر العهد الويدي بتأثير الحرف والصنائع وثوراتها ، وبحكم المحافظة عل خصائص السلالة الآرية المحتلة ونجابتها ، وقبل ميلاد المسيح بثلاثة قرون ازدهرت في الهند الحضارة البرهمية ، ووضع فيها مرسوم جديد للمجتمع الهندي ، وألف فيه قانون مدني وسياسي اتفق عليه البلاد وأصبح قانوناً رسمياً ومرجعاً دينياً في حياة البلاد ومدنيتها وهو المعروف الآن بـ "منوشاستر " .

يقسم هذا القانون أهل البلاد إلى أربع طبقات ممتازة وهي (1) البراهمة ، طبقة الكهنة ورجال الدين . (2) شتري رجال الحرب . (3) ويش رجال الزراعة والتجارة . (4) شودر رجال الخدمة . ويقول " منو " مؤلف هذا القانون :

(( إن القادر المطلق قد خلق لمصلحة العالم البراهمة من فمه ، وشتري من سواعده ، وويش من أفخاذه ، والشودر من أرجله ، ووزع لهم فرائض وواجبات لصلاح العالم . فعلى البراهمة تعليم ويد أو تقديم النذور للآلهة وتعاطي الصدقات ، وعلى الشتري حاسة الناس والتصدق وتقديم النذور ودراسة " ويد " والعزوف عن الشهوات ، وعلى ويش رعي السائمة والقيام بخدمتها وتلاوة ويد والتجارة والزراعة ، وليس لشودر إلا خدمة هذه الطبقات الثلاث ))(52) .

 

امتيازات طبقة البراهمة :        

وقد منح هذا القانون طبقة البراهمة امتيازات وحقوقاً ألحقتهم بالآلهة فقد قال إن البراهمة هم صفوة الله وهم ملوك الخلق ، وإن ما في العالم هو ملك لهم فإنهم أفضل الخلائق وسادة الأرض(53) ولهم أن يأخذوا من مال عبيدهم شودر- من غير جريرة – ما شاؤوا ، لأن العبد لا يملك شيئاً وكل ماله لسيده(54) .

وإن البرهمي الذي يحفظ رك ويد " الكتاب المقدس " هو رجل مغفور له ولو أباد العوالم الثلاثة بذنوبه وأعماله(55) ، ولا يجوز للملك حتى في أشد ساعات الاضطرار والفاقة أن يجبي من البراهمة جباية أو يأخذ منهم إتاوة ، ولا يصح لبرهمي في بلاده أن يموت جوعاً(56) وإن استحق برهمي القتل لم يجز للحاكم إلا أن يحلق رأسه ، أما غيره فيقتل(57) .

أما الشتري فإن كانوا فوق الطبقتين " ويش وشودر " ولكنهم دون البراهمة بكثير فيقول  " منو " : إن البرهمي الذي هو في العاشرة من عمره يفوق الشتري الذي ناهز مائة كما يفوق الوالد ولده(58) .

 

المنبوذون الأشقياء :

أما شودر " المنبوذون " فكانوا في المجتمع الهندي- بنص هذا القانون المدني الديني- أحط من البهائم وأذل من الكلاب ، فيصرح القانون بأن " من سعادة شودر أن يقوموا بخدمة البراهمة وليس لهم أجر وثواب بغير ذلك(59) . وليس لهم أن يقتنوا مالاً أو يدخروا كنزاً فإن ذلك يؤذي البراهمة(60) ، وإذا مد أحد من المنبوذين إل برهمي يداً أو عصاً ليبطش به قطعت يده ، وإذا رفسه في غضب فدعت رجله(61) ، وإذا هم أحد من المنبوذين أن يجالس برهمياً فعلى الملك أن يكوي إسته وينفيه من البلاد(62) ، وأما إذا مسه بيد أو سبه فيقتلع لسانه ، وإذا ادعى أنه يعلمه سقي زيتاً فائراً(63) ، وكفارة قتل الكلب والقطة والضفدعة والوزغ والغراب والبومة ورجل من الطبقة المنبوذة سواء(64) " .

 

مركز المرأة في المجتمع الهندي :    

وقد نزلت النساء في هذا المجتمع منزلة الإماء(65) ، وكان الرجل قد يخسر امرأته في القمار ، وكان في بعض الأحيان للمرأة عدة أزواج(66) فإذا مات زوجها صارت كالموءودة لا تتزوج ، وتكون هدف الإهانات والتجريح ، وكانت أمة بيت زوجها المتوفى وخادم الأحماء وقد تحرق نفسها على إثر وفاة زوجها تفادياً من عذاب الحياة وشقاء الدنيا . وهكذا صارت هذه البلاد المخصبة أرضاً وعقولاً ، وهذه الأمة- التي وصفها بعض مؤرخي العرب بكونها معدن الحكمة وينبوع العدل والسياسة وأهل الأحلام الراجحة والآراء الفاضلة(67) لبعد عهدها عن الدين الصحيح وضياع مصادره وتحريف رجال الدين وإمعان الناس في القياس والتخمين واتباع هوى النفوس ونزعات الشهوات .. أصبحت هذه البلاد مسرحاً للجهل الفاضح والوثنية الوضيعة والقسوة الهمجية والجور الاجتماعي الذي ليس له مثيل في الأمم ولا نظير في التاريخ.

 

العرب : خصائصهم ومواهبهم :   

أما العرب فقد امتازوا بين أمم العالم وشعوبه في العصر الجاهلي بأخلاق ومواهب تفردوا بها أو فازوا فيها بالقِدْح المعلَّى ، كالفصاحة وقوة البيان وحب الحرية والأنفة والفروسية والشجاعة والحماسة في سبيل العقيدة والصراحة في القول وجودة الحفظ وقوة الذاكرة وحب المساواة وقوة الإرادة والوفاء والأمانة .

ولكن ابتلوا في العصر الأخير- لبعد عهدهم من النبوة والأنبياء وانحصارهم في شبه جزيرتهم وشدة تمسكهم بدين الآباء وتقاليد أمتهم بانحطاط ديني شديد ووثنية سخيفة قلما يوجد لها نظير في الأمم المعاصرة ، وأدواء خلقية واجتماعية جعلت منهم أمة منحطة الأخلاق فاسدة المجتمع متضعضعة الكيان حاوية لأسوأ خصائص الحياة الجاهلية وبعيدة عن محاسن الأديان .

 

وثنية الجاهلية :   

كان الشرك هو دين العرب العام والعقيدة السائدة ، كانوا يعتقدون في الله أنه إله أعظم خالق الأكوان ومدبر السماوات والأرض ، بيده ملكوت كل شيء فلئن سئلوا : من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ،{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } ولكن ما كانت حوصلة فكرهم الجاهلي تسع توحيد الأنبياء في خلوصه وصفائه وسموه ، وما كانت أذهانهم البعيدة العهد بالرسالة والنبوة والمفاهيم الدينية تسيغ أن دعاء أحد من البشر يتطرق إلى السموات العلى ويحظي عند الله بالقبول مباشرة بغير واسطة وشفاعة ، قياساً على هذا العالم القاصر وعاداته وأوضاع الملوكية الفاسدة ومجاري الأمور فيها ، فبحثوا لهم عن وسطاء توسلوا بهم إلى الله وأشركوهم في الدعاء ، وقاموا نحوهم ببعض العبادات ورسخت في أذهانهم فكرة الشفاعة حتى تحولت إلى عقيدة قدرة الشفعاء على النفع والضرر . ثم ترقوا في الشرك فاتخذوا من دون الله آلهة ، واعتقدوا أن لهم مماثلة ومشاركة في تدبير الكون ، وقدرة ذاتية على النفع والضرر والخير والشر والإعطاء والمنع ، فإذا كانوا الأولون يعترفون لله بالألوهية والربوبية الكبرى ، ويكتفون بالشفعاء والأولياء كان الآخرون يشركون آلهتهم مع الله ويعتقدون فيهم قدرة ذاتية على الخير والشر والنفع والضر والإيجاد والإفناء مع معنى غير واضح عن الله كإله أعظم ورب الأرباب(68) .

 

أصنام العرب في الجاهلية :       

ولم يزل هذا الفريق الثاني يقوى أمره ويستفحل مع إمعان القوم في الجاهلية وقرب هذه النزعة الوثنية إلى الحواس والمحسوسات واتفاقه مع ضعف التفكير حتى أصبحت هذه العقيدة السائدة وأصبح الذين يميزون بين الآلهة والوسطاء شواذ في الأمة ، ومن رجال الطبقة المثقفة ، وهكذا انغمست الأمة في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها ، فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص ، بل كان لكل بيت صنم خصوصي : قال الكلبي : كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه ، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به ، وإذا قدم من سفر كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضاً(69) . واستهترت العرب في عبادة الأصنام ، فمنهم من اتخذ بيتاً ، ومنهم من اتخذ صنماً ، ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجراً أمام الحرم ، وأمام غيره ، مما استحسن ، ثم طاف به كطوافه بالبيت وسموها الأنصاب(70) . وكان في جوف الكعبة- البيت الذي بني لعبادة الله وحده- وفي فنائها ثلاث مائة وستون صنماً(71) ، وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة جنس الحجارة .

روى البخاري ن أبي رجاء العطاردي قال : كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجراً هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر ، فإذا لم نجد حجراً ، جمعنا حثوة من تراب ، ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به(72) .

وقال الكلبي : كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار ، فنظر إلى أحسنها فاتخذه رباً ، وجعل ثلاث أثافي لقدره ، وإذا ارتحل تركه(73) .

الآلهة عند العرب :

وكان للعرب- شأن كل أمة مشركة في كل زمان ومكان- آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب ، فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ، فيتخذونهم شفعاء لهم عند الله ويعبدونهم ويتوسلون بهم عند الله ، واتخذوا كذلك من الجن شركاء لله وآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم(74) .

قال الكلبي : كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن (75).

وقال صاعد : كانت حِمْيَر تعبد الشمس ، وكنانة القمر ، وتميم الدبران ، ولخم وجذام المشتري ، وطيء سهيلاً ، وقيس الشِّعري العبور ، وأسد عطارداً(76) .

 

اليهودية والنصرانية في بلاد العرب :  

وانتشرت اليهودية والنصرانية في بلاد العرب ، ولم تستفد منها العرب كثيراً من المعاني الدينية ، وكانتا نسختين من اليهودية في الشام ، والنصرانية في بلاد الروم والشام قد طرأ عليها من التحريف والزيغ والوهن ما شرحناه من قبل .

 

الرسالة والإيمان بالبعث :   

أما الرسالة فقد تصور العرب للنبي صورة خيالية ، وتمثلوه في ذات قدسية ، لا يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا يلد ولا يمشي في الأسواق . وكانت عقولهم الضيقة لا تهضم أن هنالك بعثاً بعد الموت ، وحياة بعد هذه الحياة ، فيها الحساب ، والثواب والعقاب ، قالوا : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}  وقالوا : { أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً }

قال صاعد : كان جمهورهم ينكر ذلك "الميعاد" لا يصدق بالمعاد ولا يقول بالجزاء ، ويرى أن العالم لا يخرب ولا يبيد ، وإن كان مخلوقاً مبتدعاً ، وكان فيهم من يقر بالمعاد ، ويعتقد إن نحرت ناقته على قبره يحشر راكباً ، ومن لم يفعل ذلك يحشر ماشياً (77).

 

الأدواء الخلقية والاجتماعية :

أما من جهة الأخلاق ، فكانت فيهم أدواء وأمراض متأصلة ، وأسبابها فاشية ، فكان شرب الخمر واسع الشيوع شديد الرسوخ فيهم تتحدث عن معاقرتها والاجتماع على شربها الشعراء ، وشغلت جانباً كبيراً من شعرهم وتاريخهم وأدبهم ، وكثرت أسمائها وصفاتها في لغتهم ، وكثر فيها التدقيق والتفصيل كثرة تدعو إلى العجب(78) ، وكانت حوانيت الخمارين مفتوحة دائماً ، يرفرف عليها علم يسمى غاية .

قال لبيد(79) :

قد بتُّ سامرها وغاية تاجر ***  وافيت إذا رفعت وعز مُدامها

وكان من شيوع تجارة الخمر أن أصبحت كلمة التجارة مرادفاً لبيع الخمر ، كما قال لبيد : وغاية تاجر ، وقال عمرو ابن قميئة (80):

إذا سحب الريط والمروط إلى *** أدنى تجاري وأنقص اللمما

وكان القمار من مفاخر الحياة الجاهلية . قال الجاهلي(81) :

أعيرتنا ألبانها ولحومها *** وذلك عار يا بن ريطة ظاهر

نحابي بها أكفاءنا ونهينها *** ونشرب في أثمانها ونقامر

وكان عدم المشاركة في مجالس القمار عاراً ، يقول الشاعر(82) :

وإذا هلكتُ فلا تريدي عاجزاً *** غساً ولا برماً ولا معزالا

قال قتادة : كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله فيقعد حزيناً سلبياً ينظر إلى ماله في يد غيره ، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضاً(83) .

وكان أهل الحجاز ، العرب واليهود ، يتعاطون الربا ، وكان فاشياً فيهم ، وكانوا يجحفون فيه ويبلغون إلى حد الغلو والقسوة ، وقال الطبري : كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السنين ، يكن للرجل فضل دين فيأتيه إذا حلّ الأجل فيقول له : تقضيني أو تزيدني ؟ فإن كان عنده شيء يقضيه قضى وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك ، إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية ، ثم حُقَّة ثم جَذَعة ثم رباعياً هكذا إلى فوق ، وفي العين يأتيه ، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل وإن لم يكن عنده أضعفه أيضاً فتكون مائة فيجعلها إلى القابل مائتين ، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة يضعفها له كل سنة أو يقضيه(84) .

وقد رسخ الربا فيهم وجرى منهم مجرى الأمور الطبيعية التي صاروا لا يفرقون بينه وبين التجارة الطبيعية وقالوا إنما البيع مثل الربا ، وقال الطبري إن الذين كانوا يأكلون الربا من أهل الجاهلية كان إذا حل مال أحدهم على غريمة يقول الغريم لغريم الحق : " زدني في الأجل وأزيدك في مالك " فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك : هذا ربا لا يحل ، فإذا قيل لهما ذلك قالا : سواء علينا زدنا في أول البيع أو عند محل المال(85) .

ولم يكن الزنى نادراً وكان غير مستنكر استنكاراً شديداً ، فكان من العادات أن يتخذ الرجل خليلات ويتخذ النساء أخلاء بدون عقد ، وكانوا قد يُكرهون بعض النساء على الزنى ، قال ابن عباس : كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنى يأخذون أجورهن(86) .

قالت عائشة : " إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء ، فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته فيصدقها ثم ينكحها ، والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب ، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجاة الولد ، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع ، ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة ، كلهم يصيبها ، فإذا حملت ووضعت ومرَّ عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطيع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان ، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع ممن جاءها ، وهن البغايا  كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما ، فمن ارادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك(87) .

 

المرأة في المجتمع الجاهلي :

وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف ، وتؤكل حقوقها وتُبْتز أموالها وتُحرم إرثها وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه(88) وتورث كما يورث المتاع أو الدابة(89) ، عن ابن عباس قال : (( كان الرجل إذا مات أبوه أو حميّه فهو أحق بامرأته ، إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى تفتدي بصداقها أو تموت فيذهب بمالها )) وقال عطاء بن أبي رباح: إن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل فترك امرأة حبسها أهله على الصبي يكون فيهم وقال السُدّي : إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه فإذا مات وترك امرأته فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه أو يُنكحها فيأخذ مهرها ، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهي أحق بنفسها(90) وكانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل ، فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها ، يؤخذ مما تؤتي من مهر وتمسك ضراراً للاعتداء(91) ، وتلاقي من بعلها نشوزاً أو إعراضاً وتترك في بعض الأحيان كالمعلقة(92) ومن المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث(93) ، وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من النساء من غير تحديد(94) .

وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد . ذكر الهيثم بن عدي – على ما حكاه عنه الميداني- أن الوأد كان مستعملا في قبائل العرب قاطبة ، فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة ، فجاء الإسلام ، وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن ، ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء أو شيماء (سوداء) أو برشاء (برصاء) أو كسحاء (عرجاء) تشاؤماً منهم بهذه الصفات ، ومنهم من كان يقتل أولاده خشية الإنفاق وخوف الفقر ، وهم الفقراء من بعض قبائل العرب فكان يشتريهم من بعض سراة العرب وأشرافهم(95) . قال صعصعة بن ناجية : جاء الإسلام وفديت ثلاثمائة موءودة(96) ومنهم من كان ينذر- إذا بلغ بنوه عشرة – نحر واحد منهم كما فعل عبدالمطلب ، ومنهم من يقول : الملائكة بنات- الله سبحانه عما يقولون- فألحقوا البنات به تعالى فهو عز وجل أحق بهن(97) .

وكانوا يقتلون البنات ويئدونهن بقسوة نادرة في بعض الأحيان ، فقد يتأخر وأد الموءودة لسفر الوالد وشغله فلا يئدها إلا وقد كبرت وصارت تعقل ، وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات ، وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق(98) .

 

العصبية القبلية والدموية في العرب :

وكانت العصبية القبلية والدموية شديدة جامحة ، وكان أساسها جاهلياً تمثله الجملة المأثورة عن العرب : ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )) فكانوا يتناصرون ظالمين أو مظلومين .

وكانت في المجتمع العربي طبقات وبيوت ترى لنفسها فضلاً على غيرها ، وامتيازاً ، فتترفع على الناس ولا تشاركهم في عادات كثيرة حتى في بعض مناسك الحج ، فلا تقف بعرفات وتتقدم على الناس في الإفاضة والإجازة (99)، وتنسأ الأشهر الحرم ، وكان النفوذ والمناصب العليا والنسيء متوارثاً ، يتوارثه الأبناء عن الآباء ، وكانت طبقات مسخرة وطبقات سُوقة وعوام ، فكان التفاوت الطبقي من مسلمات المجتمع العربي .

وكان الحرب والغزو مما طبعت عليه طبيعتهم العربية ، وألهمتهم إياه معيشتهم البدوية ، حتى صارت الحرب مسلاة لهم وملهى فقال قائلهم (100):

وأحياناً على بكر أخينا ***  إذا ما لم نجد إلا أخانا

هانت عليهم الحرب وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات خطر ، فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل ومكثت أربعين سنة أريقت فيها دماء غزيرة ، وما ذاك إلا لأن كليباً- رئيس معدّ- رمى ضلع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها وقتل جساس بن مرة كليباً ،واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب ، وكان كما قال المهلهل أخو كليب: ((قد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد دموع لا ترقأ وأجساد لا تدفن(101) ))

كذلك حرب داحس والغبراء فما كان سببها إلا أن داحساً فرس قيس بن زهير كان سابقاً في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة فلطم وجهه وشغله ففاتته الخيل ، وتلا ذلك قتل ثم أخذ بالثأر ونصر القبائل لأبنائها ، وأسر ونزح للقبائل ، وقتل في ذلك ألوف من الناس(102) .

وكانت الحياة كلها شبكة محبوكة من تراث وثارات وفشت حبائلها في القبائل وأوصى بها الآباء والأبناء ، وحملت العيشة البدوية وقلة أسباب الحياة ، والطمع والجشع ، والأحقاد والاستهانة بحياة الإنسان على الفتك والسلب والنهب ، حتى كانت أرض الجزيرة كِفة حابل لا يدري الإنسان متى يغتال وأين ينهب . وكان الناس يُتخطفون من بين عشيرتهم في القوافل ، حتى احتاجت الدول القوية إلى الخفارة الساهرة ، والبذرقة القوية(103) ، فكانت عير كسرى تبذرق من المدائن حتى تدفع إلى النعمان بن المنذر بالحيرة ، والنعمان يبذرقها بخفراء من بني ربيعة حتى تدفع إلى بني هوذة بن علي الحنفي باليمامة فيبذرقها حتى تخرج من أرض بني حنيفة ثم تدفع إلى تميم وتجعل لهم جعالة فتسير بها إلى أن تبلغ اليمن وتسلم إلى عمال كسرى باليمن(104).

 

ظهر الفساد في البر والبحر :

وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج ، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة ، ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة ، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة ، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء .

 

لمعات في الظلام :         

وكان النور الضعيف الذي يتراءى في هذا الظلام المطبق من بعض الأديرة والكنائس أشبه بالحباحب الذي يضيء في ليلة شديدة الظلام فلا يخترق الظلام ، ولا ينير السبيل ، وكان الذي يخرج في ارتياد العلم الصحيح ، وانتجاع الدين الحق يهيم على وجهه في البلاد ، ترفعه أرض وتخفضه أخرى ، حتى يأوي إلى رجال شواذ في الأمم والبلاد ، فيلجأ إليهم كما يلجأ الغريق إلى ألواح سفينة مكسرة ، هشمها الطوفان ، يدل على ندرتهم خبر سلمان الفارسي أكبر الرواد الدينيين في القرن السادس الذي شرق وغرب في الفحص عنهم ، ولم يزل يتنقل  من الشام إلى الموصل ، ومن الموصل إلى نُصيبين ، ومن نصيبين إلى عمورية ، ويوصي به بعضهم إلى بعض ، حتى أتى على آخرهم فلم يجد لهم خامساً ، وأدركه الإسلام في هذا الظلام ، قال سلمان :

(( لما قدمت الشام ، قلت : من أفضل أهل هذا الدين ؟ قالوا : الأسقف في الكنيسة ! قال فجئته ، فقلت : إني قد رغبت في هذا الدين ، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك ، قال : فادخل ، فدخلت معه ، قال فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا إليه منها أشياء اكتنزه لنفسه ، ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورِق، قال : وأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع ، ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ، فقلت لهم : إن هذا كان رجل سوء ، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ، ولم يعط المساكين منها شيئاً ، قالوا : وما علمك بذلك ؟ قال قلت : أنا أدلكم على كنزه ، قالوا : فدلنا عليه ، قال فأريتهم موضعه ، قال : فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً ، قال : فلما رأوها ، قالوا : والله لا ندفنه أبداً ، فصلبوه ثم رجموه بالحجارة ، ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه ، قال : يقول سلمان: فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه وأزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه ، قال : فأحببته حباً لم أحبه من قبل وأقمت معه زماناً ، ثم حضرته الوفاة ، فقلت له يا فلان : إني كنت معك وأحببتك حباً م أُحبه من قبلك ، وقد حضرك ما ترى من أمر الله ، فإلى من توصى بي ، وما تأمرني ؟ قال : يا بني والله ما اعلم أحداً اليوم على ما كنت عليه ، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل وهو فلان ، فهو على ما كنت عليه فالحق به ، قال : فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل ، فقلت له : يا فلان إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك ، وأخبرني أنك على أمره . قال : فقال لي : أقم عندي ، فأقمت عنده ، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه ، فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة ، قلت له : يا فلان ، إن فلاناً أوصى بي أليك وأمرني باللحوق بك ، وقد حضرك من الله عز وجل ما ترى ، فإلى من توصى بي وما تأمرني ؟ قال : يا بني والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به ، فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فجئته فأخبرته بخبري وما أمرني به صاحبي ، قال فأقم عندي فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه ، فأقمت مع خير رجل ، فو الله ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حضر قلت له : يا فلان إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصى بي وما تأمرني ؟ قال : أي بني والله ما نعلم أحداً بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية فإنه بمثل ما نحن عليه ، فإن أحببت فأته ، قال : فإنه على أمرنا ، قال فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية ، وأخبرته خبري ، فقال : أقم عندي ، فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم . قال : واكتسبت كان لي بقرات وغنيمة ، قال : ثم نزل به أمر الله ، فلما حُضِر قلت له : يا فلان ، إني كنت مع فلان ، فأوصى بي فلان إلى فلان ، وأوصى بي فلان إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصى بي وما تأمرني ؟ قال : أي بني ، والله ما أعلم أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ، ولكنه قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى ، يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل )) الخ (105) .

**************************
الفصل الثاني

 

النظام السياسي والمالي في العصر الجاهلي

 

 الملكية المطلقة : 

       كان العصر الجاهلي مسرحاً للحكم الجائر المستبد ، فقد كانت السياسة في هذا العصر ملكية مطلقة ، قد تقوم على تقديس البيوتات الخاصة ، كما كان في فارس ، فقد كان آل ساسان يعتقدون أن حقهم في الملك مستمد من الله ، وقد عملوا كل ما في استطاعتهم للتأثير في رعاياهم حتى أذعنوا لهذا الحق الملكي المقدس وصارت لهم عقيدة يدينون بها ، وقد تقوم على تقديس الملوك مطلقاً ، فكان الصينيون يسمون ملكهم الإمبراطور ابن السماء ، ويعتقدون أن السماء ذكر ، والأرض أنثى ، وقد ولد الكائنات ، وكان الإمبراطور ختا الأول هو بكر هذين الزوجين(106) ، وكان الإمبراطور يعتبر كالأب الوحيد للأمة ، له أن يفعل ما يشاء ، وكانوا يقولون له : " أنت أبو الأمة وأمها " ولما مات الإمبراطور "لي يان" أو "تاي تسونغ" لبست الصين ثوب الحداد ، وحزنت الأمة حزناً شديداً ، فمنها من أثخن وجهه بالإبر ، ومن قطع شعره ، ومن ضرب أذنيه بجانب النعش . وقد تقوم على تقديس بعض الشعوب والأوطان كما كان في المملكة الرومية ، فكان المبدأ الأساسي هو تقديس الوطن الرومي ، والشعب الرومي . ولم تكن الأمم والبلاد إلا خادمة لمصلحتها وعروقاً يجري منها الدم إلى مركزها ، فكانت الدولة تستهين في ذلك بكل حق ومبدأ ، وتدوس كل شرف وكرامة ، وتستحل كل ظلم وشنيعة ، ولا يمنع بلاداً من هذا الحيف والظلم اشتراك في دين وعقيدة ولا إخلاص ووفاء للملكة ، ولا يعترف لها في زمن من الأزمان بحق حكمها نفسها بنفسها والتمتع بحقوقها في أرضها إنما هي ناقة ركوب في بعض الأحيان ، حلوب في بعضها ، لا يقدم لها العلف إلا ما يقيم صلبها ويدر ضرعها .

يقول (Robert Briffault ) عن الدولة الرومية :

(( لم يكن سبب انقراض الدولة الرومية وسقوطها الأساسي الفساد الزائد (كالرشوة وغيرها) بل كان الفساد والشر وعدم المطابقة بالواقع مما صحب نشوء هذه الدولة من أول يومها وتغلغل في أحشائها . إن كل مؤسسة بشرية تقوم على أساس زائف منها ولا تستطيع أن تنقذ نفسها بذكاء أو نشاط ، ولما كان الفساد مما قامت عليه هذه الدولة فكان لا بد أن تبيد يوماً وتنهار ، لقد رأينا أن الدولة الرومية إنما كانت وسيلة لرفاهية طبقة صغيرة على حساب الجماهير الذين كانت هذه الطبقة تستغلهم وتمتص دمائهم . لقد كانت التجارة تسير في رومة بأمانة وعدل وقد كان ذلك مما طبعت عليه هذه الدولة ، وقد كانت فائقة في قوة الحكم والقضاء ، وفي الكفاءة ، ولكن هذه المحاسن كلها لم تكن لتحفظ الدولة من عواقب الزيف الأساسي والخطأ (107))) .

 

الحكم الروماني في مصر والشام :  

يقول الدكتور الفرد. ج. بتلر عن الحكم الروماني في مصر :

(( إن حكومة مصر (الرومية) لم يكن لها إلا غرض واحد ، وهو أن تبتز الأموال من الرعية لتكون غنيمة للحاكمين ، ولم يساورها أن تجعل قصد الحكم توفير الرفاهية للرعية أو ترقية حال الناس والعلو بهم في الحياة أو تهذيب نفوسهم أو إصلاح أمور أرزاقهم ، فكان الحكم على ذلك حكم الغرباء لا يعتمد إلا على القوة ولا يحس بشيء من العطف على الشعب المحكوم(108) )).

ويقول مؤرخ عربي شامي عن الحكم الروماني في الشام :

(( كانت معاملة الروماني للشاميين بادئ ذي بدء عادلة حسنة مع ما كانت عليه مملكتهم في داخليتها من المشاغب والمتاعب . ولما شاخت دولتهم انقلبت إلى أتعس ما كانت عليه من الرق والعبودية ، ولم تضف رُومية بلاد الشام مباشرة ولم يصبح سكانها وطنيين رومانيين ، ولا أرضهم أرضاً رومانية ، بل ظلوا غرباء ورعايا ، وكثيراً ما كانوا يبيعون أبنائهم ليوفوا ما عليهم من الأموال ، وقد كثرت المظالم والسخرات والرقيق ، وبهذه الأيدي عمر الرومان ما عمروا من المعاهد والمصانع في الشام(109) )) .

(( حكم الرومان الشام سبعمائة سنة بدأ معهم في البلاد النزاع والشقاق والاستبداد والأنانية وقتل الأنفس ، وحكم اليونان الشام 369 سنة سادت في عهدهم الحروب الطاحنة والمظالم وظهرت المطامع اليونانية بأعظم مظاهرها وكان حكمهم من أشد الويلات وأشأم النكبات على الأمة الشامية(110) )) .

وبالاختصار كانت الولايات الرومية والفارسية غير مرتاحة في حكم الأجانب ، وكانت الأحوال السياسية والاقتصادية مضطربة حتى في مراكز الدولة وعواصمها .

 

نظام الجباية والخراج في إيران :      

ولم يكن النظام المالي والسياسة المالية في إيران عادلة مستقرة بل كانت جائرة مضطربة في كثير من الأحوال ، تابعة لأخلاق الجباة العاملين وأهوائهم والأحوال السياسية والحربية .

يقول مؤلف (( إيران في عهد الساسانيين )) :

(( كان الجباة لا يتحرزون من الخيانة واغتصاب الأموال في تقدير الضرائب وجباية الأموال ، ولما كانت الضرائب تختلف كل سنة وتزيد وتنقص لم يكن دخل الدولة وخرجها مقدرين مضبوطين ، وقد كانت الحرب تنشب في بعض الأحيان وليست عند الدولة أموال تنفقها على الحرب ، فكان يلجئها ذلك إلى ضرائب جديدة ، وكانت المقاطعات الغربية الغنية- وخاصة بابل- هدف هذه الضرائب دائماً (111))) .

 

كنوز الملوك ومدخراتهم : 

ولم يكن ما ينفق على أهل البلاد في إيران من مالية الدولة شيئاً كثيراً . وقد اعتاد ملوك إيران من القديم أن يكتنزوا النقود ويدخروا الطرف والأشياء الغالية(112) ، ولما نقل خسرو الثاني في المدائن أمواله إلى بناية أحدثها سنة 607- 608م وكان ما نقله 460 مليون وثمانية ملايين مثقال ذهب وذلك ما يساوي 370 مليون وخمسة ملايين فرنك ذهبي ، وفي العام الثالث عشر من جلوسه على العرش كان في خزانته 800 مليون مثقال ذهب(113) .

 

الفصل الشاسع بين طبقات المجتمع :

كان الغنى لأفراد معدودين والفقر لمعظم الأهلين ، يقول مؤلف " إيران في عهد الساسانيين " عن أخصب عهد من عهود إيران وعن أعدل ملك من ملوكها وهو كسرى أنوشروان :

(( إن ما قام به كسرى من إصلاح النظام المالي كان في مصلحة مالية المملكة أكبر منه في مصلحة الرعية ، فلم تزل العامة يعيشون في الجهل والضنك كما كانوا في السابق وما شاهد الفلاسفة البيزنطيون من فوارق نسبية بين طبقات المجتمع والفصل الشاسع بينها والبؤس الذي كان يعش فيه رجال الطبقات المنحطة أقلق خاطرهم وانتقدوا المجتمع الفارسي بقولهم : إن الأقوياء فيه يقهرون الضعفاء ويعاملونهم بظلم وبقسوة شديدة(114) )).

وكانت المناصب وقفاً على بعض البيوتات والسلائل ذات الثروة والجاه والنفوذ عند الحكام .

ويقول (Robert Briffault  ) عن النظام الطبقي في الدولة الرومية :

(( مما جرت العادة أنه إذا أصيبت مؤسسة اجتماعية بالزوال والانحطاط لا يرى القائمون عليها حيلة إلا أن يمنعوها من الحركة والتطور ، لذلك كان المجتمع الرومي (في عهد الانحطاط) خاضعاً لنظام طبقي جائر يرزح تحته ، وما كان لأحد في هذا المجتمع أن يغير حرفته ، وكان لا بد للابن أن يتخذ حرفة أبيه(115) )).

 

 

الفلاحون في إيران :

أثقلت الضرائب المتنوعة المتجددة كاهل الجمهور حتى ترك كثير من المزارعين أعمالهم أو دخلوا الأديرة فراراً من الضرائب والخدمة العسكرية لأمة لا يحبونها أو لغرض لا يتحمسون له وفشت في الناس البطالة والجنايات وطرق غير شرعية للكسب .

يصر قول مؤلف " إيران في عهد الساسانيين " :

(( كان الفلاحون في شقاء وبؤس عظيم وكانوا مرتبطين بأراضيهم ، وكانوا يُستخدمون مجاناً ويكلفون كل عمل ، يقول المؤرخ " اميان مارسيلينوس " إن هؤلاء الفلاحين البؤساء كانوا يسيرون خلف الجيوش مشاة كأنه قد كتب عليهم الرق الدائم ، ولم يكونوا ينالون إعانة أو تشجيعاً من راتب أو أجرة(116) وكانت علاقة الفلاحين بالملاك أصحاب الأراضي كعلاقة العبيد بالسادة(117) )).

 

الاضطهاد والاستبداد :

واضطهد اليوم في الشام والعراق واليعقوبيون في مصر اضطهاداً كبيراً واستبد الحكام استبداداً شديداً وعاثوا في البلاد والدماء والأموال والأعراض . وتصامَّ أهل الحل والعقد عن شكواهم حتى صار الناس يعدون هذه الأوضاع الفاسدة ضربة لازب وقضاء محتوماً ، وصاروا في بعض الأيام يفضلون الموت على الحياة .

 

المدنية المصطنعة والحياة المترفة :     

استحوذت على الناس في الدولتين- الفارسية والرومية- حياة الترف والبذخ وطغى عليهم بحر المدينة المصطنعة والحياة المزورة وغرقوا فيه إلى أذقانهم . فكان ملوك فارس والروم وأمراء الدولتين سادرين في غفلتهم لا هم لهم إلا اللذة والتهام الحياة ، وبذخوا بذخاً عظيماً تخطى القياس ، ودققوا في مرافق المعيشة وفضول المدنية وحواشي الحياة تدقيقاً عظيماً جداً ، فكان لكسرى أبرويز 12 ألف امرأة وخمسون ألف جواد وشيء لا يحصى من أدوات الترف والقصور الباذخة  ومظاهر الثروة والنعمة ، وقصره مثال في الأبهة والغنى(118) ، يقول مكاريوس :

(( لم يرو في التاريخ أن مليكاً بذخ وتنعم مثل الأكاسرة الذين كانت تأتيهم الهدايا والجرايات من كل البلدان الواقعة ما بين الشرق الأقصى والشرق الأدنى(119) ولما خرجوا من العراق في الفتح الإسلامي تركوا في الخزائن من الثياب والمتاع والآنية والفضول والألطاف والأدهان ما لا يدرى ما قيمته )).

وقد وجد العرب قبابا تركية مملوءة سلالاً مختمة بالرصاص ، قال العرب : فما حسبناها إلا طعاماً فإذا هي آنية الذهب والفضة(120) )).

ووصف المؤرخون العرب بهار كسرى الذي أصابه المسلمون يوم المدائن فقالوا :

(( هو ستون ذراعاً في ستين ذراعاً ، بساط واحد مقدار جريب ، أرضه بذهب ووشيه بفصوص وثمره بجوهر وورقه بحرير وماء الذهب فيه طرق كالصور وفصوص كالأنهار ، وخلال ذلك كالدير ، وفي حافاته كالأرض المزروعة ، والأرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب ، ونواره بالذهب والفضة وأشباه ذلك ، وكانوا يعدونه للشتاء ، إذا ذهبت الرياحين ، فكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه فكأنهم في رياض(121) )) ، وهذا يدل على ما وصل إليه البذخ والترفه في المدنية الفارسية .

كذلك كان الشام في الدولة الرومية وحواضرها ، وكانت الدولتان والمدنيتان – الفارسية والرومية .. كفرسي رهان في البذخ والترفه في دقائق المدنية ، وقد بذخ الأباطرة ونوابهم وأمراؤهم في الشام بذخاً عظيماً وحوى بلاطهم وقصورهم ومجالس شربهم ولهوهم من آلات الترف وأسباب الرفاهية شيئاً كثيراً ، وبلغت من الترف والأناقة شأوا بعيداً ، وقد وصف حسان بن ثابت الشاعر المخضرم مجلس جبلة بن الأيهم الغساني فقال : لقد رأيت عشر قيان خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط وخمس يغنين غناء أهل الحيرة أهداهن إليه إياس بن قبيصة وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها ، وكان إذا جلس للشراب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين وضرب له العنبر والمسك في صحاف الفضة والذهب وأتى بالمسك الصحيح في صحاف الفضة وأوقد له العود المندَّي إن كان شاتياً ، وإن صائفاً بطن بالثلج وأتي هو وأصحابه بكسى صيفية يتفضل هو وأصحابه بها في الصيف ، وفي الشتاء الفراء الفنك وما أشبهه(122) .

وكان الأمراء والأقيال والأغنياء ورجال البيوتات الشريفة وأفراد الطبقة الوسطى على آثار الملوك يحاولون أن يقلدوهم في لباسهم وطعامهم ومجالسهم وترفهم وكانوا يأخذون أنفسهم بعاداتهم ومناهج حياتهم ، وارتفع مستوى الحياة ارتفاعاً عظيماً وتعقدت المدنية تعقداً عظيماً ، وصار الواحد ينفق على نفسه وعلى جزء من لباسه ما يشبع قرية أو يكسو قبيلة ، وكان لابد منه لكل شريف أو وجيه ، حتى إذا أخل به وأغفله أشير إليه بالبنان وتفادته العيون ، حتى صار ذلك واجباً من وجبات الحياة وشريعة من شرائع المجتمع التي لا يحل العدول عنها . عن الشعبي قال : كان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم في عشائرهم ، فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف ، وكان هرمز ممن تم شرفه فكانت قيمتها مائة ألف وكانت مفصصة بالجوهر(123) ، وتمام شرف أحدهم أن يكون من بيوتات السبعة ومن الأزادية كان مرزبان الحيرة أزمان كسرى ، وكان قد بلغ نصف الشرف ، وكانت قيمة قلنسوته خمسين ألفاً (124) وبيع ما على رستم بسبعين ألفاً وكانت قيمة قلنسوته مائة ألف(125) .

درج الناس على هذه المدنية المترفة وعاداتها الفاسدة ورضعوا بلبانها ونشأوا عليها حتى أصبحت لهم الطبيعة الثانية ، وعز عليهم الفصال وشق عليهم أن يتنازلوا إلى الحياة الطبعية البسيطة حتى في ساعة عصيبة وفي فاقة واضطرار ، ذكروا أن يزدجرد آخر ملوك فارس لما فر من المدائن أخذ معه ألف طاه وألف مغن وألف قيم للنمور وألف قيم للبزاة وآخرين وكان يستقل هذا العدد(126) ، واستسقى الهرمزان ملك الأهواز أمام عمر فأتى به في قدح غليظ ، فقال : لو مت عطشاً لم أستطع أن أشرب في مثل هذا . فأتي به في إناء يرضاه (127).

 

الزيادة الباهظة في الضرائب :             

كانت نتيجة هذا البذخ والترف الطبيعية الزيادة الباهظة في الضرائب وسن القوانين الجديدة لابتزاز الأموال من طبقات الفلاحين والصناع والتجار وأهل الحرف حتى وصلت إلى حد الإرهاق وأثقلت كاهل الأهلين وانقضت ظهرهم .

يقول مؤلف " إيران في عهد الساسانيين " :

وقد جرت عادة ملوك إيران بقبول الهدايا والتقديمات من الرعية وكانوا يسمون ذلك " آيين" وكان ذلك علاوة على الضرائب الرسمية ، وكانوا يأخذون من الناس الهدايا جبراً يوم نوروز والمهرجان وكانت مناجم الذهب في أرمينيا ملكاً للملك ولنفقاته الخاصة(128) )).

ويقول المؤرخ العربي الشامي :

(( كان يقضي على الشعب الشامي أن يؤدي الجزية وعشر غلاته وأتاوة من المال ورسماً على كل رأس ، وللشعب الروماني موارد مهمة من الجمارك والمناجم والضرائب والحقول الصالحة لزرع الحنطة والمراعي يؤجرونها من شركات المتعهدين يسمونهم العشارين ، يبتاعون من الحكومة حق جباية الخراج ، وفي كل ولاية عدة شركات من العشارين ، ولكل شركة مستخدمون من الكتاب والجباة يظهرون في مظهر السادة ، ويتناولون أكثر مما يجب لهم أخذه ، ويسلبون نعمة الأهلين ، وكثيراً ما يبيعونهم كما يباع الرقيق(129) )).

(( أوجز أحدهم السياسة الإمبراطورية في الرومان بقوله : (( الراعي الصالح يجز صوف غنمه ولا ينتفه )) فمضى القرنان وأباطرة الرومان يكتفون بجز سكان مملكتهم يسلبون منهم كثيراً من الأموال ولكنهم يحمونهم من العدو الخارجي(130) )) .

شقاء الجمهور :  

وهكذا أصبح أهل البلاد في كلتا المملكتين طبقتين متميزتين تمام التمييز : طبقة الملوك والأمراء ورجال البلاط الملكي وأسرهم وعشائرهم والمتصلون بهم والأغنياء ، فكانوا يعيشون بين الأزهار والرياحين ويتقلبون في أعطاف النعيم ، وينعلون أفراسهم عسجداً ، ويكسون بيوتهم حريراً وسندساً .

وطبقة الفلاحين والصناع والتجار الصغار وأهل الحرف والأشغال ، كانوا في جهد من العيش يرزخون تحت أثقال الحياة والضرائب والإتاوات ويرسفون في القيود والأغلال ويعيشون عيش البهائم ، لا حظ لهم في الحياة إلا العمل لغيرهم والشقاء لنعيمهم ولا همَّ لهم إلا الأكل والعلف ، فإذا سئموا هذا العيش المر تعللوا بالمسكرات والملهيات ، وإذا تنفسوا من هذا العناء رتعوا في المحرمات ،ورغم هذا الجهد في لمعيشة يجهدون أنفسهم في تقليد رجال الطبقة العليا في كثير من أساليب حياتهم ، فكان ذلك أشد من الجهد في سبيل الكفاف من الرزق والبلغة من العيش ، فتنغص حياتهم ، ويتكدر صفوهم ويشتغل بالهم .

 

بين غنى مطغ وفقر منس :   

وهكذا ضاعت رسالة الأنبياء ، والأخلاق الفاضلة والمبادئ السامية في العالم المتمدن المعمور بين غنى مطغ وفقر منس ، وأصبح لغني في شغل عن الدين والاهتمام بالآخرة والتفكير في الموت وما بعده بنعيمه وترفه ، وأصبح الفلاح أو العامل في شغل عن الدين كذلك لهمومه وأحزانه وتكاليف حياته ، وأصبحت الحياة ومطالبها همَّ الغني والفقير وشغلهما الشاغل ، وكانت رحى الحياة تدور حول الناس في قوة لا يرفعون فيها إلى الدين والآخرة رأساً ، ولا يتفرغون لما يتصل بالروح والقلب والمعاني السامية ساعة .

 

تصوير الجاهلية :   

وقد صور أحد كبار علماء الإسلام(131) هذه الحال فأجاد التصوير ، قال :

(( اعلم أن العجم والروم لما توارثوا الخلافة قروناً كثيرة وخاضوا في لذة الدنيا ونسوا الدار الآخرة واستحوذ عليهم الشيطان ، وتعمقوا في مرافق المعيشة وتباهوا بها ، وورد عليهم حكماء الآفاق يستنبطون لهم دقائق المعيشة ومرافقها ، فما زالوا يعملون بها ويزيد بعضهم على بعض ويتباهون بها حتى قيل إنهم كانوا يعيرون من كان يلبس من صناديدهم منطقة أو تاجاً قيمتها دون مائة ألف درهم أو لا يكون له قصر شامخ وآبزن(132) وحمام وبساتين ، ولا يكون له دواب فارهة وغلمان حسان ، ولا يكون له توسع في المطاعم وتجمل في الملابس وذكر ذلك يطول ، وما تراه من ملوك بلادك يغنيك عن حكاياتهم ، فدخل كل ذلك في أصول معاشهم ، وصار لا يخرج من قلوبهم إلا أن تمزع ، وتولد من ذلك داء عضال دخل في جميع أعضاء المدينة وآفة عظيمة ، ولم يبق منهم أحد من أسواقهم ورستاقهم وغنيهم وفقيرهم ، إلا قد استولت عليه وأخذت بتلابيبه ، وأعجزته في نفسه وأهاجت عليه غموماً وهموماً لا أرحاء لها ، وذلك أن تلك الأشياء لم تكن لتحصل إلا ببذل أموال خطيرة ، ولا تحصل تلك الأموال إلا بتضعيف الضرائب على الفلاحين والتجار وأشباههم والتضييق عليهم ، فإن امتنعوا قاتلوهم وعذبوهم ، وإن أطاعوا جعلوهم بمنزلة الحمير والبقر تستعمل في النضح والدياس والحصاد ، ولا تقتنى إلا ليستعان بها في الحاجات ، ثم لا تترك ساعة من الغناء ، حتى صاروا لا يرفعون رؤوسهم إلى السعادة الأخروية أصلاً ولا يستطيعون ذلك ، وربما كان إقليم واسع ليس فيه أحد يهمه دينه(133) )). 

      

******************************


الباب الثاني

من الجاهلية إلى الإسلام

الفصل الأول

منهج الأنبياء في الإصلاح والتغيير

 

العالم الذي واجهه محمد صلى الله عليه وسلم :

بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والعالم بناء أصيب بزلزال شديد هزه هزاً عنيفاً ، فإذ كل شيء فيه في غير محله ، فمن أساسه ومتاعه ما تكسر ، ومنه ما التوى وانعطف ، ومنه ما فارق محله اللائق به وشغل مكاناً آخر ، ومنه ما تكدس وتكوم .

نظر إلى العالم بعين الأنبياء فرأى إنساناً قد هانت عليه إنسانيته ،رآه يسجد للحجر والشجر والنهر ، وكل مالا يملك لنفسه النفع والضر .

رأى إنساناً معكوساً قد فسدت عقليته ، فلم تعد تسيغ البديهيات ، وتعقل الجليات ، وفسد نظام فكره ، فإذا النظري عنده بديهي وبالعكس ، يستريب في موضع الجزم ، ويؤمن في موضع الشك . وفسد ذوقه فصار يستحلي المر ويستطيب الخبيث ، ويستمرئ الوخيم ، وبطل حسه فأصبح لا يبغض العدو الظالم ، ولا يحب الصديق الناصح .

رأى مجتمعاً هو الصورة المصغرة للعالم ، كل شيء فيه في غير شكله أو في غير محله ، قد أصبح فيه الذئب راعياً والخصم الجائر قاضياً ، وأصبح المجرم فيه سعيداً حظيا ، والصالح محروماً شقياً لا أنكر في هذا المجتمع من المعروف ، ولا أعرف من المنكر ،ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية ، وتسوقها إلى هوة الهلاك .

رأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان ، والخلاعة والفجور إلى حد الاستهتار ، وتعاطي الربا إلى حد الاغتصاب واستلاب الأموال ورأى الطمع وشهوة المال إلى حد الجشع والنهامة ورأى القسوة والظلم إلى حد الوأد وقتل الأولاد .

رأى ملوكاً اتخذوا بلاد الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، ورأى أحباراً ورهباناً أصبحوا أرباباً من دون الله ، يأكلون أموال الناس بالباطل ، ويصدون عن سبيل الله .

رأى المواهب البشرية ضائعة أو زائغة لم ينتفع بها ولم توجه التوجيه الصحيح ، فعادت وبالا على أصحابها وعلى الإنسانية ، فقد تحولت الشجاعة فتكاً وهمجية ، والجواد تبذيراً وإسرافاً ، والأنفة حمية جاهلية ، والذكاء شطارة وخديعة ، والعقل وسيلة لابتكار الجنايات ، والإبداع في إرضاء الشهوات .

رأى أفراد البشر والهيئات البشرية كخامات لم تحظ بصانع حاذق ، ينتفع بها في هيكل الحضارة ، وكألواح الخشب لم تسعد بنجار يركب منها سفينة تشق بحر الحياة .

رأى الأمم قطعاناً من الغنم ليس لها راع ، والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه ، والسلطان كسيف في يد سكران يجرح به نفسه ، ويجرح به أولاده وإخوانه .

 

نواحي الحياة الفاسدة :      

إن كل ناحية من نواحي هذه الحياة الفاسدة تسترعي اهتمام المصلح وتشغل باله ، فلو كان رجل من عامة رجال الإصلاح لتوفر على إصلاح ناحية من نواحيها ، وظل طول عمره يعالج عيباً من عيوب المجتمع ويعانيه ، ولكن نفسية الإنسان معقدة التركيب دقيقة النسج كثيرة المنافذ والأبواب ،خفية التخلص والتنصل ، وإنها إذا زاغت أو اعوجت لا يؤثر فيها إصلاح عيب من عيوبها وتغيير عادة من عاداتها ، حتى يغير اتجاهها من الشر إلى الخير ومن الفساد إلى الصلاح ، وتقتلع جرثومة الفساد من النفس البشرية التي قد تنبت بفساد المجتمع واختلال التربية كما تنبت الحشائش الشيطانية في أرض كريمة ، وتحسم مادة الشر ويغرس فيها حب الخير والفضيلة ومخافة الله عز وجل .

وكل داء من أدواء المجتمع الإنساني وكل عيب من عيوب الجيل الحاضر يتطلب إصلاحه حياة كاملة ، ويستغرق عمر إنسان بطوله ، وقد يستغرق أعمار طائفة من المصلحين ولا يزول ، فإذا ذهب أحد يطارد الخمر في بلاد قد نشأت على حياة الترف والبذخ ودانت باللهو واللذة أعياه أمرها وحبطت جهوده ، لأن شرب الخمر ليس إلا نتيجة نفسية تعشق اللذة حتى في السم ، وتبتغي النشوة حتى في الإثم ، فلا تهجره بمجرد الدعاية والنشر والكتب الخطب وبيان مضاره الطبية ومفاسده الخلقية ، وبسن القوانين الشديدة والعقوبات الصارمة(134) لا تهجره إلا بتغيير نفس عميق ، وإذا أرغمت على تركه بغير هذا التغيير تسللت إلى غيره من أنواع الجريمة واستباحته بتغيير الأسماء والصور .

 

لم يكن الرسول رجلاً إقليمياً أو زعيماً وطنياً :            

وكان مجال العمل في بلاد العرب فسيحاً إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً إقليمياً وسار في قومه سيرة القادة السياسيين والزعماء الوطنيين ، كان له أن يعقد للأمة العربية لواء تنضم إليه قريش والقبائل العربية ، ويكوِّن إمارة عربية قوية موحدة يكون رئيسها ، ولاشك أن أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهما كانوا في مقدمة من ينضم إلى هذا اللواء القومي ، ويقاتلون تحته ويقلدونه الزعامة . أما كانوا يشهدون بصدقه وأمانته ؟ أما حكموه في أكبر حادث من حوادث حياتهم المكية ومنحوه أكبر شرف ، إذ حكموه في وضع الحجر الأسود في مكانه من البيت ؟ أما قالوا له على لسان عتبة ، وهم ما عرفوا الإغراء السياسي : (( إن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأساً ما بقيت(135) )) ، وإذا صار له ذلك كان يمكنه أن يرمي الدولة الفارسية بفرسان العرب وشجعانهم ، وينتصر للعروبة المهضومة ، وينتصر من العجم الظالمين ، ويغرز علم الفتح العربي والمجد القومي على هضاب الروم وفارس، وإذا لم يكن من حكمة السياسة أن يناجز إحدى الإمبراطوريتين في ذلك الحين، فكان يمكنه أن يغير على اليمن أو الحبشة أو جارة أخرى ويصمها إلى الإمارة العربية الوليدة.

وكانت في الحياة العربية نواح اجتماعية واقتصادية كثيرة تحتاج إلى حنكة سياسي وكفاية إداري وعزيمة عصامي وابتكار عبقري ، فلو قيض لها رجل من هؤلاء الرجال لكان للعرب شأن كبير وتاريخ جديد .

 

لم يبعث لينسخ باطلا بباطل :      

ولكنّ محمداً صلى الله عليه وسلم لم يبعث لينسخ باطلاً بباطل ويبدل عدواناً بعدوان ، ويحرم شيئاً في مكان ويحله في مكان آخر ، ويبدل أثرة أمة بأثرة أمة أخرى ، لم يبعث زعيماً وطنياً أو قائداً سياسياً ، يجر النار إلى قرصه ويصغي الإناء إلى شقه ، ويخرج الناس من حكم الفرس والرومان إلى حكم عدنان وقحطان . وإنما أرسل إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، إنما أرسل ليخرج عباد الله جميعاً من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ويخرج الناس جميعاً من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم .

فلم يكن خطابه لأمة دون أمة ووطن دون وطن ، ولكن كان خطابه للنفس البشرية وللضمير الإنساني ، وكانت أمته العربية لانحطاطها وبؤسها أحق من يبدأ به مهمته الإصلاحية وجهاده العظيم ، وكانت أم القرى والجزيرة العربية لموقعها الجغرافي واستقلالها السياسي خير مركز لرسالته ، وكانت الأمة العربية بخصائصها النفسية ومزاياها الأدبية خير محل لدعوته وخير داعية لرسالته .

 

قفل الطبيعة البشرية ومفتاحها :      

ولم يكن صلى الله عليه وسلم من عامة المصلحين الذين يأتون البيوت من ظهورها ، أو يتسللون إليها من نوافذها ، ويكافحون بعض الأدواء الاجتماعية والعيوب الخلقية فحسب ، فمنهم من يوفق لإزالة بعضها مؤقتاً في بعض نواحي البلاد ، ومنهم من يموت ولم ينجح في مهمته (136) .

أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت الدعوة والإصلاح من بابه ، ووضع على قفل الطبيعة البشرية مفتاحه ، ذلك القفل المعقد الذي أعيا فتحه جميع المصلحين في عهد الفترة ، وكل من حاول فتحه من بعده بغير مفتاحه . ودعا الناس إلى الإيمان بالله وحده ، ورفض الأوثان والعبادات والكفر بالطاغوت بكل معاني الكلمة وقام في القوم ينادي : (( يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا !)) ودعاهم إلى الإيمان برسالته ، والإيمان بالآخرة .

 

**************************************

 


الفصل الثاني

رحلة المسلم من الجاهلية إلى الإسلام

 

دفاع الجاهلية عن نفسها :

ما أخطأ المجتمع الجاهلي فهم هذه الدعوة ومراميها ، وما غُمَّ على أهله أمرها ، وأدركوا عندما قرع أسماعهم صوت النبي صلى الله عليه وسلم أن دعوته إلى الإيمان بالله وحده سهم مسدَّد إلى كبد الجاهلية ونعي لها ، فقامت قيامة الجاهلية ودافعت عن تراثها دفاعها الأخير ، وقاتلت في سبيل الاحتفاظ به قتال المستميت ، وأجلبت على الداعي صلى الله عليه وسلم بخيلها ورجلها ، وجاءت بحدها وحديدها : {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } ووجد كل ركنٍ من أركان هذه الحياة ومن أثافي الجاهلية نفسه مهدداً وحياته منذرة ، وهنا وقع ما تحدث عنه التاريخ من حوادث الاضطهاد والتعذيب ، وكان ذلك آية توفيق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أصاب الغرض ، وضرب على الوتر الحساس ، وأصاب الجاهلية في صميمها وفي مقتلها ، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته ثبوتاً دونه ثبوت الراسيات ، لا يثنيه أذى ، ولا يلويه كيد ، ولا يلتفت إلى إغراء ، ويقول لعمه : (( يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه(137))).

 

في سبيل الدين الجديد :

مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة حجة يدعو إلى الله وحده والإيمان برسالته واليوم الآخر في كل صراحة ، لا يكنى ولا يلوّح ولا يلين ، ولا يستكين ولا يحابي ولا يداهن ويرى في ذلك دواء لكل داء ، وقامت قريش وصاحوا به من كل جانب ، ورموه عن قوس واحدة ، وأضرموا البلاد عليه ناراً ليحولوا بينه وبين أبنائهم وإخوانهم فأصبح الإيمان به والانحياز له جد الجد ، لا يتقدم إليه إلا جاد مخلص هانت عليه نفسه ، وعزم على أن يقتحم لأجله النيران ، وتمشي إليه ولو على حسك السعدان ، فتقدم فتية من قريش لا يستخفهم طيش الشباب ، ولا يستهويهم مطمع من مطامع الدنيا ، إنما همهم الآخرة وبغيتهم الجنة ، سمعوا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فضاقت عليهم الحياة الجاهلية بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وقلقت بهم مضاجعهم ، فكأنهم على الحسك ، ورأوا أنهم لا يسعهم إلا الإيمان بالله ورسوله فآمنوا وتقدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في بلدهم وبين سمعهم وبصرهم فكانت رحلة طويلة شاقة لما أقامت قريش بينه وبين قومه من عقبات ، ووضعوا أيديهم في يديه ، وأسلموا أنفسهم وأرواحهم إليه ، وهم من حياتهم على خطر ، ومن البلاء والمحنة على يقين ، سمعوا القرآن بقول : { الم{1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ{2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } وسمعوا قوله تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }  فما كان من قريش إلا ما توقعوه ، وقد نثرت كنانتها ، وأطلقت عليهم كل سهم من سهامها ، فما زادهم كل هذا إلا ثقة وتجلداً ، وقالوا : { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } ولم يزدهم هذا البلاء والاضطهاد في الدين إلا متانة في عقيدتهم وحمية لدينهم ومقتاً للكفر وأهله ، وإشعالاً لعاطفتهم وتمحيصاً لنفوسهم فأصبحوا كالتبر المسبوك واللجين الصافي ، وخرجوا من كل محنة وبلاء خروج السيف بعد الجلاء .

 

التربية الدينية :      

هذا والرسول صلى الله عليه وسلم يغذِّي أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ويخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدن وخشوع قلب وخضوع جسم وحضور عقل ، فيزدادون كل يوم سمو روح ونقاء قلب ونظافة خلق وتحرراً من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات ونزوعاً إلى رب الأرض والسموات ، ويأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفس ، لقد رضعوا حب الحرب وكأنهم ولدوا مع السيف ، وهم من أمة ، من أيامها حرب بسوس وداحس والغبراء ، وما يوم الفجار ببعيد . ولكن الرسول يقهر طبيعتهم الحربية ويكبح نخوتهم العربية ، ويقول لهم : { كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ  } فانقهروا لأمره وكفوا أيديهم ، وتحملوا من قريش ما تسيل منه النفوس في غير جبن وفي غير عجز ، ولم يسجل التاريخ حادثة دافع فيها مسلم في مكة عن نفسه بالسيف مع كثرة الدواعي الطبيعية إلى ذلك وقوتها ، وذلك غاية ما روي في التاريخ من الطاعة والخضوع ، حتى إذا تعدت قريش في الطغيان وبلغ السيل الزبى أذن الله لرسوله ولأصحابه بالهجرة : وهاجروا إلى يثرب وقد سبقهم إليها الإسلام .

 

في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم :  

والتقى أهل مكة بأهل يثرب . لا يجمع بينهم إلا الدين الجديد . فكان أروع منظر لسلطان الدين شهده التاريخ . وكان الأوس والخزرج لم ينفضوا عنهم غبار حرب بعاث . ولا تزال سيوفهم تقطر دماً . فألَّف الإسلام بين قلوبهم . ولو أنفق أحد ما في الأرض جميعاً ما ألَّف بين قلوبهم . ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين المهاجرين . فكانت أخوة تزري بأخوة الأشقاء . وتبذ كل ما روي في التاريخ من خلة الأخلاء .

كانت هذه الجماعة الوليدة- المؤلفة من أهل مكة المهاجرين وأهل يثرب الأنصار- نواة للأمة الإسلامية الكبيرة التي أخرجت للناس ومادة للإسلام ، فكان ظهور هذه الجماعة في هذه الساعة العصيبة وقاية للعالم من الانحلال الذي كان يهدده . وعصمة للإنسانية من الفتن والأخطار التي أحدقت بها . لذلك قال الله تعالى لما حض على الأخوة والألفة بين المهاجرين والأنصار : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } .

 

انحلت العقدة الكبرى :  

ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يربيهم تربية دقيقة عميقة . ولم يزل القرآن يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم . ولم تزل مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تزيدهم رسوخاً في الدين وعزوفاً عن الشهوات ، وتفانياً في سبيل المرضاة ، وحنيناً إلى الجنة ، وحرصاً على العلم وفقهاً في الدين ومحاسبة للنفس . يطيعون الرسل في المنشط والمكره . وينفرون في سبيل الله خفافاً وثقالاً . قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعاً وعشرين مرة في عشر سنين . وخرجوا بأمره لقتال العدو أكثر من مائة مرة . فهان عليهم التخلي عن الدنيا وهانت عليهم رزيئة أولادهم ونسائهم في نفوسهم . ونزلت الآيات بكثير مما لم يألفوه ولم يتعودوه . وبكل ما يشق على النفس إتيانه في المال والنفس والولد والعشيرة فنشطوا وخفوا لامتثال أمرها . وانحلت العقدة الكبرى- عقدة الشرك والكفر- فانحلت العقد كلها وجاهدهم الرسول جهاده الأول فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي . وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى- فكان النصر حليفه في كل معركة ، وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة ، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى . حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم ، وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد- نزل تحريم الخمر والكئوس المتدفقة على راحاتهم ، فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة ، وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة .

حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم ، بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم . وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم . وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة وفي اليوم رجال الغد . لا تجزعهم مصيبة ولا تبطرهم نعمة ولا يشغلهم فقر ولا يطغيهم غنى ولا تلهيهم تجارة ولا تستخفهم قوة ، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً . وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين . وطَّأ لهم أكناف الأرض وأصبحوا عصمة للبشرية ووقاية للعالم وداعية إلى دين الله . واستخلفهم الرسول صلى الله عليه وسلم في عمله ولحق بالرفيق الأعلى قرير العين من أمته ورسالته .

 

 

 

أغرب انقلاب وقع في تاريخ البشر :     

لقد كان هذا الانقلاب الذي أحدثه صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغرب ما في تاريخ البشر ، وقد كان هذا الانقلاب غريباً في كل شيء : كان غريباً في سرعته وكان غريباً في عمقه وكان غريباً في سعته وشموله . وكان غريباً في وضوحه وقربه إلى الفهم . فلم يكن غامضاً ككثير من الحوادث الخارقة للعادة ، ولم يكن لغزاً من الألغاز . فلندرس هذا الانقلاب عملياً ، ولنتعرف مدى تأثيره في المجتمع الإنساني والتاريخ البشري .

 

تأثير الإيمان الصحيح في الأخلاق والميول : 

كان الناس- عرباً وعجماً- يعيشون حياة جاهلية ، يسجلون فيها لكل ما خلق لأجلهم ويخضع لإرادتهم وتصرفهم ، لا يثيب الطائع بجائزة ولا يعذب العاصي بعقوبة ولا يأمر ولا ينهى ، فكانت الديانة سطحية طافية في حياتهم ، ليس لها سلطان على أرواحهم ونفوسهم وقلوبهم ، ولا تأثير لها في أخلاقهم واجتماعهم . كانوا يؤمنون بالله كصانع أتم عمله واعتزل وتنازل عن مملكته لا ناس خلع عليهم خلعة الربوبية . فأخذوا بأيديهم أزمّة الأمر وتولوا إدارة المملكة وتدبير شئونها وتوزيع أرزاقها ، إلى غير ذلك من مصالح الحكومة المنظمة ، فكان إيمانهم بالله لا يزيد على معرفة تاريخية ، وكان إيمانهم بالله وإحالتهم خلق السموات والأرض إلى الله لا يختلف عن جواب تلميذ من تلاميذ فن التاريخ يقال له : من بنى هذا القصر العتيق ؟ فيسمى ملكاً من الملوك الأقدمين من غير أن يخافه يخضع له ، فكان دينهم عارياً عن الخشوع لله ودعائه ، وما كانوا يعرفون عن الله ما يحببه إليهم ، فكانت معرفتهم مهمة غامضة ، قاصرة مجملة ، لا تبعث في نفوسهم هيبة ولا محبة .

وهذه الفلسفة اليونانية قد عرفت بواجب الوجود في سلوب ، ليست فيها صفة مثبتة من صفات القدرة والربوبية والإعطاء المنع والرحمة ، ولم تثبت له إلا الخلق الأول ، ونفت عنه الاختيار والعلم والإرادة ، ونفت الصفات وقرَّرت كليات كلها حط من قدر الخالق وقياس على الخلق ، والسلوب إذا اجتمعت لم تفد فائدة إيجاب واحد ، ولم نعلم مدينة واحدة ولا مجتمعاً ولا نظاماً ولا عملاً ولا بناية قامت على مجرد أسلوب ، فتجردت الديانة في أوساط الفلسفة الإغريقية عن روح الخشوع والاستكانة لله والالتجاء إليه في الحوادث ومحبته بكل القلب . وهكذا فقدت الديانة السائدة على العالم روحها وأصبحت طقوساً وتقاليد وأشباحاً للإيمان .

انتقل العرب والذين أسلموا من هذه المعرفة العليلة الغامضة الميتة إلى معرفة عميقة واضحة روحية ذات سلطان على الروح والنفس والقلب والجوارح ، ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع ، ذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها ، آمنوا بالله الذي له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى ، آمنوا برب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، الخالق البارئ المصور ، العزيز الحكيم ، الغفور الودود ، الرؤوف الرحيم ، له الخلق والأمر ، بيده ملكوت كل شيء ، يجير ولا يجار عليه ، إلى آخر ما جاء في القرآن من وصفه ، يثيب بالجنة ويعذب بالنار ، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، يعلم الخبء في السماوات والأرض ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، إلى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصرفه وعلمه ، فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلاباً عجيباً ، فإذا آمن أحد بالله وشهد أن لا إله إلا الله انقلبت حياته ظهراً لبطن ، تغلغل الإيمان في أحشائه وتسرب إلى جميع عروقه ومشاعره ، وجرى منه مجرى الروح والدم واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها ، وغمر العقل والقلب بفيضانه وجعل منه رجلاً غير الرجل ، وظهر منه روائع الإيمان واليقين والصبر والشجاعة ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما حير العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق ، ولا يزال موضع حيرة ودهشة منه إلى الأبد ، وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق .

 

وخز الضمير :        

وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة وقوة نفس ومحاسبتها والإنصاف منها ، وكان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية ، حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان وسقط الإنسان سقطة ، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون تحول هذا الإيمان نفساً لوَّامة عنيفة ووخزاً لاذعاً للضمير وخيالاً مروعاً ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ويتحملها مطمئناً مرتاحاً تفادياً من سخط الله وعقوبة الآخرة .

وقد حدثنا المؤرخون الثقات في ذلك بطرائف لم يحدث نظيرها إلا في التاريخ الإسلامي الديني فمنها ما روى مسام ابن الحجاج القشيري صاحب الصحيح بسنده عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي ، أتى رسول صلى الله عليه وسلم فقال : (( يا رسول اله إني ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني )) فرده ، فلما كان من الغد أتاه فقال : (( يا رسول الله إني قد زنيت )) فرده الثانية ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: أتعلمون بعقله بأساً تنكرون منه شيئاً ؟ فقالوا : ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضاً فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله ، فلما كانت الرابعة حفر له حفرة ثم أمر فرُجم .

قال فجاءت الغامدية فقالت : (( يا رسول الله  إني قد زنيت فطهرني )) وأنه ردها فلما كان الغد قالت : يا رسول الله لِم تردني ؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً ، فو الله إني لحبلى . قال : أما لا فاذهبي حتى تلدي . قال : فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت : هذا قد ولدته . قال : فاذهبي فأرضعيه حتى تطعميه . فلما فطمته أتته بالصبي ، في يده كسرة خبز ، فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام . فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين . ثم أمر فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها . فاستقبلها خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد فسبها ، فسمع نبي الله سبه إياها فقال : (( مهلاً يا خالد ، فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له )) ثم أمر بها فصلى عليه ودفنت(138) .

 

 

الثبات أمام المطامع والشهوات :       

وكان هذا الإيمان حارساً لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته ، يملك نفسه النزع أمام المطامع والشهوات الجارفة وفي الخلوة والوحدة حيث لا يراها أحد . وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحداً . وقد وقع في تاريخ الفتح الإسلامي من قضايا العفاف عند المغنم وأداء الأمانات إلى أهلها والإخلاص لله ، ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره ، وما ذاك إلا نتيجة رسوخ الإيمان ومراقبة الله واستحضار علمه في كل مكان وزمان .

حدث الطبري قال : لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحُقٍّ معه فدفعه إلى صاحب الأقباض . فقال والذين معه : ما رأينا مثل هذا قط . ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه . فقالوا : هل أخذت منه شيئاً ؟ فقال : أما والله لولا الله ما أتيتكم به . فعرفوا أن للرجل شأناً فقالوا : من أنت ؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني . ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس(139) .

 

الأنفة وكبر النفس :      

وكأن هذا الإيمان بالله رفع رأسهم عالياً وأقام صفحة عنقهم فلن تُحنى لغير الله أبداً . لا لملك جبار ولا لحبر من الأحبار ولا لرئيس ديني ولا دنيوي . وملأ قلوبهم وعيونهم بكبرياء الله تعالى وعظمته ، فهانت وجوه الخلق وزخارف الدنيا ومظاهر العظمة والفخفخة ، فإذا نظروا إلى الملوك وحشمتهم وما هم فيه من ترف ونعيم وزينة وزخرف ، فكأنهم ينظرون إلى صور ودمى قد كسيت ملابس الإنسان .

عن أبي موسى قال : انتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره والقسيسون جلوس سماطين ، وقد قال له عمرو وعمارة : إنهم لا يسجدون لك ، فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان : اسجدوا للملك . فقال جعفر : لا نسجد إلا لله(140) .

الاستهانة بالزخارف والمظاهر الجوفاء : 

أرسل سعد قبل القادسية ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم ، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير ، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة ، وعلى تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب . ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة ولم زل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل عليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه ، فقالوا له : ضع سلاحك ، فقال : إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت . فقال رستم : ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها . فقالوا له : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .

 

الشجاعة النادرة والاستهانة بالحياة :

ولقد بعث الإيمان بالآخرة في قلوب المسلمين شجاعة خارقة للعادة وحنيناً غريباً إلى الجنة واستهانة نادرة بالحياة ، تمثلوا الآخرة وتجلت لهم الجنة بنعمائها كأنهم يرونها رأي عين ، فطاروا إليها طيران حمام الزاجل لا يلوي على شيء .

تقدم أنس بن النضير يوم أُحُد وانكشف المسلمون فاستقبله سعد بن معاذ فقال : يا سعد بن معاذ ، الجنة ورب الكعبة ، إني أجد ريحها من دون أحد ، قال أنس : فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه(141) .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : قوموا إلى الجنة عرضها السموات والأرض ؟ فقال عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض . قال : نعم ، قال : بخ بخ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يحملك على قولك بخ بخ ؟ قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن يكون من أهلها . قال : فإنك من أهلها . فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ، ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل(142) .

عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري قال : سمعت أبي رضي الله عنه وهو بحضرة العدو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف ، فقام رجل رث الهيئة فقال : يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا ؟ قال : نعم . فرجع إلى أصحابه فقال : أقرأ عليكم السلام ، ثم كسر جفن سيفه فألقاه ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب حتى قتل (143).

وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج ، وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا ، فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه فقال له بنوه : إن الله قد جعل لك رخصة فلو قعدت ونحن نكفيك وقد وضع الله عنك الجهاد ، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن بَنيَّ هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك ، ووالله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد ، وقال لبنيه : وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة فخرج مع رسول الله صل الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيداً (144).

قال شداد بن الهاد : جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه فقال أهاجر معك ، فأوصى به بعض أصحابه ، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فقسمه ، وقسم للأعرابي فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهورهم ، فلما جاء دفعوه إليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذا يا رسول الله ؟ قال قسم قسمته لك ، قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أُرْمَى ها هنا- وأشار إلى حلقه- بسهم ، فأموت فأدخل الجنة ، فقال : إن تصدق الله ليصدقك ، ثم نهضوا إلى قتال العدو فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتول فقال : أهو هو ؟ قالوا : نعم ، قال : صدق الله فصدقه(145) .

 

من الأنانية إلى العبودية :        

وكانوا قبل هذا الإيمان في فوضى من لأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع ، لا يخضعون لسلطان ولا يقرون بنظام ولا ينخرطون في سلك ، يسيرون على الأهواء ويركبون العمياء ويخبطون خبط عشواء ، فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها ، واعترفوا لله بالملك والسلطان والأمر والنهي ، ولأنفسهم بالرعوية والعبودية والطاعة المطلقة ، وأعطوا من أنفسهم المقادة واستسلموا للحكم الإلهي استسلاماً كاملاً ووضعوا أوزارهم ، وتنازلوا عن أهوائهم وأنانيتهم ، وأصبحوا عبيداً لا يملكون مالاً ولا نفساً ولا تصرفاً في الحياة إلا ما يرضاه الله ويسمح به ، لا يحاربون ولا يصالحون إلا بإذن الله ولا يرضون ولا يسخطون ولا يعطون ولا يمنعون ولا يصلون ولا يقطعون إلا بإذنه ووفق أمره . ولما كان القوم يحسنون اللغة التي نزل بها القرآن وتكلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفوا الجاهلية ونشأوا عليها ، وعرفوا معنى الإسلام معرفة صحيحة ، وعرفوا أنه خروج من حياة إلى حياة ، ومن مملكة إلى مملكة ، ومن حكم إلى حكم ، أو من فوضوية إلى سلطة ، أو من حرب إلى استسلام وخضوع ، ومن الأنانية إلى العبودية ، وإذا دخلوا في الإسلام فلا افتيات في الرأي ولا نزاع مع القانون الإلهي ولا خيرة بعد الأمر ولا مشاقة للرسول ولا تحاكم إلى غير الله ولا إصدار عن الرأي ، ولا تمسك بتقاليد وعادات ولا ائتمار بالنفس ، فكانوا إذا أسلموا انتقلوا من الحياة الجاهلية بخصائصها وعاداتها وتقاليدها إلى الإسلام بخصائصه وعاداته وأوضاعه ، وكان هذا الانقلاب العظيم يحدث على أثر قبول الإسلام من غير تأن .

همَّ فضالة بن عمير بن الملوح أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو يطوف بالبيت . فلما دنا منه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أ فضالة ؟ قال : نعم ، فضالة يا رسول الله ! قال : ماذا كنت تحدث به نفسك ؟ قال : لا شيء ، كنت أذكر الله ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : استغفر الله ، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه ، وكان فضالة يقول : والله ما رفع يده على صدري حتى ما خلق الله شيئاً أحب إليَّ منه ، قال فضالة: فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها ، فقالت : هلمّ إلي الحديث ، فقلت : يأبى الله عليك والإسلام(146) .

 

المحكمات والبينات في الإلهيات :             

وقد كان الأنبياء عليهم السلام أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله ، وعن بداية هذا العالم ومصيره ، وما يهجم عليه الإنسان بعد موته ، وآتاهم علم ذلك كله بواسطتهم عفواً بدون تعب ، وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مباديها ولا مقدماتها التي يبنون عليها بحثهم ليتوصلوا إلى مجهول ، لأن هذه العلوم وراء الحس والطبيعة ، لا تعمل فيهما حواسهم ، ولا يؤدي إليها نظرهم ، وليست عندهم معلوماتها الأولية .

لكن الناس لم يشكروا هذه النعمة وأعادوا الأمر جذعاً ، وأبدوا البحث أُنفاً وبدأوا رحلتهم في مناطق مجهولة لا يجدون فيها مرشداً ولا خِرِّيتاً ، وكانوا في ذلك أكثر ضلالاً ، وأشد تعباً وأعظم اشتغالاً بالفضول من رائد لم يقتنع بما أدى إليه العلم الإنساني في الجغرافية ، وما حدد وضبط في الخرائط على تعاقب الأجيال ، فحاول أن يقيس ارتفاع الجبال وعمق البحار من جديد ، ويختبر الصحارى والمسافات والحدود بنفسه على قصر عمره ، وضعف قوته ، وفقدان آلته ، فلم يلبث أن انقطعت به مطيته وخانته عزيمته ، فرجع بمذكرات وإشارات مختلة ، وكذلك الذين خاضوا في الإلهيات من غير بصيرة ، وعلى غير هدى ، جاءوا في هذا العلم بآراء فجة ، ومعلومات ناقصة ، وخواطر سانحة ، ونظريات مستعجلة ، فضلوا وأضلوا .

وكذلك منحهم الأنبياء عليهم السلام مبادئ ثابتة ومحكمات هي أساس المدنية الفاضلة ، والحياة السعيدة في كل زمان ومكان ، فحرموها على تعاقب الأعصار ، فبنوا مدنيتهم  على شفا جرف هار ، وأساس منهار ، وعلى قياس واختيار ، فزاغ أساس المدنية وتداعى بناؤها ، وخر عليهم السقف من فوقهم .

وكان الصحابة رضي الله عنهم سعداء موفقين جداً ، إذ عوّلوا في ذلك كله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكفوا المئونة وسعدوا بالثمرة ، ووفروا ذكائهم وقوتهم وجهادهم في غير جهاد ، ووفروا عليهم أوقاتهم فصرفوها فيما يعنيهم من الدين والدنيا وتمسكوا بالعُروة الوثقى ، وأخذوا في الدين بلب اللباب .

 

**********************************


الفصل الثالث

المجتمع الإسلامي

طاقة زهر :

إن هذا الإيمان بالله والرسول واليوم الآخر والإسلام لله ولدينه أقام عوج الحياة ، ورد كل فرد في المجتمع البشري إلى موضعه ، لا يقصر عنه ولا يتعداه وأصبحت الهيئة البشرية طاقة زهر لا شوك فيها ، أصبح الناس أسرة واحدة أبوهم آدم ، وآدم من تراب ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلكم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب ، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم ، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان(147) ))، ويسمعه الناس يقول : (( يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعظمها بآبائها ، فالناس رجلان : رجل بٌر تقيٌ كريم على الله تعالى ، ورجل فاجر شقي هين على الله تعالى(148) ))، ويقول : (( إن أنسابكم هذه ليست على لمنسبة على أحد ، كلكم بنو آدم ، طف الصاع لم يمنعوه ، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى(149) )) ، وعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ((انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود ، إلا أن تفضله بتقوى الله)) ويسمعه الناس يقول فيما يناجي به ربه في آخر الليل : (( وأنا شهيد أن العباد كلهم أخوة(150))) .

 

ليس منا من دعا إلى عصبية :    

واقتلع صلى الله عليه وسلم جذور الجاهلية وجراثيمها ، وحسم مادتها ، وسد كل نافذة من نوافذها ، فقال : (( ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية(151)  )) ، وعن جابر بن عبد الله قال : ((كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار . فقال المهاجرين : يا للمهاجرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعوها إنها منتنة(152) )) وحرم حمية الجاهلية ، وقيد ذلك التناصر الذي جرت الجاهلية العربية على إطلاقه ، فكان من الأمثال السائرة وشرائع الجاهلية الثابتة . (( أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من نصر قومه على غير الحق ، فهو كالبعير الذي ردي فهو ينزع بذنبه(153) )) ، وتغيرت بذلك نفسية العربي وعقليته حتى أصبح ذوق المسلم العربي لا يسيغ ذلك المثل العربي السائر ، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم مرة :  (( أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )) لم يملك نفسه ، فقال : (( يا رسول إذا نصرته مظلوماً فكيف أنصره ظالماً ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه(154))) .

 

كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته :   

وأصبحت الطبقات والأجناس في المجتمع الإسلامي متعاونة متعاضدة لا يبغى بعضها على بعض ، فالرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم . والنساء صالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ، لهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، وأصبح كل واحد في المجتمع راعياً ومسئولاً عن رعيته . الإمام راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته(155) ، وهكذا كان المجتمع الإسلامي مجتمعاً رشيداً عاقلاً مسئولاً عن أعماله .

 

 

 

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق : 

وأصبح المسلمون أعواناً على الحق ، أمرهم شورى بينهم ، يطيعون الخليفة ما أطاع الله فيهم فإن عصى الله فلا طاعة له عليهم وأصبح شعار الحكم : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " وأصبحت الأموال والخزائن التي كانت طعمه للملوك والأمراء ودولة الأغنياء مال الله الذي لا ينفق إلا في وجهه ولا يخرج إلا في حقه وأصبح المسلمون مستخلفين فيه ، والخليفة كولي اليتيم إن استغنى استعف وإن افتقر أكل بالمعروف ، وأصبحت الأرض التي اغتصبها الملوك والأمراء يفسحونها لمن يشاؤون ويضيقونها على من يشاؤون ، ويقطعها بعضهم بعضاً كما يقطع الثوب ، وأصبحت أر الله التي من ظلم قيد شبر من طوقه من سبع أراضين .

 

حلول الرسول محل الروح والنفس من المجتمع : 

وكان المجتمع البشري قد فقد نشاطه وأريحيته في الحياة وفي كل ما يأتي ويذر وكان مجتمعاً مرهقاً مخنوقاً ، فكان مدفوعاً إلى ساحة الحرب من غير أن ينشط أو يتحمس لأغراض أولي الأمر ، وكان مدفوعاً إلى الصلح ولم يقض من الحرب وطراً ولم يشف نفسه ، وكان الرجال في هذا المجتمع يرغمون على التضحية والإيثار ومكابدة المتاعب ومعاناة الأمور الشاقة من غير هوى ومن غير وجدان ومن غير عاطفة ، لا يحبون القادة ولا يحبهم القادة فكانوا مرغمين على أن يطيعوا من لا يحبونه ويفدوا بأرواحهم وأموالهم من يبغضونه . فانطفأت جمرة القلوب وبردت العواطف ونشأ الناس على النفاق ولرياء والختل ونشأت النفوس على الذل وتحمل الضيم والصغار .

كانت العاطفة القوية- التي يرجع إليها الفضل في غالب عجائب الإنسانية ومعظم الآثار الخالدة في التاريخ ، تلك التي يسميها الناس (الحب)- تائهة ضائعة ، لم يظهر منذ قرون من يشغلها ويستثمرها فضاعت في ألوان الجمال الزاهية والمظاهر الخلابة الفانية مما تغنى به الشعراء قديماً وحديثاً .

في هذا المجتمع الحائر المظلوم قام محمد صلى الله عليه وسلم فحل عقاله وفك إساره ثم حل منه محل الروح والنفس وشغل منه مكان القلب والعين . وهو المبشر الذي جمع الله له أسمى صفات الجمال والكمال وأبلغ معاني الحسن والإحسان . من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه . يقول ناعته : لم أر قبله ولا بعده مثله ، فاندفع إليه الحب الصادق كما يندفع المال إلى الحدور . وانجذبت إليه النفوس والقلوب انجذاب الحديد إلى المغناطيس . كأنما كان من القلوب والأرواح على ميعاد . وأحبه رجال أمته وأطاعوه حباً وطاعة لم يسمع بمثلهما في تاريخ العشاق والمتيمين . ووقع من خوارق الحب والتفاني في سبيل طاعته وإيثاره على النفس والأهل والمال والولد ما لم يحدث قبله ولن يحدث بعده .

 

نوادر الحب والتفاني :   

وُطئ أبو بكر بن أبي قحافة في مكة يوماً بعدما أسلم وضرب ضرباً شديداً ودنا منه عتبه بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه ، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته ، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير : انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه ، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : والله ما لي علم بصاحبك . فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه . فخرجت حتى جاءت أم جميل فقال : إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله قالت : ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله ، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت ، قالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً ، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت : والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر ، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم . قال : فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هذه أمك تسمع ! قال : فلا شيء عليك منها . قالت : سالم صالح ! قال : أين هو ؟ قالت : في دار ابن الأرقم ، قال : فإن لله عليّ أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم(156))) .

وخرجت امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : خيراً هو بحمد الله كما تحبين! قالت : أرونيه حتى أنظر إليه . فلما رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل(157) .

رفعوا خبيبا رضي الله عنه على الخشبة ونادوه يناشدونه : أتحب أن محمد مكانك ؟ قال : لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه . فضحكوا منه (158).

وقال زيد بن ثابت : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع فقال لي : إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له : يقول لك رسول الله صلى لله عليه وسلم : كيف تجدك ؟ قال : فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو بآخر رمق وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة رمح وضربة سيف ورمية سهم ، فقلت : يا سعد ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك : أخبرني كيف تجدك ؟ فقال : على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام : قل له : يا رسول الله أجد ريح الجنة . وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف . وفاضت نفسه من وقته(159) .

وتّرس أبو دجانة يوم أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك(160) . ومص مالك الخدري جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه قال له : مجه . قال : والله ما أمجه أبداً (161) .

وقدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه ، فقال : يا بنية ، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني قالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس(162) .

قال عبد الله بن مسعود الثقفي لأصحابه بعدما رجع من الحديبية : أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ، على كسرى وقيصر والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضٌوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحدُّون إليه النظر تعظيماً له (163).

 

عجائب الانقياد والطاعة :

ولم يزل الانقياد والطاعة من جنود " الحب " المتطوعة ، فلما أحبه القوم بكل قلوبهم أطاعوه بكل قواهم ، يمثل ذلك خير تمثيل ما قال سعد بن معاذ عن نفسه وعن الأنصار قبل بدر : ((إني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فاظعن حيث شئت وصل حبل من شئت وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه أمر فأمرنا تبع لأمرك ، فو الله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك ، والله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك(164) )) .

وكان من شدة طاعتهم له صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم نهى أهل المدينة عن كلام الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، فما كان من الناس إلا أن أطاعوه وأصبحت المدينة لهؤلاء كأنها مدينة الأموات ليس بها داع ولا مجيب . يقول كعب : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه قال فاجتنبنا الناس أو قال تغيروا لنا حتى تنكرت لي نفس الأرض فما هي الأرض التي أعرف ، إلى أن قال : حتى إذا طال عليّ من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ فسلمت عليه فو الله ما رد عليّ السلام فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله ؟ فسكت فعدت فناشدته فسكت ، فعدت فناشدته ، فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيني وتوليت حتى تسورت الجدار(165) .

وكان من طاعته أيضاً وهو في موضع عتاب وجفوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه ويقول له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقال : أطلقها أم ماذا أفعل ؟ فقال : لا بل اعتزلها فلا تقربنها . فقال لامرأته : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله من هذا الأمر(166) .

وكان من حبه للرسول صلى الله عليه وسلم وإيثاره على كل أحد في الدنيا أن ملك غسان يخطب وده ويستلحقه بنفسه ، وتلك محنة عظيمة في حال الجفوة والعتاب ولكنه يرفض ذلك قال : (( بينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدلني على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع إلي كتاباً من ملك غسان وكنت كاتباً فقرأته فإذا فيه : أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جافاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك . فقلت حين قرأتها : وهذه أيضاً من البلاء ، فتيممت بها التنور فسجرتها (167).

ومن غرائب الطاعة وسرعة الانقياد ما حدث عند نزول النهي عن الخمر في مجلس شرب ، فعن أبي بريدة عن أبيه قال : بينما نحن قعود على شراب لنا وعندنا باطية(168) لنا ، ونحن نشرب الخمر حلاً إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } – إلى قوله : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ }  فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ }  . قال : وبعض القوم شربته في يده شرب بعضاً وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ، ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا : انتهينا ربنا . انتهينا ربنا (169) .

ومن غرائب الطاعة للرسول وإيثاره على النفس والأهل والعشيرة ما روي عن عبد الله بن عبد الله بن أبي ، روى ابن جرير بسنده عن ابن زيد قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد الله بن أبيّ قال : ألا ترى ما يقول أبوك ؟ قال : ما يقول بأبي أنت وأمي ؟ قال : يقول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فقال : فقد صدق والله يا رسول الله ، أنت والله الأعز وهو الأذل ، أما والله لقد قدمت المدينة يا رسول الله وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبَّر مني ، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لأتيتهما به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا . فلما قدموا المدينة قام عبد الله بن عبد الله بن أبي على بابها بالسيف لأبيه ثم قال : أنت القائل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ؟ أما والله لتعرفن العزة لك أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لا يأويك ظله ولا تأويه أبداً إلا بإذن من الله ورسوله . فقال : يا للخزرج ، ابني يمنعني بيتي ، يا للخزرج ابني يمنعني بيتي !! فقال : والله لا يأويه أبداً . إلا بإذن منه . فاجتمع إليه رجال فكلموه فقال : والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله . فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال : اذهبوا إليه فقولوا له : خلِّه ومسكنه . فأتوه فقال : أما إذا جاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم فنعم(170) .

 

***********************************


الفصل الرابع

كيف حول الرسول خامات الجاهلية

إلى عجائب الإنسانية

 بهذا الإيمان الواسع العميق والتعليم النبوي المتقن ، وبهذه التربية الحكيمة الدقيقة وبشخصيته الفذة ، وبفضل هذا الكتاب السماوي المعجز الذي لا تنقضي عجائبه ولا تخلق جدته ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنسانية المحتضرة حياة جديدة .

عمد إلى الذخائر البشرية وهي أكداس من المواد الخام لا يعرف أحد غناءها ، ولا يعرف محلها وقد أضاعتها الجاهلية والكفر والإخلاد إلى الأرض فأوجد فيها بإذن الله الإيمان والعقيدة وبعث فيها الروح الجديدة ، وأثار من دفائنها وأشعل مواهبها ، ثم وضع كل واحد في محله فكأنما خلق له ، وكأنما كان المكان شاغراً لم يزل ينتظره ويتطلع إليه ، وكأنما كان جماداً فتحول جسماً نامياً وإنساناً متصرفاً وكأنما كان ميتاً لا يتحرك فعاد حياً يملي على العالم إرادته وكأنما كان أعمى لا يبصر الطريق فأصبح قائداً بصيراً يقود الأمم : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ } .

عمد إلى الأمة العربية الضائعة وإلى أناس من غيرها فما لبث العالم أن رأى منهم نوابغ كانوا من عجائب الدهر وسوانح التاريخ ، فأصبح عمر الذي كان يرعى الإبل لأبيه الخطاب وينهره وكان من أوساط قريش جلادة وصرامة ، ولا يتبوأ منها المكانة العليا ، ولا يحسب له أقرانه حساباً كبيراً ، إذا به يفجأ العالم بعبقريته وعصاميته ، ويدحر كسرى وقيصر عن عروشهما ويؤسس دولة إسلامية تجمع بين ممتلكاتهما وتفوقهما في الإدارة وحسن النظام فضلاً عن الورع والتقوى والعدل الذي لا يزال فيه المثل السائر .

وهذا ابن الوليد كان أحد فرسان قريش الشبان انحصرت كفاءته الحربية في نطاق محلِّيٍ ضيق يستعين به رؤساء قريش في المعارك القبلية فينال ثقتهم وثناءهم ، ولم يحرز الشهرة الفائقة في نواحي الجزيرة ، إذ به يلمع سيفاً إلهياً لا يقوم له شيء إلا حصده ، وينزل كصاعقة على الروم والفرس ويترك ذكراً خالداً في التاريخ .

وهذا أبو عبيدة كان موصوفاً بالصلاح والأمانة والرفق ويقود سرايا المسلمين إذا به يتولى القيادة العظمى للمسلمين ويطرد هرقل من ربوع الشام ومروجها الخضراء ويلقي عليها الوداع ويقول : سلام على سورية سلاماً لا لقاء بعده .

وهذا عمرو بن العاص كان يُعد من عقلاء قريش وترسله في سفارتها إلى الحبشة تسترد المهاجرين المسلمين فيرجع خائباً إذا به يفتح مصر وتصير له صولة عظيمة .

وهذا سعد بن أبي وقاص لم نسمع به في التاريخ العربي قبل الإسلام كقائد جيش ورئيس كتيبة ، إذا به يتقلد مفاتيح المدائن ، وينيط باسمه فتح العراق وإيران .

وهذا سلمان الفارسي كان ابن موبذان في إحدى قرى فارس لم يزل يتنقل من رق إلى رق ومن قسوة إلى قسوة إذا به يطلع على أمته كحاكم لعاصمة الإمبراطورية الفارسية التي كان بالأمس أحد رعاياها ، وأعجب من ذلك أن هذه الوظيفة لا تغير من زهادته وتقشفه فيراه الناس يسكن في كوخ ويحمل على رأسه الأثقال .

وهذا بلال الحبشي يبلغ من فضله وصلاحه مبلغاً يلقبه فيه أمير المؤمنين عمر بالسيد .

وهذا سالم مولى أبي حذيفة يرى فيه عمر موضعاً للخلافة يقول : لو كان حياً لاستخلفته .

وهذا زيد بن حارثة يقود جيش المسلمين إلى مؤتة وفيه مثل جعفر بن أبي طالب وخالد بن الوليد ، ويقود ابنه أسامة جيشاً فيه مثل أبي بكر وعمر .

وهذا أبو ذر والمقداد وأبو الدرداء وعمار بن ياسر ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب ، تهب عليهم نفحة من نفحات الإسلام فيصبحون من الزُّهاد المعدودين والعلماء الراسخين .

وهذا علي بن أبي طالب وعائشة وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس قد أصبحوا في أحضان النبي الأمي صلى الله عليه وسلم من علماء العالم يتفجر العلم من جوانبهم وتنطق الحكمة على لسانهم ، أبّر الناس قلوباً وأعمقهم علماً وأقلهم تكلفاً ، يتكلمون فينصت الزمن ويخطبون فيسجل قلم التاريخ .

 

 

كتلة بشرية متزنة :

ثم لا يلبث العالم المتمدن أن يرى من هذه المواد الخام المبعثرة التي استهانت بقيمتها الأمم المعاصرة وسخرت منها البلاد المجاورة ، لا يلبث أن يرى منها كتلة لم يشاهد التاريخ البشري أحسن منها اتزاناً ، كأنها حلقة مفرغة لا يعرف طرفها أو كالمطر لا يُدرى أأوله خير أم آخره كتلة فيها الكفاية التامة في كل ناحية من نواحي الإنسانية ، كتلة هي في غنى عن العالم ، وليس العالم في غنى عنها ، وضعت مدنيتها وأسست حكومتها وليس لها عهد بها ، لم تضطر إلى أن تستعير رجلاً من أمة أو تستعين في إدارتها بحكومة ، أسست حكومة تمد رواقها على رقعة متسعة من قارتين عظيمتين ، وملأت كل ثغر وسدت كل عوز برجل يجمع بين الكفاية والديانة والقوة والأمانة ، تأسست هذه الحكومة المتشعبة الأطراف فأنجدتها هذه الأمة الوليدة التي لم يمض عليها إلا بعض العقود –كله جهاد ودفاع ومقاومة وكفاح – برجل من الرجال الأكفاء ، فكان منها الأمير العادل والخازن الأمين والقاضي المقسط ، والقائد العابد والوالي المتورع والجندي المتقي ، وكانت بفضل التربية الدينية التي لا تزال مستمرة ، وبفضل الدعوة الإسلامية التي لا تزال سائرة ، مادة لا تنقطع ومعيناً لا ينضب ، لا تزال تسند الحكومة برجال يرجحون جانب الهداية على الجباية، ولا يزالون يجمعون بين الصلاح والكفاية ، وهنا ظهرت المدنية الإسلامية بمظهرها الصحيح ، وتجلت الحياة الدينية بخصائصها التي لم تتوفر لعهد من عهود التاريخ البشري .

لقد وضع محمد صلى الله عليه وسلم مفتاح النبوة على قفل الطبيعة البشرية فانفتح على ما فيها من كنوز وعجائب وقوى ومواهب ، أصاب الجاهلية في مقتلها أو صميمها ، فأصمى رميته ، وأرغم العالم العنيد بحول الله على أن ينحو نحواً جديداً ويفتتح عهداً سعيداً ، ذلك هو العهد الإسلامي الذي لا يزال غرة في جبين التاريخ .

 

*************************************


الباب الثالث

العصر الإسلامي

 

الفصل الأول

عهد القيادة الإسلامية

الأئمة المسلمون وخصائصهم :

ظهر المسلمون وتزعموا العالم وعزلوا الأمم المريضة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها ، وساروا بالإنسانية سيراً حثيثاً متزناً عادلاً ، وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم ، وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم .

أولاً : أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية ، فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم ، لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم ، ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء ، قد جعل الله لهم نوراً مشون به في الناس ، وجعل لهم شريعة يحكمون بها بين الناس {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } وقد قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .

ثانياً : أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس ، بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر ، بل مكثوا زمناً طويلاً تحت تربية محمد صلى الله عليه وسلم وإشرافه الدقيق يزكيهم ويؤدبهم ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار على النفس وخشية الله وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها . يقول : ((إنا والله لا نُولي هذا العمل أحداً سأله ، أو أحداً حرص عليه(171) ))، ولا يزال يقرع سمعهم : {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب تهافت الفراش على الضوء ، بل كانوا يتدافعون في قبولها ويتحرجون من تقلدها ، فضلاً عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة ويزكوا أنفسهم وينشروا دعاية لها وينفقوا الأموال سعياً وراءها ، فإذا تولوا شيئاً من أمور الناس لم يعدوه مغنماً أو طعمة أو ثمناً لما أنفقوا من مال أو جهد ، بل عدوه أمانة في عنقهم وامتحاناً من الله ، ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم ومسئولون عن الدقيق والجليل ، وتذكروا دائماً قول الله تعالى :

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } وقوله : {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ }.

ثالثاً : أنهم لم يكونوا خدمة جنس ، ورسل شعب أو وطن ، يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان ، لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاماً ، ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم ، ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها ، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم . إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً وإلى عبادة الله وحده ، كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد : (( الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ،ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام(172) )) فالأمم عندهم سواء والناس عندهم سواء ، الناس كلهم من آدم ، وآدم من تراب ، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(173) } .

وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر- وقد ضرب ابنه مصرياً ، وافتخر بآبائه قائلاً : خذها من ابن الأكرمين ، فاقتص منه عمر- : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً (174). فلم يبخل هؤلاء بما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد ، ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسباً ولوناً ووطناً ، بل كانوا سحابة انتظمت البلاد وعمت العباد ، وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر  وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها(175) .

في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب – حتى المضطهدة منها في القديم- أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة ، أن تساهم العرب في بناء العالم الجديد بل إن كثيراً من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل ، وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين ، حتى قال ابن خلدون : (( من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم ، لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية(176) ، إلا في القليل النادر ، وإن كان منهم العربي في نسبته ، فهو عجمي في لغته ، ومرباه ومشيخته ، مع أن الملة عربية ، وصاحب شريعتها عربي (177))) . ونبغ من هذه الأمم في عصور الإسلام قادة وملوك ووزراء وفضلاء ، هم نجوم الأرض ونجباء الإنسانية ، وحسنات العالم ، فضيلة ومروءة وعبقرية وديناً وعملاً ، لا يحصيهم إلا الله .

رابعاً : أن الإنسان جسم وروح ، وهو قلب وعقل وعواطف وجوارح ، لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رُقياً متزناً عادلاً حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نمواً متناسباً لائقاً بها ، ويتغذى غذاء صالحاً ، ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة البتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه للإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني ، وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا كانت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بيد الذين يؤمنون بالروح والمادة ، ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية ، وأصحاب عقول سليمة راجحة ، وعلوم صحيحة نافعة ، فإذا كان فيهم نقص في عقيدتهم أو في تربيتهم عاد ذلك النقص في مدنيتهم ، وتضخم وظهر في مظاهر كثيرة ، وفي أشكال متنوعة ، فإذا تغلبت جماعة لا تعبد إلا المادة وما إليها من لذة ومنفعة محسوسة ، ولا تؤمن إلا بهذه الحياة ، ولا تؤمن بما وراء الحس أثرت طبيعتها ومبادئها وميولها في وضع المدنية وشكلها ، وطبعتها بطابعها ، وصاغتها في قالبها ، فكملت نواح للإنسانية واختلت نواح أُخرى أهم منها . عاشت هذه المدنية وازدهرت في الجصِّ والآجر ، وفي الورق والقماش ، وفي الحديد والرصاص ، وأخصبت في ميادين الحروب وساحات القتال ، وأوساط المحاكم ومجالس اللهو ومجامع الفجور ، وماتت وأجدبت في القلوب والأرواح وفي علاقة المرأة بزوجها ، والولد بوالده والوالد بولده ، والأخ بأخيه والرجل بصديقه ، وأصبحت المدنية كجسم ضخم متورم يملأ العين مهابة ورواء ، ويشكو في قلبه آلاماً وأوجاعاً ، وفي صحته انحرافاً واضطراباً .

وإذا تغلبت جماعة تجحد المادة أو تهمل ناحيتها ولا تهتم إلا بالروح وما وراء الحس والطبيعة ، وتعادي هذه الحياة وتعاندها ، ذبلت زهرة المدنية وهزلت القوى الإنسانية وبدأ الناس- بتأثير هذه القيادة – يؤثرون الفرار إلى الصحارى والخلوات على المدن ، والعزوبة على الحياة الزوجية ، ويعذبون الأجسام حتى يضعف سلطانها فتتطهر الروح ويؤثرون الموت على الحياة ، لينتقلوا من مملكة المادة إلى إقليم الروح ويستوفوا كمالهم هنالك ، لأن الكمال في عقيدتهم لا يحصل في العالم المادي ، ونتيجة ذلك أن تحتضر الحضارة وتخرب المدن ويختل نظام الحياة ولما كان هذا مضاداً للفطرة لا تلبث أن تثور عليه ، وتنتقم منه بمادية حيوانية ليس فيها تسامح لروحانية وأخلاق ، وهكذا تنتكس الإنسانية وتخلفها البهيمية والسبعية الإنسانية الممسوخة ، أو تهجم على هذه الجماعة الراهبة جماعة مادية قوية فتعجز عن المقاومة لضعفها الطبعي ، وتستسلم وتخضع لها ، أو تسبق هي- بما يعتريها من الصعوبات في معالجة أمور الدنيا- فتمد يد الاستعانة إلى المادية ورجالها وتسند إليهم أمور السياسة وتكتفي هي بالعبادات والتقاليد الدينية ، ويحدث فصل بين الدين والسياسة فتضمحل الروحانية والأخلاق ويتقلص ظلها وتفقد سلطانها على المجتمع البشري والحياة العملية حتى تصير شبحاً وخيالاً أو نظرية علمية لا تأثير لها في الحياة وتؤول الحياة مادية محضة وقلما خلت جماعة من الجماعات التي تولت قيادة بني جنسها من هذا النقص ، لذلك لم تزل المدنية متأرجحة بين مادية بهيمية وروحانية ورهبانية ولم تزل في اضطراب .

يمتاز أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا جامعين بين الديانة والأخلاق والقوة والسياسة ، وكانت تتمثل فيهم الإنسانية بجميع نواحيها وشعبها ومحاسنها المتفرقة في قادة العالم ، وكان يمكن لهم – بفضل تربيتهم الخلقية والروحية السامية واعتدالهم الغريب الذي قلما اتفق للإنسان ، وجمعهم بين مصالح الروح والبدن واستعدادهم المادي الكامل وعقلهم الواسع – أن يسيروا بالأمم الإنسانية إلى غايتها المثلى الروحية والخلقية والمادية .

 

دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة :      

وكذلك كان ، فلم نعرف دوراً من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور ، دور الخلافة الراشدة فقد تعاونت فيه قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل , وفي ظهور المدنية الصالحة . كانت حكومة من أكبر حكومات العالم ، وقوة سياسة مادية تفوق كل قوة في عصرها . تسود فيها المثل الخلقية العليا وتحكم معايير الأخلاق الفاضلة في حياة الناس ونظام الحكم . وتزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة و الصناعة .ويساير الرقي الخلقي والروحي اتساع الفتوح واحتفال الحضارة فتقل الجنايات وتندر الجرائم بالنسبة إلى مساحة المملكة وعدد سكانها ورغم دواعيها وأسبابها .وتحسن علاقة الفرد بالفرد والفرد بالجماعة وعلاقة الجماعة بالفرد. وهو دور كمالي لم يحلم الإنسان بأرقى منه ولم يفترض المفترضون أزهى منه .ولم يكن إلا بسيرة الرجال الذين يتولون الحكم ويشرفون على المدنية وبعقيدتهم وتربيتهم وخطتهم في الحكم وسياستهم ، فكانوا أصحاب دين وأخلاق عالية أينما كانوا ، كانوا أعفة أمناء خاشعين متواضعين ، حكاماً كانوا أو رعايا أو شرطة أو جنوداً . يصف شيخ من عظماء الروم جنود المسلمين فيقول : إنهم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويتناصفون بينهم(178) . وقال الآخر : ((هم فرسان بالنهار رهبان بالليل ، لا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن ، ولا يدخلون إلا بسلام ، يقضون على من حاربوا حتى يأتوا عليه(179) )). ويقول الثالث : (( أما الليل فرهبان وأما النهار ففرسان ، يريشون النبل ويبرونها ويثقفون القنا ، لو حدثت جليسك حديثاً ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر(180) )). ويغنم الجند في المدائن تاج كسرى وبساطه وهو يساوي مئات الألوف من الدنانير فلا تعبث به يد ولا تشح عليه نفس ، ثم يسلمونه إلى الأمير ويرسله الأمير إلى خليفة المسلمين فيتعجب ويقول : إن الذين أدوا هذا لأمناء(181) .

 

تأثير الإمامة الإسلامية في الحياة العامة :               

إن هذا الرعيل من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم كان خليقاً بأن يسعد النوع الإنساني في ظله وتحت حكمه ،وأن يسير بقيادته سديد الخطى رشيد الغاية مستقيم السير ، وأن يعمر ويطمئن العالم في دوره وتخصب الأرض وتأخذ زخرفها ، فإنهم كانوا خير القائمين على مصالحها حارسين لها، ولا ينظرون إلى هذه الحياة كقفص من حديد أو غُلٍّ في عنق فيعادونه ويكسرونه، ولا ينظرون إليها كفرصه من لهو ونعيم ومتعة لا تعود أبداً فينتهزونها و يهتبلونها، ولا يضيعون منها ساعة ولا يدخرون من طيباتها ، وكذلك لا يعدونها عذاباً وعقوبة بجريمة فيتخلصون منها ولا ينظرون إلى الدنيا كمائدة ممدودة فيتهالكون عليها ، إلى ما في الأرض من نعماء وخزائن وخيرات كأنها مال سائب يتقاتلون عليه ، وإلى الأمم الضعيفة كفريسة يتسابقون في اقتناصها ، بل يعدون هذه الحياة نعمة من الله هي أصل كل خير وسبب كل بر ، يتقربون فيها إلى الله ويصلون إلى كمالهم الإنساني الذي قدر لهم ، وفرصة من عمل وجهاد لا فرصة بعدها : {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }.ويعيدون هذا العالم مملكة لله استحلفهم فيها -أولاً- من حيث أصل الإنسان الذي جعله خليفة في الأرض { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} . و-ثانياً- من حيث إنه إنسان أسلم لأمر الله وانقاد لحكمه فاستخلفه في الأرض واسترعاه أهلها {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}.ومنحهم حق التمتع بخيرات الأرض من غير إسراف وتبذير {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} ،{وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ،وجعل لهم الولاية على أمم الأرض وجماعات البشر يراقبون سيرها وسيرتها وأخلاقها ورغباتها ، فيرشدون الضال ويردون الغاوي ويصلحون الفاسد ويقيمون الأود ، ويرأبون الصدع ويأخذون للضعيف من القوي، وينتصفون للمظلوم من الظالم ، ويقومون في الأرض القسط ويبسطون على العالم جناح الأمن {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ } .

وقد وصف عالم ألماني مسلم وصفاً دقيقاً ، قال:

(( إن الإسلام لا ينظر- كالنصرانية – إلى العالم بمنظار أسود ، بل هو يعلمنا أن لا نسرف في تقدير الحياة الأرضية ، وأن لا نغالي في قيمتها مغالاة الحضارة الغربية الحاضرة .إن المسحية تذم الحياة الأرضية وتكرهها، والغرب الحاضر-خلاف الروح النصراني – يهتم بالحياة كما يهتم النهم بطعامه ، هو يبتلعه ولكن ليس عنده كرامة له ، والإسلام بالعكس ينظر إلى الحياة بسكينه واحترام ، هو لا يبعد الحياة بل يعدها كمرحلة نجتازها في طريقنا إلى حياة عليا ، وبما أنها مرحلة ومرحلة لابد منها ليس للإنسان أن  يحتقرها أو يقلل من قيمة حياته الأرضية .إن مرورنا بهذا العالم في سفر الحياة لابد منه ، وقد سبق به تقدير الله ، فالحياة الإنسانية لها قيمتها الكبرى ، ولكن لا ينبغي لنا أن ننسى أنها ليست إلا واسطة وآلة وليست قيمتها إلا قيمة الوسائط والآلات ، الإسلام لا يسمح بالنظرية المادية القائلة (( إن مملكتي ليست إلا هذا العالم)) ولا بالنظرية المسيحية التي تزدري الحياة وتقول (( ليس هذا العالم مملكتي )) وطريق الإسلام طريق وسط بينهما ، القرآن يرشدنا أن ندعو: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً }  فالتقدير لهذا العالم وأشيائه ليس حجر عثرة في سبيل جهودنا الروحية الخصبة ، والرقي المادي مرغوب فيه مع أنه ليس غاية في نفسه . إن غاية جهودنا ينبغي أن تكون إيجاد أحوال وظروف شخصية واجتماعية – والمحافظة عليها إن وجدت – تساعد في ارتقاء القوة الخلقية في الإنسان ، مطابقة لهذا المبدأ . الإسلام يهدي الناس إلى الشعور بالمسئولية الخلقية في كل عمل يعمله كبيراً كان أو صغيراً إن نظام الإسلام الديني لا يسمح أبداً بمثل ما أمر به الإنجيل قائلاً " أعطوا ما لقيصر لقيصر وأعطوا ما لله لله " ، لأن الإسلام لا يسمح بتقسيم حاجات حياتنا إلى خلقية وعملية ، ليس هناك إلا خيرة فقط ، خيرة بين الحق والباطل ، وليس شيء وسطاً بينهما ، لذلك هو يلح على العمل لأنه جزء لازم للأخلاق لا غنى عنه ، ينبغي لكل فرد مسلم أن يعيد نفسه مسئولاً شخصياً عن المحيط الذي يحيط به وكل ما يقع حوله ، ومأموراً بالجهاد لإقامة الحق ومحق الباطل في كل وقت وفي كل جهة ، فإن القرآن يقول {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } ، هذا هو المبرر الخلقي للحركة الإسلامي الجهادية والفتوح الإسلامية الأولى والاستعمار الإسلامي ، فالإسلام استعماري إن كان لا بد من هذا التعبير ، ولكن هذا النوع من الاستعمار ليس مدفوعاً بحب الحكومة والاستيلاء ، وليس من الأثرة الاقتصادية للقومية في شيء ، ولم يكن يحفز المجاهدين الأولين إلى الجهاد طمع في خفض من العيش ورخائه على حساب الناس الآخرين ، ولم يقصد منه إلا بناء إطار عالمي لأحسن ما يمكن للإنسان من ارتقاء روحي ، كما أن العلم بالفضيلة حسب تعليم الإسلام يفرض على الإنسان تبعة العمل بالفضائل . الإسلام لا يوافق أبداً على الفصل الأفلاطوني والتفريق النظري البحت بين الفضيلة والرذيلة ، بل يرى أنه من الوقاحة والرذيلة أن يميز الإنسان نظرياً بين الحق والباطل ، ولا يجاهد لارتقاء الحق وإزاحة الباطل ، فإن الفضيلة- كما يقول الإسلام- تحيا إذا جاهد الإنسان لبسط سلطانها على الأرض وتموت إذا خذلها وتقاعد عن نصرتها (182))).

 

المدنية الإسلامية وتأثيرها في الاتجاه البشري :

كان ظهور المدنية الإسلامية بروحها ومظاهرها وقيام الدولة الإسلامية بشكلها ونظامها في القرن الأول لهجرة محمد صلى الله عليه وسلم فصلاً جديداً في تاريخ الأديان والأخلاق ، وظاهرة جديدة في عالم السياسة والاجتماع ، انقلب به تيار المدنية ، واتجهت به الدنيا اتجاهاً جديداً ، فكانت الدعوة الإسلامية لم يزل يأتي بها الأنبياء ويبشر بها المبشرون ويجاهد في سبيلها المخلصون ، ولكن لم يكن يتمكن دعاتها من إقامة حكومة قائمة على أساسها ومناهجها متشبعة بمبادئها ، ومن إقامة مدنية مطبوعة بطابعها مبنية على أحكامها مثل ما تمكنوا في هذه المرة ، ولم تنل هذه الدعوة والجهود من النجاح في هذا السبيل مثل ما نالت أخيراً على يد محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، فكان هذا الفتح المبين للإسلام محنة جديدة للجاهلية لم تعهدها من قبل ، ولم تعرف كيف تخرج منها ، عهدها بها دعوة دينية روحية فإذا هي تصبح نجاة وسعادة وروحاً ومادة وحياة وقوة ومدنية واجتماعاً وحكومة وسياسة . دين سائغ معقول كله حكمة وبداهة إزاء أوهام وخرافات وأساطير ، وشرع إلهي ووحي سماوي إزاء أقيسة وتجارب إنسانية وتشريع بشري ، ومدنية فاضلة قوية البنيان محكمة الأساس ، يسود فيها روح التقوى والعفاف والأمانة ، وتقدر فيها الأخلاق الفاضلة فوق المال والجاه ، والروح فوق المظاهر الجوفاء ، يتساوى الناس فلا يتفاضلون إلا بالتقوى ، ويهتم الناس بالآخرة فتصبح النفوس مطمئنة والقلوب خاشعة ، ويقل التنافس في أسباب هذه الحياة والتكالب على حطام الدنيا ، ويقل التباغض والتشاحن ، كل ذلك إزاء مدنية صاخبة مضطربة متناحرة متداعية البنيان متزلزلة الأركان ، يظلم الكبير فيها الصغير، ويأكل القوي فيها الضعيف ، ويتسابقون في اللهو والفجور ، يتنافسون ف الجاه والأموال وأسباب الترف والنعيم ، حتى تصبح الدنيا كلها حرباً في حرب وتصبح المدنية جحيماً على أهلها ، {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } حكومة عادلة تساوي بين رعيتها وتأخذ للضعيف من القوي ، وتحرس للناس أخلاقهم كما تحرس لهم بيوتهم وأموالهم ، وتحفظ عليهم دماءهم وأعراضهم ، خيارهم أمراؤهم ، وأزهدهم في العيش أملكهم لأسبابه وأقدرهم عليه ، إزاء حكومة عم فيها الجور والعسف ، وتواضع رجالها على الخيانة والظلم ، وتسابق أهلها في أكل أموال الناس وهتك أعراضهم وسفك دمائهم ، وتفسد على الناس أخلاقهم بما تضرب لهم مثلاً بأخلاقها ، شرارهم أُمراؤهم وملوكهم ، تشبع دوابهم وكلابهم وتجوع رعيتهم ، وتكسى بيوتهم ويعرى الناس .

فأصبح الناس لا يجدون عائقاً عن الإسلام ، ولا يواجهون صعوبة وعنتاً في سبيل قبول الإسلام ولا يرون للجاهلية مرجحاً ومصلحة ، ويدخل الرجل في الإسلام فلا يخسر شيئاً ولا يفقد شيئاً ويجد برد اليقين وحلاوة الإيمان وعزة الإسلام ودولة قوية يعتز بها وأنصاراً يفدونه بأرواحهم وأنفسهم ، ونفساً مطمئنة وثقة في الحياة بعد الموت ، فصار الناس ينتقلون من معسكر الجاهلية إلى معسكر الإسلام باختيارهم ، وصارت أرض الجاهلية تنتقص من أطرافها وكلمة الإسلام تعلو وظله يمتد ، حتى ارتفعت الفتنة وكان الدين لله .

وكان تأثير هذا الانقلاب عظيماً جليلاً ، فكان الطريق إلى الله من قبل في دولة الجاهلية وغربة الإسلام شاقاً عسيراً محفوفاً بالأخطار ، فأصبح الآن سهلاً يسيراً آمناً مسلوكاً ، وكان يصعب على الإنسان في الوسط الجاهلي أن يطيع الله ، فصعب عليه في الوسط الإسلامي أن يعصي الله ، وكانت الدعوة إلى النار بالأمس ظاهرة منصورة فأصبحت اليوم خافتة مخذولة ، وكانت أسباب سخط الله وعصيانه مكشوفة موفورة فعادت نادرة مستورة ، وكانت الدعوة إلى الله في أرض الله جريمة قد ترتكب سراً وخفية ، فأصبحت جهراً وعلانية وحرة آمنة لا تلقى معارضة ذات بال ، ولا يخاف أصحابها اضطهاداً في سبيل العقيدة وأذى في سبيل الدين الجديد :  { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } وأصبح أصحابها يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، يأمرون وينهون بمعنى الكلمة .

صارت طباع الناس وعقولهم تتغير وتتأثر بالإسلام من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون ، كما تتأثر طبيعة الإنسان والنبات في فصل الربيع ، وبدأت القلوب العاصية الجافة ترق وتخشع وبدأت مبادئ الإسلام وحقائقه تتسرب إلى أعماق النفوس وتغلغل في الأحشاء ، وبدأت قيمة الأشياء تتغير في عيون الناس والموازين القديمة تتحول وتخلفها الموازين الجديدة ، وأصبحت الجاهلية حركة رجعية كان من الجمود والغباوة المحافظة عليها ، وصار الإسلام شيئاً راقياً عصرياً كان من الظرف والكياسة الانتساب إليه والظهور بمظاهره ، وكانت الأمم بل كانت الأرض تدنو رويداً رويداً إلى الإسلام ، ولا يشعر أهلها بسيرهم كما لا يشعر أهل الكرة الأرضية بدورانهم حول الشمس ، يظهر ذلك في فلسفتهم وفي دينهم وفي أدبهم وفي مدنيتهم ، وتشف عن ذلك بواطنهم وضمائرهم ، وتنم عنه الحركة الإصلاحية التي ظهرت فيهم حتى بعد انحطاط المسلمين .

جاء الإسلام بالتوحيد ونعى على الوثنية والشرك ، فهان الشرك منذ ذلك اليوم في عيون أهله وصغر ، وصار أهله يخجلون منه ويتبرؤون منه ولا يقرون به ، بعدما كانوا يجتهدون في إظهاره ويستميتون في الدفاع عنه ، وأصبح أهل كل دين يؤولون ما في نظامهم الديني من شرك أو مظاهر شرك ووثنية ورسومها وتقاليدها ويلوون بذلك ألسنتهم ، ويجتهدون في التعبير عنه وشرحه بما يقرب إلى التوحيد الإسلامي ويشبهه .

يقول الأستاذ أحمد أمين : (( ظهر بين النصارى نزعات يظهر فيها أثر الإسلام . من ذلك أنه في القرن الثامن الميلادي أي في القرنين الثاني والثالث الهجريين ظهرت في سبتمانيا (SePtimania) (183) حركة تدعو إلى إنكار الاعتراف أمام القسس ، وأن ليس للقسس حق في ذلك ، وأن يضرع الإنسان إلى الله وحده في غفران ما ارتكب من إثم ، والإسلام ليس له قسيسون ورهبان وأحبار ، فطبيعي أن لا يكون فيه اعتراف )) .

وكذلك كانت حركة تدعو إلى تحطيم الصور والتماثيل الدينية (Iconoclasts) ذلك أنه في القرن الثامن والتاسع للميلاد أو القرن الثالث والرابع الهجري ، ظهر مذهب نصراني يرفض تقديس الصور والتماثيل ،فقد أصدر الإمبراطور الروماني "ليو" الثالث أمراً سنة 726 م يحرم فيه تقديس الصور والتماثيل ، وأمراً آخر سنة 730 م يعد الإتيان بهذا وثنية ، وكذلك كان قسطنطين الخامس وليو الرابع ، على حين كان البابا جريجوري الثاني والثالث وجرمانيوس بطريرك القسطنطينية والإمبراطورة إيريني من مؤيدي عبادة الصور ، وجرى بين الطائفتين نزاع شديد لا محل لتفصيله ، وكل ما نريد أن نذكره أن بعض المؤرخين يذكرون أن الدعوة إلى نبذ الصور والتماثيل كانت متأثرة بالإسلام ، ويقولون : إن كلوديوس  (Claadius)     أسقف تورين (الذي عين سنة 828 م وحول 213هـ)والذي كان يحرق الصور والصلبان وينهى عن عبادتها في أسقفيته ، ولد وربي في الأندلس الإسلامي . وكراهية الإسلام للتماثيل والصور معروفة ، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر ، وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل ، فلما رآه هتكه ، وتلون وجهه ، وقال : يا عائشة أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله .قالت : فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتي(184)ن )) والأحاديث في هذا الباب مستفيضة .

وكذلك وجدت طائفة من النصارى(185) شرحت عقيدة التثليث بما يقرب من الوحدانية وأنكرت ألوهية المسيح عليه السلام(186) .

ويمكن لمن يطالع تاريخ أوربا الديني وتاريخ الكنسية النصرانية أن يلتمس تأثير الإسلام العقلي في نزعات المصلحين والثائرين على النظام الأسقفي السائد ، أما دعوة "لوثر " الإصلاحية الكبيرة ، فقد كانت – على عِلاَّتها- أبرز مظهر للتأثُّر بالإسلام وبعض عقائده كما اعترف المؤرخون .

وترى كذلك تأثير للعقلية الإسلامية والشريعة الإسلامية في أخلاق الأمم اجتماعها وتشريعها في أوربا النصرانية وفي الهند الوثنية بعد الفتح الإسلامي(187) تراه وتلمسه في الاتجاه إلى التوحيد ونزعات الاحترام للمرأة وحقوقها والاعتراف بمبدأ المساواة بين طبقات البشر ، إلى غير ذلك مما سبق إليه الإسلام وامتازت به شريعته ومدنيته .

يقول الباحث الهندي المعروف( k. M. panikkar)سفير الهند في مصر سابقاً ، وهو يتحدث عن تأثير عقيدة التوحيد الإسلامية في عقلية الشعب الهندي ودياناته :

((من الواضح المقرر أن تأثير الإسلام في الديانة الهندكية كان عميقاً في هذا العهد (الإسلامي)، إن فكرة عبادة الله في الهنادك مدينة للإسلام ، إن قادة الفكر والدين في هذا العصر وإن سموا آلهتهم بأسماء شتى قد دعوا إلى عبادة الله ، وصرحوا بإن الإله واحد ، وهو يستحق العبادة ، ومنه تطلب النجاة والسعادة . وقد ظهر هذا التأثير في الديانات والدعوات التي ظهرت في الهند في العهد الإسلامي كديانة "Bhagti"  ودعوة (( كبير(188) )) .

ويقول رئيس وزراء الهند جواهر لال بهرو في كتابه (Discovery of India) ((إن دخول الغزاة الذين جاءوا من شمال غرب الهند ودخول الإسلام له أهمية كبيرة في تاريخ الهند إنه قد فضح الفساد الذي كان قد انتشر في المجتمع الهندوكي ، إنه قد أظهر انقسام الطبقات واللمس المنبوذ ، وحب الاعتزال عن العالم الذي كانت تعيش فيه الهند ، إن نظرية الأخوة الإسلامية والمساواة التي كان المسلمون يؤمنون بها ، ويعيشون فيها ، أثرت في أذهان الهندوس تأثيراً عميقاً ، وكان أكثر خضوعاً لهذا التأثير البؤساء الذين حرم عليهم المجتمع الهندي المساواة والتمتع بالحقوق الإنسانية )) .

ويقول كاتب عصري فاضل وهو (N. C. Mehta) في كتابه " الحضارة الهندية والإسلام " (Indian Civilization and Islam)  :

(( إن الإسلام قد حمل إلى الهند مشعلاً من نور قد انجلت به الظلمات التي كانت تغشى الحياة الإنسانية في عصر مالت فيه المدنيات القديمة إلى الانحطاط والتدلي ، وأصبحت الغايات الفاضلة معتقدات فكرية ، لقد كانت فتوح الإسلام في عالم الأفكار أوسع وأعظم منها في حقل السياسة ، شأنه في الأقطار الأخرى ، لقد كان من سوء الحظ أن ظل تاريخ الإسلام في هذا القطر (الهندي) مرتبطاً بالحكومة ، فبقيت حقيقة الإسلام في حجاب ، وبقيت هباته وأياديه الجميلة مختفية عن الأنظار )) .

ولا يستطيع دين من الأديان ومدنية من المدنيات تعيش في العالم المتمدن المعمور أن تدعي أنها لم تتأثر بالإسلام والمسلمين في قليل ولا كثير .

يقول (Robert Briffault) في كتابه (The Making of Humanity)

(( ما من ناحية من نواحي تقدم أوربا إلا وللحضارة الإسلامية فيها فضل كبير وآثار حاسمة لها تأثير كبير(189) )) .

ويقول في موضع آخر :

((لم تكن العلوم الطبيعية (التي يرجع فيها الفضل إلى العرب) هي التي أعادت أوربا إلى الحياة ولكن الحضارة الإسلامية قد أثرت في حياة أوربا تأثيرات كبيرة ومتنوعة منذ أرسلت أشعتها الأولى إلى أوربا(190) )) .

فلو جرت الأمور هكذا وتمتعت الأمم الإنسانية بقيادة الجماعة التي خُلقت بقيادتها وأعطيت القوس باريها ، وجرت المياه إلى مجاريها ، لكان للعالم الإنساني تاريخ غير التاريخ الذي نقرؤه حافلاً بالزلازل والنكبات ناطقاً بطول بلاء الإنسانية ومحنها ، لكان له تاريخ مجيد جميل يغتبط به كل إنسان ويقر عيناً ، ولكن جرت الأقدار بغير ذلك ، وبدأ الانحطاط في المسلمين أنفسهم .      

 

**********************************


الفصل الثاني

الانحطاط في الحياة الإسلامية

 

الحد الفاصل بين العصرين :

قال أحد الأدباء : (( أمران لا يحدد لهما وقت بدقة ، النوم في حياة الفرد ، والانحطاط في حياة الأمة ، فلا يشعر بهما إلا إذا غلبا واستوليا )) إنه لحق في قضية أكثر الأمم ، ولكن بدأ التدلّي والانحطاط في حياة الأمة الإسلامية أوضح منه في حياة الأمم الأخرى ، ولو أردنا أن نضع إصبعنا على الحد الفاصل بين الكمال والزوال لوضعنا على ذلك الخط التاريخي الذي يفصل بين الخلافة الراشدة والملوكية العربية أو ملوكية المسلمين .

 

نظرة في أسباب نهضة الإسلام :

كان زمام القيادة الإسلامية- والعالمية بالواسطة- بيد الرجال الذين كان كل فرد منهم معجزة جليلة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، إيماناً وعقيدة وعملاً وخلقاً وتربية وتهذيباً وتزكية نفس وسمو سيرة ، وكمالاً واعتدالاً ، لقد صاغهم النبي صلى الله عليه وسلم صوغاً ، وصبهم في قالب الإسلام صباً ، فعادوا لا يشبهون أنفسهم إلا في الأجسام لا في الميول والنزعات ، ولا في الرغبات والأهواء ، ولو دقق مدقق لما رأى في سيرتهم وأخلاقهم مأخذاً جاهلياً ينافي روح الإسلام والنفسية الإسلامية ، ولو تمثل الإسلام بشراً لما زاد على أن يكون كأحدهم ، وكانوا كما قلنا أمثلة كاملة وأقيسة تامة للدين والدنيا والجمع بينهما ، فكانوا أئمة يصلون بالناس ، وقضاة يفصلون قضاياهم ، ويحكمون بينهم بالعدل والعلم ، وأمنة لأموال المسلمين وخزنتهم ، وقواداً يقودون الجيوش ويحسنون تدبير الحروب ، وأمراء يباشرون إدارة البلاد ويشرفون على أمور المملكة ويقيمون حدود الله ، وكان الواحد منهم في آن واحد تقياً زاهداً وبطلاً مجاهداً ، وقاضياً فهماً ، وفقيهاً مجتهداً وأميراً حازماً وسياسياً محنكاً ، فكان الدين والسياسة يتمثلان في شخص واحد وهو شخص الخليفة وأمير المؤمنين ، حوله جماعة ممن تخرجوا- إن صح التعبير- في هذه المدرسة ، المدرسة النبوية ، أم المسجد النبوي ، أفرغوا في قالب واحد يحملون روحاً واحدة ، وتلقوا تربية واحدة ، يستشيرهم الخليفة ويستعين بهم ، فلا يقطع أمراً ذا بال حتى يشهدوه فسرت روحهم في المدنية ونظام الحكم وحياة الناس واجتماعهم وأخلاقهم ، وانعكست ميولهم ورغباتهم في المدنية وظهرت خصائصهم فيها ، فلا عداء بين الروح والمادة ولا صراع بين الدين والسياسة ولا تفريق بين الدين والدنيا ، ولا تجاذب بين المصالح والمبادئ ولا تزاحم بين الأغراض والأخلاق ، ولا تناحر بين الطبقات ، ولا تنافس في الشهوات .

 

شروط الزعامة الإسلامية :    

إن الزعامة الإسلامية تقتضي صفات دقيقة ، واسعة جداً نستطيع أن نجمعها في كلمتين  "الجهاد " و "الاجتهاد" ، فهاتان كلمتان خفيفتان بسيطتان ، ولكنهما كلمتان جامعتان عامرتان بالمعاني الكثيرة .

 

الجهاد :

أما الجهاد فهو بذل الوسع وغاية الجهد لنيل أكبر مطلوب ، وأكبر وطر للمسلم طاعة الله ورضوانه والخضوع لحكمه والإسلام لأوامره ، وذلك يحتاج إلى جهاد طويل شاق ضد كل ما يزاحم ذلك من عقيدة وتربية وأخلاق وأغراض وهوى وكل من ينافس في حكم الله وعبادته من آلهة في الأنفس والآفاق ، فإذا حصل ذلك للمسلم وجب عليه أن يجاهد لتنفيذ حكم الله وأوامره في العالم حوله وعلى بني جنسه ، فريضة من الله وشفقة على خلق الله ، ولأن الطاعة الانفرادية قد تصعب وتمتنع أحياناً بغير ذلك ، وذلك ما يسميه القرآن " الفتنة " ومعلوم أن العالم كله بما فيه من جماد ونبات وحيوان وإنسان خاضع لمشيئة الله وأحكامه التكوينية وقوانينه الطبيعية{وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ }  فيتعين أن جهاد المسلم إنما هو لتنفيذ شريعته التي جاء بها الأنبياء ، وإعلاء كلمته ونفاذ أحكامه ، فلا حكم إلا لله ولا أمر إلا له ، وهذا الجهاد مستمر ماض إلى يوم القيامة ، له أنواع وأشكال لا يأتي عليها الحصر ، منها القتال ، وقد يكون أشرف أنواعه وغايته أن لا تبقى في الدنيا قوتان متساويتان متنافستان تتجاذبان الأهواء والأنفس {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} .

ومن مقتضيات هذا الجهاد أن يكون الإنسان عارفاً بالإسلام الذي يجاهد لأجله وبالكفر والجاهلية التي يجاهد ضدها ، يعرف الإسلام معرفة صحيحة ويعرف الكفر والجاهلية معرفة دقيقة ، فلا تخدعه المظاهر ولا تغره الألوان ولا تعزه الألوان ، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما ينقض الإسلام عروة عروة من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية . ولا يجب على كل مسلم أن تكون معرفته دقيقة بالكفر والجاهلية ومظاهرهما وأشكالهما وألوانهما . ولكن على من يتزعم الإسلام ويتولى قيادة الجيش الإسلامي ضد الكفر والجاهلية ، أن تكون معرفته بالكفر والجاهلية فوق معرفة عامة المسلمين وأوساطهم .

كذلك يجب أن يكون استعدادهم كاملاً وقوتهم تامة ، يقارعون الحديد بالحديد بل بأقوى من الحديد ، ويقابلون الريح بالإعصار ، ويواجهون الكفر وأهله بكل ما يقدرون عليه ، وبكل ما امتدت إليه يدهم ، وبكل ما اكتشفه الإنسان ووصل إليه العلم في ذلك العصر ، من سلاح وجهاز واستعداد حربي ، لا يقصرون في ذلك ولا يعجزون : {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ }.

 

الاجتهاد :       

أما الاجتهاد فنريد به أن يكون من يرأس المسلمين قادراً على القضاء الصحيح في النوازل الحوادث التي تعرض في حياة المسلمين وفي العالم وفي الأمم التي يحكمها ، وفي المسائل التي تفاجئ وتتجدد ، والتي لا يستقصيها فقه مدون ومذهب مأثور وفتاوى مؤلفة ، ويكون عنده من معرفة روح الإسلام وفهم أسرار الشريعة والاطلاع على أصول التشريع وقوة الاستنباط – انفراداً أو اجتماعاً- ما يحل به هذه المشاكل ويرشد الأمة في الغمة .

ويكون عنده من الذكاء والنشاط والجد والعلم ما يستخدم به ما خلق الله في هذا الكون من قوى طبيعية ، وما بث في الأرض وتحت الأرض من خيرات ومنابع ثروة وقوة ، وأن يسخرها لمصلحة الإسلام بدل أن يستخدمها أهل الباطل لأهوائهم ، ويتخذوها وسيلة للعلو في الأرض ، ويسخرها الشيطان لتحقيق أغراضه والإفساد في الأرض .

 

انتقال الإمامة من الأكفاء إلى غير الأكفاء :

ولكن من الأسف ومن سوء حظ العالم البشري أن تولى هذا المنصب الخطير رجال لم يكونوا له أكفاء ، ولم يُعدوا له عدة ، ولم يأخذوا له أهبة ، ولم يتلقوا تربية دينية وخلقية كما تلقى الأولون وكثيرون في عصرهم وجيلهم ، ولم يسيغوا تعاليم الإسلام إساغة تليق بقيادة الأمة الإسلامية والاضطلاع بزعامتها ، ولم تنق رؤوسهم ولا نفوسهم من بقايا التربية القديمة ، ولم يكن عندهم من روح الجهاد في سبيل الإسلام ومن قوة الاجتهاد في المسائل الدينية والدنيوية ما يجعلهم يضطلعون بأعباء الخلافة الإسلامية- وهذا الحكم عام يشمل خلفاء بني أمية وبني العباس ، حاشا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (م 101هـ)  .

 

تحريفات الحياة الإسلامية :

فظهر من ذلك ثلمات في ردم الإسلام لم تسد إلى الآن ، ووقعت تحريفات في الحياة الإسلامية.

 

فصل الدين عن السياسة :

وقع فصل بين الدين والسياسة عملياً ، فإن هؤلاء لم يكونوا من العلم والدين بمكان يستغنون به عن غيرهم من العلماء وأهل الدين فاستبدوا بالحكم والسياسة ، واستعانوا- إذا أرادوا واقتضت المصالح- بالفقهاء ورجال الدين كمشيرين متخصصين ، واستخدموهم في مصالحهم واستغنوا عنهم إذا شاؤوا ، وعصروهم متى شاءوا ، فتحررت السياسة من رقابة الدين ، وأصبحت قيصرية أو كسروية مستبدة ، وملكاً عضوضاً ، وأصبحت السياسة كجمل هائج حبله على غاربه ، وأصبح رجال الدين والعلم بين معرضة للخلافة وخارج عليها ، وحائد منعزل اشتغل بخاصة نفسه وأغمض العين عما يقع ويجري حوله ، يائساً من الإصلاح ، ومنتقد يتلهف ويتنفس الصعداء مما يرى ولا يملك من الأمر شيئاً ، ومتعاون مع الحكومة لمصلحة دينية أو شخصية ، ولكلٍّ ما نوى ، وحينئذ انفصل الدين والسياسة ، وعادا كما كانا قبل عهد الخلافة الراشدة أصبح الدين مقصوص الجناح مكتوف الأيدي ، وأصبحت السياسة مطلقة اليد حرة التصرف نافذة الكلمة صاحبة الأمر والنهي ، ومن ثمَّ أصبح رجال العلم والدين طبقة متميزة ، ورجال الدنيا طبقة متميزة ، والشقة بينهما شاسعة ، وفي بعض الأحيان بينهما عداء وتنافس .

 

النزعات الجاهلية في رجال الحكومة :        

ولم يكن رجال الحكومة حتى الخلفاء أمثلة كاملة في الدين والأخلاق ، بل كان في كثير منهم عروق للجاهلية ونزعاتها ، فسرت روحهم ونفسيتهم في الحياة العامة والاجتماع ، وأصبحوا أسوة للناس في أخلاقهم وعوائدهم وميولهم ، وزالت رقابة الدين والأخلاق وارتفعت الحسبة وفقدت حركة الأمر المعروف والنهي عن المنكر سلطانها ، لأنها لا تستند إلى قوة ولا تحميها حكومة ، وإنما يقوم بها متطوعون لا قوة لديهم ولا عقاب ، والدواعي إلى خلافها متوافرة قوية ، فتنفست الجاهلية في بلاد الإسلام ورفعت رأسها ، وأخلد الناس إلى الترف والنعيم وإلى الملاهي والملاعب ، وانغمسوا في الملذات والشهوات واستهتروا استهتاراً ، ونظرة في كتاب الأغاني وكتاب الحيوان للجاحظ تُريك ما كان هنالك من رغبة جامحة إلى اللهو ، وتهافت على الملاهي والملذات ، ونهمة للجياة الدنيا وأسبابها ، وبهذه السيرة ، وبهذه الأخلاق المنحطة ، ومع هذا الانهماك في الملاهي لا تستطيع أمة أ تؤدي رسالة الإسلام ، وأن تقوم في الدنيا مقام خلفاء الأنبياء ، وتذكر بالله والآخرة وتحض على التقوى والدين ، وأن تكون أسوة للناس في أخلاقها ، بل لا تستطيع أن تتمتع بالحياة والحرية زمناً طويلاً : {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } .

 

سوء تمثيلهم للإسلام :  

وكان هؤلاء في كل ما يأتون ويذرون ممثلين لأنفسهم وسياستهم فقط ، لا يمثلون الإسلام ، ولا سياسته الشرعية ، لا قانونه الحربي ، ولا نظامه المدني ، ولا تعاليمه الأخلاقية إلا في النادر ففقدت رسالة الإسلام تأثيرها وقوتها في قلوب غير المسلمين وضعفت ثقتهم به . وفي لفظ مؤرخ أوربي- بدأ الإسلام بالانحطاط ، لأن البشرية بدأت تشك في صدق القائمين بتمثيل الديانة الجديدة .

 

قلة الاحتفال بالعلوم العملية المفيدة :  

إن العلماء المفكرين منهم لم يعتنوا بالعلوم الطبيعية التجريبية والعلوم العملية المثمرة المفيدة اعتناءهم بعلوم ما بعد الطبيعة والفلسفة الإلهية التي تلقوها من اليونان وما هي إلا وثنيتهم القومية التي ترجموها في لغتهم الفلسفية ، وأضفوا عليها لباساً من الفن ، وما هي إلا ظنون وتخمينات وطلاسم لفظية لا حقيقة لها ولا معنى ، وقد أغنى الله المسلمين عنها وكفاهم هذا البحث والتنقيب ، وعملية تجزئة وتحليل في مسائل ذات الله وصفاته وما يتعلق بها أشبه بالتحليل الكيمياوي بما أنزل إليهم بينات من الهدى والفرقان وجعلهم على نور من ربهم ، ولكن المسلمين لم يشكروا هذه النعمة العظيمة ، وظلوا قروناً طويلة يجاهدون من هذه العلوم والمباحث في غير جهاد ، ويضيعون ذكاءهم في مباحث فلسفية وكلامية لا تجدي نفعاً ولا تأتي بنتيجة ، وليس لها دعوة في الدنيا والآخرة ، وتشاغلوا بها عن علوم واختبارات تسخر لهم قوى الطبيعة ويسخرونها لمصلحة الإسلام ، ويبسطون بها سيطرة الإسلام المادية والروحية على العالم كله .

وكذلك اشتغلوا بمباحث الروح وفلسفة الإشراق ومسائل وحدة الوجود ، وبذلوا فيها قسطاً كبيراً من أوقاتهم وجهودهم وذكائهم .

أما ما وصل إليه المسلون في العلوم الطبيعية والتجريبية، فإنه وإن كان أرقى من العصور السابقة وأكثر ثروة في العلم والاختبار ، إلا أنه لا يتناسب مع فتوحهم الواسعة في دوائر علمية أخرى ، ولا يتلاءم مع المدة الطويلة التي تمتعوا بها في التاريخ ، ولم يظهر فيها من النوابغ والعبقريين مثل ما ظهر في موضوعات أخرى .

وإن ما خلفوه من كتب في الطبيعيات والكونيات والتجارب العلمية ، وإن ما كانت مما استفادت به أوربا في نهضتنا وأقرت بقيمتها ، إلا أنها تتضاءل جداً أمام هذه المكتبة الهائلة الزاخرة التي أنتجتها أوربا في القرنين السابع عشر والثامن عشر فقط ، فمهما افتخرنا بآثار علماء الأندلس وحكماء الشرق ، فإنها لا تعد شيئاً بجانب الإنتاج الغربي الضخم في العلم والحكمة والتجربة والاختبار ، لا في الكمية ولا في الكيفية ، ولا في الإبداع ولا في الابتكار ، ولا في التدقيق العلمي ولا في الإتقان الفني ، وإذا أرادت أن تعرف مقدار عناية الشرق الإسلامي بالناحية الروحية ونسبتها إلى الناحية العلمية والتجريبية فقارن بين كتاب الفتوحات المكية للشيخ ابن عربي مثلاً وبين أكبر كتاب في الطبيعيات والحكمة ، تر فرقاً هائلاً في ضخامة المادة والعناية بالموضوع والجهاد في سبيله ، وبذلك تعرف ذوق الشرق الغالب عليه .

 

الضلالات والبدع : 

وكاد يحجب توحيد الإسلام النقي حُجُبٌ من الشرك والجهل والضلالة ، وطرأت على النظام الديني بدع شغلت مكاناً واسعاً من حياة المسلمين وشغلتهم عن الدين الصحيح ، وعن الدنيا وميزة المسلمين بين أمم الأرض وفضلهم إنما هو من هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وميزة هذا الدين وإعجازه في صحته وحفظه ، لأنه يمتاز بأنه وحي الله وشريعته ووضعه المعجز وشرعه الحكيم  { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } فإذا عملت فيه عقول الناس ودخلت فيه أعمال الناس وأهواؤهم لم يكن له على الأديان التي حرفها أهلها ، والنظم التي نسجتها أيدي الناس إلا بمقدار ما فيه من الوحي المحفوظ والعلم المعصوم ، ولم يكن ضامناً لسعادة الدنيا والآخرة ، ولم يكن حقيقاً بأن تخضع له العقول وينجذب إليه الناس .

 

 

 

إنكار الدين على المسلمين وإهابته بهم :                   

ولا يغربن عن البال أن الدين لم يزل طول هذه المدة حياً محفوظاً من التحريف والتبديل ، مهيباً بالمسلمين ناعياً عليهم انحرافهم عن طريقه ، ولم يزل مناره عالياً وضوءه مشرقاً {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ولم يزل الكتاب والسنة يبعثان في نفوس القراء ثورة على الشرك والبدع ، وعلى الجهالة والضلالة وثورة على أخلاق الجاهلية وعوائدها ، وثورة على ترف المترفين واستبداد الملوك ، ولم يزل ينهض بتأثيرهما في كل دور من أدوار التاريخ الإسلامي ، وفي كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي رجال يقومون في هذه الأمة على طريق الأنبياء ، يجددون لها أمر دينها ، وينفخون فيها روح الجهاد ، ويفتحون لها باب الاجتهاد ، ويسعون لإقامة حكومة إسلامية على منهاج الخلافة الراشدة ، فمنهم من استشهد في هذه السبيل ، ومنهم من استطاع أن يمثل دوراً قصيراً يذكر بالخلافة الراشدة : {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } وهم مصداق الحديث الشريف : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله )) فتاريخ الجهاد والتجديد في الإسلام متصل لا تقطعه فترة ، ومشاعل الإصلاح متسلسلة بعضها من بعض لم تطفئها العواصف(191) .

 

حسن بلاء العالم الإسلامي في القرن السادس :         

في القرن السادس الهجري منَّ الله على العالم الإسلامي- الذي بدت عليه أمارات الضعف والشيخوخة بعد السلاجقة وتوزعه ملوك وأمراء في الأنحاء- بقادة كبار حفظ الله بهم شرف الإسلام وعزته ، وأعاد بهم الحياة إلى العالم الإسلامي المنهار ، بدأت الغزوات الصليبية- التي كانت تهدف أولاً إلى الاستيلاء على الأماكن المقدسة عند المسيحيين- تتحدى الإسلام والمسلمين كلهم ، وتهدد الجزيرة العربية ومهد الإسلام والدول المجاورة للشام ، واستولى الصليبيون الأوربيون فعلاً على القدس وعلى عامة مدن الشام وقلاعه ، وطمعوا في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانوا أكبر خطر على الإسلام والمسلمين بعد فتنة الردة ، هنالك قيض الله للإسلام عماد الدين أتابك زنكي (م 541هـ) الذي قارع الصليبيين وهزمهم في معارك كثيرة وفتح الرُّها ، وقام بعده ولده العظيم الملك العادل نور الدين محمود زنكي (م 569هـ) وصمم على إجلاء الصليبيين من الشام واسترداد القدس للمسلمين ، ومات رحمة الله عليه قبل أن يكمل مهمته وخلفه في ذلك أحد رجاله ومرشحيه الملك الناصر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر ، وهو الرجل الذي هيأه الله لهذه المهمة العظيمة وجمع فيه من خصال الحزم والعزم والإخلاص والتجرد للغاية والحرص على الجهاد والتفاني في سبيله وعلو الهمة في نصر الإسلام وقتال أهل الكفر والبغي ، وحسن القيادة وقوة التنظيم والصلاح والديانة والفتوة الفائقة والإنسانية السامية ومكارم الأخلاق ما لا يجتمع إلا في أفذاذ الرجال في العالم ، فكان بذلك معجزة من معجزات الإسلام ودليلاً على أن الإسلام لم ينته دوره ولم يفقد الحيوية والإنتاج ، وقد توحد العالم الإسلامي من بين نهر الفرات وبين النيل للمرة الأولى بعد مدة طويلة ليقاتل أوربا التي تدفقت جيوشها واندفع ملوكها وأمراؤها وقوادها الكبار ليهاجموا العالم الإسلامي ، وقد اجتمع تحت لواء صلاح الدين للجهاد أجناس كثيرة من المسلمين لم تجتمع قبل ، والتهبت شعلة الجهاد والغيرة الإسلامية بعد مدة طويلة ، واستخدم صلاح الدين للجهاد كل ما وصل إليه العالم الإسلامي من العلم والاختراع وصناعة الحرب يومئذ ، هو كل ما أوتي من الذكاء والصبر والتفكير وهزم الصليبيين في حطين عام (583هـ) هزيمة منكرة وكسر شوكتهم وفتح القدس في العام نفسه واستولى على فلسطين لها وانحصر الصليبيون في " صور" فقط ، ألقت أوربا أفلاذ أكبادها ، وجاءت بحدها وحديدها واجتمعت جيوشها الكثيفة تحت قيادة القائد الكبير رتشارد Richard  ملك انكلترا وكانت الحرب بين الصليبيين والمسلمين سجالاً حتى وقعت الهدنة سنة 588هـ (2 سبتمبر 1192 المسيحي) وجلا معظم الغزاة الصليبيين عن فلسطين ورجع رتشارد إلى ملكه ، وبعد ذلك بسنة استأثر الله بصلاح الدين .

ويحسن بنا أن ننقل هنا ما علق المؤرخ الانكليزي Stanley Lave people  على هذه الهدنة في كتابه عن صلاح الدين ، وبه نستطيع أن نعرف قوة العالم الإسلامي ووحدته تحت قيادة صلاح الدين :

(( انتهت الحرب المقدسة التي استمرت خمسة أعوام ، لقد كان المسلمون قبل انتصارهم في معركة حطين في يوليه سنة 1187م ولا يملكون قيراطاً من الأرض غربي نهر الأردن ، أما في سبتمبر سنة 1192م لما وقع الصلح في الرملة فقد ملكوا البلاد كلها إلا سلسلة ضيقة تمتد من صور إلى يافا كان المسيحيون لا يزالون يملكونها ، ولم تكن هذه الهدنة مما يخجل لها صلاح الدين ويتأسف ، لقد بقي معظم ما فتحه الصليبيون في حوزة الإفرنج ، ولكن كانت النتيجة تافهة جداً بالنسبة إلى خسائر الأموال والنفوس . فقد زحفت أوربا كلها إلى الأرض المقدسة لما استفزها البابا للغزو الصليبي ، وبذل القيصر فريدرك وملوك انكلترا وفرنسا وصقلية وليوبولد النمساوي والدوق البرجندي والكونت الفلاندري مئات من النبلاء والمشاهير وأمراء الشعوب المسيحية وملك حكومة القدس المسيحية وملوك الحكومات النصرانية في فلسطين وفرسان طبقة الداوية وطبقة الإسبتار وأبطالها ، لقد بذل هؤلاء كلهم كل ما في وسعهم للاستيلاء على القدس ولتزدهر الحكومة المسيحية التي كانت مركزها القدس ، والتي أشرفت على الانقراض . ولكن ماذا كان مصير هذه الجهود كلها ؟ مات القيصر فريدرك في هذه المدة ، ورجع ملوك انكلترا وفرنسا إلى بلادهم ودفن كثير من زملائهم الأمراء والنبلاء في أرض إيليا وبقي القدس في حوزة صلاح الدين ، كما كان ، ولم يكن من حظ المسيحيين إلا إمارة عكة الصغيرة على الساحل .

لقد وقف العالم المسيحي وقفة رجل واحد إزاء المسلمين ، ولكنه لم يستطع أن يزحزح صلاح الدين عن مكانه ، كان جيش صلاح الدين قد أعياه الجهاد الطويل والمتاعب العظيمة ، وقد ظل أعواماً طوالاً مرابطاً مناضلاً مكافحاً عدواً قوياً جداً لكن لم يسمع من جندي واحد أنين أو شكاة. أنهم لم يتأخروا يوماً في الحضور ولم يضنوا قط بالنفائس والنفوس كلما دعاهم صلاح الدين للجهاد وكلما استفزهم للقتال ، وربما شكا أحد الأمراء التابعين له في بعض أودية دجلة البعيدة من هذه النجدة التي لا تكاد تنتهي ولكن قدموا بعوثهم وحضروا لجيوشهم لنصرة السلطان كلما طلبوا . وقد قاتل الجيش الموصلي بكل بطولة وحماسة في حرب أرسوف الأخيرة وكان السلطان واثقاً بأنه سيأتيه المدد من جيوش مصر والعراق وكذلك من جيش الشام الشمالي والمركزي . وكان التركمان والعرب والمصريون مسلمين وخدمة أوفياء للسلطان وحضروا كالعبيد كلما طلبهم السلطان وقد مزج السلطان هذه العناصر المختلفة مزجاً غريباً وألف بينهم رغم ما فيها من اختلاف في الجنس والقومية وما بين أفرادها من خلافات داخلية ومنافسات قبلية فكانوا كالجسد الواحد . وقد عانى السلطان بعض الصعوبة في توحيد هذه الأجناس ، وقد ظهرت في بعض المناسبات بوادر الخلاف فقد تمرد الجيش في يافا مرة ، ولكن رغم ذلك كله بقيت هذه الأمم المختلفة الأجناس إلى خريف سنة 1192 م خاضعة لأمر السلطان وظلت تجاهد في سبيل الله من سنة 1187 م العام الذي طلبها فيه صلاح الدين للجهاد ، وفي خلال هذه المدة الطويلة لم يسجل التاريخ حادثة عصت فيها مقاطعة أو ثارت فيها دولة تابعة أو رئيس من الرؤساء ، وكانت الآمال الكبيرة التي عقدت بنصيحتهم ومثابرتهم تعي الراسخين في الوفاء والجن الأقوياء ، إنما علمنا قريباً من أقربائه في العراق ثار عليه ، ولكن السلطان منَّ عليه بالعفو ، وهدأ الرجل ، وبذلك يعلم ما كان للسلطان من نفوذ غريب في دولته ورعيته ، وانتهت الحرب التي استمرت خمسة أعوام وانتهت محنها ومتاعبها والسلطان هو الملك الوحيد من جبال الكرد إلى صحراء النوبة ، وكان ملك بلاد الكرد ملك آرمينيا وسلطان قونية وقيصر قسطنطينية وراء هذه الحدود يحرصون على صداقة صلاح الدين ومساعدته ، وما قبل صلاح الدين أن يكون عليه منة لأحد من هؤلاء ، ولم يحضروا قط لنجدته إنما حضروا لتهنئته .

وكان صلاح الدين بطل هذه المعركة ومركز هذه الدائرة ، وكان أخوه العادل هو الشخصية الثانية التي ظهرت على مسرح القتال ، ولا نعرف أحداً من القواد والأمراء استولى عليه ، وكان عنده مجلس حربي يستشيره في أمور الحرب ، وقد وقع نادراً أن غلب رأي هذا المجلس الخاطئ على رأي السلطان الصحيح ، كما كان أمام صور وعكة ، ولكن لم يكن أحد من أعضاء هذا المجلس مستأثراً به دون غيره ، لقد كان الإخوة والأبناء ، وأبناء الإخوان ، والزملاء القدماء ، والولاة الجدد ، والعقلاء ، والقضاة الأذكياء ، والمعتمدون الأوفياء ، والمتعصبون ، والوعاظ ، والعلماء كلهم متفقين على الجهاد ، وقاتلوا تحت لوائه جنباً بجنب ، وخدموه بكل ما عندهم من قوة وكفاية ونصيحة ، وكان كل يعلم أن صلاح الدين سيد الجميع وأميرهم ، وكان قلب واحد وإرادة واحدة تسيطر عليهم في أزمات مختلفة وساعات عصيبة وحروب طاحنة ، هو قلب صلاح الدين القوي وإرادته الحديدية )) اهـ .

 

فقر القيادة في العالم الإسلامي بعد صلاح الدين :

مات صلاح الدين بعدما قضى مهمته إلى حد بعيد ، وانجلى الخطر القريب العاجل الذي كان يهدد كيان الإسلام ومركزه ، وتراجع سيل الصليبيين وقد تعلموا دروساً مفيدة ودرسوا جوانب الضعف والقوة في كلتا الجبهتين ، رجعوا ليستعدوا للصليبية الجديدة في القرن التاسع عشر المسيحي ، وعاد المسلمون إلى سيرتهم الأولى من انقسام وتنافس ، وتطاحن وغفلة ، ولم يرزق العالم الإسلامي بعد ذلك قائداً مخلصاً للإسلام ، مؤثراً لمصلحته على هواه ، متجرداً للجهاد ، محبباً تجتمع حوله القلوب مثل صلاح الدين الذي استطاع بحول الله وقوته وبمواهبه العظيمة أن يدحر أوربا كلها ، ويحفظ للإسلام ملكه وشرفه ، وعم لانحطاط في العالم الإسلامي واستفحل مع الأيام .

 

نتائج القرون المنحلة : 

وظلت خلية الإسلام تعمل في أدوار الانحطاط أيضاً ، ويظهر من الملوك والفاتحين أفراد هم أنموذج الصحابة والسلف الصالح في سيرتهم وأخلاقهم ، في دينهم وتقواهم ، وينهض في العالم الإسلامي رجال يتجمل التاريخ بذكرهم .

وكان المسلمون- رغم انحرافهم عن سيرتهم الأولى وطريقهم المثالي- أقرب إلى طريق الأنبياء وأطوع لله من الأمم الجاهلية المعاصرة لهم ، وكان وجودهم ودولتهم أكبر عائق للجاهلية في انتشارها وازدهارها ، وكانوا رغم نقائصهم أكبر قوة في العالم تهابها الدول ، وتحسب لها كل حساب .

 

انهيار صرح القوة الإسلامية :

ولم تزل تضعف هذه القوة وتهن بدون أن يشعر بذلك الأجانب حتى إذا خضِّدت شوكة المسلمين في القرن السابع لما مزق التتار حكومة خوارزمشاه – المملكة الإسلامية الأخيرة- وسقطت بغداد في أيديهم زال ذلك الشبح المخيف وسقط المجدار(192) ، فعاثت الطيور والوحش في الحقل ، وتجاسر الناس على المسلمين وبلادهم .

ورث التتار والمغول تراث المسلمين وخلفوهم في الحكومة ، وناهيك به بؤساً وشقاء للإنسانية وخراباً للعالم أن يتولى قيادة العالم أمة جاهلة وحشية ليس عندها دين ولا علم ولا ثقافة ولا حضارة .

 

**************************


الفصل الثالث

دور القيادة العثمانية

 

العثمانيون على مسرح التاريخ :

في ذلك الحين ظهر الترك العثمانيون على مسرح التاريخ ، وفتح محمد الثاني بن مراد ، وهو ابن أربع وعشرين سنة القسطنطينية العظمى عاصمة الدول البيزنطية المنيعة سنة 753هـ (1453 م) فتجدد رجاء الإسلام وانبعث الأمل في نفوس المسلمين ، وكان الترك وعلى رأسهم آل عثمان موضعاً للثقة في قيادة الأمم الإسلامية وفي استرداد قوة المسلمين ومكانتهم في العالم ، وكان فتحهم للقسطنطينية التي استعصت على المسلمين ثمانية قرون(193) دليلاً على كفاءتهم وقوتهم ، وبلوغهم درجة الاجتهاد في صناعة الحرب ، وحسن قيادتهم العسكرية وتفوقهم على الأمم المعاصرة في آلات الحرب واستخدامهم لمهمتهم قوة العلم والعمل . وكل ذلك ما لا غنى للأمة عنه .

 

تفوق محمد الفاتح في فن الحرب :   

وقد كان محمد الفاتح- كما يقول درابر- يعرف العلوم الرياضية ويحسن تطبيقها على الفن الحربي ، وكان قد أعد لهذا الفتح عدته ، واستفاد كل ما في عصره من معدات حربية

قال البارون " كارادفور " (Barron Carra de vaux)  في كتابه " مفكرو الإسلام " في الجزء الأول منه عند ترجمة محمد الفاتح :

(( إن هذا الفتح لم يُقيَّض لمحمد الفاتح اتفاقاً ، ولا تيسير لمجرد ضعف دولة بيزنطية ، بل كان هذا السلطان يدبر التدابير اللازمة له من قبل ، ويستخدم له كل ما كان في عصره من قوة العلم ، فقد كانت المدافع حينئذ حديثة العهد بالإيجاد ، فأعمل في تركيب أضخم المدافع التي يمكن تركيبها يومئذ وانتدب مهندساً مجرياً ركب مدفعاً كان وزن الكرة التي يرمي بها 300 كيلو جرام ، وكان مدى مرماه أكثر من ميل ، وقيل : إنه كان يلزم لهذا المدفع 700 رجل ليتمكنوا من سحبه ، وكان يلزم له نحو ساعتين من الزمن لحشوه ، ولما زحف محمد الفاتح لفتح القسطنطينية كان تحت قيادته ثلاثمائة ألف مقاتل ، ومعه مدفعية هائلة ، وكان أسطوله المحاصر للبلدة من البحر (120) سفينة حربية ، وهو الذي- من قريحته- تصور سحب جانب من الأسطول من البر إلى الخليج وأزلق على الأخشاب المطلية بالشحم (70) سفينة أنزلها في البحر من جهة قاسم باشا(194) )).

 

مزايا الشعب التركي :

وقد تفرد الشعب التركي المسلم تحت قيادة آل عثمان بمزايا اختص بها من بين الشعوب الإسلامية يومئذ واستحق بها زعامة المسلمين :

أولاً- أنه كان شعباً ناهضاً متحمساً طموحاً فيه روح الجهاد ، وكان سليماً- بحكم نشأته وقرب عهده بالفطرة والبساطة في الحياة- من الأدواء الخلقية والاجتماعية التي أصابت الأمم الإسلامية في الشرق في مقتلها .

ثانياً- أنه كان متوفراً لديه القوة الحربية التي يقدر بها على بسط سيطرة الإسلام المادية والروحية ، ويرد بها غاشية الأمم المناوئة وعاديتها ، ويتبوأ بها قيادة العالم ، فقد بادر العثمانيون في صدر دولتهم لاستعمال المعدات الحربية وخصوصاً النارية منها واهتموا بالمدافع وأخذوا بالحديث الأحدث من آلات الحرب ، عُنوا بفن الحرب وتنظيم الجيوش وتعبئتها حتى صاروا في صناعة الحرب أئمة بغير نزاع ، والمثل الكامل والقدوة لأوربا .

وكانوا يحكمون في ثلاث قارات : أوربا ، وآسيا ، وإفريقية ، ملكوا الشرق الإسلامي من فارس حتى مراكش ، ودوخوا آسيا الصغرى وتوغلوا في أوربا ، حتى بلغوا أسوار " فيينا " وكانوا سادة البحر المتوسط من غير نزاع ...... قد جعلوه بحيرة عثمانية لا أثر للأجنبي حوله وقد كتب معتمد القيصر بطرس الأكبر لدى الباب العالي أن السلطان يعتبر البحر الأسود كداره الخاصة فلا يباح دخوله لأجنبي ، وأنشأوا أسطولاً عظيماً لا قبل لأوربا به حتى اجتمعت لسحقه كل من عمارات البابا والبندقية وإسبانيا والبرتغال ومالطة عام 945هـ -1547م – ولكن لم تغن عنهم كثرتهم شيئاً .

وقد جمعت الإمبراطورية العثمانية في عهد سليمان القانوني الكبير بين السيادتين البرية والبحرية وبين السلطتين السياسية والروحية .

بلغت حدود الدولة العثمانية على ملك سليمان الطونة والصاوة (النهرية) في الشمال ونبع النيل والمحيط الهندي في الجنوب وسلسلة جبال القفقاس في الشرق وجبال أطلس في الغرب وهي مساحة تزيد على 400 ألف ميل مربع .

وكان الأسطول العثماني مؤلفاً مما يزيد على 2000 مركب حربي ، وكان القسم الشرقي من بحر سفيد وبحر الأدرياتيك ومرمرة وأزاق والأسود والأحمر وفارس في حوزته وتحت سيطرته .

ودخل كل مدينة شهيرة في العالم القديم ما عدا رومة في ضمن حدود الدولة العثمانية(195) ، وكانت أوربا كلها ترتعد منهم فرقاً ، ويدخل ملوكها الكبار في ذمة ملوكهم ، ويمسك أهل الديار عن قرع أجراس كنائسهم احتراماً للترك إذا نزلوا بها وأمر البابا أن يحتفل بعيد ، وأن تقام صلوات الشكر مدة ثلاثة أيام لما أتاه نعي محمد الفاتح .

ثالثاً- كانوا في أحسن مركز للقيادة العالمية . كانوا في شبه جزيرة البلقان بحيث يشرفون منها على آسيا وأوربا ، وكانت عاصمتهم واقعة بين البحرين الأسود والأبيض ، وواصلة بين البرين آسيا وأوربا ، فكانت خير عاصمة لأكبر دولة تحكم على آسيا وأوربا وأفريقية ، حتى قال نابليون : (( لو كانت هناك دولة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها )).

وكانت أوربا لها الخطر الكبير والشأن العظيم في المستقبل القريب ، تزخر فيها القوى الحيوية وتجيش فيها صدورها عوامل الر قي ، فكان في استطاعة الترك- لو وفق الله- أن يتقدموا في ميدان العلم والعقل ويسبقوا أمم أوربا النصرانية ويصبحوا أئمة العالم يقودونه إلى الحق والهدى قبل أن تملك أوربا زمام العالم وتقوده إلى النار والدمار .

انحطاط الأتراك في الأخلاق وجمودهم في العلم وصناعة الحرب : 

ولكن من سوء حظ المسلمين- فضلاً عن سوء حظ الأتراك- أخذ الترك في الانحطاط والتدلي ودب إليهم داء الأمم من قبلهم : الحسد والبغضاء واستبداد الملوك وجورهم وسوء تربيتهم وفساد أخلاقهم وخيانة الأمراء وغشهم للأمة وإخلاد الشعب إلى الدعة والراحة ، إلى غير ذلك من أخلاق الأمم المنحطة مما هو مبين في كتب التاريخ التركي ، وليس هذا موضع تفصيله ، وكان شر ما أصيبوا به الجمود في العلم والجمود في صناعة الحرب وتنظيم الجيوش ، وقد نسوا قول الله تعالى : {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } الخ . وقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها )) ، وكان خليقاً بهم- لحرج مركزهم السياسي والجغرافي، وقد أحاطت بهم الدول الأوربية إحاطة السور بالمعصم - أن يجعلوا وصية القائد الإسلامي الكبير عمرو بن العاص رضي الله عنه للمسلمين في مصر نصب أعينهم :  ((واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم وتشوف قلوبهم إليكم وإلى داركم )) ولكن الترك وقفوا وتقدم الزمان ، وتخلفوا وسبقت الأمم الأوربية .

 

الجمود العلمي في تركيا :      

وقد وصفت الكاتبة خالدة أديب هانم هذا الجمود العلمي في تركيا وصفاً يحسن بنا أن ننقله هنا قالت :

(( ما دامت فلسفة المتكلمين تهيمن على الدنيا ظل علماء الإسلام في تركيا يقومون بواجبهم ويحسنون القيام به ، وكانت المدرسة السليمانية ومدرسة الفاتح مركزين للعلوم والفنون السائدة في ذلك الزمان ، لكن لما نشط الغرب من عقال الفلسفة الإلهية والمباحث الدينية الكلامية ووضع أساس العلم الحديث والحكمة الجديدة فأحدث انقلاباً في العالم لم تعد جماعة العلماء تقدر على الاضطلاع بأعباء التعليم والقيام بواجبات المعلمين . كان يعتقد هؤلاء أن العلم لا يزال حيث كان في القرن الثالث عشر المسيحي لم يتجاوز ذلك المقام ولم يتقدم ، ولم تزل هذه الفكرة الخاطئة سائدة على نظامهم التعليمي إلى القرن التاسع عشر المسيحي )).

(( إن فكرة علماء تركيا والبلاد الإسلامية الأخرى هذه ليست من الدين في شيء ، إن الفلسفة الإلهية أو علم الكلام الذي كان عند المسلمين أو النصارى ، إنما كان مبنياً على فلسفة الإغريق ، وكان الغلبة فيه لأفكار أرسطاطاليس الذي كان فيلسوفاً وثنياً ، ويجدر بي في هذا المقام أن أقارن بإجمال بين عقلية العلماء المسيحيين والمسلمين )).

((لم يتعرض القرآن الكريم بالتفصيل لمسألة خلق العالم الطبيعي ، والقسط الأوفى في تعليمه والأهمية الكبرى للحياة الخلقية والاجتماعية ، ومقصوده الأكبر فصل ما بين الحسن والقبيح والخير والشر ، إنه جاء بشريعة للعالم ، وكلما ذكر مسألة من مسائل ما بعد الطبيعة أو المعارف الروحية قلما نرى فيها تعقداً أو إشكالاً ، إن أساس تعليمه التوحيد ، فكان الإسلام ديناً سمحاً بسيطاً ، وهو أفسح صدراً للنظريات الجديدة عن العالم الطبعي من الأديان الأخرى بكثير ، ولكن هذا التسامح وهذه البساطة التي كانت تساعد في التحقيق العلمي الجديد لم تطل مدتها في حياة المسلمين . قيد العلماء والمتكلمون في القرن التاسع الهجري الإلهيات- فضلاً عن الفقه- بسلاسل وقيود ، وأوصدوا باب التحقيق والاجتهاد ، في ذلك الوقت تغلغلت أفكار أرسطاطاليس في الفلسفة الإسلامية )).

(( بالعكس من ذلك الدين المسيحي- الذي هو أولى بأن يسمى دين الراهب بولس- فإن (سفر بدء التكوين) يحتوي على تفصيل للعالم الطبيعي ، وإذ آمن النصارى بأنه كلام الله كان الواجب عليهم أن يقرروا صدقه ، ولما كانت المشاهدة لا تؤيدهم في هذا التأويل لجأوا إلى الاستدلال وتمسكوا بأهداب أرسطاطاليس ، لأن منطقه يعمل عمل السحر )) .

(( ولما بدأ الغرب في دراسة الطبيعة بواسطة المشاهدة والاختبار والتحليل والتجزئة سقط في أيدي رجال الكنيسة ، ولما وصل العلماء بطرق عملية إلى اكتشافات مهمة خاف علماء النصرانية على سيادة الكنيسة أن تنقرض ، فحدث صراع عنيف بين الدين والعلم ، وذهب كبار علماء الطبيعة الذين كانوا عاكفين على دراستهم وتحقيقهم ضحية علمهم )) .

(( واضطرت الكنيسة النصرانية بعد المعارك الدموية بين الدين والعلم أن تواجه الواقع ، فأدخلت علوم الطبيعة في برنامج مدارسها وكلياتها ، وأصبحت جامعاتها التي لم تكن تختلف بالأمس عن مدارس المسلمين ، مركزاً للعلوم الطبيعية والعلوم لحديثة ، ولم تهجر مع هذا فلسفتها ، وكان نتيجة ذلك أن ظل للكنيسة سلطان على فريق من الطبقة المثقفة ، وكان للقسس الكاثوليك والبروتستانت مشاركة في العلوم الحديثة ، وكانوا يقدرون على أن يباحثوا الناشئة في كل موضوع )).

(( وكان العلماء في تركيا العثمانية على الضد من ذلك ، فلم يعنوا باكتساب العلوم الحديثة ، بل منعوا الأفكار الجديدة أن تدخل في منطقتهم ، وإذ كانوا متصرفين بزمام تعليم الأمة الإسلامية ولم يسمحوا لشيء طريف بأن يقرب منهم ، فإن الجمود قد تغلب على نظامهم التعليمي ، وكانت مشاغلهم السياسية قد طغت في دور الانحطاط ، وكانت  تسمح لهم بأن يتحملوا متاعب المشاهدة والاختبار ، فلم يكن لهم إلا أن يلحوا على فلسفة أرسطاطاليس ، ويبنوا علمهم على لاستدلال ، فلم تزل المدارس الإسلامية في القرن التاسع عشر المسيحي ، كما كانت في القرن الثالث عشر المسيحي(196) )) .

 

الانحطاط الفكري والعلمي العام :         

ولم يكن الجمود العلمي والكلال الفكري مقتصرين على تركيا وأوساطها العلمية والدينية فحسب ، بل كان العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه مصاباً بالجدب العلمي ، وشبه شلل فكري ، قد أخذه الإعياء والفتور ، واستولى عليه النعاس . ولعل القرن التاسع- إذا لم نقل القرن الثامن- آخر قرون النشاط والتوليد والابتكار في الدين والعلم ، والأدب والشعر والحكمة ، والقرن العاشر أول قرون الخمود والتقليد والمحاكاة ، وترى هذا الخمود عاماً شاملاً للعلوم الدينية والفنون الأدبية والمعاني الشعرية والإنشاء والتاريخ ومناهج التعليم ، فلا تجد في كتب التراجم التي ألفت للعصور الأخيرة من تطلق عليه لقب العبقري ، أو النابغة أو المحقق على الأقل ، أو من جاء في فن من الفنون بشيء طريف مبتكر ، أو زاد في العلم زيادة حسنة إذا استثنينا بعض الأفراد في أطراف العالم الإسلامي ، كالشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي (م1024هـ) صاحب الرسالة الخالدة في الشريعة والمعارف الإلهية ، والشيخ ولي الله بن عبدالرحيم الدهلوي (م1176هـ) صاحب حجة الله البالغة وإزالة الخفاء والفوز الكبير ورسالة الإنصاف ، وابنه الشيخ رفيع الدين (م1233هـ) صاحب تكميل الأذهان وأسرار المحبة ، والشيخ إسماعيل بن عبدالغني بن ولي الله الدهلوي (م1246هـ) صاحب منصب الإمامة والعبقات والصراط المستقيم(197) .

ولا نقرأ في شعر هذه العصور الأخيرة على كثرة ما نظم وقيل فيها شعراً مطبوعاً يعلق بالذهن أو إنشاء مترسلاً ينشرح له الصدر ، ترى أدباً فاتراً بارداً قد أفسده التأنق في الحلية اللفظية والمبالغة والتهويل في الألفاظ والمعاني وكثرة التملق في المدح والغزل بالمذكر في الشعر ، والتكلف حتى في الرسائل الإخوانية والأغراض الطبيعية والسجع البارد حتى في كتب التاريخ والتراجم .

كذلك حلقات التعليم قد رحلت عنها كتب المتقدمين وحلت محلها كتب المتأخرين المتكلفين وغصت بالحواشي والتقريرات والتلخيصات والمتون التي ضن فيها مؤلفوها على القرطاس ، وتعمدوا التعقيد والغموض ، وكأنهم ألفوها في صناعة الاختزال ، وكل ذلك ينبئ عن الانحطاط الفكري والعلمي الذي حل بالعالم الإسلامي وتغلغل في أحشائه .

 

معاصرو العثمانيين في الشرق : 

وعاصرت الدولة العثمانية دولتان قويتان في الشرق ، إحداهما الدولة المغولية التي أسسها بابر التيموري (سنة 933هـ 1546م) وكان معاصراً للسلطان سليم الأول وتوالى على عرشها ملوك من أعظم المسلمين شوكة وأبهة وقوة حربية واتساع مملكة ، وكان أعظمهم أورنك زيب ، وكان آخر الملوك التيموريين الأقوياء وأوسعهم مملكة وأعظمهم فتوحاً وأمتنهم ديانة وأعرفهم بالكتاب والسنة ، وقد عاش أكثر من تسعين سنة وحكم خمسين وتوفي (سنة 1118هـ) أي في فجر القرن الثامن عشر المسيحي ، وهو عصر مهم جداً في تاريخ أوربا ولكنه لم يكن هو ولا سلفه على شيء من الاتصال بما كان يجري في أوربا وما تتمخض به من حودث جسام ، وما يفور في صدره من عوامل الرقي والنهضة ، وكانوا ينظرون إلى من يغشاهم من تجار أوربا وأطبائها أو سفراء دولها- على قلة ورودهم من هذه البلاد النائية- نظر الاستخفاف والاحتقار .

وكانت تصاقب دولتهم في أفغانستان الدولة الصفوية ، وكانت راقية متحضرة ولكنها شغلت بنزعتها الشيعية وبالهجوم على الدولة العثمانية مرة والدفاع عن نفسها مرة أخرى .

وانحصر هاتان الدولتان في قطرهما وكانت بمعزل عما يقع في الشرق الأدنى فضلاً عن الغرب ، وفي البلاد الإسلامية فضلاً عن البلاد الأجنبية ، أما التحالف والتكتل فلم يكن يخطر من أحد منهم على بال ، وذلك مما طبعت عليه الدول الشرقية والحكومات الشخصية ووصى بها الآباء والأبناء ، وكذلك دراسة أحوال أوربا العلمية والحربية واقتباس العلوم والصنائع من الخارج فلم يكن يدور بخلد إنسان في ذلك العصر .

 

نهضة أوربا الجاهلية وسيرها الحثيث في علوم الطبيعة والصناعات :         

وكان القرن السادس عشر والسابع عشر المسيحي من أهم أدوار التاريخ الإنساني الذي له ما بعده ، قد استيقظت فيه أوربا من هجعتها الطويلة ، وهبت من مرقدها مجنونة تتدارك زمان الغفلة والجهل وتعدو إلى غايتها عدواً ، بل تطير إليها بكل جناح ، تسخر قوى الطبيعة وتفضح أسرار الكون ، وتكشف عن بحار وقارات كانت مجهولة وتفتح فتوحاً جديدة في كل علم وفن وفي كل ناحية من نواحي الحياة ونبغ في هذه المدة القصيرة رجال ومبتكرون في كل علم وعبقرية أمثال كوبرنيكس (Copernicus) وبرونو (Brunoe) وغليليو (Galilio) وكبلر (kepler) ونيوتن(Newton)  ، وغيرهم الذين نسخوا النظام القديم وأسسوا نظاماً حديثاً واكتشفواعوالم في العلم ، ومن الرحالين المكتشفين  أمثال كلمبس (Columbus) وفاسكودي غاما  (Vasco Dagama)  ومجلن (Maglin)  . كان تاريخ الأمم في هذا الدور في صياغة وسبك ، وكانت نجوم الأمم والشعوب بعضها في أفول وبعضها في طلوع ، يصير الآفل منها طالعاً والطالع آفلاً ، وكانت ساعة في ذلك الزمان تساوي يوماً بل أياماً ، ويوم يساوي عاماً بل أعواماً ، فمن ضيع ساعة فقد ضيع زمناً .

 

تخلف المسلمين في مرافق الحياة :

ولكن المسلمين لم يضيعوا ساعات وأياماً بل ضيعوا أحقاباً وأجيالاً انتهزت فيها الشعوب الأوربية كل دقيقة وثانية ، وسارت سيراً حثيثاً في كل ميدان من مادين الحياة وقطعت في أعوام مسافة قرون .

ومما ينبئ عن مقدار خمول تركيا في ميدان العلوم والصناعات أن صناعة السفن لم تدخل في تركيا إلا في القرن السادس عشر المسيحي ، ولم تدخل المطابع في العاصمة والمحاجر الصحية في هذه الدولة إلا في القرن الثامن عشر ، وكذلك مدارس الفنون الحربية على النسق الأوربي . وفي آخر هذا القرن كانت تركيا بمعزل عن الصناعات والاكتشافات ، حتى لما شاهدوا بالوناً يحلق فوق العاصمة ظنوه من أعمال السحر والكيمياء . قد سبقتها دول أوربا الصغيرة في الأخذ بأسباب المدنية والرفاه العام ، وحتى سبقتها مصر في اتخاذ السكك الحديدية واستعمال القطارات بأربعة أعوام وفي استعمال طوابع البريد ببضعة أشهر .

 

تخلفهم في صناعة الحرب :   

ولم يكن انحطاط المسلمين في العلوم النظرية والحكمية والمدنية فحسب ، بل كان هذا الانحطاط عاماً شاملاً ، حتى تخلفوا عن أوربا في صناعة الحرب التي كان التركي في الزمن الأخير ابن بجدتها وأبا عذرتها ، قد أقرّ بفضلهم وتبريزهم فيها العالم ، ولكن سبقتهم أوربا باختراعها وقوة إبداعها وحسن تنظيمها حتى هزمت جيوشها الجيوش العثمانية هزيمة منكرة (سنة 1774م) وظهر سبقها في ميدان القتال أيضاً فانتبهت الدولة العثمانية بعض الانتباه ، وانتدبت الماهرين الأوربيين لتنظيم الجيش وتربية العساكر ، وعُني السلطان سليم الثالث في فجر القرن التاسع عشر بالإصلاح ، وكان عصامياً قد نشأ وتعلم خارج البلاط- خلافاً لسابقيه- وأنشأ مدارس جديدة وكان يُعلم بنفسه في مدرسة الهندسة ، وألف جيشاً على الطراز الحديث ، وأدخل تعديلات وتحسينات في النظام السياسي ، وقد بلغ الشعب حداً كبيراً من الجمود والمحافظة على القديم في كل شيء حتى ثار عليه الجيش القديم واغتاله ، وخلفه محمود الثاني الذي حكم من سنة 1807 م  إلى سنة 1839 م ، ومن بعده عبد المجيد الأول (1839م- 1851 م) فخلفا سليماً الثالث في مهمته وتقدمت تركيا بعض التقدم .

قارن هذا الشوط الذي قطعته تركيا الإسلامية في ميدان الرقي والتقدم ، بالأشواط التي قطعتها أوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر تجد الفرق هائلاً ، فلم يكن جريمها في الميدان إلا مسابقة بين سلحفاة وأرنب ، إلا أن الأرنب ساهر دائب في عمله ، والسلحفاة قد يغلبها النوم وتغفي إغفاءه . 

 

***************************************


الباب الرابع

العصر الأوربي

الفصل الأول

أوربا المادية

 

طبيعة الحضارة الغربية وتاريخها :

قبل أن ننظر ماذا أثّر تحول القيادة من الأمم الإسلامية إلى الأمم الأوربية في عقلية العالم وأخلاق الشعوب والأمم والمدنية والاجتماع واتجاهات الإنسانية وميولها ، وماذا جنى منه النوع الإنساني ، وهل كان ربحه أكثر من خسارته ورزئه أو بالعكس ؟ .. يجب علينا أن نعرف طبيعة الحضارة الغربية ووضعها وروحها وفلسفة حياة هذه الأمم وكيف نشأت ؟

ليست الحضارة الغربية في القرن العشرين المسيحي وليدة هذه القرون المتأخرة التي تلت القرون المظلمة في أوربا أو حديثة كما يتوهم كثير من الناس ، بل يرجع تاريخها إلى آلاف من السنين ، فهي سليلة الحضارة اليونانية الحضارة الرومية قد خلفتهما في تراثهما السياسي والعقلي والمدني ، وورثت عنهما كل ما خلفتا من ممتلكات ونظام سياسي وفلسفة اجتماعية ، وتراث عقلي وعلمي ، وانطبعت فيها ميولهما ونزعاتهما وخصائصهما. بل انحدرت إليها في الدم ، فقد كانت الحضارة اليونانية أول مظهر رائع – حفظه لنا التاريخ – للعقلية الأوربية . وأول حضارة – سجلها التاريخ – قامت على أساس الفلسفة الأوربية تجلت فيها النفسية الأوربية ، وعلى أنقاضها قام صرح الحضارة الرومية تحمل روحاً واحدة هي الروح الأوربية ، وظلت الشعوب الأوربية طيلة قرون محتفظة بخصائصها وطبيعتها ، وارثة لفلسفتها وعلومها وآدابها وأفكارها ، حتى برزت بها في القرن التاسع عشر في ثوب برّاق يوهمك – بطلاوته وزهو ألوانه – أنه جديد النسج ولكن لحمته وسداه من نسج اليونان والرومان .

إذاً يحسن بنا أن نتعرف بالحضارة اليونانية والرومية أولاً وأن نعرف طبائعهما وروحهما ، حتى نكون على بصيرة في انتقاد الحضارة الغربية والحكم عليها في القرن العشرين

خصائص الحضارة الإغريقية  :

اليونان أمة موهوبة ، من أنجب أمم العالم وأذكاها وأكثرها استعداداً للعلم والأدب ، ومن أخصبها أذهاناً وعقولاً ، وقد مثلت في العالم دوراً خالداً بفلسفتها وأدبها ووفرة من نبغ فيها من العلماء والحكماء والعبقريين تزهو بآثارهم مكتبات العالم .

والذي يعنينا الآن هو أن نعرف طبيعة الحضارة التي أنشأوها ، فإذا نظرنا فيها نظرة تحليل وانتقاد وصرفنا النظر عما تشترك فيه مع الحضارات من مظاهر وظواهر وبحثنا عن طبيعتها وخصائصها وجدنا من المزايا التي تمتاز بها عن المدنيات الأخرى – خصوصاً المدنيات الشرقية – ما يلي :

(1)  الإيمان بالمحسوس وقلة التقدير لما لا يقع تحت الحس .

(2)  قلة الدين والخشوع .

(3)  شدة الاعتداد بالحياة والاهتمام الزائد بمنافعها ولذائذها .

(4)  النزعة الوطنية .

ويمكن أن نحصر هذه المظاهر المتشتتة في كلمة مفردة هي (( المادية )) فكانت الحضارة اليونانية شعارها (( المادية )) وهي التي ينم بها كل ما يتصل باليونان من ثقافة وعلم وفلسفة وشعر ودين ، فلم يستطيعوا أن يتصوروا صفات الله وقدرته إلا في شكل آلهة نحتوا لها تماثيل وبنوا لها معابد وهياكل ، فللرزق إله وللرحمة إله ، وللقهر إله ، ثم نسبوا إليها كل ما يختص بالجسم المادية ونسجوا حولها من أساطير وخرافات ، وصوروا المعاني المجردة وتصوروها في أجسام وأشكال ؛ فللحب إله وللجمال إله ، وليس نظام العقول العشرة والأفلاك التسعة في فلسفة أرسطاطاليس  إلا رشحه من رشحات هذه المادية التي تتخلى عنها الطبيعة اليونانية .

وقد سلم العلماء الأوربيون بغلبة المادية في الحضارة اليونانية ، ونوهوا بها في كتبهم وبحوثهم العلمية ، وقد ألقى العالم الألماني الدكتور (( هاس )) ( Haas ) ثلاث محاضرات في جنيف عنوانها (( ما هي المدينة الأوربية ؟ )) وهو من العلماء الذين يرون أن المدنية الغربية لم تتأثر بالشرق ، وأنها مدينة مفردة ممتازة ، ونلخص هنا كلامه فيما نحن بصدده :

(( المدنية اليونانية هي مركز المدينة الغربية الحاضرة ، وكان المهم عند رجالها نشوء قوى الإنسان نشوءاً مناسباً وكان المثل الكامل عندهم الجسم الجميل المتناسب ، وليس هذا إلا اعتداداً بالمحسوسات اعتداداً كبيراً ، وكان أكبر عنايتهم بالرياضة البدنية والألعاب الرياضية والرقص وغيره ، وكان التثقيف الذهني الذي يحتوي على الشعر والغناء والتمثيل والفلسفة وعلوم الطبيعة لا يتجاوز حداً خاصاً حتى لا يكون ارتقاء الذهن على حساب الجسم ، وكان الدين خلواً من الروحانية المعنوية ؛ لم يكن فيه علم الدين ولا طبقة رجال الدين . أما اللون الروحي الذي في تقاليد (( أزفس )) وغيرها فإنما هو مستعار من الشرق ولا يصح أن ينسب إلى المدينة اليونانية )) .

ولاحظ كثير من العلماء الأوربيين رقة الدين في اليونان وقلة الخشوع والجد في أعمالهم وكثرة اللهو والطرب في حياتهم . يقول ليكي في كتابه (( تاريخ أخلاق أوربا )) : (( إن الحركة اليونانية كانت عقلية وذهنية محضة ، وكانت الحركة المصرية بالعكس من الأولى ، روحية باطنية . وينقل (( أبوليس )) المؤلف الرومي قوله : (( إن المصريين كانوا يعظمون آلهتهم بالتضرع والبكاء ، وكان اليونانيون يعظمون آلهتهم بالرقص والغناء )) ويعلق عليه بقوله : (( لا ريب أن التاريخ اليوناني يصدق ذلك ويؤيده ، فلا نعلم ديناً من الأديان يزاحم دين اليونان وتقاليده في كثرة الأفراح والأعياد والألعاب وفي قلبه الخشية والخشوع ، فلم يكن اليونان يعظمون الله تعالى إلى كما يعظمون شيوخهم وعظماءهم ، وكانوا يكتفون في تعظيمه وتمجيده برسوم عادية وتقاليد جارية )) .

وكان لليونان فلسفة إلهية وعقائد يستغرب معها الخشوع لله وعبادته والتضرع له والالتجاء إليه والاطراح على عتبته ، فإن من ينفي الصفات عن الله تعالى ويعطله وينفي عنه الاختيار والأفعال والخلق والأمر في هذا الكون ، ويربط هذا العالم بما يسمونه (( العقل الفعال وحركات الأفلاك )) فإنه بطبيعة هذه العقيدة لا يقصد الله في حياته العملية إلا تقليداً ، ولا يرجوه ولا يهابه ولا يحبه ولا يخر لعظمته ، ولا يستغيث به في شدته ولا يسبح بحمده ويعيش كأنه إله ولا رب ؛ فإذا سمعنا أن اليونان لم يكونوا خاشعين لله وكانت عبادتهم وأعمالهم الدينية أجساداً بغير أرواح ، وأنهم كانوا يعظمون الله كما كانوا يعظمون شيوخهم وكبارهم لم نستغربه البتة ، وإنما نتعجب إذا سمعنا عكس ذلك ، وقد أثرت شدة الاعتداد بالحياة الدنيا والمبالغة في قيمتها ، وكذلك الولوع بالتماثيل والصور والغناء والموسيقى التي يسميها اليونان الفنون الجميلة ولهج الأدباء والمؤلفين بالحرية الشخصية التي لا تعرف قيداً ولا تقف عند حد تأثيراً سيئاً في أخلاق اليونان ومجتمعها ، فانتشرت الفوضى في الأخلاق وحدثت ثورة على كل نظام ، وأصبح شعار الرجل الجمهوري ( وهو كناية عن الحر والمتنور ) الجري وراء الشهوات العاجلة ، وانتهاب المسرات ، والتهام الحياة التهام الجائع النهم . يصف سقراط – كما ينقل عنه أفلاطون في كتابه (( المملكة )) – الرجل الجمهوري فكأنما يصف ناقد من نقاد هذا القرن فتى القرن العشرين في إحدى عواصم المدينة الغربية :

(( إذا قيل له : إن بعض المسرات من الرغبات التي هي طيبة وتستحق الاحترام وبعضها من الشهوات التي هي قبيحة ، وإن الأولى ينبغي أن يعمل بمقتضاها وتحترم والأخرى مما ينبغي أن يمنع عنها ويقام عليها الحجر ، لم يقبل هذا الرجل هذا القانون الصحيح ولا يسمح بسماعه ؛ فإذا عرضت عليه هذه الحقائق أنغض إليك رأسه مستهزئاً وأكد أن جميع الشهوات سواء وتستحق الاحترام بغير فرق بينها ، وهكذا يعيش ويقضي أيامه مرضياً شهواته التي تعتريه أحياناً ، ذات يوم تراه سكران ثملا مصغياً إلى الغناء ، وفي يوم آخر تراه صائماً يجتزئ بالماء ، وتارة يدخل في التربية والتمرين ، وأخرى تراه كسلان عاطلاً يهمل كل شيء ، ومرة تراه يعيش عيش فيلسوف ، وأحياناً يدخل في السياسة وينهض ويخطب بمقتضى الوقت ، ربما يمدح بعض رجال الحرب والجندية ويميل إليهم أو يشرع في التجارة لأنه يغبط التاجر الرابح ، ليس لحياته نظام ولا ضبط ولكنه يعد هذه الحياة هنيئة ناعمة سارة ويواصلها إلى النهاية )) .

أما الوطنية فهي من لوازم الطبيعة الأوربية ، وهي أظهر وأقوى في أوربا منها في آسيا ، وقد أغرى بذلك الطبيعة الجغرافية وأوحته ، لأن المناطق الطبيعية في آسيا واسعة جداً وتشمل على مناخات وعلى أجيال وأنواع كثيرة للبشر ، وهي غنية مخصبة في وسائل المعيشة ؛ فالمملكة في القارة الآسيوية تجنح بحكم الطبيعة إلى السعة والعموم ، وظهرت في أرضها وازدهرت أوسع ممالك عرفها التاريخ ، أما في أوربا فالتنازع على البقاء فيها شديد ، والكفاح للحياة دائم مستمر ، لتزاحم العمران وضيق المناطق وقلة وسائل المعيشة ، وقد حصرت الجبال والأنهار الأجناس الأوربية ، في نطاق طبعي دائم ، وبالأخص الجزء الأوسط الغربي والجزء الجنوبي من أوربا ، لا يسمح لممالك واسعة عظيمة ، وقد شاءت طبيعة هذه القارة أن تكون منشأ لممالك ضيقة صغيرة ، لذلك كان التصور السياسي في أوربا في القديم لا يكاد يجاوز ممالك بلدية لا تزيد منطقتها على أميال مستقلة استقلالاً تاماً ، وأكبر مظهر لهذا التصور أرض يونان حيث وجدت من فجر التاريخ عشرات من مدن صغيرة مستقلة .

فلا عجب إذا كان اليونان يدينون بالوطنية وينتحلونها ، وقد سلم (( ليكي )) أن الفكرة الوطنية هي الفكرة السائدة في اليونان ، وكانت الفكرة العالمية التي قد نطق بها بعض حكمائهم كسقراط وانكساغورس شاذة لم تنل أنصاراً وانتصاراً في يونان ، فكان نظام أرسطاطاليس الأخلاقي مبنياً على التمييز بين اليوناني وغير اليوناني ، وكان حب الوطن يتقدم فضائل الأخلاق التي أجمع عليها حكماء اليونان ، وأن أرسطاطاليس لم يكتف بحب وطنه والولاء له فحسب ؛ بل قال : إن اليونانيين ينبغي لهم أن يعاملوا الأجانب بما يعاملون به البهائم ؛ وقد راجت هذه الفكرة الوطنية الضيقة في الأوساط اليونانية وتغلغلت في الأحشاء ، حتى لما قال فيلسوف إنه لا يخص مواطنيه بمواساته بل سيكون بره عاماً لجميع اليونانيين استشرفه الناس عجباً ونظروا إليه شزراً .

 

خصائص الحضارة الرومية :

خلف اليونان الروم وفاقوهم في القوة والتنظيم للمملكة واتساع الدولة وصفات الجندية ، ولكن لم يلحقوا بهم بعد في العلم والفلسفة والآداب والشعر والتهذيب واللباقة والمدنية التي كان للإغريق فيها فضل وتقدم على جميع الأمم المعاصرة وعلى الروم أيضاً الذين كانوا لا يزالون في دورهم العسكري ، فخضعوا لهم علمياً وتطفلوا على مائدتهم واقتبسوا من علومهم وفلسفتهم وأفكارهم .

يقول ليكي :

(( إن اليونان كانت لهم ثروة علمية ضخمة أنتجوها وزادوا فيها على مر القرون والعصور ، وكانت رومة لا تزال في طورها الجندي لا تملك أثراً من الآثار الأدبية ، بل كانت لغتها قاصرة في التعبير عن الأفكار والمعاني العالية ، فغُلب الروم بتخلفهم وقصورهم في العلم ، وانقلبوا صاغرين للمدنية اليونانية التي غُلب أهلها في السياسة ، ولم يزالوا مأخوذين بسحرهم في كل قسم من أقسام العلم ، فكان المؤرخون الأقدمون في الروم يؤلفون كتبهم باليونانية ، واستمرت اليونانية لغة التأليف والعلم بعد ما بدأ شعراء الروم ينظمون الشعر في اللاتينية )) .

ولم يكن هذا الخضوع خاصاً في عالم التأليف والأدب فحسب ، بل غلبت المدنية الإغريقية المدنية الرومية في الأخلاق والسجايا والعشرة والاجتماع وفي العواطف والنزعات ، وفي كل ناحية من نواحي الحياة العامة ، وأصبح الروم يقلدون الإغريق ويتنبلون بذلك ويتظرفون .

وهكذا انتقلت الفلسفة اليونانية والثقافة اليونانية ، بل النفسية اليونانية إلى الروم ، وجرت منهم مجرى الروح والدم ، ولم يكن الروم – بطبيعتهم الأوروبية – يختلفون عن اليونان في الخصائص الفطرية كثيراً ، بل هناك شبه عظيم بين الأمتين ، إيمان بالمحسوس وغلو في تقدير الحياة وشك في دين ، وضعف في يقين ، واضطراب في العقيدة ، واستخفاف بالنظام الديني وطقوسه ، واعتزاز بالقومية وتعصب لها ، وحب مفرط للوطن . زد إلى ذلك كله اعتداداً بالقوة واحتراماً زائداً لها يبلغ العبادة والتقديس .

يظهر من التاريخ أنه لم يكن للرومان إيمان راسخ في دينهم ، وإني أعذرهم في ذلك ، فإن النظام الديني الوثني الخرافي الذي كان سائداً في رومية يقتضي بطبيعته الشك والاضطراب وضعف الإيمان ، فكلما تقدموا في العلم وتنورت أفكارهم ، ازدادوا استخفافاً به ، وقد قضوا من أول يوم أن الآلهة لا يدخل لهم في السياسة وأمور الدنيا .

يقول ( سيسرو Cicero ) :

لما كان الممثلون ينشدون في دور التمثيل أبياتاً معناها أن الآلهة لا دخل لها في أمور الدنيا يصغي إليها الناس ويسمعونها بكل رغبة .

ويقول الراهب ( أغستين Auguostine ) :

(( إن الروم الوثنيين كانوا يعبدون آلهتهم في المعابد ويهزأون بهم في دور التمثيل )) وقد فقد الدين الرومي سلطانه الروحي على معتنقيه ، وبردت العاطفة الدينية في قلوب الناس حتى تجرأ الناس على الآلهة وأهانوها في بعض الأحيان ، فإن التاريخ يحدثنا أنه لما غرق أسطول للأمبراطور أغسطس Augustus استشاط غضباً ، وحطم تمثال نيبتون Neptone إله البحر ، ولما مات جرمينيكس Germanicus رجم الناس أنصاب الآلهة (التي كانوا يذبحون عليها ) (198).

فلم يكن للدين تأثير في أخلاق الأمة وسياستها ومجتمعها ، ولم يكن يملك عليهم شعورهم وميولهم ويراقب عليهم أخلاقهم ونزعاتهم ، ولم يكن ديناً عميقاً يحكم على الروح وينبعث من أعماق القلب ، بل كان تقليداً من التقاليد ، كانت السياسة تقتضي البقاء عليه ولو بالاسم والرسم . يقول ليكي :

(( إن الدين الرومي كان أساسه على الأثرة ، ولم يكن يرمي إلا إلى رفاهة الأفراد وسلامتهم من المصائب والمتاعب ؛ والشاهد على ذلك أنه ظهر في رومية مئات من الأبطال والعظماء ، ولكن لم ينهض فيها زاهد في الدنيا عزوف عن ملذات الحياة ، ولا تسمع مثالاً في تاريخ الروم للتضحية والإيثار إلا وتجده لا تأثير فيه للدين ولكن مبنياً على الوطنية(199) )) .

والظاهرة التي يمتاز بها الروم من بين أمم الأرض المعاصرة بل بعدها ، والتي أصبحت لها ديناً تدين به وشعاراً تعرف به هي روح الاستعمار والنظر المادي البحت إلى الحياة . وذلك ما ورثته أوربا المعاصرة عن سلفها الروميين وخلفتهم فيه .

وقد أجاد وصفه العالم الألماني المسلم الأستاذ محمد أسد في كتابه النفيس الإسلام على مفترق الطرق )) ، قال :

(( إن الفكرة التي كانت تسيطر على الإمبراطورية الرومانية هي احتكار القوة لها واستغلال الأمم الأخرى لمصلحة الوطن الرومي فقط ، لم يكن رجالها والقائمون عليها يتحاشون من أي ظلم وقسوة في سبيل حصول خفض العيش لطبقة ممتازة . أما ما اشتهر من عدل الروم فلم يكن إلا للروم فقط ، إن هذه السيرة لا يمكن أن تقوم إلا على إدراك مادي محض للحياة والحضارة ، وإن كانت ماديتهم قد هذبت بذوق عقلي ولكنها بعيدة عن جميع القيم الروحية ، إن الروم لم يدينوا بالدين جدياً أبداً ، كانت آلهتهم التقليدية محاكاة شاحبة لأساطير الإغريق وخرافاتهم، وقد آمنوا بهذه الأرواح محافظة على الرابطة الاجتماعية التي كانت تربطهم وتوحدهم ، فلم يكونوا يسمحون لهذه الآلهة بالتدخل في حياتهم العملية ، كان لها أن يأذنوا أن تتكهن بالغيب – إذا سئلت عن ذلك – على لسان الكهان ولكن لم يحلوا لها أبداً أن تفترض شرائع أخلاقية على الناس(200) ))

 

الانحطاط الخلقي في الجمهورية الرومية :

وفي نهاية دور الجمهورية سال بالروم سيل الانحطاط الخلقي والبهيمية ، وفاض بحر الترف في العيش والبذخ فيضاناً عظيماً – غاص الروم فيه إلى القاع وسالت فيه النظم الأخلاقية التي كانت الروم معروفين بها كالغناء ، وتزعزع البناء الاجتماعي حتى كاد ينهدم ، وقد صوره ((درابر )) الأمريكي بقلمه البليغ :

(( لما بلغت الدولة الرومية في القوة الحربية والنفوذ السياسي أوجها ، ووصلت في الحضارة إلى أقصى الدرجات هبطت في فساد الأخلاق وفي الانحطاط في الدين والتهذيب إلى أسفل الدركات . بطر الرومان معيشتهم وأخلدوا إلى الأرض واستهتروا استهتاراً ، وكان مبدؤهم . أن الحياة إنما هي فرصة للتمتع ، ينتقل فيها الإنسان من نعيم إلى ترف ومن لهو إلى لذة ، ولم يكن زهدهم وصومهم في بعض الأحيان إلا ليبعث على شهوة الطعام ، ولم يكن اعتدالهم إلا ليطول به عمر اللذة ، كانت موائدهم تزهو بأواني الذهب والفضة مرصعة بالجواهر ، ويحف بهم خدام في ملابس جميلة خلابة وغادات رومية حسان وغوان عاريات كاسيات غير متعففات تدل دلالاً ، ويزيد في نعيمهم حمامات باذخة وميادين للهو واسعة ومصارع يتصارع فيها الأبطال مع الأبطال أو مع السباع ، ولا يزالون يصارعون حتى يخر الواحد منهم صريعاً يتشحط في دمه ، وقد أدرك هؤلاء الفاتحون الذين دوخوا العالم أنه إن كان هنالك شيء يستحق العبادة فهو القوة ، لأنه بها يقدر الإنسان أن ينال الثروة التي يجمعها أصحابها بعرق الجبين وكد اليمين ، وإذا غلب الإنسان في ساحة القتال بقوة ساعده فحينئذ يمكن له أن يصادر الأموال والأملاك ويعين إيرادات الإقطاع ، وإن رأس الدولة الرومية هو رمز لهذه القوة القاهرة فكان نظام رومة المدني يشف عن أبهة الملك ، ولكنه كان طلاء خداعاً كالذي نراه في حضارة اليونان في عهد انحطاطها (201))) .

 

تنصر الروم  :

وها هنا حادثة عظيمة يجب أن يسجلها المؤرخ وينوه بها، وهي اعتلاء عرش رومة الوثنية، وكان ذلك بجلوس قسطنطين الذي اعتنق النصرانية على سرير الأباطرة سنة 305م فانتصرت فيه النصرانية على الوثنية ونالت فجأة ما لم تكن تحلم به من ملك عريض ودولة مترامية الأطراف وكلمة لا تعلوها كلمة . ولما كان قسطنطين إنما توصل إلى الملك على جسر من أشلاء النصارى وأنهار من دمائهم التي أريقت في الذب عنه والنصر له ، عرف لهم الجميل وبذل لهم وجهه، ووطأ لهم أكنافه وقلدهم مفاتيح ملكه.

     

خسارة النصرانية في دولتها  :

 ولكن انتصر النصارى في ساحة القتال وانهزموا في معترك الأديان ،ربحوا ملكاً عظيماً وخسروا ديناً جليلاً، لأن الوثنية الرومية مسخت دين المسيح ومسخه أهله، وكان أكثر مسخاً له وتحريفاً هو قسطنطين الكبير حامي ذمار النصرانية ورافع لوائها .   

يقول ((درابر)) :

 ((دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين الذين تقلدوا وظائف خطيرة ومناصب عالية في الدولة الرومية بتظاهرهم بالنصرانية، ولم يكونوا يحتفلون بأمر الدين ، ولم يخلصوا له يوماً من الأيام ، وكذلك كان قسطنطين فقد قضى عمره في الظلم والفجور ، ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلاً في آخر عمره (337 م) .   

أن الجماعة النصرانية وأن كانت قد بلغت من القوة بحيث ولَّت فسطنطين الملك ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية وتقتلع جرثومتها ، وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت مبادئها ، ونشأ من ذلك دين جديد تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء – هنالك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى الإسلام على منافسه (الوثنية) قضاء باتاً ، ونشر عقائده خالصة بغير غش .    

وإن هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئاً رأى لمصلحته الشخصية والمصلحة الحزبين المتنافسين- النصراني والوثني- أن يوحدهما ويؤلف بينهما ، حتى إن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة، ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طمست ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة ، وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها )).

 

الرهبانية العاتية : 

فلم تستطع هذه النصرانية الملقحة بالوثنية المشوهة التي فقدت روحها وجمالها أن تغير من سيرة الروم المنحطة وأن تبعث فيهم حياة جديدة ، حياة دينية نقية طاهرة وأن تفتح عهداً زاهراً في تاريخ الروم ، بل إنها ابتدعت رهبانية لعلها كانت شراً على الإنسانية والمدنية من بهيمية رومة الوثنية ، وقد جن جنون هذه الرهبانية في العالم النصراني وتخطى حدود القياس ، وإنا نلتقط أمثلة من كتاب تاريخ أخلاق أوربا وهو قليل من كثير جداً :

(( زاد عدد الرهبان زيادة عظيمة ، وعظم شأنهم واستفحل أمرهم واسترعوا الأنظار وشغلوا الناس ، ولا يمكن الآن إحصاؤهم بالدقة ، ولكن مما يلقي الضوء على كثرتهم وانتشار الحركة الرهبانية ما روى المؤرخون أنه كان يجتمع أيام عيد الفصح خمسون ألفاً من الرهبان ، وفي القرن الرابع المسيحي كان راهب واحد يشرف على خمسة آلاف راهب ، وكان الراهب (( سرابين )) يرأس عشرة آلاف ، وقد بلغ عدهم في نهاية القرن الرابع عدد أهل مصر )) .

 

عجائب الرهبان: 

ظل تعذيب الجسم مثلاً كاملاً في الدين والأخلاق إلى قرنين ، وروى المؤرخون من ذلك عجائب ، فحدثوا عن الراهب ماكاريوس ( Makarius ) أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرص جسمه العاري ذباب سام ، وكان يحمل دائماً نحو قنطار من حديد ، وكان صاحبه الراهب يوسيبيس ( Eusebius ) يحمل نحو قنطارين من حديد ، وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح ، وقد عبد الرهب يوحنا (  St. Jhon) ثلاث سنين قائماً على رجل واحدة ولم ينم ولم يقعد طول هذه المدة ، فإذا تعب جداً أسند ظهره إلى صخرة ، وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائماً ، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام . وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر ، ويأكل كثير من الكلأ والحشيش ، وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح ويتأثمون عن غسل الأعضاء ، وأزهد الناس عندهم وأتقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات والدنس ، يقول الراهب اتهينس : إن الراهب أنتوني لم يقترف إثم غسل الرجلين طول عمره ، وكان الراهب أبراهام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين سنة ؛ وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمن متلهفاً : واأسفاه ! لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حراماً فإذا بنا الآن ندخل الحمامات ، وكان الرهبان يتجولون في البلاد ويختطفون الأطفال ويهربونهم إلى الصحراء والأديار وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتهم ويربونهم تربية رهبانية والحكومة لا تملك من الأمر شيئاً ، والجمهور والدهماء يؤيدونهم ويحبذون الذين يهجرون آباءهم وأمهاتهم ويختارون الرهبانية ويهتفون باسمهم ، وعرف كبار الرهبان ومشاهير التاريخ النصراني بالمهارة في التهريب ، حتى روي أن الأمهات كن يسترن أولادهن في البيوت إذا رأين الراهب أمبروز ( Ambrose ) وأصبح الآباء والأولياء لا يملكون من أولادهم شيئاً وانتقل نفوذهم وولايتهم إلى الرهبان والقسوس(202) .

 

تأثير الرهبانية في أخلاق الأوربيين : 

 كان نتيجة هذه الرهبانية أن خلال الفتوة والمروءة التي كانت تعد فضائل ، عادت فاستحالت عيوباً ورذائل ، وزهد الناس في البشاشة وخفة الروح والصراحة والسماحة والشجاعة والجرأة وهجروها ، وكان من أهم نتائجها أن تزلزلت دعائم الحياة المنزلية ، وعم الكنود والقسوة على الأقارب ، فكان الرهبان الذين تفيض قلوبهم حناناً ورحمة ، وعيونهم من الدمع ، تقسو قلوبهم وتجمد عيونهم على الآباء والأمهات والأولاد ، فيخلفون الأمهات ثكالى والأزواج أيامي والأولاد يتامى ، عالة يتكففون الناس ، ويتوجهون قاصدين الصحراء . همهم الوحيد أن ينقذوا أنفسهم في الآخرة لا يبالون ماتوا أو عاشوا ، وحكى (( ليكي )) من ذلك حكايات تدمع العين وتحزن القلب(203) .

وكانوا يفرون من ظل النساء ويتأثمون من قربهن والاجتماع بهن ، وكانوا يعتقدون أن مصادفتهن في الطريق والتحدث إليهن ولو كن أمهات وأزواجاً أو شقيقات تحبط أعمالهم وجهودهم الروحية . وروى (( ليكي )) من هذه المضحكات المبكيات شيئاً كثيراً .

 

عجز الرهبانية عن تعديل المادية الجامحة : 

ولا يتوهم أحد أن هذه الرهبانية الغالية قد عدلت من شره المادية الرومية ، وكبحت من جماحها وغلوائها في البهيمية والشهوات ، فإن هذا لم يكن ولا يكون في الغالب وتأباه الفطرة الإنسانية ويكذبه التاريخ ؛ فإن الذي يوجد الاعتدال ويخفض من المادية الجامحة ويجعل منها حياة معتدلة هو النظام الروحي الديني الخلقي الحكيم الذي يوافق الفطرة الإنسانية الصحيحة ، والذي لا يتصدى لأن يزيل الفطرة الإنسانية ، بل يوجهها توجيهاً نافعاً ، فإنها لا تزول ولكن تميل من شر إلى خير ؛ وهكذا فعل الإسلام ، وهكذا فعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد صرف شجاعة العرب من المنافسات القبلية والتقاتل وأخذ الثأر والأحقاد القديمة إلى الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله ، وصرف تبذيرهم وسماحتهم إلى الإنفاق في سبيل الله ، وشغلهم عن الجاهلية بالدين الإسلامي ، وأبدل الشيء بالشيء ، وأعطى النفس حقها من النشاط والترويح ، فإن النفوس كما قال عالم من علماء المسلمين لا تترك شيئاً إلا بشيء ، وإن النفوس قد خُلقت لتعمل لا لتترك(204) ، وإن الأنبياء قد بعثوا بتكميل الفطرة وتكريرها لا بتبديلها وتغييرها (205).

قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : ما هذان اليومان ؟ قالوا : كنا نلعب فيهما في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما ، يوم الأضحى ويوم الفطر(206) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث قالت : وليستا بمغنيتين ، فقال أبو بكر : أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وذلك يوم عيد . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر ، إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا . وفي رواية أنه قال : دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد (207).

أما النصرانية الرومية فقد حاولت عبثاً تغيير الفطرة وإزالتها وجاءت بنظام لا تطيقه الفطرة الإنسانية ولا تسيغه . وحملت النفوس ما لا طاقة لها به فرغبت فيه كرد فعل ضد المادية الطاغية واحتملته كارهة ، ثم تخلصت منه وثارت عليه ولم تقدر النصرانية – بإسرافها في الرهبانية والزهد ومكابرتها للفطرة والواقع أن تصلح ما فسد من أخلاق الناس وعوائدهم ، وتمسك بضبع المدينة الساقطة إلى الهاوية وتمنعها من التردي . فكانت حركة الفجور والإباحة وحركة الغلو في الزهد والرهبانية تسيران في البلاد النصرانية جنباً إلى جنب ، بل الأصح أن الرهبانية كانت معتزلة في الصحارى والخلوات لا سلطان لها على الحياة . وحركة الخلاعة والإباحة كانت زاخرة طامة في المدن والحواضر .

 

بين الرهبانية العاتية ، والمادية الجامحة : 

  يصور (( ليكي )) ما كان عليه العالم النصراني في ذلك العصر من التأرجح بين الرهبانية والفجور فيقول :

(( إن التبذل والإسفاف قد بلغا غايتهما في أخلاق الناس واجتماعهم ، وكانت الدعارة والفجور والإخلاد إلى الترف والتساقط على الشهوات والتملق في مجالس الملوك وأندية الأغنياء والأمراء والمسابقة في زخارف اللباس والحلي والزينة في حدتها وشدتها ، كانت الدنيا في الحين تتأرجح بين الرهبانية القصوى والفجور الأقصى ، وإن المدن التي ظهر فيها أكثر الزهاد كانت أسبق المدن في الخلاعة والفجور ، وقد اجتمع في هذا العصر الفجور والوهم اللذان هما عدوان لشرف الإنسان وكرامته ، وقد ضعف رأي الجمهور حتى أصبح الناس لا يحلفون بسوء الأحدوثة والفضيحة بين الناس ، وكأن الضمير الإنساني ربما يخاف الدين ووعيده ، ولكنه أمن واطمأن ، لاعتقاده أن الأدعية وغيرها تكفر عن جميع أعمال الإنسان ، لقد نفقت سوق المكر والخديعة والكذب حتى فاق هذا العصر في ذلك عصر القياصرة ، ولكن قل الظلم والاعتداء والقسوة والخلاعة ، مع انحطاط في حرية الفكر والحماسة القومية(208) )) .

 

الفساد في المراكز الدينية : 

ولم تكن الرهبانية والنظام الديني السلبي إلا مصادمة للفطرة ، فبقيت مقهورة بعوامل الديانة الجديدة وسلطانها الروحي وساعدتها عوامل أخرى ، ثم قهرت الطبيعة وتسرب الضعف والانحراف في المراكز الدينية حتى صارت تزاحم المراكز الدنيوية وربما تسبقها في فساد الأخلاق والدعارة والفجور ، لذلك وقفت الحكومة المآدب الدينية التي كانت ترمي إلى عقد الألفة والأخوة بين المسيحيين وأعياد الشهداء والأولياء وذكرياتهم التي وجدت فيها الخلاعة والفجور حمى ومرتعاً ، واتهم القسوس بكبائر ومنكرات .

ويقول الراهب (( جروم )) (  Jarum) :

(( إن عيش القسوس ونعيمهم كان يزري بترف الأمراء والأغنياء المترفين ، وقد انحطت أخلاق البابوات انحطاطاً عظيماً واستحوذ عليهم الجشع وحب المال وعدوا طورهم ، حتى كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع ، وقد تباع بالمزاد العلني ، ويؤجرون أرض الجنة بالوثائق والصكوك وتذاكر الغفران . ويأذنون بنقض القانون ، ويمنحون شهادات النجاة وإجازات والمحرمات والمحظورات كأوراق النقد وطوابع البريد ، ويرتشون ويرابون ، وقد بذروا المال تبذيراً حتى اضطر البابا انوسنت الثامن أن يرهن تاج البابوية . ويذكر عن البابا ليو العاشر أنه أنفق ما ترك البابا السابق من ثروة وأموال ، وأنفق نصيبه ودخله ، وأخذ إيراد خليفته المترقب سلفاً وأنفقه ، ويروى أن مجموع دخل مملكة فرنسا لم يكن يكفي البابوات لنفقاتهم وإرضاء شهواتهم(209) )) .

 

تنافس البابوية والإمبراطورية : 

وبدأ النزاع والمنافسة بين البابوية والإمبراطورية في القرن الحادي عشر ، فاشتدت بعنف وحمي وطيسها ، وانتصرت فيها البابوية أولاً حتى إن هنري الرابع ممثل الإمبراطورية اضطر سنة 1077م أن يتقدم بخضوع نحو البلاط البابوي في قلعة كانوسا ولم يسمح له البابا بالدخول إلا بعد أن شفع له الرجال ، فسمح له بالمثول بين يديه . فدخل الإمبراطور صاغراً حافياً لابساً الصوف وتاب على يديه فغفر له البابا زلته . وكانت الحرب بين البابوية والإمبراطورية بعد ذلك سجالاً حتى ضعفت البابوية ، وبقي الناس هذه المدة الطويلة يتنازعهم عاملان ديني ودنيوي وبقوا يرزحون تحت نيرين إمبراطوري وبابوي .

وكان البابوات يتمتعون في هذه العصور الوسطى بنفوذ واسع وسلطان عظيم لم يكن للملوك والأباطرة ، وكان يمكن لهم أن يتقدموا بأوربا تقدماً صحيحاًَ في العلم والمدنية تحت ظل الدين ، لأن نوابهم وممثليهم كانوا يتجولون في البلدان الأوربية وينزلون من أهلها في جناب مَربع وظل ظليل ، ويتفاهمون معهم بلغة واحدة ويتدخلون في أمور سياسية مهمة ، ووجدوا في كل بقعة أنصاراً لهم من ذوي الرأي والسياسة يتكلمون بلغة واحدة ويساعدونهم في مهمات الدولة .

 

 

شقاء أوربا برجال الدين : 

 ولكن رجال الدين من سوء حظ النصرانية ومن سوء حظ الأمم التي دانت بها أساؤوا استعمال هذا السلطان الهائل فاستغلوه لأنفسهم ونفوذهم وجاههم ، وبقيت أوربا تتسكع في دياجير الجهل والخرافة والانحطاط ، وأصيبت المدنية بحكمهم ورهبانيتهم في صميمها ، فلم يتضاعف عدد سكان القارة الأوربية في ألف سنة ، ولم يتضاعف عدد سكان إنكلترة في خمسمائة سنة . ولا شك أن من أسبابها حياة العزوبة التي كان القسوس والرهبان يزينونها للناس ويرغبون فيها ، ولم يشأ الكهان والأساقفة أن يساهم الأطباء في مرافقهم وغلاتهم فانتشرت الأوبئة والأمراض في طول القارة وعرضها ، وتعرف من رحلة أنبيس سلوئيس الذي اشتهر بعد بلقب ( Pus the Second ) التي قام بها في الجزائر البريطانية حوالي سنة 1430 م ما كانت عليه هذه الجزائر من بؤس وانحطاط في المدنية وفقر مدقع .

 

جناية رجال الدين على الكتب الدينية : 

ولكن من أعظم أخطاء رجال الدين في أوربا ومن أكبر جناياتهم على أنفسهم وعلى الدين الذي كانوا يمثلونه أنهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة معلومات بشرية ومسلمات عصرية عن التاريخ والجغرافية والعلوم الطبيعية ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر ، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني ، وإذا كان ذلك في عصر من العصور غاية ما وصل إليه علم البشر فإنه لا يؤمن عليه التحول والتعارض ؛ فإن العلم الإنساني متدرج مترق ، فمن بنى عليه دينه فقد بنى قصرًا على كثيب مهيل من الرمل . ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسنة ولكنه كان أكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين ، فإن ذلك ، كان سبباً للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم الذي انهزم فيه ذلك الدين المختلط بعلم البشر الذي فيه الحق والباطل والخالص والزائف – هزيمة منكرة ، وسقط رجال الدين سقوطاً لم ينهضوا بعده ، وشر من ذلك كله وأشأم أن أوربا أصبحت لا دينية.            

ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة ، بل قدسوا كل ما تناقلته الألسن واشتهر بين الناس وذكره بعض شراح التوراة والإنجيل ومفسريها من معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية ، وصبغوها صبغة دينية وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها ونبذ كل ما يعارضها ، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف ، وسموا هذه الجغرافية التي ما أنزل الله بها من سلطان الجغرافية المسيحية ( Christian  Topography ) وعضوا عليها بالنواجذ وكفروا كل من لم يدن بها .

 

اضطهاد الكنيسة للعلم : 

وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوربا ، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها في صرامة وصراحة ، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب ، وأعلنوا اكتشافاتهم العلمية واختباراتهم ، فقامت قيامة الكنيسة ، وقام رجالها المتصرفون بزمام الأمور في أوربا وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي ، وأنشأوا محاكم التفتيش التي تعاقب – كما يقول البابا – أولئك الملحدين والزنادقة الذين هم منتشرون في المدن وفي البيوت والأسراب والغابات والمغارات والحقول ، فجدت واجتهدت وسهرت على عملها ، واجتهدت أن لا تدع في العالم النصراني عرقاً نابضاً ضد الكنيسة ، وانبثت عيونها في طول البلاد وعرضها ، وأحصت على الناس الأنفاس ، وناقشت عليهم الخواطر حتى يقول عالم نصراني : (( لا يمكن لرجل أن يكون مسيحياً ويموت حتف أنفه )) ، ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكم يبلغ عددهم ثلثمائة ألف ، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفاً أحياء كان منهم العالم الطبيعي المعروف برونو ، نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوالم ، وحكمت عليه بالقتل ، واقترحت بأن لا تراق قطرة من دمه ، وكان ذلك يعني أن يحرق حياً ، وكذلك كان .

وهكذا عواقب العالم الطبيعي الشهير غاليليو (Galilio) بالقتل لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس .

ثورة رجال التجديد : 

هنالك ثار المجددون المتنورون وعيل صبرهم ، وأصبحوا حرباً لرجال الدين وممثلي الكنيسة والمحافظين على القديم ، ومقتوا كل ما يتصل بهم ويعزى إليهم من عقيدة وثقافة وعلم وأخلاق وآداب ، وعادوا الدين المسيحي أولاً والدين المطلق ثانياً ، واستحالت الحروب بين زعماء العلم والعقلية ، وزعماء الدين المسيحي ، - وبلفظ أصح الديانة والبوليسية – حرباً بين العلم والدين مطلقاً ، وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان لا تتصالحان ، وأن العقل والنظام الديني ضدان لا يجتمعان ، فمن استقبل أحدهما استدبر الآخر ، ومن آمن بالأول كفر بالثاني ، وإذا ذكروا الدين ، ذكروا تلك الدماء الزكية التي أريقت في سبيل العلم والتحقيق ، وتلك النفوس البريئة التي ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم ، وتمثل لأعينهم وجوه كالحة عابسة ، وجباه مقطبة ، وعيون ترمي بالشرر ، وصدور ضيقة حرجة ، وعقول سخيفة بليدة ، فاشمأزت قلوبهم وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلاء وكل ما يمثلونه ، وتواصوا به وجعلوه كلمة باقية في أعقابهم .

 

تقصير الثائرين وعدم تثبتهم : 

ولم يكن عند هؤلاء الثائرين من الصبر والمثابرة على الدراسة والتفكير ، ومن الوداعة والهدوء ، ومن العقل والاجتهاد ما يميزون به بين الدين ورجاله المحتكرين لزعامته ، ويفرقون بين ما يرجع إلى الدين عن عهدة ومسئولية ، وما يرجع إلى رجال الكنيسة من جمود وجهل واستبداد وسوء تمثيل ، فلا ينبذوا الدين نبذ النواة ، ولكن الحفيظه وشنآن رجال الدين والاستعجال لم يسمح بالنظر في أمر الدين والتريث في شأنه كغالب الثوار في أكثر الإعصار والأمصار .

ولم يكن عندهم من صدق الطلب والنصيحة لأنفسهم وأمتهم وسعة الصدر ما يحملهم على النظر في الدين الإسلامي الذي كان يدين به أمم معاصرة لهم ، الدين الذي يخلصهم من هذه الأزمة و { يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ }. ولكن حمية الجاهلية والسدود التي أقامتها الحرب الصليبية بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي ودعاية الكهنة ورجال الكنيسة ضد الإسلام وصاحب رسالته عليه الصلاة والسلام ، وعدم تجشم التعب والمطالعة ، وقلة الحرص على النجاة الأخروية والاهتمام بما بعد الموت ، زد إلى ذلك تفريط المسلمين في التبشير الإسلامي ، ونشر الإسلام في أوربا ، كل ذلك منعهم من الرجوع إلى الدين الإسلامي والأخذ به في ساعة كانوا يحتاجون إليه حاجة السليم إلى راق والمسموم إلى ترياق .

 

اتجاه الغرب إلى المادية : 

وعلى كل فقد وقع المحذور وانصرف اتجاه الغرب إلى المادية بكل معانيها ، وبكل ما تتضمنه هذه الكلمة من عقيدة ووجهة نظر ونفسية وعقلية وأخلاق واجتماع وعلم وأدب وسياسة وحكم ، وكان ذلك تدريجياً، وكان أولاً ببطء وعلى مهل، ولكن بقوة وعزيمة، فقام علماء الفلسفة والعلوم الطبيعية ينظرون في الكون نظراً مؤسساً على أنه على أنه لا خالق ولا مدبر ولا آمر ، وليس هناك قوة وراء الطبيعة والمادة تتصرف في هذا العالم وتحكم عليه وتدبر شئونه ، وصاروا يفسرون هذا العالم الطبيعي، ويعللون ظواهره وآثاره بطريق ميكانيكي بحت ، وسموا هذا نظراً علمياً مجرداً وسموا كل بحث وفكر يعتقد بوجود إله ويؤمن به طريقاً تقليدياً لا يقوم عندهم على أساس العلم والحكمة ، واستهزأوا به واتخذوه سخرياً ، ثم انتهى بهم طريقهم الذي اختاروه وبحثهم ونظرهم إلى أنهم جحدوا كل شيء وراء الحركة والمادة ، وأبوا الإيمان بكل ما لا يأتي تحت الحس والاختبار ، ولا يدخل تحت الوزن والعد والمساحة ، فأصبح – بحكم الطبيعة وبطريق اللزوم الإيمان بالله وبما وراء الطبيعة ، من قبيل المفروضات التي لا يؤيدها العقل ولا يشهد بها العلم .

 إنهم لم يجحدوا بالله إلى زمن طويل ، ولم يكاشفوا الدين العداء ، ولم يجحدوا به كلهم ، ولكن منهج التفكير الذي اختاروه ، والموقف الذي اتخذوه في البحث والنظر لم يكن ليتفق والدين الذي يقوم على الإيمان بالغيب وأساسه الوحي والنبوة ودعوته ولهجه بالحياة الأخروية ، ولا شيء من ذلك يدخل تحت الحس والاختبار ويصدقه الوزن والعد والمساحة ، فلم يزالوا يزدادون كل يوم شكاً في العقائد الدينية .

افتضاح المادية في الدور الأخير : 

ولكن رجال النهضة الأوربية ظلوا قروناً يجمعون بين النظر المادي الجاحد والحياة المادية ، والطقوس الدينية المسيحية ، بالتقليد أو بتأثير المحيط الذي لا يزال في العالم النصراني ، أو بمصالح خلقية واجتماعية كانت تقتضي البقاء ولو بالاسم على نظام ديني يؤلف بين أفراد الأمة ويحفظها من الفوضى ، حتى افتضحوا في الأخير وصعب الجمع بينهما بسرعة سير الحضارة المادية ، وتخلف الدين والتقاليد وعجزها عن مسايرتها وما في الجمع بينهما من متاعب وضياع للوقت وتكلف هم في غني عنه ، فطرحوا الحشمة ورموا برقع النفاق .

 

جنود المادية ودعاتها : 

 ونهض الكتاب والمؤلفون والأدباء والمعلمون والاجتماعيون والسياسيون في كل ناحية من نواحي أوربا ينفخون صور المادية ، وينفثون بأقلامهم سمومها في عقل الجمهور وقلبه ، ويفسرون الأخلاق تفسيراً مادياً ، تارة ينشرون الفلسفة النفعية ، وطوراً فلسفة اللذة الأبيقورية .

والسياسيون أمثال ميكيافيلي الفلورنسي ( 1469 – 1527 م ) دعوا من قبل إلى فصل الدين عن السياسة ، وتقسيم الأخلاق إلى شخصية واجتماعية ، وقرروا أن الدين – إذا كان لابد منه – قضية شخصية لا ينبغي أن تتدخل في أمور السياسة والدولة ، وأن الدولة عندهم أعز وأهم من كل شيء ، وأن النصرانية إنما موضوعها الحياة الأخروية ، وأن المتدينين والصالحين لا يفيد وجودهم الدولة ، وإن كان يفيد الكنيسة ، لأنهم يتقيدون بأحكام الدين ، ولأنهم لا يستطيعون أن يحيدوا عن أحكام الدين ومبادئ الأخلاق إذا اقتضت المصلحة غير ذلك ، وأن الملوك والأمراء يجب عليهم أن يتخلقوا بأخلاق الثعالب ، ولا يحتشموا من نقض العهود والكذب والخيانة والغش والنفاق إذا كان في ذلك أدنى مصلحة للدولة إلى غير ذلك ، ونجحت هذه الدعوة وساعدتها عوامل كثيرة من الوطنية والقومية التي خلفت الديانة القديمة .

وأحدث الأدباء والمؤلفون وأصحاب البراعة والقريحة والذكاء ، خصوصاً في ثورة فرنسا وبعدها ، الثورة على الأخلاق القديمة ، والنظم الاجتماعية ، وزينوا للناس الإثم ، ونشروا دعوة الإباحة ، وإطلاق الطبائع من كل قيد ، والفرد من كل مسئولية ، ودعوا إلى التهام الحياة البهيمية ، وإرضاء الشهوات ، وانتهاب المسرات ، واستعجال الطيبات ، وغلوا وأسرفوا في تقدير قيمة هذه الحياة وجحدوا كل شيء سوى اللذة العاجلة والنفع المادة الظاهر المحسوس

 

نسخة صادقة من الحضارة اليونانية : 

فأصبحت الحياة في أوربا في القرنين التاسع عشر والعشرين نسخة صادقة من الحياة في يونان وروما الوثنيتين الجاهليتين ، وعادت الطبيعة الأوربية ( التي كانت النصرانية الشرقية قد قهرتها ) جذعة .

ولا غرابة في ذلك ، فالأوربيون اليوم إنما ينحدرون من أولئك اليونان والرومان ، والسلائل الأوربية الأخرى ترى ديناً خلواً من الروحانية ، كما لاحظ الدكتور (( هاس )) في ذكر الحضارة اليونانية .

وترى رقة الدين وقلة الخشوع والجد في أعماله . وكثرة اللهو والطرب في الحياة ، كما ذكر (( ليكي )) عن الديانة اليونانية ، وهو نتيجة الوضع الديني الذي وصلت إليه أوربا ، فإنه لا يتفق والخشوع لله والجد في عبادته ، ونتيجة تلك النظريات والغايات التي وصل إليها علماء الطبيعة والحكمة في أوربا وأعلنوها تلقاها الجمهور بالقبول وحلت محل الدين .

وترى كذلك تهافتاً على ملذات الحياة تهافت الظمآن على الماء والفراش على النار ، والحرص على اقتطاف جني الحياة وثمارها باليدين ، كما وصف به سقراط الرجل الجمهوري اليوناني في عصره .

وكذلك ترى شكاً في الدين واضطراباً في العقيدة واستخفافاً بالنظام الديني وطقوسه وتقاليده ، كما رأيت في روما بعد التنور .

 

ديانة أوربا اليوم المادية لا النصرانية : 

فمما لاشك فيه أن دين أوربا اليوم الذي يملك عليها القلب والمشاعر ويحكم على الروح هو المادية لا النصرانية ، كما يعلم ذلك كل من عرف النفسية الأوربية واتصل بالأوربيين عن كثب لا عن كتب ، بل وعن كتب أيضاً – ولم ينخدع بالمظاهر الدينية التي تزيد في أبهة الدولة والتي يجد فيها الشعب ترويحاً للنفس وتنوعاً ، ولم ينخدع بزيارتهم للكنائس وحضورهم في تقاليدها .

وقد بين ذلك في وضوح وصراحة الأستاذ الألماني المهتدي محمد أسد السابق ذكره في كتابه : (( الإسلام على مفترق الطرق )) قال :

(( لا شك أنه لا يزال في الغرب أفراد يعيشون ويفكرون على أسلوب ديني ويبذلون جهدهم في تطبيق عقائدهم بروح حضارتهم ، ولكنهم شواذ ، إن الرجل العادي في أوربا ، ديمقراطياً كان أو فاشياً ، رأسمالياً كان أو اشتراكياً ، عاملاً باليد أو رجلاً فكرياً ، إنما يعرف ديناً واحداً ، وهو عبادة الرقي المادي والاعتقاد بأنه لا غاية في الحياة غير أن يجعلها الإنسان أسهل ، وبالتعبير الدارج (( حرة مطلقة )) من قيود الطبيعة ، أما كنائس هذا (( الدين )) فهي المصانع الضخمة ودور السينما والمختبرات الكيماوية ودور الرقص ومراكز توليد الكهرباء ، وأما كهنتها فهم رؤساء الصيارف والمهندسون والممثلات وكواكب السينما وأقطاب التجارة والصناعة والطيارون والمبرزون الذين يضربون رقماً قياسياً ، ونتيجة هذه النهامة للقوة ، والشره للذة ، النتيجة اللازمة ظهور طوائف متنافسة مدججة بالسلاح ، والاستعدادات الحربية ، مستعدة لإبادة بعضها بعضاً إذا تصادمت أهواؤها ومصالحها ، أما في جانب الحضارة فنتيجتها ظهور طراز للإنسان يعتقد الفضيلة في الفائدة العملية ، والمثل الكامل عنده والفارق بين الخير والشر هو النجاح المادي لا غير (210))) .

   ((إن الحضارة الغربية لا تجحد الله في شدة وصراحة ، ولكن ليس في نظامها الفكري موضع لله في الحقيقة ولا تعرف له فائدة ولا تشعر بحاجة إليه(211) )) .

ربما يقلل من قيمة هذه الشهادات على مركز الدين في الحياة الأوربية ومدى تأثيره كون صاحبها قد انتقل من النصرانية إلى الإسلام ومن أوربا إلى الشرق الإسلامي ، فها هنا شهادة أصرح منها وأدل على اضمحلال الدين الرسمي في أكبر مراكزه ، واستنكاف أهله من الانتساب إليه لأحد كبار المعلمين في (( لندن )) وكتاب الإنكليزية البارزين .

قال الأستاذ جود ( Joad ) رئيس قسم الفلسفة وعلم النفس في جامعة لندن في كتابه : (  Guide to Modern Wickedness ) :

(( سألت عشرين طالباً وتلميذة كلهم في أوائل العقد الثاني من أعمارهم : كم منهم مسيحي بأي معنى من معاني الكلمة ، فلم يجب بـ(( نعم )) إلا ثلاثة فقط ، وقال سبعة منهم : إنهم لم يفكروا في هذه المسألة أبداً . أما العشرة الباقية فقد صرحوا أنهم معادون للمسيحية ، أنا أرى أن هذه النسبة بين من يؤمن بالمسيحية ويدين بها وبين من لا يؤمن في هذه البلاد ليست شاذة ولا غربية ، نعم إذا وجه هذا السؤال إلى مثل هذه الجماعة قبل خمسين سنة أو عشرين ، كانت الأجوبة مختلفة . بناء على ذلك الذين يتفقون في الرأي مع (Canon Barry ) ويزعمون أن نهضة مسيحية كبيرة يمكن أن تنقذ العالم سيكونون قليلاً جداً ، فإني لا أرى لرأيه هذا مؤيداً ومبرراً إلا أن يكون ذلك رغبته وهواه ، فإن الأهواء كثيراً ما تخلق الأفكار ، ولكنها لا تولد الشهادات والوثائق ، وإن الأحوال والآثار في هذه البلاد لتدل على أن الكنيسة النصرانية ستموت في القرن الآتي ، وإليك ما يؤيد هذا الرأي نقلاً من صحيفة يومية :

اخترع رجل في السابعة والسبعين من عمره طريقة تحول بها نسخ الكتاب المقدس العتيقة إلى حشو البنادق والحرير الصناعي واللدائن وأوراق النقد الثمينة ، وإن آلته قد نصبت في (Cardiff Factory ) وفي ثمانية مصانع أخرى وتصنع بنسخ التوراة القديمة أسلحة حربية وقد استثمر المخترع بالآلة ثروة عظيمة بعد ما عاش في ضنك من العيش .

ويختم الأستاذ مقالته هذه بجملة من التوراة – ولا أجمل منها – لمخاطبة القسوس ورجال الدين أمثال ( كينين بيري ) وغيره (( فليسمع من له أذنان(212) )) .

ويقول هذا المؤلف في كتابه الثاني (Philosophy for our Times  ) .

(( لم يزل سائداً على عقلية انكلترا منذ قرون شرهُ المال والتملك ، وكانت رغبة نيل الثروة أقوى عامل في حياة البلاد وأكبر باعث على العمل ، لأن الثروة وسيلة للتملك ، وضخامته ووفرته مقياس لكفاءة الإنسان ، ولم يزل الناس يتلقون من طرق السياسة والأدب والتمثيل والسينما والإذاعة اللاسلكية ، وفي بعض الأحيان من منابر الكنائس في ظل عام وشهر – التحريضات على جمع المال واقتنائه والإقناع بأن الأمة المتمدنة هي التي ارتقت فيها عاطفة الشره والتملك .

إن هذه العبادة للمال تناقض عقائدنا الدينية ، لأن الدين يمدح الفقر ويذم الغنى ، ويقول : إن الفقير أقدر على الصلاح من الغني ، ومع أن الحكمة والنعيم الديني متفقان على أن الفقر أوفق لعبادة الله ودخول الجنة ، ولكن الناس لم يرغبوا إلى تصديق الدين في ذلك والعمل بأحكامه ، ولم يزالوا يؤثرون الثروة الحاضرة على نعيم الجنة الموعود ، لعلهم يظنون أنهم إذا تابوا في آخر عهدهم بالدنيا فإنهم يحرزون حسنى الآخرة ، كما ظفروا بحسنى الدنيا بأموالهم المودعة في المصارف .

وقد أعرب عن فكرتهم هذه ( Sammuel Butler ) في كتابه بقوله : (( إن بعض المؤلفين يقولون : إنا لا نستطيع أن نجمع بين عبادة الله وعبادة المال ، وأنا أسلم أن الأمر ليس بميسور ، ولكن متى تكون المهمات في الدنيا ميسورة سهلة ؟

فمهما اختلفنا في المبادئ فإن الحقيقة الراهنة أن كلنا راسخ في تقليد بتلر واتباعه ، فنحن مشغوفون بحب المال ، وعقيدتنا أن الثروة هي المقياس الصحيح لعظمة الفرد والحكومة ، وكانت سبباً لظهور مبدأين لهما الأهمية التاريخية الكبرى .

أحدهما : مبدأ عدم التدخل الاقتصادي الذي كان سائداً على القرن التاسع عشر ، ويدعي أصحاب هذا المبدأ أن الإنسان يبني عمله على أعظم نفع يجلبه ، وأن ليس الباعث على الأعمال الالتذاذ بالعواطف القلبية بل الالتذاذ بالثروة .

والمبدأ الثاني الذي يسود القرن العشرين : هو مبدأ التنظيم الاقتصادي المنسوب إلى ماركس ، ويقوم هذا المبدأ على أن نظام الإنسان الاقتصادي إنما يتأسس على حوائج الإنسان المالية ، وهذا النظام هو الذي يخلق الأدب والأخلاق والدين والمنطق ونظام الحكومة ، ولم يكن هذان المبدآن لينالا القبول الذي نالاه لولا شغف الناس في بلادنا بالمال والاهتمام الزائد به )) .

ويقول في مكان آخر من هذا الكتاب :

(( إن نظرية الحياة التي تسود على هذا العصر وتحكم عليه : هي النظر في كل مسألة وشأن من ناحية المعدة والجيب ( stomach and pocket view of life) .

وقد أجاد الصحفي الأمريكي المشهور (Jhon Gunther) تمثيل هذه النفسية في كتابه في (( داخل أوربا )) ( Inside Europe) بقوله :

(( إن الإنجليز إنما يعبدون بنك إنجلترا (Bank of England) ستة أيام في الأسبوع ويتوجهون في اليوم السابع إلى الكنيسة )) .

 

مظاهر الطبيعة في أوربا  : 

إن هؤلاء الذين لا يؤمنون بحياة أخرى ولا يعتقدون وراء اللذة والتمتع بالحياة والعلو في الأرض غاية عليا ، ولا يذكرون الله إلا نادراً ، ولا يرجون له وقاراً ، كيف يرجى منهم أن يتضرعوا إلى الله إذا مسهم الضر ، ويخبتوا إليه وينيبوا إذا دهمهم الخطر كما ذكر الله عن المشركين الذين كانوا يؤمنون بالله : { َإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } **{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } ولكن هؤلاء – بإمعانهم في المادية والتمسك بالأسباب الظاهرة والتعلل بها واستغنائهم عن الله – قد وصلوا من القسوة والغفلة إلى حيث صدق عليهم قول الله : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقوله عز وجل : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } فلا تكاد تشعر في خطب الزعماء والوزراء في أوربا برقة قلب وانكساره وإخبات إلى الله في أدهى ساعات الحرب وأمرِّها ، ولا تشاهد شيئاً من ذلك في أخلاق الشعب وأعماله وأفراحه ، ويعد ذلك مفكرو الغرب وأدباؤه من باب التجلد وقوة القلب وإباء الضيم ، وقد افتخر أحد زعماء الإنجليز وكبار رجال السياسة في البرلمان الإنجليزي بأن رجال الشعب الإنجليزي لم يستسلموا للحوادث والنوازل ، واستشهد على ذلك بأن المشتغلين بالرقص واللهو في سنغافورة لم يتحولوا عن مكانهم ولم يؤخروا أدوار الرقص والغناء ، وطيارات اليابان تمطر المدينة شآبيب القنابل . ويحكي هندي عن سهرة شهدها قال : (( بينما نحن في الرقص إذ سمعنا الإنذار بالغارة الجوية فساد الهدوء في المكان ، ثم قال أحد أصحاب المجلس : ماذا ترون ؟ هل يستمر الرقص أم يؤخر ؟ فأجابت فتاة : بل نستمر راقصين ، وهكذا كان ، ودوَّت الحارة فضلاً عن النادي الذي كنا فيه بالأغاني(213) )) ، ويقول : ((من العادات اليومية أنه يعلن في السينما : تبدأ الغارة الجوية ولكن يستمر هذا الفصل ومن أراد أن يذهب إلى المخبأ فطريقه أسفل إلى اليسار ، ولكن الناس يستمرون جلوساً ولا أحد يبرح من مكانه ويبدأ الفصل (214))) ويقول كاتب إنجليزي تعليقاً على صورة نشرت في (Statesman) الصحيفة الإنجليزية اليومية الكبرى في الهند في 24 من يناير 1942 م : ((من الغريب أن أجمل التمثيليات إنما ظهرت أيام الحروب الكبرى في التاريخ ، كذلك الشأن في بريطانيا اليوم فالناظر يرى الملاهي والسينما والتمثيليات والصور ما لم يرى أجمل وأبدع منها قبل الحرب ، والمتفرج يجد في ملاهي لندن كل ما يسليه ويرضي ذوقه )) وفي عدد آخر من هذه الجريدة الصادر في 15 من ديسمبر 1943 م (( إن صناعة الأفلام في (( لندن )) و (( لشبونة )) و (( موسكو )) إلى تقدم وفي ازدهار )) . ولا تجد مثالاً لهذا التجلد والعكوف على اللذة واللهو في أشد ساعات الحرج وفي آخر ساعات العمر إلا في يونان وروما في العهد القديم .

وقد روى مراسل روتر كيف استقبل المستر تشرشل رئيس الوزارة البريطانية العام المقبل وودع العام الراحل وذلك في يوم عصيب من أيام الحرب يلجأ فيه الإنسان إلى الله ويفيق السكران ويخشع القاسي ، وإليك نص البرقية :

(( واشنطن ، اليوم الأول من يناير ( عام 1942 م ) البارحة لما كان العام الجديد يلتقي بالعام المنصرم وكان المستر تشرشل رئيس الوزارة مسافراً من كندا إلى الولايات المتحدة في قطار رسمي خرج رئيس الوزراء مستصحباً سير شارليس بورتل بغتة ودخل مطعم القطار والسيجار في فمه وكأس شمبانية في يده ، وتعجب ممثلو الصحف الذين كانوا سائرين معه تناول المستر تشرشل الكأس مبتسماً وقال : (( باسم عام 1941 م ذلك العام القائد إلى الاجتهاد والتعب والفتح )) في ذلك الوقت لفظ العام الراحل نفسه الأخير وتنفس العام الجديد وأعلنت الساعة بوفوده وهنأ الصحفيون ورؤساء القطار المستر تشرشل ، وأخذ رئيس الوزراء يد سير شارليس بورتل بيد ، وأخذ يد كاربورل هارنر بيده الأخرى وأخذ كل بيد الآخر وبدأوا يغنون في رقصة وانطلق المستر تشرشل إلى الباب وقال ليهنكم جميعاً ورزقنا الله الفتح ، وجعلت الجماعة تغني في حدة وتصفيق ، وخط رئيس الوزراء حرف v وانصرف إلى عربته سعيداً مسروراً )) .

قارن هذه الطبيعة المادية بالنفسية الدينية وتعاليم الدين وعمل المتدينين وسيرتهم في الحروب والأخطار ففي القرآن { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبهُ أمر فزع إلى الصلاة ، وفي سيرة ابن هشام في وقعة بدر الكبرى قال ابن إسحاق : ثم عدَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ورجع إلى العريش فدخله ومعه فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليس معه غيره ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد .

والمادية لأسباب حتمية طبيعية وتاريخية وعلمية قد أصبحت شعار الحضارة الغربية والحياة الغربية منذ عهد عريق في التاريخ ، ولم تزدها النشأة الجديدة والنهضة العلمية والسياسية في أوربا إلا حدة وقوة ، وقد لاحظ هذا الامتياز كثير من علماء الغرب والشرق ، فمن علماء الشرق الأستاذ الألمعي الرحالة ذو النظر الثاقب عبدالرحمن الكواكبي في مستهل هذا القرن فقد قال في كتاب (( طبائع الاستبداد )) :

(( الغربي مادي الحياة ، قويُّ النفس شديد المعاملة ، حريص على الاستئثار حريص على الانتقام ، كأنه لم يبق عنده شيء من المبادئ العالية والعواطف الشريفة التي نقلتها له مسيحية الشرق ، فالجرماني مثلاً جاف الطبع يرى أن العضو الضعيف الحياة من البشر يستحق الموت ، ويرى كل الفضيلة في القوة وكل القوة في المال ، فهو يحب العلم ولكن لأجل المال ويحب المجد ولكن لأجل المال ، واللاتيني منه مطبوع على العجب والطيش ، يرى العقل في الانطلاق ، والحياة في خلع الحياة ، والشرف في الزينة واللباس ، والعز في التغلب على الناس )) .

وهذا تصوير صادق للطبيعة الأوربية وتحليل صحيح للنفسية الغربية ، ولا نظن المرحوم الكواكبي قد تحامى الكلام على غير الجنسين الألماني واللاتيني إلا تفادياً من الوقوع في العنت ، فجعل الألماني واللاتيني مثلاً لسائر الأوربيين .

 

الغايات المادية للحركات الروحية العلمية :

وترى هذا الروح المادي في جميع نظم أوربا السياسية والاجتماعية والخلقية التي ابتكرتها أو جددتها شعوبها لهذا العهد ، حتى إن الحركة الروحية التي شغلت الناس كثيراً في أوربا في الزمن الأخير إنما روحها المادية ، فقد أصبحت صناعة وفناً كسائر الصناعات والفنون في أوربا ، غايتها مشاهدة عجائب إقليم الروح والاطلاع على أسرارها والتحدث إلى أرواح الموتى وترويح النفس والتلهي ، وليست من تزكية النفس وتصفية القلب والخشوع لله والعمل الصالح والاستعداد للموت والصبر على مكاره الحياة وهضم النفس في شيء ، خلافاً للحركة الروحية والتصوف في الشرق الإسلامي .

كذلك الأعمال التي يضحي فيها الناس بنفوسهم وأرواحهم في الغرب إنما ترجع في الغالب إلى غايات مادية كحسن الأحدوثة وانتشار الصيت وخلود الذكر في التاريخ والتبريز على الناس وأن يتمجد به شعبه ويفتخر ويتشرف به وطنه ويغتبط ، خلافاً للأعمال التي يبتغي بها وجه الله ، فالمسلم يخاف أن يشوب عمله شيء من الرياء والسمعة فيحبطه ويسمع قول  الله تعالى : { هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً{103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً{104} أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } ، وقوله عز وجل : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي يقاتل شجاعة ويقاتل رياء : أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )) . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه : (( اللهم اجعل عملي كله صالحاً واجعله كله لوجهك خالصاً ولا تجعل لغيرك فيه شيئاً )) واجتهاد الصالحين من هذه الأمة في إخفاء عبادتهم وصدقاتهم معروف في كتب التاريخ والسير .

 

التصوف المادي الغربي ووحدة الوجود الاقتصادي :

وقد بلغ النظر المادي والفكر المادي في أوربا درجة الاستغراق فيه والفناء ونسيان ما سوى القيم المادية ، ولنضرب بذلك مثلاً بكارل ماركس 1818 – 1883 م مؤسس الفلسفة الشيوعية .

يرى كارل ماركس أن النظام الاقتصادي هو روح الاجتماع وأن الدين والحضارة وفلسفة الحياة والفنون الجميلة كلها عكس لهذا النظام الاقتصادي ، هو يقول : إن في كل عصر وفي كل دور من أدوار التاريخ طريقة خاصة للإنتاج الصناعي وعلى وفقها تتعين العلاقات الاجتماعية ، ولكن بغد قليل لا تبقى هذه العلاقات الاجتماعية متوافقة متناسبة مع طرق الإنتاج ويجتهد بعض الناس لتشكيل هذه العلاقة تشكيلاً جديداً ، وهذه هي التي تعرف في التاريخ بالانقلابات والثورات . والمؤرخ يجهل ماهيتها ولكن لا غرابة في ذلك ، فإن الذين يشتركون في هذه الثورات قد لا يشعرون أنفسهم بالغاية التي يقاتلون لأجلها ، ولكن يمكن لنا أن نحل هذه الألغاز ونعلم أن الارتقاء السياسي والتعديلات والتحسينات في النظم السياسية وما يطرأ عليها من التغيير والتطور ليست إلا صوراً جديدة للعلائق الاجتماعية تظهر لتجعل هذه العلائق متناسبة متوافقة بطرق الإنتاج الجديدة من جديد ، ولما كان الاختلاف بين طرق الإنتاج الصناعي والعلائق الاجتماعية التي تقوم عليها مستمراً فيكون الجهد لتطبيقها مستمراً أيضاً ، وإذا تجاوز الاختلاف واشتد ظهر في شكل ثورة ، ولكن لا ينبغي لنا – إذا لم يكن الاختلافات واضحة – أن ننفي وجودها وننكرها ، والاختلاف بين مناهج الإنتاج الصناعي والوشائج الاجتماعية يظهر في حرب الطبقات ، لأن جميع طبقات الاجتماع إنما هي أجزاء النظام الاقتصادي ، ويستنتج من ذلك كارل ماركس أن التاريخ البشري غير العهد الذي كانت الحياة البشرية في طفولتها ليس إلا قصة حرب الطبقات الاجتماعية المختلفة .

 وهكذا جحد الرجل جميع نواحي البشرية غير الناحية الاقتصادية ولم يعر غيرها شيئاً من العناية ، ولم يقم للدين والأخلاق والروح والقلب وحتى العقل وزناً وقيمة ، ولم يعترف أن أحداً منها كان عاملاً من عوامل التاريخ ، وأن جميع الحروب والثورات في التاريخ لم يكن إلا ثاراً لبطن من بطن ، وجهاداً في سبيل تنظيم جديد للنظام الاقتصادي وطرق الإنتاج الصناعي ، وحتى الحروب الدينية لم تكن عنده إلا حرب الطبقات الاقتصادية استأثرت إحداها بموارد الثروة ووسائلها وطرق الإنتاج ، واجتهدت الأخرى في أن تنافسها وتتناول قسطها أو أن تنظمها من جديد فوقعت الحرب ، ويجب أن تكون كذلك في رأيه (( بدر )) و (( أُحد )) و (( الأحزاب )) و (( القادسية )) و (( اليرموك )) ، ووقائع ومعارك حفظها التاريخ .

فهذا هو – كما ترى – التصوف المادي الغربي ، وهذه هي فلسفة وحدة الوجود وحدة الاقتصاد ، ولما كان الشرقيون إنما يغلبهم الروح الديني والتأله نفى المتألهون منهم والمغلوبون وجود كل شيء سوى الله ، وهتفوا في سكرهم وغلبة الحال عليهم : لا موجود إلا الله ، ولما كان المفكرون الأوربيون إنما تغلبهم المادية نفوا وجود كل شيء سوى الناحية الاقتصادية وهتفوا : لا موجود إلا البطن والمعدة . إن صوفية الشرق كانوا يرون الإنسان ظلاً ربانياً ، أما الماديون في الغرب فلا يرونه إلا وجوداً بهيمياً حيوانياً .

 

نظرية دارون وتأثيرها في الأفكار والحضارة :

وساعدهم في وجهة نظرهم هذه في جميع مسائل الإنسان وزاد الطين بلة ، النظرية التي ظهرت في القرن التاسع عشر عن ارتقاء الإنسان ، وكونه حيواناً مترقياً عما دونه من الحيوانات ، لم يزل يجتاز بمرحلة بعد مرحلة في رحلته النوعية التي استغرقت ألوفاً من السنين ولم يزل ينتقل من طور حيوان إلى طور آخر ، من أميبا (Amoeba)  إلى قرد ومن قرد إلى إنسان حتى بلغ كماله النوعي ، وزعيم هذه النظرية وبطلها دارون الذي ظهر كتابه أصل الأنواع (Origin of species) سنة 1859 م فكان حديث النوادي والمجامع والمدارس وشغل الناس الشاغل ، وكانت هذه النظرية اتجاهاً جديداً لم يسبق في المسائل البشرية وما يتعلق بها ، تقلب تيار الفكر وتصرف نظر الإنسان في الاستعلام والاستهداء في مسائله وفي تاريخه من الإنسان إلى الحيوان ، وتجعله يعتقد أن هذا الكون سائر بغير عناية إلهية ، وبغير أن تتداخل فيه قوة غير طبيعة ، وأن لا علة في الكون سوى السنن الطبيعية ، وأن الموجودات ترتقي من مراتب الحياة الأولى إلى مراتبها العليا بعمل فطري تدريجي عار من العقل والحكمة ، وأن الإنسان وسائر أنواع الحيوان ليس من صنع صانع حكيم بل هو نتيجة نواميس طبيعية انتهى بها التنازع للبقاء وناموس بقاء الأصلح والانتخاب الطبعي الذي هو سائر في الكون إلى إنسان ناطق ذي شعور .

إن مناقضة هذه النظرية للدين والعقل في المبادئ والغايات والنتائج الفكرية والخلقية وآثارها العملية واضحة ، بل كان هذا ديناً جديداً يهدم الدين القديم من الأساس ويحل محله ، فلا غرابة إذاً اضطرب لها رجال الدين وحسبوا لها كل حساب ، وخافوا على مصير الدين في أوروبا .

يقول الأستاذ جود في كتابه :

(( يصعب علينا الآن أن ندرك تلك الدهشة والاستغراب الذي فاجأ أجددنا عندما ظهر كتاب أصل الأنواع لدارون ، وعندما جاءت النتائج أن دارون اثبت – أو يظن أنه أثبت – أن عمل ارتقاء الحياة على هذا الكوكب ( الأرض ) لم يزل مستمراً متوصلاً من ظهور الأميبا (Amoeba) وفرخ البحر (Jelly Fish) في أشكاله الأولى إلى أشكاله النهائية العليا وهي أرقى أشكال الحياة وأعلاها ، فلم يزل عمل الارتقاء من الأميبا إلى طورنا متواصلاً غير منقطع )) .

(( بالعكس من ذلك أن الذين عاشوا في عصر فكتوريا إنما أرشدوا أن الإنسان خلق مستقل ، وهو في الحقيقة نوع من ملك منحط ، أما إذا كان دارون مصيباً فالإنسان لم يكن إلا قرداً راقياً ، فعز على أهل عصر فكتوريا أن يكون الإنسان قرداً راقياً بدل أن يكون ملكاً منحطاً ، وما طابت لهم هذه النظرية واجتهدوا أن يخلصوا الإنسان من هذه السبة التي لحقتهم من هذه العقيدة في الإنسان واقترحوا لذلك اقتراحات(215) )) .

 

إقبال الجمهور على نظرية الارتقاء :

 ولكن الجمهور والدهماء من الناس تلقوا هذه النظرية بالقبول – رغم ما فيها من ضعف ونقص من الوجهة العلمية – فهموها أو لم يفهموها – وكأن الأذهان كانت متهيئة لمثل هذه النظرية ، وكأن الناس وجدوا فيها منافساً للدين ورجاله ، وصعب على رجال الدين أن يعارضوا هذا التيار الجارف من أفكار الناس وأذواقهم والسيل العرم من المنشورات والمحاضرات ، فوضعت الكنيسة أوزارها في هذه الحرب حتى إذا مات دارون سنة 1883 م منحته الكنيسة الإنجليزية أكبر شرف تمنحه لإنسان ، وذلك بأنها أذنت بدفنه في ويست منسترايبي محل دفن الرجال الدينيين .

وكان تأثير هذه النظرية بعيداً عميقاً في الأفكار والحضارة والأدب والسياسة تراه وتلمسه في أخلاق الناس ، وفي نزعات الرجوع إلى الفطرة وإلى العهد الذي كان الإنسان يعيش فيه على الفطرة عارياً حراً ، وفي تعيين المثل الكامل للإنسان وفي جميع الأعمال والأخلاق التي لا تصدر إلا على تسليم أن الإنسان إنما هو حيوان راق ، وفي فساد الحياة المنزلية الذي يعبر عنه المستر شبرد أحد علماء الإنجليز بقوله : (( لقد ظهر في إنجلترا جيل من الناس يجهل الحياة المنزلية جهلاً باتاً ، ولا يعرف غير حياة القطعان والبهائم )) .

 

من جنايات المادية :

 وكان من نتائج هذه المادية الجارفة ، والتربية اللادينية التي ليس فيها نصيب للأخلاق ومخافة الله عز وجل ، والإيمان بالآخرة أن أصحاب المراكز الكبيرة ، ورجال السياسة والمسئولية يرتكبون في بعض الأحيان جنايات لا يتنزل إليها أكبر الآثمين . وذلك لمصلحة سياسية وهمية لبلادهم وأمتهم أو لجاه شخصي أو ربح مالي ، فمن أغرب ما روي في تاريخ البشر من القسوة والظلم ، أن الإنجليز قد أوقعوا في بنغال (الهند) مجاعة مزورة غير طبيعية ، لأنهم منعوا استعمال القوارب التي يحصد الناس عليها مزارع الأرز – وهو غذاء بنغال – واحتكروا الحبوب في مقدار عظيم للجند ، ولم يمكنوا الناس منها حتى فسدت وضاعت ، ومات مئات الألوف من الناس جوعاً ، والحبوب وفيرة في البلاد ، والمواصلات ميسورة ، والقطر غادية رائحة ، والهند بلاد مخصبة تستطيع أن تغذي بلاداً أخرى . وذلك كله لما توقعوه من إقبال الناس على التجنيد , وليرهنوا على فشل الحكم الذاتي في إدارة البلاد .

وقد تغافل لورد ماونت بيتن حاكم الهند العام سنة 1947 عما يدبر من الفتك بالمسلمين في دلهي وبنجاب الشرقية , فقد اتصلت به أنباء المؤامرات والخطط التي كانت تبيت ضد العنصر الإسلامي في هذه المنطقة , وأنذره الخبراء بوقوع اضطراب طائفي هائل , فنام على كل ذلك انتقاماً من أن المسلمين لم ينتخبوه حاكماً عاماً لباكستان كما فعل أهل الهند ، ولتكون هذه الاضطرابات الطائفية , والحروب الأهلية حجة  على عدم أهلية أهل البلاد للاستقلال , وكونهم عيالاً على الإنجليز في الأمن والنظام ، فكان نتيجة ذلك , تلك المجزرة البشرية الهائلة التي عقمت القرون أن تلد مثلها .

ومن ذلك أن (( ريدكلف )) الذي اختاره الفريقان الهنديان حكماً في مسألة بعض مدن بنجاب هل تنضم إلى هندوستان ، أو إلى باكستان حكم حكماً جائراً ، فكان نتيجة ذلك جلاء المسلمين من فيرزوبور ، وكورداسبور ، ومتاعب عظيمة ، وخسائر كبيرة في النفوس والأموال .

أما تأييد ترومان للصهيونية ، ودولة إسرائيل في فلسطين ، ومعارضته للقضية العربية التي لا غبار عليها ، لأجل أن يكسب ود اليهود ويتمتع بنفوذهم السياسي والمالي والصحافي ، وليكسب انتخابه ، وتعاميه عن براهين الدولة العربية الساطعة ، وسكوت أمريكا على فظائع فرنسا في الجزائر ، ووقوفها بجوار هذه الدولة الجائرة في قضية الجزائر العربية الإسلامية ، وتعاونها على الإثم والعدوان ، فقضية تنبئ عن ضعف أخلاق العظماء في أوربا وأمريكا ، ودوران الحياة السياسية على الفوائد لا المبادئ .

 

*********************************


الفصل الثاني

الجنسية والوطنية في أوربا

 

انكسار الكنيسة اللاتينية سبب قوة العصبية والقومية والوطنية :

قدمنا أن الوطنية والقومية والاعتداد الشديد بالشعب والموقع الجغرافي من خصائص الطبع الأوربي الذي سرى في العنصر الأوربي مسرى الروح ، وجرى منه مجرى الدم وأصبح طبيعة ثانية له ، ولكن النصرانية قهرت هذه الطبيعة ، لأنها – على علاتها ، وبرغم ما طرأ عليها من التحريف والتبدل – لا يزال عليها مسحة من تعليم المسيح ، وفيها أثارة من علمه ، والدين السماوي مهما تحرف وتغير لا يعرف الفرق المصطنعة بين الإنسان والإنسان ، ولا يفرق بين الأجناس والألوان والأوطان ، فجمعت النصرانية الأمم الأوربية تحت لواء الدين وجعلت من العالم النصراني عشيرة واحدةِ ، وأخضعت الشعوب الكثيرة للكنيسة اللاتينية فغلبت العصبية القومية والنعرة الوطنية ، وشغلت الأمم عنها لمدة طويلة ، ولكن لما قام لوثر سنة 1483 – 1526 م بحركته الدينية الإصلاحية الشهيرة ضد الكنيسة اللاتينية ، ورأى من مصلحة مهمته أن يستعين بالألمان جنسه ونجح في عمله نجاحاً لا يستهان بقدره ، وانهزمت الكنيسة اللاتينية في عاقبة الأمر فانفرط عقدها ، استقلت الأمم ، وأصبحت لا تربطها رابطة ، ولم تزل كل يوم تزداد استقلالاً في شؤونها وتشتتاً . حتى إذا اضمحلت النصرانية نفسها في أوربا قويت العصبية القومية والوطنية ، وكان الدين والقومية ككفتي ميزان كلما رجحت واحدة طاشت الأخرى ، ومعلوم أن كفة الدين لم تزل تحف كل يوم ، ولم تزل كفة منافسته راجحة ، وقد أشار إلى هذه الحقيقة التاريخية الفاضل الإنجليزي المعروف لورد لوثين Lord Lothian السفير البريطاني السابق في أمريكا في خطبته التي ألقاها في حفلة جامعة عليكرة في يناير سنة 1938 م .

(( لما قضت حركة لوثر التي تدعى حركة إصلاح الدين على وحدة أوربا الثقافية والدينية ، انقسمت هذه القارة في إمارات شعبية مختلفة ، أصبحت منازعاتها ومنافساتها خطراً خالداً على أمن العالم )) .

وكان نتيجة الانحطاط الديني ، وانخفاض مبادئ الدين والأخلاق ، رجحان كفة الوطنية والجنسية ؛ يقول (( لورد لوثين )) في نفس هذه الخطبة :

(( إن الدين الذي هو المرشد اللازم للإنسان والوسيلة الوحيدة لحصول الغاية الخلقية ، والشرف المعنوي للحياة البشرية ، كان نتيجة الانحطاط في سلطانه أن فتن العالم الغربي بمذاهب سياسية تقوم على أساس اختلاف الأجناس والطبقات وآمن - بتأثير العلوم الطبيعية- أن الرقي المادي هو الغاية العليا ، والوطر الأكبر ، ولا يزال يزيد هذا الأمر في مشاكل الحياة وأثقالها وتكاليفها ، وكان من نتائج ذلك أيضاً أنه صعب على أوربا أن توفق بين روحها وحياتها توفيقاً ينقذها من القومية ، داهية هذا العصر الكبرى(216) )) .

 

طوائف العصبية الجنسية في أوربا :

كان نتيجة انحلال النظام الديني وانتعاش النعرة القومية أولاً ، أن أصبحت أوربا معسكراً واحداً ضد الشرق كله ، وخطت خطّاً فاصلا بين الغرب والشرق أو بين أوربا وبين سواها من القارات والأقاليم ، والجنس الآري وبين ما عداه من أجناس البشر ، يعد أن كل ما دون هذا الخط له الفضل على كل ما وراءه من نسل وشعب وثقافة وحضارة وعلم وأدب ، وأن الأول خلق ليسود ويحكم ، والثاني ليخضع ويدين ، والأول ليبقى ويزدهر ، والثاني ليموت ويضمحل ، وهذا بعينه ما امتاز به اليونان والروم في عهدهم ، فقد كانوا لا يعدون مهذبين إلا أنفسهم فقط ، وكانوا يسمون كل شيء غريباً ، خصوصاً كل ما كان واقعاً في شرق المحيط الأطلانتيكي – بربرياً .

وكان نتيجة هذه النفسية الجنسية والعصبية ضد كل ما جاء من الخارج ويعزى إلى أجنبي ، أن صار بعض الشعوب الأوروبية ينظر إلى الدين المسيحي وإلى المسيح كطارئ ونزيل يريدون أن ينفوه من بلادهم ويتبرأوا منه ، يمثل ذلك ما قال أحد المعلمين في ألمانية وهو البروفسور أترني :

((لأي شيء يدرس أولادنا تاريخ أمة أجنبية، ولماذا يقص عليهم قصص إبراهيم وإسحق؟ ينبغي أن يكون إلهنا أيضاً ألمانياًَ )) .

ونشأت في ألمانيا طائفة تتبرأ من سيدنا المسيح عليه السلام لكونه من بني إسرائيل ، والذين لا يزالون يدينون له بالحب والتعظيم يجتهدون أن يثبتوا أنه كان من سلالة آرية ، وظهرت في ألمانية نزعة إلى إحياء الآلهة القومية القديمة التي كان يعبدها الشعب الألماني في عهده القديم .

وليست روسيا العالمية بأقل حماسة للعصبية الجنسية والوطنية من منافسها القديم ألمانيا .

فيعتقد الناس في روسيا أن أغلب الاختراعات الكبرى في العصر الحديث إنما يرجع الفضل فيها إلى الروس .

فليس (( لافوازييه )) هو واضح القانون الخاص بتركيب الأجسام ، بل هو مدين بما ينسب إليه للعالم الروسي (( ميشيل لوموتوسوف )) وليس (( لأديسون )) فضل في استخدام الكهرباء في الإضاءة فقد سبقه (( لووجين )) الروسي بست سنوات إلى غير ذلك ، ونشرت جريدة برافدا : أن العلماء الروسيين توصلوا إلى اختراع التلغراف قبل (( مورس )) وإلى تسيير القاطرة البخارية قبل (( ستفنسن )) ، إلى غير ذلك من تحديات للتاريخ ليس الباعث عليها إلا العصبية الجنسية وتقديس (( روسيا )) .

 

عدوى الجنسية في الأقطار الإسلامية :

 ومما يدعو إلى الأسف والاضطراب ، أن هذه العدوى الجنسية قد سرت إلى بعض الأقطار الإسلامية التي كان يجب وكان من المترقب أن تكون زعيمة لدعوة الإسلام العالمية ، حاملة في عصرها لرسالة الأمن والسلام ، وأن تكون جبهة قوية ضد الجنسية والوطنية ، وذلك بانحلال الدين في هذه البلاد ، وبتأثير الآداب الأوربية والحضارة الغربية ، فترى في الترك النزعة الطورانية والدعوة إلى إحياء جاهليتها القديمة وآدابها وثقافتها ، والنظرة إلى الدين الإسلامي الذي انتشر على أيدي العرب وشريعة الإسلام وثقافته ولغته نظرة شبه نظرة ألمانيا الجديدة إلى الأديان التي جاء بها الأنبياء من غير النسل الآري والآداب السامية وثقافتها ، فاعتقد بعض المفكرين في تركيا الفتاة أن الإسلام دين طارئ غريب لا يصلح للترك ، وأن الأولى بهم أن يرجعوا إلى وثنيتهم الأولى قبل أن اعتنق آباؤهم الدين الإسلامي ، تقول الكاتبة خالدة أديب هانم عن (( ضياء كوك ألب )) من كبار مؤسسي تركيا الجديدة أدباً وتهذيباً :

(( كان ضياء كوك ألب يريد أن ينشئ تركيا جديدة تكون صلة بين الأتراك العثمانيين وبين أسلافهم الطورانيين ، فقد كان يريد أن يقوم بإصلاح مدني بواسطة المعلومات التي جمعها عن التنظيمات السياسية والمدنية في عهد الأتراك قبل الإسلام ، كان ضياء يعتقد ويؤمن بأن الإسلام الذي وضعه العرب لا يصلح لشأننا ، ولابد لنا من إصلاح ديني يوافق طبائعنا إذا لم نرجع إلى عهدنا الجاهلي (217))) .

ومما لا شك فيه أن هذه النزعة قد وجدت في الترك وكذلك في الإيرانيين في الزمن الأخير:

قال المرحوم الأمير (( شكيب أرسلان )) وهو الخبير الثقة فيما يتعلق بالترك فضلاً عن العرب لطول مكثه في تركيا وكان عضواً في مجلس الأمة :

(( وهناك فئة ثانية تدعى الفئة الطورانية تخالف الفئة الأولى ، - أي الفئة التي تقول بالقومية العثمانية الإسلامية – في كل هذه النظريات ، وأشهر دعاتها ضياء كوك ألب وأحمد أغائف ، ويوسف أقشورا اللذان قدما من روسيا ، وجلال ساهر ، ويحي كمال ، وحمدالله صبحي رئيس وجاق (( تورك بوردي )) ومحمد أمين بك الشاعر الملي ، وكثير من الأدباء والمفكرين ، وأكثر الطلبة والنشء الجديد . وهؤلاء يزعمون أن الترك هم من أقدم أمم البسيطة وأعرقها مجداً ، وأسبقها إلى الحضارة ، وأنهم هم والجنس المغولي واحد في الأصل ، ويلزم أن يعودا واحداً ، ويسمون ذلك بالجامعة الطورانية ، ولم يقتصروا منها على الترك الذين في سيبريا وتركستان الصين وفارس والقوقاس والأناضول والروملي ، بل مبدؤهم مد هذه الرابطة إلى المغول في الصين ، وإلى المجر والفنلانديين في أوربا ، وكل ما يقال إنه ينتمي إلى أصل طوراني ، وهم يقولون بخلاف ما يقول الأولون ، فهم ترك أولاً ومسلمون ثانياً ، وشعارهم عدم التدين وإهمال الجامعة الإسلامية ، إلا إذا كانت خادمة لنفوذ القومية الطورانية ، فتكون عندئذ واسطة لا غاية ، وقد غلا كثير من هذه الفئة في الطورانية حتى قالوا : نحن أتراك فكعبتنا طوران ، وهم يتغنون بمدائح جنكيز ، ويعجبون بفتوحات المغول ، ولا ينكرون شيئاً من أعمالهم ، وينظمون الأناشيد للأحداث في وصف الوقائع الجنكيزية ليطبعوهم على الإعجاب بها ويرقوا مستوى نفوسهم بزعمهم(218) )) .. وقال أيضاً :

(( وهذا ولما كان هذا العصر عصر القوميات كما لا يخفى اقتداء بالأمم الأوربية في الزمن الأخير كانت القومية الفارسية قد أخذت تشتد أكثر من ذي قبل ، وذلك نظير ما حصل عند الترك ، وصار كثير من ناشئة الفرس يبحثون عن دين فارس القديم ، وذلك نظير ناشئة الترك الذين أخذوا يبحثون عن عبادات أجدادهم وعن الذئب الأبيض الذي كانوا يعبدون ، حتى صوروه في بعض كتبهم الحديثة ، وقال لهم المرحوم ( موسى كاظم ) شيخ الإسلام – وهو الذي أخبرني بذلك - : إن العرب كانت عندهم عبادات كهذه تقشعر منها الأبدان ، ولكنهم اقتلعوها بالإسلام وافتخروا بأن الله لطف بهم وأنقذهم منها ورفعهم عن مستوى تلك السفالات . وأما أنتم فتريدون أن تتناسوا الاعتقاد بالبارئ تعالى وتتذكروا عبادة الذئب الأبيض ، فيا للأسف )) .

(( فكما حصل عند الترك حصل عند الفرس وصار ناشئتهم يبحثون عن أديانهم القديمة التي منها الكيومرتية ( أي تعظيم النور ) والتحرز من الظلمة . ومن هنا جاءتهم عبادة النار ، ومنها فرقة ( زرادشت ) الذي كان يدعو إلى وحدانية الله ، ويقول : إنه خالق النور والظلمة وإن الخير والشر إنما حصلا بامتزاجهما ، وإنهما لو لم يمتزجا لما كان وجود للعالم ، إلى غير ذلك من العقائد والأوابد والآثار التي كانت عند قدماء الفرس : كالثنوية ، والزردشتية ، والمانوية ، ومنهم من يبحث عن المزدكية التي كانت تدعو إلى الإلحاد والإباحية (219))) .

 

 

        

الديانة القومية الأوربية وأركانها :

   والخطوة الثانية في هذا الطريق أن أصبحت الشعوب والدول في أوربا ، الصغيرة منها والكبيرة ، عوالم مستقلة لا ترى العالم خارج الخطوط التي خطتها الطبيعة من جبال وأنهار ، أو خطتها بيدها من غاية سياسية واستعمار ، ولا تعترف بوجود الإنسان في غير منطقتها فلا تحترمه ولا تعرفه ، واتخذت نفسها إلها تدين له بكل ما يدين به العباد المخلصون من عبادة وتقديس وأضاح هي دماء الآخرين ونفوسهم وأموالهم وبلادهم ، وقتال في سبيله ، وتفان في طاعته ، ومحيا وممات لأجله ، وهذا الدين القومي يشتمل على شيئين : إيجابي وسلبي ، أما الإيجابي فهو الاعتقاد بأن الشعب أو الأمة فوق كل شيء ، وأفضل من كل شيء ، وأن الله – إذا كانت الأمة تعترف به وتعتقد أو ترى أن من المصلحة أن تستعمل هذه الكلمة – لم يخلق أفضل من هذه الأمة ، ولا أنجب منها ، ولا أذكى ولا أقوى ولا أحق بالحكم والسيادة والولاية على الأمم ، والرعاية للعالم منها ، وأنها أمينة ووكيله ووصيه في الأرض ، ولم يخلق بلاداً أحب إليه من هذه البلاد ، ولا تربة أذكى من تربتها ، وهذا هو الدين القومي الذي لا يسمح لإنسان أن يعيش في بلاده حتى يؤمن به .

ولا تختلف شعوب أوربا الحاضرة ودولها في هذه الديانة القومية إلا في الصراحة والنفاق ، وأن بعضها تقول وتفعل ، وبعضها تفعل ولا تقول ، فإن بذرة القومية والوطنية إذا ألقيت في أرض فإنها لا تلبث أن تنشأ وتمد عروقها في الأرض ثم تصير شجرة ، فدوحة تظلل الأمة ، ولا يمكن لشعب أن يؤمن بالقومية ، ثم لا يعتدي ولا يتطاول أو لا يريد أن يعتدي ويتطاول ولا يمقت الآخرين ، ولا يزدريهم ، كما لا يمكن أن يسرف الإنسان في الخمر ، ثم لا يسكر ولا يهذي كما قال الشاعر :

ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له *** إياك إياك أن تبتل بالماء

خصوصاً إذا كان العلم والأدب والشعر والفلسفة والتاريخ وحتى العلوم الطبيعية متعاونة على إنشاء العاطفة القومية والنعرة الشعبية والخيلاء الجنسية والفخر بالآباء والتعظيم بالماضي ، ولا يكون رادع من خلق ولا وازع من دين ، وتولى القيادة رجال لا يعرفون غير القومية والمجد القومي غاية مرمى ، ومن مقومات هذه الحياة القومية التي لا تقوم بغيرها ، الكراهة والخوف ، وذلك هو الجزء السلبي في دين القومية ، فإن الحماسة القومية لا تظهر ولا تبقى حتى يكون للشعب ما يكرهه ويخافه ، فلا يزال القائدون يثيرون الكامن من عواطفه ، ويذكرون الخامد من حميته ويضربون على الوتر الحساس وهو الكراهة والخوف ، فلولاهما لانقشعت سحابة القومية وتراجع سيلها .

وقد حلل ذلك الأستاذ (( جود )) تحليلاً فلسفياً نفسياً فقال :

(( إن العواطف التي هي مشتركة والتي يمكن إثارتها بسهولة هي عواطف المقت والخوف التي تحرك جماعات كبيرة من الدهماء ، بدل الرحمة والجود والكرم والحب ، فالذين يريدون أن يحكموا على الشعب لغاية ما ، لا ينجحون حتى يلتمسوا له ما يكرهه ويوجدوا له من يخافه ، وإذا أردتُ أن أوحد الشعوب ينبغي أن أخترع لهم عدواً على كوكب آخر – على القمر مثلاً – تخافه هذه الشعوب ، فلم يعد من دواعي العجب أن الحكومات القومية في هذا العصر في معاملتها لجيرانها إنما تقاد بعواطف المقت والخوف ، فعلى تلك العواطف يعيش من يحكمونها ، وعلى تلك العواطف يقوى الاتحاد القومي(220) )) .

 

الحل الإسلامي لمعضلة الحرب والمناقشات الشعوبية :

إن هذا الحل الذي قدمه الأستاذ (( جود )) لمشكلة الأمم ومعضلة الحروب والمنافسات الشعوبية حل عادل وتوجيه معقول ، فلا تنصرف عداوة الشعوب والأمم بعضها لبعض حتى يكون لها عدو من غيرها تشترك في عداوته وكرهه والمخافة منه . وتتعاون في الحرب معه ، ولكن هذا لا يحتاج إلى اختراع وإبداع ، ولا يلزم أن يوجد لها عدو على كوكب آخر كالقمر والمريخ ، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ؟ فالدين ينبه إلى أن هذا العدو للنوع الإنساني ولذرية آدم يوجد على الأرض نفسها ، وحق على كل إنسان أن يعاديه ويحترس منه ويتعاون مع بني نوعه في معاداته ومحاربته يقول القرآن : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } ويقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } .

وقد قسم الإسلام العالم البشري إلى قسمين فقط ، أولياء الله وأولياء الشيطان ، وأنصار الحق وأنصار الباطل ، ولم يشرع حرباً ولا جهاداً إلا ضد أنصار الباطل وأولياء الشيطان أينما كانوا ومن كانوا ، فقال : { الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } . وهذه الحروب التي لم يشهد التاريخ أيمن منها وأقل إراقة للدماء وذهاباً بالنفس ، ولا أعود منها على الإنسانية بالصالح العام والخير المشترك والسعادة جمعاء فلا يربو عدد المقتولين من الفريقين ( المسلم والكافر ) في جميع الغزوات والسرايا والمناوشات التي ابتدأت من السنة الثانية للهجرة ، ودامت إلى السنة التاسعة على ألف وثمانية عشر نفساً 1018 المسلمون منهم 259 والكفار 759(221) أما المصابون في حرب 1914 – 1918 الكونية فيبلغ عددهم على الأصح واحداً وعشرين مليون نسمة(222) 000,000, 21 عدد المقتولين منهم سبعة ملايين 000 ,00, 7 وقدر المستر مكستن (Maxton) عضو البرلمان الإنجليزي أن المصابين في الحرب الثانية الكبرى 1939 .... لا يقل عددهم عن خمسين مليون 000 ,000, 50 وقد كلف قتل رجل واحد في الحرب الأولى عشرة آلاف جنيه ، أما مجموع نفقاتها فيبلغ 000,000,000,37 جنيه أما نفقات الحرب الثانية لساعة واحدة فمليون من الجنيهات 000,000,1 (223).

ثم كانت الحروب الدينية الإسلامية حاقنة للدماء عاصمة للنفوس والأموال وفاتحة عهد السعادة والغبطة في العالم ، أما حرب التنافس والحمية الجاهلية التي تدعى الحرب الكبرى فقد كانت مقدمة حروب متسلسلة ؛ وإليك ما قال المستر لويد جورج بطل الحرب الكبرى ورئيس الوزارة الإنجليزية حينئذ :

(( لو رجع سيدنا المسيح إلى العالم لما عاش إلا قليلاً ، إنه سيرى الإنسان لا يزال بعد ألفي سنة مشغوفاً بالشر والإفساد والقتل والفتك بيني نوعه ، والنهب والإغارة ، بل إن أكبر حرب في التاريخ قد استغرقت دم جسم الإنسانية وأهلكت الحرث والنسل حتى أصابت الناس مجاعة ، وماذا يرى السيد المسيح يا ترى ؟ هل يرى الناس يتصافحون كالإخوان والأصدقاء ؟ لا . بل يراهم يتهيأون لحرب أشد هولاً من الأولى وأعظم فتكاً وتعذيباً ؛ يراهم يتسابقون في اختراع الآلات الجهنمية ويبتدعون وسائل التعذيب (224))) .

وليس اشتغال هذه الشعوب بالعداوة والحروب فيما بينها ، وما هذه القومية والوطنية الخ إلا لانصراف هذه الشعوب عن عداوة عدوها الحقيقي ونسيانها له ، فالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكل ، وكما قال الشاعر الجاهلي :

وأحياناً على بكر أخينا *** إذا ما لم نجد إلا أخانا

فإذا عرفت عدوها وعرفت ضرره على نفسها ، وعرفت خطره وقوته كان ذلك مشغلة لها عن كل حرب وعداوة وشح ومنافسة وأحقاد وهمية وتراث مصطنعة . وقد قالت العرب قديماً : (( عند الحفيظة تذهب الأحقاد )) وهكذا جعل محمد صلى الله عليه وسلم من قبائل العرب المتعادية التي كانت سيوفهم تقطر من دمائهم كالأوس والخزرج في المدينة ، وبني عدنان وبني قحطان في الجزيرة ، والأجناس المتباينة في العالم ، أمة واحدة ومعسكراً واحداً إزاء الكفر والجاهلية ، إذ جعل لها في خارجها ما تكرهه وتعاديه ، وهو الباطل والطاغوت ووكلاؤه وأنصاره ، وشغلها بحربه وقرأ : { الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } فنسيت أحقادها وتراثها ولم تتذكرها إلا لما انصرفت عن عدوها وتشاغلت عن قتاله ومعاداته فكانت حروب داخلية وفتن يعرفها الجميع .

 

 

دعاية القوميين وإضرارهم بالشعوب الصغيرة :

ولا يزال القوميون في داخل البلاد وخارجها يزينون للشعوب الصغيرة القومية ويطرون أدبها ولسانها وثقافتها وتهذيبها ، ويمجدون لها تاريخها حتى تصبح نشوانة بالعواطف القومية والخيلاء والكبرياء ، وتدل بنفسها وتظن أنها مانعتها حصونها وما أعدت للحرب ، وتنقطع عن العالم وتتحرش أحياناً بالدول الكبيرة غروراً بنفسها ، أو تهجم عليها الدول فلا تلبث إلا عشية أو ضحاها ، وتذهب ضحية لقوميتها وانحصارها في دائرة ضيقة ، ولا يغني أولئك المسئولون عنها شيئاً { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ } كذلك وقع لبولندة وبلجيكا وهولاندة ويونان ودنمارك ، وهكذا وقع لإيران والعراق في الحرب الثانية .

 

مطامح الدول الكبيرة :

أما الدولة الكبيرة فترى من واجب قوميتها أن تبسط سيطرتها على أكبر رقعة من الأرض وترفرف أعلامها على مساحات واسعة وإن كانت قفاراً أو صحارى وتكون لها مستعمرات وممتلكات في قارات مختلفة ، وأن كان ذلك يكلفها جيوشاً وأموالاً بغير فائدة جدية تعود عليها ويصعب عليها حراستها والقيام بشئونها ، كل ذلك مما توجبه عليها شريعة القومية ، وليس لها غاية أخلاقية وتمرة أدبية غير ما تسميه (( المجد القومي والشرف القومي )) .

وقد شرح الأستاذ (( جود )) المجد القومي بقوله :

(( إن المجد القومي إنما يعني أن يكون الشعب يملك قوة يسلط بها رغبته وهواه على آخرين إذا مست الحاجة ، ويكفي لشناعة ما يسمونه ( المثل الكامل للشعب ) وهو المجد القومي إنه يناقض الصفات الخلقية والفضيلة إذا كانت بلاد لا تقول إلا صدقاً ، وتفي بوعودها وتعامل الضعفاء معاملة إنسانية فمستوى شرفها عند الأمم منحط فالشرف – كما قال المستر بلدون - : عبارة عن قوة تنال الأمة بها المجد والفخار وتستلفت إليها الأنظار وتشغل الأفكار ، ومعلوم أن هذه القوة التي تنال الأمة بها هذه الدرجة من الشرف إنما تتوقف على قنابل نارية متفجرة ومشعلة للنيرات ، وعلى وفاء الشبان وولائهم للوطن ، الذين يحبون إلقاء تلك القنابل على المدن . فالشرف الذي يمدح لأجله شعب يناقض تلك الصفات والأخلاق التي يمدح بها الفرد ، فأرى أن الشعب يجب أن يعد همجياً وغير مهذب بالمقدار الذي يملكه من الشرف ، إذا ليس من الشرف أن ينال الإنسان أو الشعب الشرف بالخديعة والمكر والظلم (225))) .

(( إن الكبر – أكثر من الطمع – هو الذي يحمل الطبقة الحاكمة في بريطانيا على اتباع خطط لا تتفق مع ما يتظاهرون به من حب الصلح والوئام ، دع رجلاً يقترح على ولاة الأمر في بريطانيا أن يهجروا قيراطاً من رمل من ممتلكاتها التي لا تغرب فيها الشمس ومن أشدها قحولة وجدباً ، تر المحافظين الأبطال في إنجلترا يقيمون العالم ويقعدونه سخطاً وحنقاً ، وترى الصحافة الإنجليزية المعتدلة تتميز غيظاً ، إذاً تعلم أن هؤلاء المحافظين ليسوا طماعين فقط بل هم مستكبرون معاندون(226) )) .

 

منافسة الشعوب في المستعمرات والأسواق :

وقد سبقت إلى هذا الاستعمار والامتلاك أمم وتخلفت أخرى ، ثم نهضت الأخيرة تنافسها وتطالب بأسهامها وتبحث لها عن مستعمرات وأسواق لبضائعها وشرفات تغزو عليها على المجد والفخار ، وتعد بفضلها من الإمبراطوريات الكبار ، وقامت الأولى تدفعها وتحول بينها وبين ما تشتهي ، وتزعم أنها إنما تغضب للأمم الصغيرة ونصرة المظلوم . ولكن كثيراً من الناس ، من أنفسها ومن الأجانب ، يشكون في إخلاص هذه الأمم وفي صفاء طويتها وحسن نيتها .

يقول الأستاذ (( جود )) : (( الانجليزي – جاهلاً أو متجاهلاً للمسائل التي أدت إلى قسمة ضيزى للعمران ، ضارباً صحفاً عن سخط الشعوب مثل اليابانيين – يعتقد أن الإنجليز أمة سلمية ويرمي اليابانيين بحب القتال والضراوة بالحروب . والإنجليز لا شك أمة سلمية ، ولكن مسالمتهم مسالة لص قد اعتزل حرفته القديمة ، وقد أحرز شرفاً وجاهاً بفضل غنائمه السابقة ، وهو يبغض الذين يدخلون جديداً في حرفته القديمة ، عنده فضول أموال وغنائم لا يستهلكها ، ولكنه يلقب الذي يريدون أن يساهموا في ذلك بهواة الحرب(227) )) .

وكثيراً ما تنشب الحرب بين هذه الأمم السابقة إلى السيادة والتملك وبين الأمم المتطلعة لها الطامحة إليها ، ولكن هذه الحرب لا يصح قياسها على حرب تشهر لردع الظالم والانتصار للمظلوم وإقامة القسط عملاً بقول الله عز وجل : {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }( الحجرات ) ، ولكن هذه الحرب حرب شح ومنافسة ، وحرب غيرة وحسد ، ما كانت جمعية الأمم ( الفقيدة ) التي كانت هذه الحروب تشهر تحت إشرافها ، ولا خليفتها الأمم المتحدة )) إلا كما قال الأمير شكيب أرسلان : (( مثل العروض بحراً بلا ماء ، ما وجدت إلا لتلبس الاعتداء حلة قانونية ، وتسوغ الفتوحات بتغيير الأسماء ، لا يطيعها سوى ضعيف عاجز ، ولا تستطيع أن تحكم على قوي متجاوز )) أو في لفظ فقيد الإسلام الدكتور محمد إقبال : (( جمعية لصوص ونباشين تألفت لتقسيم الأكفان )) .

قال الأستاذ ( جود ) الإنجليزي :  

(( إن حرباً تشهر تحت إشراف عصبة الأمم ليست للعدل بين الأمم يقوم بها شرطة العالم للأخذ على يد الظالم وعقاب المعتدي ، ليست هذه الحرب إلا كفاحاً بين الطوائف المتنافسة في القوة . الواحدة منها حريصة على المحافظة على القسط الأكبر من ثروة العالم ومواردها ، والأخرى متهالكة على تحصيلها ، إن مثل هذه الحروب لا تختلف عن حروب نشبت بين الطوائف المتنافسة في الماضي ، ولا عن حروب النمسا وبروسيا(228) ، وعن حروب السنوات السبع(229) وعن حروب نابليون ؛ وعن حرب 1914 – 1918 . لا تختلف هذه الحرب عن هذه الحروب كلها إلا في الاسم .

أما التذرع بأن هذه الحروب إنما نصبت للدفاع عن الديمقراطية وعن عصبة الأمم ، وضد الفاشية والاعتداء فلا يغير من الموقف شيئاً(230) )) .

 

الفرق بين حكم الجباية ، وحكم الهداية :

روي أن عمر بن عبد العزيز خليفة المسلمين قال لعامله مرة : ((ويحك إن محمداً صلى     الله عليه وسلم بُعِث هادياً ولم يُبْعَثْ جابياً )) وهذه الجملة تعرب عن روح الحكومة الدينية التي تتأسس على منهاج النبوة ، وتسير على آثار الأنبياء وخطتها وسياستها ، فتكون عنايتها واهتمامها بالدين وبإصلاح أخلاق المحكومين وبما يعود عليهم بالنفع والضرر في الآخرة أكثر من اهتمامها بالجباية والخراج وأنواع المحاصيل والإيراد ،وتنظر في جميع مسائل السياسة والمالية من الوجهة الدينية وتقدم المبادئ الدينية والخلقية على المنافع والمصالح المادية ،فتمنع الخمر وتحرم الزنا وأنواع الخلاعة والفجور والعقود المالية الفاسدة النافعة للأفراد المضرة بالمجتمع ، فتحظر الربا والقمار وإن كان ذلك يرجع على الحكومة بالخسارة المادية الفادحة ،وتشرع مشاريع إصلاحية وتراقب الأخلاق وتعنى بتهذيب النفوس ،وإن كان ذلك يكفلها أموالاً طائلة وميزانية ضخمة ،ونتيجة هذا النوع من الحكومات إذا قامت في بلاد مَّا بَّينها القران وتنبأ بها للمهاجرين الأولين : {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ }                                                                 

أما الحكومات التي تقوم للجباية لا للهداية ، وللانتفاع لا للنفع ، فطبيعي أن تكون عنايتها مصروفة إلى أنواع الخراج والمحاصيل والغلات ، وكثيراً ما يكون  ذلك على حساب الأخلاق والفضائل والنظام المنزلي ، فتبيح أنواعاً كثيرة من الخلاعة والفجور بقيود تنظمها ولا تمنعها ، فتسمح بالبغاء الرسمي ، وقد ترابي نفسها وتبيح القمار ، وكثيراً من الجنايات و الجرائم الخلقية بتغيير الأسماء وتحديد بعض الأشياء تأميناً لمصالحها ، ولا تبيح الخمر فقط بل تبيعها وتتولى تجارتها وتنظيمها وتحاكم وتعاقب من يمنعها ويجاهد ضدها ، وقد تجبر أهل بعض البلاد على اشتراء المخدرات التي تصدرها ، كما فعل بعض الحكومات الأوربية في آسيا مع أهل الصين ، فطبيعي كذلك أن تصاب هذه الشعوب المحكومة في أخلاقها وترزأ في روحها وقلبها ، بل إن أهل البلاد ينحط مستوى أخلاقهم لمجرد المخالطة بهذه الشعوب الحاكمة ومجاورتها ، ويلحقهم عدوى الأمراض الخلقية الفاشية في الأقطار الأوربية التي ولدتها الحضارة المادية هنالك ، وذلك ما أقروا به . أنفسهم وشكوا منه .

فالحكومات الأوربية تحمل معها مفاسد الحضارة الغربية وشرورها ، وكيف يرجى من هذه الحكومات أن تزدهر الفضيلة والأخلاق ويرقى مستوى أخلاق الشعب في ظلها ودولتها ، ولم يكن ذلك في بلادها وأوطانها ، وليس ذلك من رسالتها ومهمتها ، ولا مما تدين به وتعتقده (( وكل إناء بالذي فيه ينضح )) ولم تزل طريق الملوك والفاتحين غير طريق الأنبياء والهداة والمصلحين ، وإن الحقيقة التي ذكرها القرآن على لسان ملكة سبأ حقيقة راهنة لا تختلف في الأزمنة والأمكنة :

{ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } .

 

*****************************


الفصل الثالث

أوربا إلى الانتحار

 

عصر الاكتشاف والاختراع :

إذا عرفت عصور التاريخ بما يميزها عن غيرها ، وأضيفت إليه ، أمكننا أن نسمي هذا العصر عصر الاكتشاف والاختراع ، وعصر اللاسلكي والكهرباء ؛ وفضل الأوربيين وتقدمهم في هذا الباب وعبقرية رجال الاكتشاف والاختراع وإبداعهم من القضايا التي لا تقبل المكابرة .

ولكن مهما بالغ المبالغون في إطراء الصناعات والمخترعات الحديثة في أوربا ، وبرغم إعجابنا بها والثناء على مكتشفيها ومخترعيها ، ينبغي ألا ننسى أن هذه الصناعات والمخترعات ليست غايات في نفسها مقصودة بالذات ، بل هي وسائط ووسائل لغاية أخرى نحكم عليها بالخير والشر ، والنفع والضر ، بمقياس هذه الغاية وكونها خيراً أو شراً ، ونحكم عليها بالنجاح والخيبة بالقياس إلى مطابقتها للغاية التي وضعت لها ، والنظر في النتائج التي حصلت منها ، والدور الذي لعبته في حياة الناس ومجتمعهم وأخلاقهم وسياستهم .

 

الغاية من الصناعات والمخترعات ، وموقف الإسلام منها :

 أما الغاية فعلى ما أرى هي التغلب على العقبات والصعوبات في سير الحياة التي سببها الجهل والضعف ، والانتفاع بقوى الطبيعة المودعة في هذا الكون وخيراتها وخزائنها المبثوثة فيها ، واستخدامها لمقاصد صحيحة من غير علو في الأرض ولا فساد .

كان الإنسان يسافر في الزمن القديم ماشياً ، ثم ألهم أن يسخر لذلك الحيوان ، فاتخذ العجلات واتخذ الجياد العتاق ، ثم لم يزل يتدرج في السرعة والاختراع حتى وصل من المركبة إلى القطار ، ومنه إلى السيارة ، ومنها إلى الطيارة ، وكذلك من السفينة الشراعية إلى البواخر ، فلا بأس ، بل يا حبذا إذا كان ذلك كله تابعاً لمقاصد صحيحة يسافر الإنسان بها من مكان إلى مكان لغرض صحيح جدي مثمر ، ويحمل عليها أثقاله إلى بلد لم يكن بالغه إلا بشق النفس ؛ ويوفر الوقت والقوة وينتفع بها في الخير . وقس على ذلك سائر القوى الطبيعية والمخترعات الحديثة التي ينتفع بها الإنسان انتفاعاً مشروعاً ويستخدمها لمقاصد رشيدة نافعة .

إن موقف الإسلام في ذلك بيِّن واضح ، فقد أخبر أن الإنسان خليفة الله في الأرض قد سخر الله العالم لأغراضه الصحيحة بتصرف منه وغير تصرف فقال : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } ، وقال : { اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ{32} وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ{33} وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } ( إبراهيم ) ، وقال : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }( الإسراء ) ليلاحظ القارئ الإطلاق في قوله : { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ، وقوله : { وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} ، وقال : { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ{5} وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ{6} وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ{7} وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } (النحل) . قد منَّ الله في هذه الآية على الإنسان بتمكينه لبلوغ غايته من غير شق النفس ، واستدل به على رأفته به ، ورحمته له ، وقال : { وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ{12} لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ{13} وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } ( الزخرف ) . وما أجدر الإنسان أن يقول إذا استوى على سيارة أو طيارة : { سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } ، فهو أبعد من أن يكون مقرناً لقطع من صفيح وحديد لا حياة فيها ولا حركة ، يسخرها له تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، ولا ينس أنه راجع إلى الله ومحاسب على ما أوتي من قوة وسعة ، فإن أساء استعمال هذه القدرة والتمكين عوقب على ذلك . وكذلك لا ينس أنه عبد خاضع لله منقاد لحكمه لا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، ولا يطغ ، فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى .

وقال : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }( الحديد )  . فالحديد فيه منافع للناس ومن أكبر منافعه أنه يستخدم لنصر الله ورسله ، ولذلك قدم عليه ذكر إرسال الرسل ، وإنزال الكتب .

فالمسلم ينتفع بكل ما خلق الله وأودع في الكون من قوة في سبيل الجهاد في سبيل الله ، وفي نشر دينه ، وإظهاره على الدين كله وإعلاء كلمته ، وفيما أباح الله له ورغبة فيه من تجارة مشروعة وكسب حلال ، وسفر بر ، ومنافع مباحة .

 

إنما طائركم معكم :   

إن المصنوعات الجمادية لا ذنب عليها ، فإنها خاضعة لإرادة الإنسان وعقليته وأخلاقه ، فهي في ذات نفسها ليست خيراً ولا شراً ، ولكن الإنسان هو الذي يجعلها باستعماله لها خيراً أو شراً ، وكثيراً ما تكون خيراً في نفسها ، فيحولها الإنسان شراً بسوء استعماله وخبث سريرته ، وفساد تربيته ، فليس الشأن في هذه الآلات والمخترعات ، إنما الشأن فيمن يستغلها وفي الغرض الذي يستعملها له . وحقيق أن يقال – لمن أصبح يتطير في أوربا من هذه الآلات ، ومن الطيارات التي تقذف القنابل ، وتدمر المنازل ، وتنسف القرى والمدن ، والغواصات التي تغرق بواخر الركاب المسالمين والتجار الآمنين ، واللاسلكية التي تذيع الكذب والزور ، وتنشر الخلاعة والمجون ويشكو منها ، ويوجه إليها الملام - : { قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } فإن العلوم الطبيعية تسخر للإنسان القوة المادية ، وليس من شأنها أن تعلمه أيضاً كيف يستعملها ، وفيم يضعها ، كالكبريت يعطيك ناراً ؛ ولك أن تحرق بها بيتاً على سكانه ، أو تطبخ طعاماً أو تستدفئ بالنار ، والذي يعلم كيف يستعمل الإنسان القوة وفيما يضعها هو الدين ، فالدين يرشد الإنسان كيف ينتفع بقوته انتفاعاً حقيقياً ، وكيف يشكر نعمة الله ، ويحظر على الإنسان أن يكون بقوته التي خوله الله إياها معيناً على الظلم والجريمة والإثم والعدوان ، كما قال موسى عليه السلام : {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ }(القصص) : وقال سليمان : { هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } .

 

التخليط بين الوسائط والغايات :

أما الأوربيون فقد حرموا أنفسهم الدين ، فلم يبق لهم رادع من خلق أو وازع من دين ، أو مرشد من علم إلهي يرشدهم إلى الجادة ، ونسوا غاية خلقهم ومبدأهم ومصيرهم وقالوا : {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } فاعتقدوا بطبيعة هذه العقيدة أن ليس للإنسان وراء اللذة والراحة والانتفاع المادي والعلو في الأرض وبسط السيطرة عليها – كمملكة لا سيد لها ولا وارث – والتغلب على أهلها والاستئثار بخبراتها وخزائنها ، مقصد ولا غاية ، فاستعملوا هذه القوة والعلم في حصول اللذات والتغلب على الناس وقهر المنافسين ، وتنافسوا في اختراع الآلات التي ينالون بها وطرهم ويعجزون بها غيرهم ، ولم يزل بهم ذلك حتى اختلطت عليهم الوسائط بالغايات ، فاعتقدوا الوسائط غايات ، وافتتنوا بالمخترعات والمكتشفات كغاية في نفسها لا لغيرها ، وعكفوا عليها وتشاغلوا بها كتشاغل الصبيان باللعب والدُّمى ، واعتقدوا أن الراحة هي الحضارة ثم تقدموا وصاروا يعتقدون أن السرعة هي الحضارة .

يقول الأستاذ جود :

(( يقول دزرائيلي Disraeli إن المجتمع في عصره يعتقد أن الحضارة هي الراحة ، أما نحن فنعتقد أن الحضارة عبارة عن السرعة ، فالسرعة هي إله الشباب العصري ، وإنه يضحي على نُصبه بالهدوء والراحة والسلام والعطف على الآخرين من غير رحمة(231) )) .

 

 

 

عدم تعادل القوة والأخلاق في أوربا :

إن الأوربيين قد فقدوا تعادل القوة والأخلاق والتوازن بين العلم – بظاهر من الحياة الدنيا – والدين منذ قرون ، فلم تزل القوة والعلم في أوربا بعد النهضة الجديدة ينموان على حساب الدين والأخلاق ، ولم يزل الأولان في ارتفاع وارتقاء ، والآخران في انخفاض وانحطاط ، حتى بعدت النسبة بينهما ، ونشأ جيل كأنه ميزان لصقت إحدى كفتيه بالأرض وهي كفة القوة والعلم ، وخفت الثانية – وهي كفة الأخلاق والدين – حتى ارتفعت جداً ، وبينما يتراءى هذا الجيل للناظر في خوارقه الصناعية وعجائبه الكونية وتسخيره للمادة والقوى الطبيعية لمصالحه وأغراضه كأنه فوق البشر إذا هو لا يتميز في أخلاقه وأعماله ، في شرهة وطمعه ، في طيشه ونزقه ، وفي قسوته وظلمه عن البهائم والسباع ، وبينما هو قد ملك جميع وسائل الحياة ، إذا هو لا يدري كيف يعيش ! وبينما هو قد بلغ الغايات ووراء الغايات في الكماليات وفضول الحياة ، إذا هو لا يدري كيف يعيش! وبينما هو قد بلغ الغايات ووراء الغايات في الكماليات وفضول الحياة ، إذا هو لم يعرف المبادئ الأولية والبديهيات للحياة الإنسانية والمدنية والأخلاق ، فتراه يصعد إلى السماء ويريد أن يناطح الجوزاء ، وهو لم يتقن شئون الأرض ولم يصلح ما تحت قدميه ، وقد خولته العلوم الطبيعية قوة قاهرة وهو لا يحسن استعمالها ، كفل صغير أو سفيه أو مجنون يملك أزمَّة الأمور ويؤتى مفاتيح الخزائن ، فهو لا يزيد على أن يعبث بالجواهر الغالية والنفائس المخزونة ويعيث في دماء الناس ونفوسهم .

 

قوة الآلهة ، وعقل الأطفال :

 يقول الأستاذ (( جود )) الإنجليزي : (( إن العلوم الطبيعية قد منحتنا القوة الجديرة بالآلهة ، ولكننا نستعملها بعقل الأطفال والوحوش(232) )) .

ويقول في موضع آخر :

إن هذا التفاوت بين فتوحنا العلمية المدهشة ، وطفولتنا الاجتماعية المخجلة ، نواجهه على كل منعطف ومنعرج نستطيع أن نتحدث من وراء القارات والبحار ونرسل الصور بالبرق ونركب اللاسلكية في منازلنا ، ونستمع في سيلان إلى دقات (Big Ben) – الساعة العظمى – تضرب في لندن ، ونركب فوق الأرض والبحر وتحتهما ، والأطفال يتحدثون على الأسلاك البرقية ، والآلات الكاتبة صامتة ، وتملأ الأسنان من غير إيجاع ، والزروع تنمى بالكهرباء ، والشوارع تفرش بالمطاط ، وأشعة روتنجن (x-rays) نوافذ نطل منها على داخل أبداننا ، والصور المتحركة تتكلم وتغني ، ويكشف عن المجرمين والمغتالين باللاسلكية ، والغواصات تذهب إلى القطب الشمالي والطيارات تطير إلى القطب الجنوبي ومع ذلك كله لا نقدر في وسط مدننا الكبرى أن نخصص رحبة يلعب فيها أطفال الفقراء في راحة وسلام ، ونتيجة ذلك أنا نقتل منهم ألفين (2000) ونجرح منهم تسعين ألفاً (90000) سنوياً ، قال لي فيلسوف هندي في انتقاده اللاذع لإطرائي لعجائب حضارتنا : وكان بعض سواق السيارات قد نجح في قطع ثلثمائة أو أربعمائة ميل في ساعة على رمال (pendine) ، وطارت طائرة من موسكو إلى نيويورك في فترة قليلة من الزمن قال الفيلسوف : نعم ! إنكم تقدرون أن تطيروا في الهواء كالطيور وتسبحوا في الماء كالسمك ، ولكنكم إلى الآن لا تعرفون كيف تمشون على الأرض (233))) .

 

ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم :

وقد أصبحت هذه المخترعات والمكتشفات الجديدة – مما كانت تعود على النوع الإنساني بخير كبير لو كان مستعملها يعرف الخير ويقدر أن يتجه إليه – أصبحت وضررها أكبر من نفعها ، وكان كما قال القرآن عن السحر : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } . اسمع شاهداً من أهلها ينتقد هذه المخترعات ويبوح بالحقيقة وهو (( جود )) السابق الذكر :

(( وقد استطعنا أن نسافر بسرعة زائدة من مكان إلى مكان ، ولكن الأمكنة التي نسافر إليها قلما نصلح للسفر ، وقد زويت الأرض للرحالين وتدانت الأمم ووطئ بعضها عتبة بعض ، ولكن كان نتيجة ذلك أن توترت العلاقات بينها وأصبحت أسوأ مما كانت ، أما المرافق التي استطعنا بها أن نتعارف بجيراننا فقد عادت فحشرت العالم في الحرب ، اخترعنا آلة الإذاعة وتحدثنا بها إلى الشعوب المجاورة والأمم الشقيقة ، ولكن كان عاقبتها أن كل شعب يستنفد موارد الهواء لإيذاء الشعب المجاور ومعاكسته ، إذ يجتهد أن يقنعه بفضل نظامه السياسي على نظامه(234) )) .

(( انظر إلى الطيارة التي تحلق في السماء يخيل إليك أن صانعيها كانوا في علمهم ولباقتهم وصناعتهم فوق البشر ، والذي طاروا عليها أولاً لاشك أنهم كانوا في علو همتهم وعزمهم وجرأتهم أبطالاً مغاوير ، ولكن انظر الآن إلى المقاصد التي استعملت لها الطيارة وتستعمل لها في المستقبل ، إنما هي قذف القنابل وتمزيق جثث الإنسان وخنق الأحياء وإحراق الأجساد وإلقاء الغارات السامة ، وتقطيع المستضعفين الذي لا عاصم لهم من هذا الشر إرْباً إرباً ، وهذه إما مقاصد الحمقى أو الشياطين (235))) .

(( وما عسى أن يقول المؤرخ غداً كيف كنا نستعمل معدن الذهب ؟ سيذكر أنا توصلنا إلى أن نخبر عن الذهب باللاسلكي ، وسيستعرض الصور التي تمثل اللياقة والمهارة التي كان أصحاب المصارف يزنون بها الذهب ويعدونه ، وكيف تحدينا قانون الجاذبية في نقله من عاصمة إلى عاصمة ، وسيسجل أن أشباه الوحوش الذين كانوا ماهرين وجرآء في فتوحهم الصناعية كانوا عاجزين عن التعاون الدولي الذي كان يقتضيه ضبط الذهب والتقسيم الصحيح ، وكانوا لا يعنون إلا بأن يدفنوا المعادن بالسرعة الممكنة ، وكانوا يستخرجون الذهب والمعادن من بطون الأرض في جنوب إفريقية ، ويدفنونها في مصارف لندن ونيويورك وباريس(236) )) .

ويتناول هذه البحث – التفاوت بين العلم والصناعة وبين الأخلاق الإنسانية ، وإخفاق الحضارة الحديثة في أداء رسالتها – مفكر آخر يجمع بين العلم بالفلسفة والعلوم الطبيعية في تحليل أدق وأسلوب أعمق وهو الدكتور (Alexis Carrel) في كتابه – الإنسان ، ذلك المجهول – (Man the Unknown .) :

(( يظهر أن الحضارة العصرية لا تستطيع أن تنتج رجالاً يملكون الابتكار والذكاء والجرأة . وفي كل قطر تقريباً يرى الإنسان في الطبقة التي تباشر إدارة الأمور وتملك زمام البلاد انحطاطاً في الاستعداد الفكري والخلقي .

إننا نلاحظ أن الحضارة العصرية لم تحقق الآمال الكبيرة التي عقدتها بها الإنسانية وإنما أخفقت في تنشئة الرجال الذين يملكون الذكاء والإقدام الذي يسير بالحضارة على الشارع الخطر الذي تتعثر عليه ، إن الأفراد والإنسانية لم تتقدم بتلك السرعة التي تقدمت بها المؤسسات التي نبعث من عقولها ، إنها هي نقائص القادة السياسيين الفكرية والخلقية وجهلهم الذي يعرض أمم العصر للخطر(237) )) .

(( إن الوسط الذي أنشأه العلوم الطبيعية وعلم الصناعات للإنسان لا يناسب الإنسان لأنه مرتحل لم يقم على تصميم وتفكير سابق ، ولم يراع فيه الانسجام مع شخصية الإنسان ، إن هذا الوسط الذي هو وليد ذكائنا واختراعاتنا لا يطابق قاماتنا ولا أشكالنا ، نحن غير مسرورين ، نحن في انحطاط الأخلاق وفي العقول ، أن الأمم التي ازدهرت فيها الحضارة الصناعية وبلغت أوجها هي أضعف مما كانت ، وهي تسير سيراً حثيثاً إلى الهمجية ولكنها لا تدرك ذلك ، إنه لا حارس لها من المحيط الثائر الذي أقامته العلوم الطبيعية حول هذه الأمم . الحق يقال إن حضارتنا – كالحضارات التي تقدمتها – قد فرضت شروطاً للبقاء ستجعل – لأسباب لا تزال مجهولة – الحياة محالاً ، إن علمنا بالحياة وكيف يجب أن يعيش الإنسان متأخر جداً عن علمنا بالماديات ، وهذا التأخر هو الذي جنى علينا (238))) .

(( لا يجنى نفع من الزيادة في عدد المخترعات الآلية ، لا فائدة في أن نعلق أهمية كبرى على اكتشافات علوم الطبيعية والفلكيات وعلم الكيمياء ، أي خير في الزيادة في الراحة والشرف ، والجمال والمنظر وكماليات حضارتنا إذا منع ضعفنا من الانتفاع بذلك وتوجيهه إلى صالحنا . إنه لا خير في أحكام طريق للحياة يقصى فيه العنصر الخلقي وتبعد منه أشرف عناصر الأمم العظيمة ، إن الأليق بنا أن نعنى بأنفسنا أكثر من أن نعنى بصناعة بواخر أسرع وسيارات أربح، وراديوات أرخص، وتلسكوبات لفحص هيكل سديم على بعد سحيق(239)))

(( ما هو مدى التقدم الحقيقي الذي نحققه حينما تنقلنا إحدى الطائرات إلى أوربا أو إلى الصين في ساعات قلائل ؟ هل من الضروري أن نزيد الإنتاج بلا توقف حتى يستطيع الإنسان أن يستهلك كميات أكثر فأكثر من أشياء لا جدوى منها ؟ أليس هناك أي ظل من الشك في أن علوم الميكانيكا والطبيعة والكيمياء عاجزة عن إعطائنا الذكاء والنظام الأخلاقي والصحة والتوازن العصبي والأمن والسلام(240) )) .

 

أوربا في الانتحار :

 والحاصل أن الغربيين لما فقدوا الرغبة في الخير والصلاح ، وضيعوا الأصول والمبادئ الصحيحة ، وزاغت قلوبهم وانحرفت ، وفسدت أذواقهم لم تزدهم العلوم والمخترعات إلا ضرراً ، كما أن الأغذية الصالحة تستحيل في جسم الممعود والموبوء مرضاً وفساداً ، بل لم تزدهم هذه الآلات والمخترعات إلا قوة وسرعة في الإهلاك واستعانة على الانتحار ؛ وقد أحسن المستر ايدن Eden رئيس وزراء بريطانيا السابق وصف ذلك في بعض خطبه سنة 1938 م :

(( إن أهل الأرض كادوا يرجعون في أخريات هذا القرن إلى عهد الهمجية والوحشية ، ويعيشون عيشة سكان الكهوف والمغارات ، ومن الغريب المضحك أن البلاد والدول تنفق ملايين من الجنيهات على وقاية نفسها من آلة فتاكة تخافها ، ولكنها لا تنفق على ضبطها ، وإني أتعجب في بعض الأحيان وأقوال : كيف لو زار العالم الجديد زائر من كوكب آخر وهبط إلينا فما عسى أن يشاهده ؟ سيجدنا نعد العدة لإهلاك بعضنا ، ونتبادل الأنباء عنها ويخبر بعضنا كيف نستعمل هذه الآلات الجهنمية )) .

 

القنبلة الذرية وفظائعها :

لعل المستر إيدن لما أفضى بهذا الحديث لم يدر بخلده أن العالم المتمدن وعلى رأسه أميركا رسول السلام وزعيم الحضارة والعالم الجديد سيتوصل أثناء الحرب إلى استعمال آلة تبز جميع الآلات والمخترعات في التدمير والتقتيل ، وتفوق ذكاء الإنسان وخياله في الهول والفظاعة ، قد كانت هذه الآلة هي القنبلة الذرية التي جربتها أمريكا مرة في صحراء نيوميكسيكو ، وثانية على رؤوس البشر في مدينة هيروشيما ، وبعدها في نجازاكي المدينتين اليابانيتين . وقد أذاع رئيس بلدة (هيروشيما) في 20 أغسطس آب 1949 م أن الذين هلكوا في اليوم السادس من أغسطس آب 1945 م من اليابانيين يتراوح عددهم بين مائتي ألف وعشرة آلاف ومائتي ألف وأربعين ألفاً ( ب- ت ) .

 يقول المستر استورت (Stuart Gilder) في مقالة نشرتها صحيفة الهند الإنجليزية السيارة (Statesman) في عددها الصادر في 16 سبتمبر 1945 .

يقول البروفسور (Plesh) :

(( لا يؤمن على الناس الذين كانوا يبعدون عن المنطقة التي انفجرت فيها القنبلة الذرية بمائة ميل أن يكونوا قد تأثروا بها ، فينبغي أن يفحص عنهم فحصاً طبياً ، ولا يستغرب أن يصبح الناس يوم ويقرأوا في الجرائد أن علامات الإصابة بطاعون القنبلة الذرية قد ظهرت في الذين يسكنون على آلاف أميال من اليابان .

ويقول البروفسور ( م . ي . أولى فنيت ) معلم جامعة برمنجهام وعضو الهيئة الصناعية في إعداد القنبلة الذرية :

(( من الأمور الخرافية أن يعتقد إنسان أن بريطانيا أو دولة أخرى تستطيع أن تحافظ على سر القنبلة الذرية . إن المبادئ التي قامت عليها صناعة القنبلة الذرية مكشوفة لكل دولة ، إن بريطانيا وأميركا استفادتا بتجاريب السابقين وبلغتا إلى نهاية صناعة القنبلة الذرية ، ولكنها لا تدوم سراً حربياً إلا لأجل معدود ، لأن كل بلاد صناعية تستطيع أن تعد القنبلة الذرية في مدة خمس سنوات وإذا أفرغت جهودها ووجهت قواها إلى صناعتها فيمكن أن تبلغ إلى نهايتها في سنتين )) .

ويقول البروفسور المذكور :

(( وأنا على يقين أنه سيظهر في مدة قصيرة على مسرح العالم قنابل تفوق القنابل الأولى بعشرة آلاف طن في قوة الانفجار ، وستليها قنابل قوتها مليون طن ، ولا ينفع في التوقي منها دفاع أو احتياط ، وإن ست قنابل فقط من هذا القبيل تكفي في تدمير إنجلترا على بكرة أبيها ، وإن العلماء الروسيين ينجحون في إعداد القنابل في مدة قصيرة جداً )) .

وقد اخترعت أمريكا قنبلة أخرى تفوق القنبلة الذرية في القوة والفظاعة ، وهي (Hydrogen Bomb) وقد جرى اختبارها للمرة الثانية في المحيط الهادئ يوم 26 من مارس سنة 1954 .

وقد ذكر المستر شارلس – ي – ولسن (Charles E. Wilson) سكرتير وزارة الدفاع أن النتائج كانت هائلة لا تكاد تصدق .

وقد ذكر المستر لويس استراس (Lewis Strauss) رئيس لجنة القوة الذرية في أمريكا أن قنبلة هيدروجينية واحدة تستطيع أن تبيد مساحة مدينة نيويورك الواسعة .

وقال العالم الطبعي الشهير ونائب رئيس مجلس الأمن اللواء صاحب سنج في دهلي الجديدة :

إن أربع قنابل هيدروجينية وزن كل واحدة منها مائة طن تستطيع أن تقتل كل نسمة على وجه الأرض ، وقد شاع أخيراً أن روسيا اكتشفت القنبلة النيتروجينية (Nitrogen bomb) التي هي أدهى وأمر من القنبلة الهيدروجينية .

 

والذي خبث لا يخرج إلا نكدا :

وقد تضعضع أساس المدنية الأوربية ، كما ذكرنا بتفصيل ، ولم يزل بناؤه متزعزعاً ، ولم تزده الأيام ولم يزده الارتفاع إلا زيغاً واختلالاً، وفسدت بذرتها ، فلم تصلح شجرتها ولم تطلب ثمرتها {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً }.

وقد شرح ذلك في إيجاز الأستاذ السيد أبو الأعلى المودودي في أحد فصول كتابه ((تنقيحات )) بالأوردية قال :

(( ظهرت الحضارة الغربية في أمة لم يكن عندها معين صاف ولا نبع عذب للحكمة الإلهية ، لقد كان فيها قادة الدين ولكن لم يكونوا أصحاب حكمة ولا علم ولا شريعة إلهية ، ولم يكن عندهم إلا شبح ديني لو حاول أن يسير بالنوع الإنساني على صراط مستقيم في طرق الفكر والعمل لما استطاع ، ولم يكن له إلا أن يكون حجر عثرة وسداً في سبيل ارتقاء العلم ، والحكمة ، وهكذا كان ، وكان عاقبة ذلك أن الذين كانوا يريدون الرقي نبذوا الدين بالعراء ، واختاروا طريقاً لم يكن دليلهم فيها إلا المشاهدة والاختبار والقياس والاستقراء ، ووثقوا بهذه الدلائل التي هي في حاجة بنفسها إلى الهداية والنور ، وجاهدوا واجتهدوا باحتذائها في طرق الفكر والنظر والتحقيق والاكتشاف والبناء والتنظيم ، ولكن ضلت خطوتهم الأولى في كل جهة وفي كل مجال ، وانصرفت فتوحهم في ميادين العلم والتحقيق ، ومحاولاتهم في سبيل الفكر والنظر إلى غاية لم تكن صحيحة ، إنهم بدأوا وساروا من نقطة الإلحاد والمادية ، نظروا في الكون على أنه ليس له إله ، نظروا في الآفاق والأنفس على أنه لا حقيقة فيها إلا المشاهد والمحسوس ، وليس وراء هذا الستار الظاهر شيء ، إنهم أدركوا نواميس الفطرة بالاختبار والقياس ولكنهم لم يتوصلوا إلى فاطرها ، إنهم وجدوا الموجودات مسخرة واستخدموها لأغراضهم ، ولكنهم جهلوا أنهم ليسوا سادتها ومدبريها ، بل هم خلفاء سيدها الحق ، فلم يروا أنفسهم مسئولين عنها ، ولم يروا على أنفسهم عهدة وتبعة ، فاختل أساس مدنيتهم وتهذيبهم ، وانصرفوا عن عبادة الله إلى عبادة النفس ، واتخذوا إلههم هواهم ، وفتنتهم عبادة هذا الإله ، وسارت بهم هذه العبادة في كل ميدان من ميادين الفكر والعمل على طريق زائغة خلابة رائعة ، ولكن مصيرها إلى الهلاك .

هذا هو الذي مسخ العلوم الطبيعية فصارت آلة الهلاك الإنسان ، وصاغ الأخلاق في قالب الشهوات والرياء والخلاعة والإباحة ، وسلط على المعيشة شيطان الأثرة والشح والفتك ببني النوع ، ودس في عروق الاجتماع وشرايينه سموم عبادة النفس والأنانية والإخلاد إلى الراحة والتنعيم ، ولطخ السياسة بالجنسية والوطنية وفروق اللون والنسل وعبادة إله القوة ، فجعلها لعنة كبرى للإنسانية .

والحاصل أن البذرة الخبيثة التي ألقيت في تربة أوربا في نهضتها الثانية لم تأت عليها قرون حتى نبتت منها دوحة خبيثة ، ثمارها حلوة ولكنها سامة ، أزهارها جميلة ولكنها شائكة ، فروعها مخضرة ولكنها تنفث غازاً ساماً لا يرى ، ولكنه يسمم دم النوع البشري .

إن أهل الغرب الذين غرسوا هذه الشجرة الخبيثة قد مقتوها ، وأصبحوا يتذمرون منها ، لأنها خلقت في كل ناحية من نواحي حياتهم مشاكل وعقداً لا يسعون لحلها إلا وظهرت مشاكل جديدة ، ولا يفصلون فرعاً من فروعها إلا وتطلع فروع كثيرة ذات شوك ؛ فهم في معالجة أدوائهم وإصلاح شئونهم كمعالج الداء بالداء وناقش الشوكة بالشوكة ، إنهم حاربوا الرأسمالية فنجمت الشيوعية ، إنهم حاولوا أن يستأصلوا الديمقراطية فنبت الدكتاتورية ، أرادوا أن يحلوا مشاكل الاجتماع فنبتت حركة تذكير النساء (Feminism) وحركة منع الولادة ، أرادوا أن يشترعوا قوانين لاستئصال المفاسد الخلقية فاشرأبت حركة العصيان والجناية ، فلا ينتهي شر إلا إلى شر ، ولا فساد إلا إلى فساد أكبر منه ، ولا تزال هذه الشجرة تـثمر لهم شروراً ومصائب ، حتى صارت الحياة الغربية جسداً مقروحاً ، يشكو من كل جزء أوجاعاً وآلاماً ، وأعيا الداء الأطباء ، واتسع الخرق على الراقع ؛ الأمم الغربية تتململ ألماً ، قلوبهم مضطربة وأرواحها متعطشة إلى ماء الحياة ولكنها لا تعلم أين معين الحياة ، إن الأكثرية من رجالها لا تزال تتوهم أن منبع المصائب في فروع هذه الشجرة ، فهم يفصلونها ويستأصلونها من الشجرة ويضيعون أوقاتهم وجودهم في قطعها ، إنهم لا يعلمون أن منبع الفساد في أصل الشجرة ، ومن السفاهة أن يترقب الإنسان أن ينبت فرع صالح من أصل فاسد ، وفيهم جماعة قليلة من العقلاء أدركوا أن أصل حضارتهم فاسد ولكنهم لما نشأوا قروناً في ظل هذه الشجرة – وبأثمارها نبت لحمهم ونشز عظمهم – كلت أذهانهم عن أن يعتقدوا أصلاً آخر غير هذا الأصل يستطيع أن يخرج فروعاً وأوراقاً صالحة سليمة ، وكلا الفريقين في النتيجة سواء ؛ إنهم يتطلبون شيئاً يعالج سقمهم ويريحهم من كربهم ولكنهم لا يعلمونه ولا مكانه (241))) .


الفصل الرابع

رزايا الإنسانية المعنوية

في عهد الاستعمار الأوربي

 

ليس من قصدنا الآن أن نبحث عن رزايا الأمم الشرقية الآسيوية في السياسة والاقتصاد والتجارة والصناعة ، وخسارتها في ممتلكاتها وانكسارها أمة بعد أمة وقطراً بعد قطر أمام قوة الغرب المادية ودهائه السياسي ، فلذلك حديث يطول ولا يسعه هذا المؤلف الصغير ، وقد طرق هذا الموضوع كثير من المؤلفين والمؤرخين في الشرق والغرب ، وألفوا فيه مؤلفات بين صغير وكبير ومتوسط وأشبعوا فيه الكلام .

ولكن الذي يهمنا – ونحن نتكلم في هذا الكتاب عن خسارة العالم بانحطاط المسلمين واستيلاء الأوربيين بالتبع – رزيئة العالم الإنساني وخطب المجتمع البشري في الروح والأخلاق والنفس ، ومعان أسمى من المادة وما يتصل بالجسم والأرض في عهد النفوذ الأوربي العام ، وسيل حضارته الجارف ، فتلك رزية لا تقبل العزاء ، وكسر لا ينجبر ، والذين أدركوه قليل ، والذين تحدثوا به أقل من أولئك القليل .

ولما كان نظام الحياة الإسلامي هو المنافس للنظام الجاهلي ، كان طبعاً رزء المسلمين في عهد انتصار الحكم الجاهلي أكبر ، وقسطهم في هذه المصيبة العالمية أوفر ، لأن الإسلام والجاهلية ككفتي ميزان ، كلما رجحت كفة طاشت الأخرى .

والآن نتحدث عن هذه الرزايا المعنوية رزيئة رزيئة .

 

بطلان الحاسة الدينية :

ما هي غاية هذا العالم التي ينتهي إليها ، ومصيره الذي يصير إليه ؟هل بعد هذه الحياة حياة أخرى ؟وما هو وضعها إذا كانت ؟ وهل لهذه الحياة الآخرة تعليمات وإرشادات في الحياة الدنيا ؟ ومن أي منبع تستقى هذه المعلومات ؟ وما هي الطرق والأسس التي إذا سار عليها الإنسان كانت حياته الآخرة راضية مرضية ؟ وما مصدر هذه الطرق ؟ وما هي الطريق المثلى للوصول بعد الموت إلى نعيم لا ينفد وقرة عين لا تنقطع ؟ ومن أين تستفاد هذه الطريق؟.

تلك أسئلة ورثها الشرقي أبًا عن جد ، وشغلت خاطره ، وأزعجت فكره طيلة قرون ولم يقدر أن يذهل عنها ويتناساها حتى في لهوه وزهوره ، وكانت هذه الأسئلة حافز نفسه ، ونداء ضميره ؛ ولم يستطيع أن يتصام عنه ويطوي دونه كشحًا , بل أصغى إليه في رغبة ونصيحة وإخلاص ، وأجل هذه الأسئلة من نفسه وحياته المحل الأول , وما زال منذ آلاف من السنين في أخذ ورد ونقض وإبرام في هذا الموضوع ,وليس ما نسميه ما وراء الطبيعة والفلسفة الإلهية , والإشراق والرياضة النفسية , والعلم والحكمة إلا محاولات ومغامرات في هذا الطريق الطويل المظلم ,وارتيادًا إثر ارتياد في مناطق مجهولة , ينئ عن اهتمام الشرق البليغ بهذا الموضوع ورغبته الملحة فيه.

هذه طبيعة الشرقي وطبيعة أكثر أفراد البشر في الأقاليم المعتدلة قبل ظهور الغربيين ؛ وإن استعرنا لذلك لغة الفلاسفة وتعبيرهم قلنا : لم يزل في الناس _ عدا حواسهم الظاهرة الخمس _حاسة سادسة يسوغ أن نسميها بالحاسة الدينية , وكما أن الحواس الظاهرة لها دوائر عمل تحصل فيها محسوساتها الخاصة بها فللعين مبصرات وللأذن مسموعات الخ . كذلك هذه الحاسة الدينية لها ثمرات وتأثيرات هي من خواص هذه الحاسة التي لم تزل لأهل الشرق ضربة لازب , وكما أن من فقد حاسة من الحواس الظاهرة بطلت محسوساتها الخاصة بها , فلا تحصل له بحاسة أخرى إلا بطريق خرق العادة , ولا تحل حاسة مهما كانت قوية وصحيحة محل الحاسة الأخرى, كذلك من فقد الحاسة الدينية لطارئ مؤثر أو حرمها لنقص في الفطرة بطلت نتائجها الخاصة بها , وانعدمت في حقه , بحيث لا يستطيع أن يتصورها أو يصدقها , شأن الأعمى لا يبصر الألوان والأجرام المرئية , وقد يعاند ويكابر في إنكارها , وشأن الأصم الذي ليست الدنيا الصاخبة إلا مدينة الأموات عنده , ليس بها داع ولا مجيب ؛ كذلك من حرم الحاسة الدينية جحد الغيب , وكابر فيما هو وراء الطبيعة وعاند في المعاني الدينية , وقسا على الرقائق والقوارع التي تهز النفوس , وترقق القلوب وتذرف العيون .

* ما لجرح بميت إيلام *

أشد العقبات التي واجهها الأنبياء والدعاة الدينيون , واصطدمت بها خطبهم ومواعظهم ودعوتهم , هم أولئك الذين حرموا الحاسة الدينية أو فقدوها بتاتًا , والذين تحجرت قلوبهم وماتت نفوسهم في مسألة الدين, والذين آلوا على أنفسهم أنهم لا يفكرون في أمر الدين وأمور الآخرة , ولا يلقون السمع لهذا الموضوع أصلاً , والذين لما سمعوا كلام النبي الذين تجيش له الصدور وتلين له الصخور , ما زادوا أن قالوا في صمم وإعراض : {إِنْ هِيَ إِلّاحَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } ولما انتهى النبي من كلامه السائغ المعقول الذي يفهمه الأطفال , والذين كان بلغتهم الفصيحة قالوا : { مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً }, {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } .

لاشك أن هذه الأسئلة كانت موضوع دراسة العلماء والمفكرين في فجر النهضة الأوربية الجديدة , واستمروا يبحثون فيها ويؤلفون ويتناقشون , ولكن كلما قطعت المدنية الأوربية شوطًا تخلفت هذه المباحث والأسئلة شوطًا ؛ ولما ظهرت خواص هذه المدنية الباطنة وتجلت هي في مظهرها المادي خفت - في ضجتها – هذا الصوت الذي كان ينبع من أعماق القلب وقرارة الضمير الإنساني الحي , ولا ينكر أن هذه الأسئلة تدرس في قسم الفلسفة وعلوم ما وراء الطبيعة في المدارس والمجامع العلمية والمكاتب العامة , ويتباحث فيها العلماء المتخصصون وتظهر لهم في هذا الموضوع تأليفات بين آونة وأخرى ؛ ولكن الذي لاشك فيه أنها فقدت سلطانها على القلوب والأفكار وامحت علامة الاستفهام الواضحة النيرة التي كان يراها كل إنسان عاقل فيقف أمامها كما تقف القطر أمام الإشارات , وأصبحت هذه الاستفسارات لا تحيك في صدر الإنسان ولا تشغله كما كانت تشغل آباءه وتحيك في صدوهم , ولم يكن ذلك عن إيمان وانشراح صدر وطمأنينة قلب واقتناع بحل صحيح وارتياح إلى نتيجة حاسمة . كلا ! لم يكن ذلك إلا لأن هذه الأسئلة قد فقدت أهميتها وأخلت مكانها لأسئلة مادية أهم في أعين أبناء القرنين التاسع عشر والعشرين منها , ولأن رجل العصر قد لزم الحياد التام في هذه المسائل وصرف النظر عنها , فلا عليه إن كانت بعد هذه الحياة حياة ثانية وكانت الجنة والنار والثواب والعقاب والنجاة والهلاك أو لم تكن , فلا يهمه شيء من ذلك لا سلبًا ولا إيجابًا , لأن شيئاً من ذلك لا يمس مسائلة اليومية أو في آخر الشهر , ولا يتصل بشخصه ولا يترك عاجلاً بآجل  ولا يتكلف ما لا يعنيه فيترك هذه المباحث (( الفارغة )) يبحث فيها معلم الفلسفة في الجامعة ويفضي فيها برأيه المؤلف في هذه الموضوع . أما هو فهو رجل جد وعمل ، لا يعرف إلا حياة المصانع والإدارات وسير الماكينات ولا يهتم إلا بتسلية النفس وترويحها في آخر النهار والنوم الهادئ في آخر الليل والأجرة في آخر الأسبوع أو الراتب في أواخر الشهور وحساب الأرباح في أخر السنة وإعادة الصحة والشباب في آخر العمر وأما ما بعد الحياة فهو عنده مجهول ووهم من الأوهام : {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ } .

إن هذا الضرب من الناس لا يزال يزداد عدداً وأهمية في كل أمة وبلاد بتأثير الحضارة الغربية ، ذلك الضرب من الناس لم يترك واشتغالهم بالحياة الدنيا والعكوف عليها فراغاً لدعوة دينية ، وإن الذين يدعوهم إلى الدين والحياة الأخروية ليتحير معهم كما يتحير السندباد البحري – كما تروي لنا حكاية ألف ليلة وليلة – مع بيضة العنقاء ، ظنها السندباد البحري بناء من رخام فدار حولها عدة مرات ليبحث عن باب يدخل منه فلم يجد ، كذلك الداعي الديني يدور حول رؤوسهم فلا يجد منفذاً يدخل منه إلى عقولهم ، ويدخل به دعوته الدينية إلى نفوسهم ، فقد أقفلت الحياة المادية ومسائلها جميع أبوابها وسدت جميع نوافذ فكرهم .

وكما أن رجلاً لم يحظ من الفطرة بالذوق الأدبي ، يسمع الألحان الجميلة والأبيات الرقيقة فلا يعدها إلا أصواتاً لا فن فيها ، كذلك الذي حرم الحاسة الدينية لا تؤثر فيه دعوة الأنبياء وخطب الوعاظ ، وحكمة العلماء وأمثال الصحف السماوية ، وتضيع فيه بلاغة البلغاء وإخلاص المخلصين ، ويصبح كل ذلك صيحة في واد ونفخة في رماد :

لقد أسمعت لو ناديت حياً  *** ولكن لا حياة لمن تنادي

والذي مني بهذا الضرب من الناس يفهم السر في قوله تعالى : {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } ، {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } وتظهر له حقيقة قوله : {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ولم يلق في شرحها وتعليلها ما لقيه المفسرون الذين لم يشاهدوا هذا النوع من صعوبة .

داء هذا العصر الذي لا ينجح فيه الدواء ولا يؤثر فيه العلاج هو الاستغناء التام عن الدين ، ولم يلق رجال الدعوة الدينية من العنت والشدة في أحط أدوار الفسق والفجور وفي أحلك عهود المعصية والغفلة ، ما يلاقونه في دعوة هؤلاء الذين لزموا الإعراض التام في هذه المسائل ( الكلامية ) فلا تعنيهم سلباً ولا إيجاباً {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } .

وقد فطن لهذا الفرق الجوهري بين النفسية القديمة والجديدة أحد كبار معلمي الفلسفة وعلم النفس في إحدى جامعات أوربا الكبرى وشرحه في عبارة وجيزة . قال س م جود :

(( ثارت في قديم الزمن شكوك واعتراضات وأسئلة واستفسارات حول الدين ، لم يطمئن بعض أصحابها ولم يرتاحوا إلى جواب مقنع ، ولكن مما يمتاز به هذا الجيل أنه لا تزعجه الأسئلة رأساً ، ولا تحيك في صدره ولا تنشأ في هذا العصر أصلاً )) .

 

زوال العاطفة الدينية :

لما طغى بحر المادية في العالم الإسلام في العهد الأخير وفاض ، كون رجال الدين جزراً صغيرة في بحر المادية المحيط ، يلجأ إليها الفارون إلى الله والمتبرمون من الحياة المادية والغفلة ، كان فيها رجال هم كمنارات النور في البحر الظلمات يربون الناس التربية الدينية والخلقية ، ويزكون أنفسهم ويصقلون قلوبهم .

وكنت ترى في العالم الإسلامي حركة مستمرة إلى هذه الجزر ؛ فترى قوافل لرواد الروحانية ومنتجعي التربية الدينية غادية رائحة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ، ومن أقصى شمال العالم الإسلامي إلى أقصى جنوبه ، متخطية الثغور السياسية مجتازة العقبات الجغرافية ، فترى هذه الجزر مستعمرات دينية ، قد أمحت فيها الفروق الجنسية والوطنية ، وترى متحفاً إنسانياً قد اجتمع فيه الشرقي مع الغربي والبخاري مع المغربي والأناضولي مع الأندنوسي ، قد فروا بدينهم من الفتن ورموا بأنفسهم على عتبة ربهم ، يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ويتلقون التربية الدينية ثم ينبثون في أنحاء العالم دعاة مصلحين ومعلمين مرشدين ، يلتقطون نصيب الله من بين نصيب الشيطان ويحيون أرضاً مواتاً من القلوب ، ويبذرون فيها بذور الدين .

وكذلك لم تزل في جنب أقوى الدول وأوسعها دول روحية يفوق سلطانها الروحي سلطان المادي ، فيها رجال تأتيهم الدنيا راغمة ويأتيهم الملوك والأمراء صاغرين ، ولهم نظام كنظام الدول ينصبون ويقرون وينقلون ويستخلفون ، ولهم (( قناصل وسفراء )) في كل دولة مادية وكأن خارطة العالم الإسلامي بين أيديهم ، فإذا خلا ثغر من ثغور الإسلام نصبوا فيه مرابطاً دينياً يحفظه من عادية الغفلة والمعصية ، ويحرسه من غاشية الجهل والطغيان(242) .

وكانت هذه الدول الروحية مستقلة في إدارتها ونظامها الداخلي ، لا يتداخل فيها الملوك والأمراء ولا تؤثر فيها التقلبات السياسية والحوادث المحلية ؛ ولضرب لذلك مثلاً بالمستعمرة الروحية المعروفة بغياث فور ، التي أنشأها الشيخ نظام الدين البداوني الهندي (( م 725 هـ)) في نفس عاصمة الهند وقد عاصر الشيخ ثمانية من الملوك الجبابرة (( من غياث الدين بلبن 664 – 686 إلى غياث الدين تغلق 720 – 725 )) وحافظت على استقلالها التام من غير أن تمسها يد الملوك ، وكنت ترى فيها رجالاً من سنجر في إيران إلى رجال من أوده في شرق الهند .

وقد كان لهذه المراكز ولأصحابها الفقراء من المهابة والحشمة والاحترام الفائق ما قد يحسدهم عليه أكبر ملوك العالم ، وقد يكون هذا سبب الوحشة بينهم ، وما ذاك إلا لإقبال الناس على رجال الدين واحتفائهم والخضوع للسلطان الروحي ، فكان السيد آدم البنوري الهندي ( م 1053 هـ ) دفين البقيع يأكل على مائدته كل يوم ألف رجل ، ويمشي في ركابه ألوف الرجال ومئات من العلماء ، ولما دخل السيد في لاهور عام 1053 كان في معيته عشرة آلاف من الأشراف والمشايخ وغيرهم ، حتى توجس شاهجان ملك الهند منه خيفة ، فأرسل إليه بمبلغ من المال ، ثم قال له : قد فرض الله عليك الحج فعليك بالحجاز ، فعرف إيعاز الملك ، وسافر إلى الحرمين حيث مات(243) .

وهذا الشيخ محمد معصوم ( م 1079 ) ابن الشيخ الكبير أحمد السرهندي قد بايعه وتاب على يده تسعمائة ألف من الرجال ، واستخلف في دعاء الخلق إلى الله وإرشاد الناس وتربيتهم الدينية سبعة آلاف من الرجال(244) .

وهذه ابنه الشيخ سيف الدين السرهندي (م 1096) كان يأكل على مائدته ألف وأربعمائة ، ويقترحون الأطعمة ويتخيرونها(245) .

وهذا الشيخ محمد زبير السرهندي ( م 1151 ) كان إذا خرج من بيته ألقى له الأغنياء الشيلان والمناديل حتى لا يطأ الأرض ، وإذا خرج لعيادة مريض أو لبعض شأنه خرج في ركابه الأغنياء والأمراء فكان موكباً مثل مواكب الملوك(246) .

وهذه أمثلة قليلة لا نقصد منها إلا الاستدلال على ما كان للدين من مكانة وشرف في عيون الناس ، وعلى ما كان من احتفاء برجاله ومن يمثلونه ، وخضوعهم لسلطان الدين فوق سلطان القوة ، وتهافتهم على موارد الدين ومشارعه ، وهذه أمثلة التقطناها على عجل من تاريخ الهند الإسلامي ولمحات عابرة فيه ؛ ولو ذهبنا نستقصي أمثلته وشواهده من تاريخ الإسلام العام ومن تراجم الرجال الدينيين وسيرهم في بلاد الشام ومصر والمغرب الأقصى والعراق لكان مجلداً كبيراً – ونكتفي هنا بذكر الشيخ خالد الكردي ( م 1242 هـ ) الذي ازدحم الناس عليه في بغداد يتوبون على يديه ويستفيدون منه ، وقد أخبر شيخه في رسالة كتبها إليه أن مائة من العلماء الفحول قد تخرجوا عليه ، وأن خمسمائة من كبار العلماء قد دخلوا في بيعته ، وأما العوام والخواص فلا يأتي عليهم حصر(247) .

واستمر هذا الإقبال على الدين والهجرة في طلب العلم النافع والعمل الصالح ، وتجشم الأسفار والأخطار لزكية النفس وتهذيب الخلق والتوصل إلى معالم الرشد والاستعداد للآخرة إلى أول عهد الاستعمار الأوربي ؛ فترى في كل قطر إسلامي مراكز دينية وملاجئ روحية يأوي إليها أهل الطلب من سائر الآفاق ، وتخطبهم الدنيا والمناصب العالية في الحكومات فيأبون إلا فراراً ، ويلجأون إلى هذا المحيط الهادئ الروحي ، ويكبون على إصلاح باطنهم وسل حظ الشيطان منه .

وتتعدى في الحضارة إلى أواسط القرن الثالث عشر الهجري وقد احتل الإنجليز الهند ، ولما تؤثر حضارتهم وفلسفة حياتهم في مجتمع البلاد ، فترى بقايا من الحياة الدينية الأولى ، ويحدثنا مؤرخ(248) عن زاوية الشيخ غلام علي الدهلوي ، ( م 1240 هـ ) فيقول :

(( رأيت بعيني في هذه الزاوية رجالاً من الروم والشام وبغداد ومصر والحبشة قد بايعوا الشيخ ، وعدوا المثول بين يديه حسنة الدهر وسعادة العمر . أما الوافدون من البلاد القريبة كالهند وأفغانستان فكانوا كالجراد ، ولا يقل عدد المقيمين في هذه الزاوية عن خمسمائة رجل تقوم الزاوية بنفقاتهم (249))) .

ويجيل الشيخ رؤوف أحمد المجددي نظره في رجال هذه الزاوية اليوم الثامن والعشرين من جمادى الأولى عام 1231 هـ فيجد رجالاً من سمرقند وبخارى وتاشقند وحصار وقندهار وكابل وبشاور وكشمير والملتان ولاهور وسرهند وأمروهه وسبنهل ورامبوا وبريلي ولكهنؤ وجائس وبهرائج وكوركهبور وعظيم آباد ودماكه ، وحيدر آباد ، وبونه وغيرها(250) .

وليعرف أن هذا كله في زمان لم تحدث فيه طرق النقل الحديثة فكان كله مشياً على الأقدام وسفراً في القوافل .

وتتجلى المناظر الأخيرة لهذا العهد الراحل في تاريخ مصلح الهند الكبير والمجاهد الشهير السيد الإمام أحمد بن عرفان الشهيد ( 1246 هـ ) فإذا قرأت تاريخه وجولاته في الهند لأجل بث دعوته إلى التوحيد واتباع السنة والجهاد رأيت ألوفاً يتوبون من الذنوب والآثام والشرك والمحدثات ، حتى تقفر الحانات وتغص المساجد ، ويتسابقون في دعوته هو ورفقته الذين يعدون بالمئات إلى بيوتهم وصنع الولائم لهم ، ويستهينون في سبيل ذلك بالأموال ، ويسترخصون كل عزيز وغال حتى يتقارعوا بينهم أيهم يبدأ وأيهم يتقدم .

وترى في المسلمين شهامة في سبيل الدين وعلو همة وسماحة نفس وأريحية لا تعهدها بعد ذلك ، فلما خرج السيد للحج عام 1236 هـ ورفقته أكثر من سبعمائة رجل ضيف المسلمون هذا الركب في كل محل يمر به ، من راي بريلي مسقط رأسه إلى كلكته حيث ركبوا السفن ، ولما نزل بالله آباد ضيَّفه الشيخ غلام علي ، وأقام هذا الركب ضيفاً عليه خمسة عشر يوماً ، واجتمع الناس من القرى والضواحي وكلهم يأكلون على مائدة الشيخ الطعام الفاخر ، هذا عدا الهدايا التي أهداها إلى أهل الركب والكسوة والزاد الذي قدمه ، وفي أثناء الرجوع لما حلت القافلة قريباً من مدينة مرشد آباد في طريقها من كلكته إلى راي بريلي قام ديوان غلام مرتضى بضيافتهم وأعلن في السوق أن كل من يشتري من أهل القافلة أو يستأجر منهم أهل الصناعة فهو يؤدي الثمن من عنده ، وكلمه السيد في هذا فقال : حسبي من الفخر والشكر أني أقوم بخدمة الحجاج .

وترى في الناس رقة في القلوب وانقياداً للحق وخضوعاً للشرع ، فقد تشرف بالبيعة والتوبة مئات ألوف من المسلمين في هذا السفر ، وكان الناس ينهالون من كل صقع ويدخلون في الخير أفواجاً ، حتى إن المرضى في مستشفى مدينة بنارس أرسلوا إلى السيد يقولون : إنا رهائن الفراش وأحلاس الدار فلا نستطيع أن نحضر فلو رأى السيد أن يتفضل مرة حتى نتوب على يديه لفعل ، وذهب السيد وبايعهم .

وأقام في كلكته شهرين ، ويقدر أن الذين كانوا يدخلون في البيعة لا يقل عددهم عن ألف نسمة يومياً ، وتستمر البيعة إلى نصف الليل ، وكان من شدة الزحام لا يتمكن من مبايعتهم واحداً واحداً فكان يمد سبعة أو ثمانية من العمائم والناس يمسكونها ويتوبون ويعاهدون الله ، وكان هذا دأبه كل يوم سبع عشرة أو ثماني عشرة مرة .

وخطب السيد في الناس في كلكته خمسة عشر أو عشرين يوماً ، وكان يحضر هذه المواعظ نحو ألفين من وجهاء البلد والعلماء والشيوخ فضلاً عن عامة الناس والدهماء ، وكذلك رفيقه الشيخ عبد الحي البرهانوي كان يذكر كل يوم جمعة ويوم الثلاثاء بعد صلاة الظهر إلى العصر ، والناس يتساقطون عليه كالفراش ؛ ويسلم كل يوم عشرة أو خمسة عشر رجلاً من الكفار .

وكان من تأثير هذه المواعظ ودخول الناس في الدين وانقيادهم للشرع أن تعطلت تجارة الخمر في كلكته وهي كبرى مدن الهند ومركز الإنجليز , وكسدت سوقها و أقفزت الحانات واعتذار الخمارون عن دفع ضرائب الحكومة متعللين بكساد السوق وتعطيل تجارة الخمر .

ولما دعا السيد الإمام إلى الجهاد لبى الناس من كل طبقة دعوته في نشاط وحماسة ولحقوا به , وترك الفلاحون سكتهم وأقفل التجارة دكاكينهم وغادر الناس أوطانهم وتغربوا في دين الله ولم يتلفتوا إلى ما وراءهم ولم يلووا على شيء حتى قتلوا في سبيل الله في وادي بالا كوت عام 1246هـ في الثغور , ورجع فلهم إلى قلل الجبال فاعتصموا بها وقضوا نحبهم في الجهاد.

هذا كله والحضارة الإسلامية في الهند في الاحتضار والحكومة الإسلامية في انهيار , ولكن لم يزل في الناس بقية من الأنفة الإسلامية والحمية الدينية والإنابة إلى الله والفرار إليه وسرعة الإجابة للداعي إلى الله , والاستهانة بالحياة الدنيا وبذل النفوس والنفائس في سبيل الله .

ورسخت قدم الإنجليز وأصبح نظامهم التعليمي – وهو من أكبر جنودهم – يؤتي أكله حين ، وتسربت في الناس أفكارهم وميولهم ، فصارت تقلب نظام الحياة ونظام الفكر في الهند رأساً على عقب من حيث لا يشعر أهلها فتقاصرت الهمم في الدين وخمدت جذوة القلوب وانطفأت شعلة الحياة الدينية ، وانصرفت الرغبات والأهواء والتنافس الطبيعي – الذي هو الدافع الأكبر إلى التقدم والإبداع – من الدين والروحانية إلى المعاش والمادة ، وقلت مرغبات الجهد في الدين والعلم وما يتصل بالروح والقلب ، وتوافرت المزهدات والمثبطات عنه ، وكثرت الدواعي والحافزات إلى ضده ، واتجه تيار الذي والنبوغ والعبقرية – الذي كان متجهاً من قبل إلى الدين – من صنوف الدين وأقسام العلم الديني والروحي ، إلى الإنتاج والإبداع في أنواع علوم المعاش ومرافق الحياة .

وكان لا يزال بالعهد الراحل رمق وبقية من حياة تنازع الموت وتحاول البقاء ، فكان لا يزال في الناس رجال يدعون إلى الدين وإصلاح النفوس وتزكيتها وتهذيب الأخلاق وتصفيتها وهم تذكار لسلفهم في زهدهم في الدنيا والإقبال على الآخرة والإخلاص واتباع السنة ، وكانت لا تزال لهم دعوة في الناس ، والمسلمون يعدون الاتصال بهؤلاء والتمسك بأهدابهم حقاً من حقوق الدين وواجباً من واجبات الحياة ، وكان بعض الأغنياء والأمراء وأرباب الدنيا ، لهم اهتمام زائد بحسن الخاتمة وأمور الآخرة وصلاح القلب وعمارة الباطن ، ولكن كان هذا كله أشبه بالتهاب السراج قبل الانطفاء ، فقد ذوى أصل الشجرة الدينية ، وانقطعت عنها مادة الحياة ، وهبَّ عليها إعصار فيه نار .

سرى الشك وسوء الظن في الأوساط الدينية والبيوت العريقة في الدين والعلم بتأثير المحيط وبتأثير التعاليم الإفرنجية وضعفت الثقة بالله وبصفاته وبمواعيده ، فأصبح الآباء يضنون بأولادهم على الدين ، ولا يخاطرون بأوقاتهم وقواهم في سبيل الدين وعلوم الدين ، وأصبحوا يعلمونهم العلوم المعاشية واللغات الإفرنجية ، لا رغبة في تحصيل المفيد النافع ولا دفاعاً عن الإسلام بل زهداً في الدين وفراراً من خطر المستقبل وخوفاً على أفلاذ أكبادهم من الضياع واستسلاماً للدهر المتقلب ، وتسلط عليهم خوف الفقر حتى أصبحوا من خوف الموت في الموت .

وهكذا انقرض هذا الجيل وطوي هذا البساط ، ولفظ هذا العهد الروحي نفسهُ الأخير ، وتلاه عهد المادة ، وأصبحت الدنيا سوقاً ليس فيها إلا البيع والشراء .

 

طغيان المادية والمعدة :

رووا أن شاعرة جاهلية هي (( كبشة بنت معد يكرب )) عاتبت أخاها عمرو بن معد يكرب ، وعيرته بميله إلى قبول دية أخيه المقتول فقالت :

ودع عنك عمْراً إن عمْراً مسالم *** وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم ؟

ما تتصور المرأة الجاهلية البسيطة أن بطن إنسان يتجاوز مقدار شبر فكيف لو رأت معدة الإنسان الحاضر ابن القرن العشرين ؛ تضخمت وكبرت حتى وسعت الأرض وتجاوزت حتى أصبحت لا يملؤها إلا التراب .

نعم تضخمت معدة الحرص في الإنسان حتى صارت لا يشبعها مقدار من المال ، وتولد في الناس غليل لا يُرْوى وأُوارٌ لا يُشفى ، وأصبح كل واحد يحمل في قلبه جهنم لا تزال تبتلع وتستزيد ، ولا تزال تنادي هل من مزيد ؟ هل من مزيد ؟ تسلط على الناس – أفراداً وأمماً – شيطان الجشع والحرص فكأن بهم مساً من الجنون ، وأصبح الإنسان نهما يلتهم الدنيا التهاماً ، ويستنزف موارده حلالاً وحراماً ، ثم لا يرى أنه قضى لبانته وشفى نفسه ، والعهدة في ذلك على وضع الحياة الحاضرة وطبيعتها وكونها مادية صرفة لا تؤمن بالآخرة . وخليق بمن لا يعتد إلا بحياته الدنيا ولا يرى وراءها عالما آخر وحياة ثانية أن تكون هذه الحياة بضاعته ورأس ماله وأكبر همه وغاية رغبته ومبلغ علمه ، وأن لا يؤخر من حظوظها وطيباتها ولذائذها شيئاً وأن لا يضيع فرصة من فرصها ، ولأي عالم يدخر وهو لا يؤمن بعالم وراء هذا العالم ، ولا بحياة بعد هذه الحياة ؟

وقد عبر عن هذه النفسية الجاهلية الشاعر الجاهلي الشاب طرفة بن العبد في صراحة وبساطة فقال :

فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي *** فدعني أبادرْها بما ملكت يدي

كريم يروِّي نفسه في حياته *** ستعلم إن متنا غداً أينا الصَّدِي

وكل إنسان متمدن اليوم – إلا من عصمه الله بالإيمان – يرى هذا الرأي ويذهب هذا المذهب في الحياة ، إلا أنه قد يجرؤ على أن يصرح به ، وقد لا يملك ذلك اللسان البليغ الذي يعبر عن ضميره ؛ والسبب الثاني : - هو الأدب العصري – بمعناه الواسع – الذي لا يتحدث إلا عن المادة وأصحابها ، ويخنع لأهل الثراء وأصحاب الاحتكار وأصحاب الإنتاج ، الخنوع الذي لا يليق بالأدب الشريف العالي ، فيكتب دقائق حياتهم في تفصيل ، وينشر ألقابهم وأسماءهم بقلم عريض وكل نفس من أنفاس مدحه وتقريظه وكل فصل من فصول روايته ينتهي إلى نتيجة مادية أو إلى بطل من أبطال المادة ، ويزين للقارئ المذهب الأبيقوري تارة بالتلميح وتارة بالتصريح ، ويحث الشباب على التهام الحياة وانتهاب المسرات نثراً وشعراً وفلسفة ورواية وتحليلاً وتصويراً ، فلا ينتهون منه إلا بالروح المادية والتقديس لرجال المادة .

وكذلك المجتمع الذي لا يقدر إلا الغني الظريف متناسياً كل ما فيه من رذيلة ولؤم أصل وسوء خلق ، ويتجنى على الإنسان الذي لا يترجح في ميزانه مهما كثرت مواهبه وطاب عنصره وسما جوهره ، ويلمِّح وقد يصرح بأن الفقير لا يستحق الحياة ، ويعامله معاملة الدواب والحمير والكلاب ، فيرغم الإنسان – إذا لم يكن ثائراً على المجتمع – على أن يخضع لشريعة مجتمعه ، وأن يتجمل ويتظرف لمجتمعه ، فلا يلبس إلا لغيره ولا يتأنق إلا لغيره .

وهذا المجتمع لا تزال مقاييسه للشرف والظرافة تتغير ومعاييره للإنسانية تتبدل وتتحول ومطالبه تتنوع وتتكثر ، حتى يضيق الإنسان بها ذرعاً ويلجأ إلى طرق غير شريفة لتحصيل المال وإلى كدح وكد في الحياة ، وهناك هموم تتوالى ولا تنتهي ومتاعب تتسلسل ولا تنقطع .

وزاد الطين بلة تنافس المصانع والمنتجين والصناع ؛ ففي كل صباح يتدفق على المدينة سيل جديد من أحدث المنتجات وأحدث طراز من السيارات والسجائر والأزياء والقبعات والأحذية والأدهان والأطلية وأسباب الزينة والزخارف والأجهزة ولا يجلب منها شيء قياماً بالواجب وسدّاً للعوز ، بل كله في سبيل الاستغلال الصناعي والاحتكار التجاري ، ولا تلبث هذه المنتجات التي هي من فضول الحياة أن تدخل في أصول المعاش ولوازم المدينة ، والذي لا يتحلى بها لا يعد من الأحياء .

ولهذه الأسباب ولغيرها ارتفعت قيمة المال في عيون الناس ارتفاعاً لم تبلغه في الزمن السابق ، وبلغ من الأهمية والمكانة مبلغاً لم يبلغه – على ما نعرفه – في دور من أدوار التاريخ المدون ، وأصبح المال هو الروح الساري في جسم المجتمع البشري والحافز الأكبر للناس على أعمالهم ونشاطهم المدني ، وقد يدفع المخترع إلى الاختراع والصانع إلى صناعته والسياسي إلى مقالته والمرشح إلى انتخابه والعالم إلى تأليفه ، حتى القادة إلى الحرب ، فهو القطب الذي تدور حوله رحى الحياة العصرية كما يقول الأستاذ (( جود )) معلم الفلسفة وعلم النفس في جامعة لندن: ((إن النظرية المهيمنة السائدة على هذا العصر هي النظرية الاقتصادية ، وأصبح البطن أو الجيب ميزاناً لكل مسألة فبمقدار اتصالها بالجيب وتأثيرها فيه يقبل الناس عليها ويعنون بها)) .

إذا حكمت على عصرك وطبائعه وأذواقه وأنت بمعزل عن الحياة ، وبنيت حكمك على مؤلفات ومقالات إنما تكتب في زاوية من زوايا الكتب فإنك تغالط نفسك ، وقد تقرأ في هذه الكتب الفلسفية أو المقالات العلمية التحليلية كأنك في عصر متمدن راق تتحكم فيه معايير الأخلاق وتسود فيه المثل العليا ويغشاه سحاب الفضيلة والنبل ، وتحلق عليه روح الديانة والعلم ، ولكن الواقع غير ذلك ، فإن هذه الكتب إنما ألفت في عالم الخيال الذي يعيش فيه مؤلفوها ، وإن أهواءهم وأذواقهم هي التي خلقت لهم عالم خيالياً يصفونه ويصورونه في كتبهم ، حتى يخيل إلى القارئ أنه هو العالم المحيط به .. وللأهواء عجائب وخوارق .

ولكنك إذا اتصلت بالحياة عن كتبٍ لا عن كُتبٍ ، وخالطت الناس ودرست أحوالهم وأصغيت إلى حديثهم في البيت وفي القطار والبستان وعلى المائدة وفي السمر ، رأيت ( الذهب ) حديث النوادي وشغل الألسنة وهوى القلوب ، والبداية والنهاية في كل موضوع ، والقطب الذي تدور حوله رحى الحياة .

إن شاعراً عربياً يلعن الصعلوك الذي لا يتعدى نظره ولا يسمو فكره عن لباس وطعام ويقول :

لحا الله صعلوكاً مناه وهمه *** من العيش أن يلقى لبوساً ومطعماً

فكيف إذا أشرف هذا الشاعر على هذه المدينة وهي تجري بفلاسفتها وسياسييها ونوابغها وعلمائها وكتابها وأشرافها وأغنيائها وفقرائها وراء غاية لا تتعدى لبوساً ومطعماً مهما تنوعت أشكالها وتضخمت ألقابها ؟! فالحياة كلها جهاد في سبيل اللباس والطعام .

 

التدهور في الأخلاق والمجتمع :

احتل الأجانب الشرق الإسلامي وقد  أصاب المجتمع الشرقي الإسلامي انحطاط في الأخلاق والاجتماع ، وسبقت إليه أدواء خلقية واجتماعية كانت أهم أسباب انهيار الدول الإسلامية وانهزام الأمم الشرقية .

ولكن مع ذلك لم يزل المجتمع الشرقي الإسلامي – على علاته – محتفظاً ببعض المبادئ الخلقية السامية والخصائص الاجتماعية الفاضلة التي لا يوجد لها مثيل في الأمم ، وقد نضج واكتمل فن الأخلاق عند الشرقيين ووصل من الدقة والتفصيل واللطافة ورقة الحواشي ذروة لا بصل إليها ذهن العصر ، ولا يتصورها الغربي إلا في الشعر والأدب .

يقرأ الإنسان أو يسمع روايات عن استحكام الروابط والأواصر بين أعضاء المجتمع العام وأفراد الأسرة ، وتغلغلها في الأحشاء واستمرارها إلى الأحقاب والأجيال وخلوها من كل مصلحة ومتعة مادية ، ما لا يتصوره أبناء هذا العصر . وكذلك من حنو الآباء على الأبناء وبر الأبناء بالآباء ، وتوقير الصغير للكبير وحدب الكبير على الصغير ، وعن عفاف النساء ووفاء الحلائل وأمانة الخدم ووفائهم واستقامة الشبان وثباتهم على الأخلاق ومعاملة الأشراف بعضهم لبعض ، والمحافظة على الرواتب والعادات والاطراد في مسألة اللباس والشعائر والعشرة ، والإيثار في شأن الأصدقاء والنصح لهم ، يسمع منها غرائب لا يكاد يصدق بها .

كان بر الأبناء للآباء وطاعتهم إلى حد التفاني في سبيلهم والاضمحلال في وجودهم منتزعاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( أنت ومالك لأبيك )) .

وكان حب الأبناء لآبائهم وبرهم وحرصهم على أداء حقوقهم غير مقتصر على حياة الأبوين ، بل كان يستمر إلى ما بعد وفاتهما أصدقائهما وأهل أنسهما والإهداء إليهم والتحبب إلى أولادهم وعشيرتهم ، وكان ذلك عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : (( إن من أبر البر بر الرجل بأهل ود أبيه بعد أن يولي )) .

وكان الأبوان مثلاً للنصح والإخلاص في حبهما للأولاد ، وكانا يضحيان بجميع أهوائهما وميولهما وراحتهما وبلذة الأمومة والأبوة في سبيل تثقيفهم وتربيتهم وتعليمهم ، ويتحملان في ذلك – حتى الرجل الأمي والمرأة الجاهلة – إجحاف المعلمين وعسفهم وإضرارهم في بعض الأحيان بجسم الصغار ، ويجرعان المرائر ويصبران على الغصص في سبيل الأولاد ونبوغهم ، وقد تواضع على ذلك أهل البيوتات والشرف حتى أهل الطبقات الوضيعة ، ويعدون من خالف ذلك رجلاً نذلاً لئيما، والذي روي عن هارون الرشيد في تنبيهه لولديه الأمين والمأمون ووصيته لهما بخدمة الكسائي معروف في التاريخ ؛ ومن غرائب ما يروى في هذا الباب ويمثل الطبيعة الشرقية أن (( تاج الدين ألدز )) أمير الأفغان بعد السلطان شهاب الدين الغوري أسلم ولده إلى معلم وضرب المعلم الولد حتى مات ، فلما علم بذلك (( تاج الدين )) أشار على المعلم بأن يهرب وقال : (( لا آمن عليك من أم الولد فعسى أن ينالك منها مكروه )) .

  وكانت الرابطة بين الصغير والكبير في المجتمع الإسلامي مؤسسة على تعاليم الشرع (( من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا )) .

ومن خصائص الحضارة الشرقية الاطراد في الحياة والمحافظة على لون واحد والتظاهر بمظهر واحد ، فكان الرجل إذا شرع في أمر وتظاهر بمظهر واصله إلى غايته ، وإذا اتخذ عادة أو شارة في اللباس أو عامل أحداً نوع معاملة واظب عليه إلى آخر أنفاسه ، لا تؤثر في ذلك الحوادث ولا تغيره الفصول ولا انحراف الصحة ولا الكسل ولا المصالح .

ولم يكن العمدة في حياة الأسرة والقبائل ولم يكن الميزان في التوقير والشرف هو كثرة المال فيختلف المستوى المالي في أسرة اختلافاً كبيراً ، ويتفاوت الرجال في قبيلة أو قوم تفاوتاً عظيماً في المال والجاه ، فهذا سريٌ مثر وذلك فقير معدم ، ولم يكن يستطيع أحد أن يفرق بينهم ويرفع بعضهم فوق بعض لأجل التفاوت الاقتصادي في مجتمعات الأسر والبيوتات والمآتم ( بمعناها اللغوي ) فإذا شم أحد رائحة الفرق أو نظرة الازدراء ، ثار كالليث ، أو إذا بدرت بادرة من المضيف تنم عن هذا الفصل انسحبت الأسرة كلها من الضيافة وقاطعوا أهل الضيافة ، وكانوا يداً واحدة مع أخيهم المهضوم .

وكان الفقير الصعلوك في قبيلة يواجه الأغنياء والملوك من تلك القبيلة بجرأة وهو معتز بنفسه معتد بشرفه لا يرى في نفسه نقيصة لأجل فقر ، وكان الغني أو الملك يكرمه ويحله المحل اللائق بشرفه ونسبه وفضيلته الذاتية ، بصرف النظر عن رثاثة هيئته وتبذله ، والأزمة الاقتصادية الطارئة على كرم عنصره وصفاء معدنه وطيب منبته ومتانة دينه ووفور علمه .

وكان الفقير في ذلك يبالغ كثيراً في إخفاء عسرته وضنك معيشته ويتحمل ويتجلد ، ويسوءه أن يفطن أحد إلى فاقته ورقة حاله .

وكان ضمير الحر عزيزاً محترماً كدينه وعرضه ، لا يساوم عليه ولا يباع بأي ثمن ، وكان الواحد يفضل الموت الأحمر على كذبة أو خيانة يخلص بها نفسه من الموت .

وقد روى لنا التاريخ الهندي طرائف في هذا الباب لابد أن تكون أمثلتها متوافرة في تاريخ جميع البلاد الإسلامية : منها أن الشيخ رضي الله البداوني اتهم بالاشتراك في الثورة على الإنجليز عام 1857 وحوكم أمام حاكم إنجليزي كان من تلاميذه ، فأوعز إليه الحاكم على لسان بعض الأصدقاء أن يجحد الاتهام فيطلقه . ولكن الشيخ أبى وقال : قد اشتركت في الخروج على الإنجليز فكيف أجحد ؟ واضطر الحاكم فحكم عليه بالإعدام ، ولما قدم للشنق بكى الحاكم وقال له : حتى في هذه الساعة لو قلت مرة : إن القضية مكذوبة عليَّ وإني بريء لاجتهدت في تخليصك ، فغضب الأستاذ وقال : أتريد أن أحبط عملي بالكذب على نفسي ؟ لقد خسرت إذاً وضل عملي، بل قد اشتركت في الثورة فافعلوا ما بدا لكم، وشنق الرجل !!.

ولم يكن صدقهم واعترافهم بما يعملون ويعتقدون مقتصراً على ما يتصل بأنفسهم ، بل كانوا صادقين فيما يتصل بالأمة والشعب ، فلم يكونوا يعرفون العصبية الجنسية والوطنية والجنف القومي الذي أصبح اليوم من واجبات الجنسية والوطنية ، وكانوا يعدون الكذب وشهادة الزور لأجل الأمة والوطن والملة رذيلة وإثماً كبيراً . وكانوا يعتقدون أن أحكام الشرع تعم الفرد والأمة والأمور الشخصية والاجتماعية وكانوا متمسكين بقول تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } الآية ، وقوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ } وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } وقوله : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } .

ومما يروي لنا الشيوخ من ذلك : أنه وقع نزاع بين الهنادك والمسلمين في قرية كاندهلة من مديرية (( مظفر نكر )) في الولايات المتحدة الهندية على أرض ، فادعى الهنادك أنها معبد لهم ، والمسلمون أنها لهم مسجد . وتحاكموا إلى حاكم البلد الإنجليزي ، فسمع الحاكم القضية ودلائل الفريقين ولم يطمئن إلى نتيجة ، فسأل الهنادك : هل يوجد في القرية مسلم تثقون بصدقه وأمانته أحكم على رأيه ؟ قالوا : نعم ، فلان ؛ وسموا شيخاً من علماء المسلمين وصالحيهم ، فأرسل إليه الحاكم وطلبه إلى المحكمة ، فلما جاءه الرسول قال : قد حلفت أن لا أرى وجه إفرنجي ، ورجع الرسول فقال الحاكم : لا بأس ، ولكن احضر وأدل برأيك في القضية ، فحضر الشيخ وولى دبره إلى الحاكم وقال : الحق مع الهنادك في هذه القضية ، والأرض لهم . وبذلك قضى الحاكم وخسر المسلمون القضية ، ولكن كسبوا قلوب الهنادك وأسلم منهم جماعة .

وكذلك كان الناس يعدون العلم عارية مقدسة ووديعة من الله لا يبيعونه كسلعة في السوق ، ولا يتعاونون به على إثم آثم وعدوان معتد ، وكانوا لا يرضون أن يستعين به نظام جائر أو حكومة غير إسلامية .

ومما حكى لنا الثقات وقرأناه في التاريخ أن الشيخ عبدالرحيم الرامبوري ( م 1234 هـ) كان يعمل في بلدة رامبور براتب زهيد يتقاضاه كل شهر من الإمارة الإسلامية لا يزيد على عشر روبيات ( أقل من جنيه مصري ) فقدم إليه حاكم الولاية الإنجليزي المستر هاكنس وظيفة عالية في كلية بريلي راتبها مائتان وخمسون روبية ( تسعة عشر جنيهاً مصرياً ) ، وذلك يساوي خمسين جنيهاً في هذا العهد ، ووعد بالزيادة في الراتب بعد قليل ، فاعتذر الشيخ عن قبوله وقال : إني أتقاضى عشر روبيات وإنها ستنقطع إذا تحولت إلى هذه الوظيفة . فتعجب الإنجليزي وقال : ما رأيت كاليوم : أنا أقدم راتباً يزيد على راتبك الحالي بأضعاف أضعاف ، وتترك الأضعاف المضاعفة وتقنع بالنزر اليسير !. فتعلل الشيخ بأن في بيته شجرة سدر وهو مغرم بثمرها وأنه سيحرمها إذا أقام في بريلي . ولم يفطن الإنجليزي بعد إلى مقصود الشيخ . فقال : أنا زعيم بأن هذا الثمر يصل إليك من رامبور إلى بريلي ، فتشبث ثالثة بأن حوله طلبة وتلاميذ يقرؤون عليه في بلده فلو انتقل إلى هذه الوظيفة انقطعت دروسهم . ولم ييأس الإنجليزي المناقش من إقناعه فقال : أنا أجري لهم جرايات في بريلي ويواصلون درووسهم هناك ، وهنا أطلق الشيخ آخر سهامه الذي أصمى رميته فقال : وماذا يكون جوابي غداً إذا سالني ربي : كيف أخذت الأجرة على العلم ؟ وهنا بهت الإنجليزي وسقط في يديه وعرف نفسية العالم المسلم ، وقضى الشيخ حياته على أقل من جنيه يأخذه كل شهر .

قارن هذه الروح السامية والنفس الكبيرة التي تربا بالعلم أن يباع بيع السلع , و تغار على العقيدة والكرامة أن تشترى بمال أو منفعة , بهذا التبذل والإسفاف الذي وصل إليه أهل العلم والعقل والصناعة في هذا الزمان , فقد عرض كثير من علمهم وعقلهم وما يحسنونه كالسلع في الأسواق ، يبيعونها بالمناداة ( المزاد العلني ) ليشتريها من يزيد في الثمن كائناً من كان ، فليس الشأن عندهم في العقيدة ولا في الغرض والنتيجة ولا في الملاءمة والذوق ، إنما الشأن عندهم في الثمن الذي يدفعه المشتري .

وكل يوم نطلع على مضحكات مبكيات في هذا الباب ، فهذا الأستاذ كان أمس في معهد إسلامي يدرس العلوم الإسلامية والتاريخ الإسلامي ، وقدمت غليه الكلية الكاثوليكية الفلانية وظيفة تدريس براتب يزيد على راتبه السابق بخمسة جنيهات فانتقل إليها ، وهذا السيد فلان كان في وزارة المعارف سابقاً ، وكان شاباً مثقفاً وعالماً له هوى في التحقيق والدراسة ، تقرأ له مقالات علمية في المجلات الراقية ، فإذا به ينتقل فجأة إلى مصلحة الطيران أو الإذاعة ، وسألناه : ماذا حدث له حتى غير طريقه وقلب تيار حياته ؟ فأخبرنا أن ذلك لأجل أنه يربح في مركزه الجديد عشرة جنيهات ، وهذا البحاثة الفلاني كتب مقالة عن التصوف الإسلامي ونال بها ثناء أهل العلم قد تحول إلى وزارة الخارجية أو أصبح ترجمان دولة أوروبية ، وما هو إلا لأجل زيادة بمقدار بضعة جنيهات ، أوليس هذا لأن الربح المالي قد أصبح كل شيء ، ولأن الذهب اللماع أصبح المتصرف الوحيد في مناهج الحياة والمسيطر الوحيد على الأرواح والعقليات ؟! .

قرأنا في التاريخ الإسلامي أن المنصور الخليفة العباسي المشهور طلب من ابن طاوس في مجلس أن يناوله الدواة ليكتب شيئاً فامتنع ، فسأله الخليفة عن سبب امتناعه وعدم امتثاله أمر خليفة المسلمين ، فقال : أخاف أن تكتب بها معصية فأكون شريكك فيها ومتعاوناً على الاثم والعدوان . إلى هذا الحد وصل بهم تمسكهم بقوله تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } أما امتناعهم عن قبول منصب القضاء في نظام لا يرضونه ولا يرتاحون إلى سيره وتفاصيله فرواياته بلغت حد التواتر ، واطردت في أدوار الحياة الإسلامية الأولى .

قارن هذا الاحتراس من التعاون على الإثم والعدوان ، وهذا التعفف عن المشاركة في نظام غير صحيح ، والامتناع من أدنى مساعدة لهدف لا يتفق ومصالح الأمة الإسلامية أو يعود عليها بالضرر أو فيه غش وخديعة للأمة . قارن كل ذلك بهذه المساعدة والتعضيد الذي تتمتع به الحكومات الأوربية من المسلمين ، وهذا الذكاء واللباقة والقلم البليغ واللسان الذلق الذي ينتفع به الأجانب منهم في مصالحهم وإداراتهم .

فهنالك شبانٌ مسلمون وكتاب بارعون يتولون تحرير الصحف والمجلات التي تصدرها الحكومات الأجنبية لنشر دعايتها في بلاد المسلمين والتأثير في عقليتهم ونفسيتهم وتمويه الحقائق بمقدرة المأجورين من المسلمين أنفسهم .

وهنالك جماعة من (( الأفاضل )) ينحدرون من أصول عربية صميمة ، وينتمون إلى بيوتات عريقة في المجد والإخلاص والإسلام ، قد جاهد آباؤهم في سبيل الحق ومحق الباطل ، وبقيت نسبتهم في أسمائهم تروي لنا تاريخاً مجيداً عن آبائهم حافلاً بجلائل الأهمال ، وجرى دمهم في عروقهم ، وظهر في ملامح وجوههم وتقاطيعها ، يشتغلون اليوم في الحكومات الأجنبية ، ويستعملون تلك اللغة المضرية الفصحى التي نزل بها القرآن الكريم ، والتي تكلم بها رسل المسلمين في مجالس ملوك فارس والروم ، فأدوا بها رسالة الإسلام ، وألقوا المهابة في قلوبهم ، والتي ألقى بها القواد المسلمين خطب الجهاد ، بهذه اللغة الكريمة التي لا تليق إلا للبطولة الإسلامية ، وبتلك الكلمات الفصيحة الرائعة التي لا تجمل إلا في مواضع الحق والجهاد ، ينشر هؤلاء دعاية الحكومات الأجنبية التي تعبث بالمسلمين عبث اللاعب بالكرة ، أو عبث الوليد بجانب القرطاس ، وقد رزأتهم في سياستهم واستقلالهم وإيمانهم وعقلهم واقتصادهم ، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون .

قد سمعنا منهم أن هذه الحكومات تقوم بجهود نبيلة لخير العروبة والإسلام ورفع شأنهم . وأنها (( نور الحرية الوضاء في عالم ساده الظلام الدامس )) ، وقد سمعناهم يشيدون (( بالخدمات الجلى والمساعدات العظيمة التي تقدمها الإذاعة البريطانية في سبيل نهضة الأقطار العربية وتوحيد تفكيرها وثقافتها وتوثيق الروابط بينها ، وما تقوم به من نشر الثقافة العربية الإسلامية ، وتعريف المسلمين بتاريخهم المجيد ومدنيتهم الزاهرة ، وإطلاع العالم العربي على حقائق الأمور ، وسير الحوادث في نزاهة وتجرد وصدق(251) )) ولطالما سمعناهم وقرأنا لهم إشادة بإيمان هذه الحكومات بالديمقراطية الصحيحة وجهادها لتوطيد الأمن العام وسلام العالم وحرية الأمم المستضعفة والبلاد المهضومة ، ورفعها لراية العدل والمساواة ، والأخذ للمظلوم من الظالم ، وقيامها للحق .. الخ .     

فأن كان هؤلاء المتحدثون لا يرضى ضميرهم بما يقولون , ويعرفون أن هذه الكلمات في غير محلها , وإنما هو كله لمصالحهم المالية , فيالانحطاط النفس الشريفة , ويا لرخص السلعة الغالية , ويا ضيعة الكلمات العامرة بالمعاني , ويا شقاء اللغة العربية بأهلها !0وإذا كان ذلك عن اعتقاد وثقة وفهم للمعنى , فيا جهلاً بالحقائق , ويا إنكاراً للمحسوس , ويا مسخاً للقلوب !0

وهذا عصر التناقض فيكتب أديب أو صحافي اليوم كتاباً حماسياً في سيرة بطل من أبطال الجهاد الإسلامي , أو مجدد من مجددي الإسلام , ولا يجف مداد مقالته أو كتابه ذلك حتى يكتب بقلمه تقريظاً أو ثناء على خائن من خونة الأمة , أو صنيعة من صنائع الأجانب لمصلحة سياسية ومنفعة مالية , ولا يرى في ذلك تناقضاً .

طلب ملك من ملوك العرب من شاعر عربي فرسه , فاعتذر أن يعطيها بأي ثمن كان وقال :

أبيت اللعن إن سكاب علق *** نفيس لا تعار ولا تباع

ولكن كأن الضمير عند هؤلاء الذين يشتغلون في الحكومات الأجنبية ، أو يذيعون من محطاتها ما لا يرضى به ضميرهم ولا يصدق علمهم ، أو يصدرون صحفاً ، أو يؤلفون كتباً على جعالة أو راتب شهري ؛ أذل وأرخص من جواد الجاهلي فهو يعار ويباع ، وذلك لم يكن لعيار ولا ليباع .

وكانت الروابط والأواصر في الشرق – في الغالب – قائمة على أساس غير مادي إما عقلي وإما روحي ووجداني ، وكان للأثرة والأنانية فيها نصيب ضئيل ، وكان نتيجة ذلك وجود روابط وأواصر لا يمكن تعليلها بالمادة وجر النفع إلى أصحابها ، وكانت هذه الروابط متغلغلة في الأحشاء ؛ فمن ذلك أن علاقة التلميذ بأستاذه وإخلاصه وحبه له في العهد السابق ، يزري بعلاقة الولد بوالده وحبه له في هذا العصر .

اشتهر نبأ وفاة الأستاذ الشهير العلامة نظام الدين اللكهنوي ( م 1161 هـ ) صاحب منهاج الدرس النظامي الجاري تطبيقه في الهند وخراسان ، فلما أتى النعي تلميذه السيد كمال الدين العظيما بادي ، مات من شدة الحزن ، وعمي تلمذه الآخر (( ظريف العظيما بادي )) من كثرة البكاء ، وتحقق بعد ذلك أن الإشاعة كانت غير صحيحة(252) ، ولعل ذهن هذا العصر لا يسيغ هذه الرواية ، ولكن الذي عرف طبيعة الشرق ، ومدى اتصال التلميذ هنالك بأستاذه وحبه له لم يستغرب هذه الرواية ولم يكذبها .

يعلم المطلع على تاريخ الأخلاق وفلسفتها أنه قد ظهرت مدرسة في أوربا قبل المسيح بأربعة قرون ، وكان لها أنصار من كبار الفلاسفة والأخلاقيين إلى القرن التاسع عشر المسيحي ، تدين باللذة البدنية وتعتقد أنها ميزان للأخلاق ومعيار الأعمال ، وتشير على أتباعها بأن يهتبلوا فرص التمتع بالحياة الدنيا ويغتنموا فلتات الدهر .

وافترق أصحاب هذه المدرسة فرقتين ؛ فمنهم ؛( أولو الأثرة ) الذين يقولون : ينبغي أن لا يحول بين الإنسان وشهواته حائل حتى لا يدع حاجة في نفسه إلا قضاها ، فينال بذلك النصيب الأكبر من اللذة والهناءة وقالوا : السعادة هي إرضاء الشهوة وقضاء مآرب النفس واقتطاف قطوف المسرة واللذة باليدين .

والفرقة الثانية هم ( النفعيون ) ويرى أهل هذا المذهب أن الواجب هو تحصيل المنفعة التي ينال بها أكبر عدد من أفراد البشر أوفر قسط من اللذة والهناء ، ولا وزن للأفعال الخلقية في نظرهم إلا بما تأتي به المسرة لغالب بني النوع ، ويرى هؤلاء أن السعادة هي أن تتوافر للناس بأعمالهم اللذات وتبعد عنهم الآلام .

ويرى القارئ ويلمس الروح المادي المتعشق للذة والهناء في آراء هذا المذهب ونزعاته من أحطها وأكثرها إسفافاً إلى أرقاها وأكثرها تحليقاً ، وهذا يختلف عن طبائع الشرق وشرائع السماء اختلافاً بيناً . وقد أثرت هذه النزعة المادية في فلسفة الغرب وأخلاقه وأدابه وحضارته تأثيراً عميقاً ، ولا تزال مهيمنة على الحياة الغربية وآدابها حتى اليوم .

ثم نزعوا دائماً في تشخيص المنفعة ووزنها إلى المادية لأنهم احتكموا فيها إلى أذهانهم وعقولهم ، وقد أصبحت مادية بحتة ، لأنها بحقيقة لا تأتي تحت الحس أو المساحة أو العد أو الوزن، ولا تؤمن بمنفعة لا تجلب لذة وهناء، حتى مؤسس هذا المذهب ((أبيقور م 271ق.م)) صرح بأن مناط الحكم على الأعمال هي المنفعة ، وأن المنفعة لا قيمة لها إلا إذا اجتلبت لذة واغتباطاً ، فكيف وقد تدرجت العقول والطبائع الغربية ومردت على النزوع المادي على تعاقب الأجيال والعصور ؟! .

فكان نتيجة ذلك أن الذهن الغربي والمنطق العصري أصبحا عاجزين عن الاهتداء إلى منفعة غير محسوسة لا تجلب لذة واغتباطاً ، وأصبح العقل الأوربي محامياً عن المادية لا يحكم على الأخلاق بالحسن والصحة إلا بمقدار جلبها للمنافع المادية ، وبحسب ما يكتسب المجتمع بواسطتها من اللذة والهناء ، والأفراد من الاغتباط والرخاء ، فأصبح الربح المادي هو الميزان للأخلاق والفارق بين الشر والخير ، وأصبحت الأخلاق التي لا وزن لها في ميزان المادة ، ليس لها قيمة إلا القيمة الدينية أو الخلقية في المصطلح القديم ينتقص كل يوم سلطانها على القلوب والعقول ، وتعدم أنصاراً وتصبح من شعائر القديم وذكريات العهد الماضي كحنان الأبوين وحبهما للأولاد ، ووفاء الأزواج وحفظهن للغيب ، وتحل محل هذه الأخلاق المقدرة الصناعية والاختراع والإنتاج والوطنية والجنسية ولا تزال ترتفع قيمتها ويرجع وزنها .

ولا يزال المجتمع العصري يستغني عن الروابط المنزلية والأرحام الدموية والشرائع الخلقية بتنظيمات اجتماعية شعبية على الخطوط السياسية والصناعية والاقتصادية . ولا يهم المجتمع الآن كيف يعامل الولد والده أو الزوجة زوجها إذا كان هؤلاء الأفراد لا يزالون في الدائرة المدنية التي اختطها المجتمع حول أفراده ؛ وما دام لا يحدث عملهم هذا اضطراباً في المجتمع وثورة على النظام ولا يعرقل سير المدينة فلا بأس إذا كان هنالك عقوق من ولد أو فرك من قرينة أو جفاء من زوج أو دعارة من امرأة أو فسق من رجل أو خيانة من زوجة .

 

******************************
الباب الخامس

قيادة الإسلام للعالم

الفصل الأول

نهضة العالم الإسلامي

 

اتجاه العالم بأسره إلى الجاهلية :

لأسباب تاريخية عقلية ، طبيعية قاسرة ، ذكرناها في البحوث السابقة ، تحولت أوربا النصرانية جاهلية مادية ، تجردت من كل ما خلفته النبوة من تعاليم روحية ، وفضائل خلقية ، ومبادئ إنسانية ، وأصبحت لا تؤمن في الحياة الشخصية إلا باللذة والمنفعة المادية ، وفي الحياة السياسية إلا بالقوة والغلبة ، وفي الحياة الاجتماعية إلا بالوطنية المعتدية والجنسية الغاشمة ، وثارت على الطبيعة الإنسانية ، والمبادئ الخلقية ، وشغلت بالآلات ، واستهانت بالغايات ، ونسيت مقصد الحياة ، وبجهادها المتواصل في سبيل الحياة وبسعيها الدائب في الاكتشاف والاختبار مع استهانتها المستمرة بالتربية الخلقية وتغذية الروح وجحود بما جاءت به الرسل ، وبإمعانها في المادية ، وبقوتها الهائلة مع فقدان الوازع الديني ، والحاجز الخلقي ، أصبحت فيلاً هائجاً ، يدوس الضعيف ، ويهلك الحرث والنسل ، وبانسحاب المسلمين من ميدان الحياة وتنازلهم عن قيادة العالم وإمامة الأمة ، وبتفريطهم في الدين والدنيا ، وجنايتهم على أنفسهم وعلى بني نوعهم ، أخذت أوربا بناصية الأمم ، وخلفتهم في قيادة العالم ، وتسيير سفينة الحياة والمدنية التي اعتزل ربَّانُها ، وبذلك أصبح العالم كله – بأممه وشعوبه ومدنياته – قطاراً سريعاً تسير به قاطرة الجاهلية والمادية إلى غايتها ، وأصبح المسلمون – كغيرهم من الأمم – ركاباً لا يملكون من أمرهم شيئاً ، وكلما تقدمت أوربا في القوة والسرعة ، وكلما ازدادت وسائلها ووسائطها ، ازداد هذا القطار البشري سرعة إلى الغاية الجاهلية حيث النار والدمار والاضطراب والتناحر والفوضى الاجتماعي والانحطاط الخلقي والقلق الاقتصادي والإفلاس الروحي ، وها هي أوربا تستبطئ الآن أسرع قطار ، وتريد أن تصل إلى غايتها بسرعة الطائرة بل بسرعة القوة الذرية .

 

استيلاء الفلسفة الأوربية على العالم :

وليس على وجه الأرض اليوم أمة أو جماعة تخالف الأمم الغربية في عقائدها ونظرياتها وتزاحمها في سيرها وتعارضها في وجهتها وتناقشها في مبادئها وفلسفتها الجاهلية ، ونظام حياتها المادي لا في أوربا ولا في أمريكا ، ولا في أفريقية وآسيا ، والذي نرى ونسمع من خلاف سياسي ونزاع بين الأمم فإنما هو تنافس في القيادة ، وتنازع فيمن يكون هو القائد إلى هذه الغاية المشتركة ، فدل المحور إنما كانت تكره أن يبقى الحلفاء مستبدين بالقيادة العالمية منذ زمن طويل ، مستأثرين بموارد الأرض وخيرتها وأسواقها ومستعمراتها ، وبشرف السيادة على العالم وحدهم مع أنها لا تقل عنهم في القوة والعلم والنظام والنبوغ والذكاء ، بل ربما تفوقهم ، أما إنها كانت تريد أن تسير إلى غاية أخرى وأن تقوم بدعوة المسيح ، وتقيم في الأرض القسط ، وأن تقود الأمم الدين والتقوى وتنصرف بها وتتجه من المادية إلى الروحانية والأخلاق ، فهيهات هيهات .

أما روسيا الشيوعية فليست إلا ثمرة الحضارة الغربية ، قد أينعت وادركت . ولا تمتاز عن الشعوب والدول الأوربية إلا أن روسية قد خلعت جلباب النفاق والزور ونفذت ما تزوره وتبطنه الأمم الغربية منذ زمن طويل ، وتعتقده منذ قرون في الأخلاق والاجتماع ، وقد استبطأت روسية سير هاتيك الأمم والدول في سبيل الإلحاد واللادينية والإباحية والمادية البهيمية فهي تريد أن تتولى قيادة العالم، وتسير بالأمم الإنسانية سيراً حثيثاً إلى ما وصلت إليه.

 

الشعوب والدول الآسيوية :

أما الشعوب والدول الآسيوية والأمم الشقية فهي في طريقها إلى الغاية التي وصلت إليها شعوب أوربا في الحضارة والسياسة ، وتدين بما تدين به هذه الشعوب في الأخلاق والآداب والاجتماع وتعتقد ما تعتقده عن الحياة والكون ، وتتحلى به من سيرة وخلق وتهذيب ، إلا أنها لا ترضى أن يتولى أمرها النزلاء الأجانب ويقيموا عليها الحجر كما يقام على السفيه ، وأن تكون للأوربيين عليها دول وإمبراطوريات ينعمون في ظلها ويرتعون في جنباتها ، ولا يكون لها مثلها في الشرق وأفريقية وآسية ، ولا تستمتع حتى في داخل بلادها بما استمتع به الأوربيين ماديتهم وتنقم منهم أخلاقهم وسيرتهم وتنعى عليهم فلسفتهم ومبادئهم فلعل ذلك لا يخطر منها على بال ، بل قد زين لها كل ما تتصف به الأمم الأوربية فحلا في عينها .

وكلما سنحت لهذه الأمم فرصة الاستقلال وملكت زمام أمورها تجلت أخلاقها ومبادئها وظهرت سيرتها الجاهلية في صورتها الطبيعية الحقيقية ، فإذا هي أفضع صورة وأبشعها في التاريخ ، قساوة قلب وضراوة بالدم الإنساني وهتكاً للأعراض ونهباً للأموال وقتلاً وتدميراً ، وقد ظهرت من بعض هذه الشعوب الآسيوية على أثر استقلالها من الحكم الأجنبي فظائع ومنكرات تستبشعها الوحوش والسباع وتستك منها الأسماع ، فقد عاملت بعض الشعوب المواطنة بعصبية دينية وسياسية ، معاملة عز نظيرها في التاريخ ، رضعاء يقتلون ويُقطعون إرباً إرباً ، ونساء تهتك أعراضهن ثم يقتلن من غير رحمة ولا حياء ، وآبار تسمم وبيوت تهدم ونيران تشعل وقنابل تقذف ، وإذا دخلوا قرية فاتحين منتشرين أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ووضعوا فيها السيف ، وعاث الوحوش في الدماء والأعراض حتى أقفرت القرى ، وامتلأت الآبار بالسيدات اللاتي آثرن الموت على هتك الأعراض ، هذا عدا نساء قتلن بهمجية وطرق فظيعة لم تسبق في التاريخ ، إلى غير ذلك من الأفاعيل التي يشك فيها الناس في البلاد الإسلامية والمتحضرة .

هذا غير ذلك الاضطهاد الديني والمقاطعة الاجتماعية التي تلقاها تلك الطوائف في بلادها ، وما تلقى ثقافتها وديانتها من مطاردة ومهاجمة من تلقاء هذه الشعوب فتحرم الحرية الثقافية واللسانية وترغم على لغة مصطنعة دائرة ، ويحاول الأقوياء أن يمحوا كل أثر من آثار حضارتها وثقافتها ويختلقوا عليها الأكاذيب والجنايات ، ويمثلوا قصة الحمل والذئب كل يوم ، فيعزل رجالها من الوظائف وتسد في وجوههم أبواب المعاش والتجارة والحرف ، وتقفل دكاكينهم ومحالهم التجارة وتصادر أملاكهم وأموالهم بعلل واهية مضحكة .

ثم إن هذه الأمم أفلست إفلاساً شائناً في الدين والأخلاق ، وقد أشربت في قلوبها حب المال والمادة ، وتسلط عليها شيطان الأثرة والجشع حتى ضجت منها الحكومات وتعبت ، فقد ارتفعت الأسعار ارتفاعاً فاحشاً ، فلما التجأت الحكومة إلى التسعير اختفت السلع والأموال ، وأصبح الناس لا يجدون كسوة ولا طعاماً ولا حاجة إلا بالسعر الذي يريده التاجر ، فنفقت السوق السوداء وشاعت الجنايات والخيانات والارتشاء والتهريب ، وأصبحت الحكومة والتجار كفرسي رهان أو قرني ميدان ، كل يريد أن يغلب صاحبه وينتهز غرته ، وأصبح الناس حبة بين حجري الرحى لا يدرون كيف يفعلون .

وقد حاول رجال الإصلاح والديانة أن ينفخوا في هذه الأمم حياة جديدة ويبنوا فيها روح الأخلاق والفضيلة والأمانة والاقتصاد فأخفقوا إخفاقاً تاماً ، وعملوا أن خلق أمة بأسرها أهون من إصلاح هذه الأمم وتهذيبها وقد انقطعت مادتها وانقضى أجلها .

وهكذا أصبح العالم شرقاً وغرباً في أزمة روحية وخلقية واجتماعية واقتصادية تطلب حلاً سريعاً عاجلاً .

 

الحل الوحيد للأزمة العالمية :

والحل الوحيد هو تحول القيادة العالمية وانتقال دفة الحياة من اليد الأثيمة الخرقاء التي أساءت استعمالها إلى يد أخرى بريئة حاذقة .

إن تحول القيادة من بريطانيا إلى أمريكا ومنهما جميعاً إلى روسيا لا يغني غناء ولا يغير من الموقف شيئاً ، فإن هذا التحول ليس إلا نقا المجداف من الموقف شيئاً ، فإن هذا التحول ليس إلا نقل المجداف من اليمين إلى الشمال إذا تعبت الأولى أو بالعكس ، فما دام المجداف واحداً فلا فرق بين يمينه وشماله ، وليست بريطانيا وأمريكا وروسيا إلا أيدي رجل واحد تتداول دفة الحياة ، وتتناوب تجديف السفينة على خط واحد إلى جهة واحدة .

إن التحول المؤثر الواضح هو تحول القيادة من أوربا – بالمعنى الواسع الذي يشمل بريطانيا وأمريكا وروسيا ومن كان على شاكلتها من الأمم الآسيوية والشرقية – التي تقودها المادية والجاهلية ، إلى العالم الإسلامي الذي يقوده سيدنا صلى الله عليه وسلم برسالته الخالدة ودينه الحكيم .

هذا هو التحول الذي يغير وجه التاريخ ويحول مجرى الأمور وينقذ العالم من الساعة الرهيبة التي ترقبه .

إن حقاً على العالم الإسلامي أن يُمني نفسه بهذا المنصب الخطير ، ويطمح إليه ، وإن حقاً على كل بلد إسلامي وشعب إسلامي أن يشد حيازيمه لذلك ، وإن حقاً على كل مسلم أن يجاهد في سبيله ويبذل ما في وسعه ، فهذه هي المهمة الشريفة التي نيطت بالأمة الإسلامية يوم برزت إلى عالم الوجود ، ويوم طهرت نواتها في جزيرة العرب .

 

العالم الإسلامي على أثر أوربا :

من الغريب الواقع أن المسلمين قد أصبحوا في الزمن الأخير في كثير من نواحي الأرض حتى في مراكز الإسلام وعواصمه حلفاء للجاهلية الأوربية وجنوداً متطوعين لها ، بل صار بعض الشعوب والدول الإسلامية يرى في الشعوب الأوربية التي تزعمت حركة الجاهلية منذ قرون ونفخت فيها روحاً جديدة ، وركزت أعلامها على الشرق والغرب ، ناصراً للمسلمين ، حامياً لذمار الإسلام المستضعف ، حاملاً لراية العدل في العالم قوَّاماً بالقسط .

ورضي عامة المسلمين بأن يكونوا ساقة عسكر الجاهلية بدل أن يكونوا قادة الجيش الإسلامي ، وسرت فيهم الأخلاق الجاهلية ومبادئ الفلسفة الأوربية سريان الماء في عروق الشجر والكهرباء في الأسلاك ، فترى المادية الغربية في البلاد الإسلامية في كثير من مظاهرها وآثارها ، ترى تهافتاً على الشهوات ونهماً للحياة ، نهم من لا يؤمن بالآخرة ، ولا يوقن بحياة بعد هذه الحياة ، ولا يدخر من طيباتها شيئاً . وترى تنافساً في أسباب الجاه والفخار وتكالباً عليها فعل من يغلو في تقويم هذه الحياة وأسبابها ، وترى إيثاراً للمصالح والمنافع الشخصية على المبادئ والأخلاق ، شأن من لا يؤمن بني ولا بكتاب ، ولا يرجو معاداً ، ولا يخشى حساباً ، وترى حباً للحياة وكراهة للموت ، دأب من يعد الحياة الدنيا رأس بضاعته ، ومنتهى أمله ومبلغ علمه ، وترى افتتاناً بالزخارف والمظاهر الجوفاء كالأمم المادية التي ليس عندها أخلاق ولا حقيقة حية ، وترى خضوعاً للإنسان ، واستكانة للملوك والأمراء ورجال الحكومة والمناصب وتقديسهم شأن الأمم الوثنية وَعَبَدَةِ الأصنام .

 

المسلمون على علاتهم موئل الإنسانية وأمة المستقبل :

ولكن برغم كل ما أصيب به المسلمون من علة وضعف فإنهم هم الأمة الوحيدة على وجه الأرض ، التي تعد خصيم الأمم الغربية وغريمتها ومنافستها في قيادة الأمم ، ومزاحمتها في وضع العالم ، والتي يعزم عليها دينها أن تراقب سير العالم وتحاسب الأمم على أخلاقها وأعمالها ونزعاتها ، وأن تقودها إلى الفضيلة والتقوى ، وإلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ، وتحول بينها وبين جهنم بما استطاعت من القوة ، والتي يحرّم عليها دينها ويأبى وضعها وفطرتها أن تتحول أمة جاهلية .

هذه هي الأمة التي يكن أن تعود في حين من الأحيان خطراً على النظام الجاهلي الذي بسطته أوروبا في الشرق والغرب وأن تحبط مساعيها .

وقد وصف هذا الخطر شاعر الإسلام الحكيم (( محمد إقبال )) في قصيدته البديعة : ( برلمان إبليس ) على لسان إبليس ، ذكر فيها أن الشيطان وزملاء إبليس وأعوانه اجتمعوا في مجلس شورى ، وتباحثوا في سير العالم وأخطار الغد وفتنة ، وما يتوجسون من خيفة على نظامهم الإبليسي ومهمتهم الشيطانية ، فتذكروا في فتن وأخطار قد أحدقت بهم وهددت نظامهم ، وجللوا خطبها وتناذروا شرها ، فذكروا أحدهم الجمهورية وحسب لها حساباً كبيراً ، فقال الثاني : لا يهولنك أمرها فإنها ليست إلا غطاء للملوكية ، ونحن الذين كسونا الملوكية اللباس الجمهوري ، إذا رأينا الإنسان بدأ يتنبه ويفيق ويشعر بكرامته ، وخفنا ثورة على نظامنا قد لا تحمد عاقبتها ، فألهيناه بلعبة الجمهورية ، وليس الشأن في الأمير والملك . إن الملوكية لا تنحصر في وجود شخص ترتكز فيه الملوكية وفرد يستبد بالسلطان ، إنما الملوكية أن يعيش الإنسان عيالاً على غيره مستشرفاً إلى متاع غيره ، سواء في ذلك الشعب والفرد . أما رأيت نظام الغرب الجمهوري وجه مشرق وضاح وباطنه أظلم من باطن جنكيز خان ؟ .

فقال الآخر : لا بأس إذا بقيت روح الملوكية ، ولكن ماذا يقول النائب المحترم في هذه الفتنة الدهماء التي أثارها هذا اليهودي الذي يدعى كارل ماركس ذلك الباقعة الذي ليس نبياً ولكنه يحمل عند أتباعه كتاباً مقدساً ، هل عندك نبأ أنه أقام العالم وأقعده ، وأثار العبيد على السادة حتى تزعزعت مباني الإمارة والسيادة ؟ .

فقال الآخر مخاطباً رئيس المجلس : يا صاحب الفخامة ، إن سحرة أوربا وإن كانوا مريديك المخلصين ولكني لم أعد أثق بفراستهم ، ها هو السامري اليهودي الذي هو نسخة من مزدك ( الزعيم الفارسي الاشتراكي ) قد كاد يأتي على العالم بقواعده فاستنسر البغاث ، وأصبح الصعاليك يزحمون الملوك بالمناكب ويدفعونهم بالراح ( أعلام أرض جعلت بطائحاً ) إنا قد استهنا بخطب هذه الحركة الاشتراكية وها هي قد استفحلت نفاقم شرها ، وها هي الأرض ترجف بهول فتنة الغد ، سيدي إن العالم الذي كنت تحكمه سينقض عليك ، إذا ينقلب النظام العالم ظهراً لبطن .

فتكلم رئيس المجلس ( أبليس ) وقال : إني أملك زمام العالم وأتصرف به كيف أشاء ، وسيرى العالم عجباً إذا حرشت بين الأمم الأوربية فتهارشت تهارش الكلاب ، وافترس بعضها بعضاً فعل الذئاب ، وإذا همست في آذان القادة السياسيين وأساقف الكنائس الروحانيين فقدوا رشدهم وجن جنونهم .

أما ما ذكرتم عن الاشتراكية فكونوا على ثقة أن الخرق الذي أحدثته الفطر بين الإنسان و الإنسان لايرفؤه المنطق المزدكي (الفلسفة الاشتراكية ) لا يخوفني هؤلاء الاشتراكيون الطرداء والصعاليك السفهاء .

إن كنت خائفاً فإني أخاف أمة لا تزال شرارة الحياة والطموح كامنة في رمادها ,ولا يزال فيها رجال تتجافى جنوبهم عن المضاجع وتسيل دموعهم على خدودهم سحراً ، لا يخفى على الخبير المتفرس أن الإسلام هو فتنة الغد وداهية المستقبل ، ليست الاشتراكية .

أنا لا أجهل أن هذه الأمة قد اتخذت القرآن مهجوراً ، وأنها فتنت بالمال وشغفت بجمعه وادخاره كغيرها من الأمم ، أنا خبير أن ليل الشرق داج مكفهر ، وأن علماء الإسلام وشيوخه ليست عندهم تلك اليد البيضاء التي تشرق لها الظلمات ويضيء لها العالم ، ولكن أخاف أن قوارع هذا العصر وهزته ستقض مضجعها وتوقظ هذه الأمة وتوجهه إلى شريعة ( محمد صلى الله عليه وسلم ) أنى أحذركم وأنذركم من دين ( محمد صلى الله عليه وسلم ) حامي الذمار ، حارس الذمم والأعراض ، دين الكرامة والشرف ، دين الأمانة والعفاف ، دين المروءة والبطولة ، دين الكفاح والجهاد ، يلغي كل نوع من أنواع الرق ، ويمحو كل أثر من آثار استعباد الإنسان ، لا يفرق بين مالك ومملوك ، ولا يؤثر سلطاناً على صعلوك ، يزكي المال من كل دنس ورجس ويجعله نقياً صافياً ، ويجعل أصحاب الثروة والملاك متسخلفين في أموالهم(253) أمناء لله وكلاء على المال . وأي ثورة أعظم وأي انقلاب أشد خطراً مما أحدثه هذا الدين في عالم الفكر والعمل يوم صرخ أن الأرض لله لا للملوك والسلاطين .

فابذلوا جهدكم أن يظل هذا الدين متوارياً عن أعين الناس ، وليهنكم أن المسلم بنفسه هو ضعيف الثقة بربه قليل الإيمان بدينه ، فخير لنا أن يبقى مشتغلاً بمسائل علم الكلام والإلهيات وتأويل كتاب الله والآيات ، اضربوا على آذان المسلم فإنه يستطيع أن يكسر طلاسم العالم ويبطل سحرنا بأذانه وتكبيره ، واجتهدوا أن يطول ليله ويبطئ سحره ، اشتغلوا يا إخواني عن الجد والعمل حتى يخسر الرهان في العالم . خير لنا أن يبقى المسلم عبداً لغيره ، ويهجر هذا العالم ويعتزله ويتنازل عنه لغيره زاهداً فيه ، واستخفافاً لخطره ، يا ويلتنا ويا شقوتنا لو انتبهت هذه الأمة التي يعزم عليها دينها أن تراقب العالم وتعسّه .

 

رسالة العالم الإسلامي :

لا ينهض العالم الإسلامي إلا برسالته التي وكلها إليه مؤسسه صلى الله عليه وسلم والإيمان بها والاستماتة في سبيلها ، وهي رسالة قوية واضحة مشرقة ، لم يعرف العالم رسالة أعدل منها ولا أفضل ولا أيمن للبشرية منها .

وهي الرسالة نفسها التي حملها المسلمون في فتوحهم الأولى ، والتي لخصها أحد رسلهم في مجلس يزدجرد ملك إيران بقوله : (( الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام )) رسالة لا تحتاج إلى تغيير كلمة وزيادة حرف ، فهي منطبقة تمام الانطباق على القرن العشرين انطباقها على القرن السادس المسيحي ، كأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خرج المسلمون من جزيرتهم لإنقاذ العالم من براثن الوثنية والجاهلية .

فلا يزال الناس اليوم عاكفين على أصنام لهم – من أوثان منحوتة ومنجورة ومقبورة ومنصوبة – ولا تزال عبادة الله وحده مغلوبة غريبة ، ولا تزال الفتنة قائمة على قدم وساق ، ولا يزال إله الهوى يعبد ، ولا يزال الأحبار والرهبان والملوك والسلاطين وأصحاب القوة والثروة والزعماء والأحزاب السياسية أرباباً من دون الله تقرب لها القرابين وينصب لها الجبين.

وكذلك العالم اليوم رغم اتساعه وتوفر وسائل السفر والانتقال من مكان إلى مكان ، واتصال الشعوب والأمم بعضها ببعض أضيق بأهله منه بالأمس ، قد ضيقته المادية التي لا تنظر إلا إلى قدمها ولا تؤمن إلا بفائدة صاحبها ، ولا تعرف غير العكوف على الشهوات وعبادة الذات ، وقد خنقته الأثرة التي لا تسمح لاثنين بالعيش في إقليم واسع ، والوطنية الضيقة التي تنظر إلى كل أجنبي شزراً وتجحد له كل فضل وتحرمه كل حق .

ثم ضيق خناق هذه الحياة المادية المسيطرون السياسيون الذين يحتكرون وسائل الحياة والرزق والقوت ، ويضيقون هذه الحياة لمن شاؤوا ويسعونها لمن شاؤوا ، ويبسطون الرزق – زعموا – لمن شاؤوا ويقدرونه لمن شاؤوا ، فأصبحت المدن الواسعة أضيق من جحر ضب ، وأصبح الناس في بلادهم في شبه حجر كحجر السفيه واليتيم وضاقت على الناس الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ، وأصبح الناس في أغلال وأصفاد من المدينة والمملكة مُهددين في كل وقت بمجاعات مصطنعة وحقيقية ، وحروب خارجية وداخلية ، وإضرابات واضطرابات أسبوعية ويومية .

نعم ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ! ولا تزال في هذا العصر المتنور الواعي المثقف أديان تعبث بعقول الناس وتسخرهم كالحمير والبقر ، وتزين لأتباعها قتل مئات من البشر لأجل بقرة ذبحت في عيد الأضحى ، أو شجرة مقدسة عُضدت في قرية من القرى .

وهنالك أديان بغير اسم الأديان لا تقل في نفوذها وسلطانها ولا تقل في جورها وعدوانها وعبثها بعقول أتباعها وفي عجائبها عن الأديان القديمة ، وهي والنظم السياسية والنظريات الاقتصادية التي يؤمن بها الناس كدين ورسالة ، كالجنسية والوطنية ، والديموقراطية والاشتراكية ، والدكتاتورية والشيوعية ، وهي أقل مسامحة لمن لا يدين بها وأشد قسوة على منافسيها ، وأضيق عطفاً من الأديان الجاهلية ، والاضطهاد السياسي اليوم أفضع من الاضطهاد الديني في القرون المظلمة ، فإذا تغلب حزب من الأحزاب الوطنية أو ساد مبدأ من المبادئ السياسية . أو انتصر فريق على فريق في الانتخاب ، سد في وجه منافسه الأبواب وعذبه أشد العذاب ، وما حرب أسبانيا الأهلية التي دامت مدة طويلة ، وسفكت فيها دماء غزيرة ، وما حرب الصين التي قامت بين الجمهوريين والشيوعيين من أهل الصين ، وحرب ((كوريا)) التي قامت بين الجنوبيين والشماليين ، إلا نتيجة اختلاف في العقيدة السياسية والنظريات الاقتصادية .

فرسالة العالم الإسلامي هي الدعوة إلى الله ورسوله والإيمان باليوم الآخر ، وجائزته الخروج من الظلمات إلى النور ، ومن عبادة الناس إلى عبادة الله وحده ، والخروج من ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، وقد ظهر فضل هذه الرسالة وسهل فهمها في هذا العصر أكثر من كل عصر ، فقد افتضحت الجاهلية وبدت سوآتها للناس واشتد تذمر الناس منها ، فهذا طور انتقال العالم من قيادة الجاهلية إلى قيادة الإسلام ، لو نهض العالم الإسلام ، واحتضن هذه الرسالة بكل إخلاص وحماسة وعزيمة ، ودان بها كالرسالة الوحيدة التي تستطيع أن تنقذ العالم من الانهيار والانحلال .

 

الاستعداد الروحي :

ولكن العالم الإسلامي لا يؤدي رسالته بالمظاهر المدينة التي جادت بها أوربا على العالم ، وبحذق لغاتها وتقليد أساليب الحياة التي ليست من نهضة الأمم في شيء ، إنما يؤدي رسالته بالروح والقوة المعنوية التي تزداد أوربا كل يوم إفلاساً فيها ، وينتصر بالإيمان والاستهانة بالحياة والعزوف عن الشهوات ، والشوق إلى الشهادة والحنين إلى الجنة ، والزهد في حطام الدنيا وتحمل الأذى في ذات الله صابراً محتسباً قال الله تعالى : {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } فقوة المؤمن وسر انتصاره في إيمانه بالآخرة ورجائه لثواب الله ، فإذا كان العالم الإسلامي لا يرمي إلا إلى ما تراه أوربا من العرض القريب ، ولا يطمح إلا فيما تطمح فيه أوربا من حطام الدنيا ، ولا يؤمن إلا بما تؤمن به أوربا من المحسوسات والماديات ، كانت أوربا بقوتها المادية أحق بالانتصار والسيادة من العالم الإسلامي الذي يتخلف عنها في القوة المادية تخلفاً شائناً ولا يفوقها في القوة المعنوية .

لقد أتى على العالم الإسلامي حين من الدهر وهو مستخف بهذه القوة المعنوية لا يحتفل بها ، ولا يحتفظ بالبقية منها ، ولا يغذيها ، حتى نضب معينها في قلبه ، فلما خاض العالم الإسلامي في المعارك التي تحتاج إلى الإيمان ، والصبر والثبات ، وتحمل الشدائد والنكبات ، وزلزل بعض الزلزل ، ولجأ إلى القوة المعنوية الكامنة في نفوس المسلمين ، كانت كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، هنالك عرف أنه قد جنى على نفسه جناية عظيمة بإهمال هذه القوة الروحية وتضييعها ، وبحث في جعبته فلم يجد شيئاً يسد مكانها ويغني غناءها .

وخاض العالم الإسلام في معارك حاسة ، وهو يرى أن المسلمين تقوم قيامتهم ، وسوف يهرعون للدفاع عن الإسلام وحماية بلادهم المقدسة ، ويغضبون لله ورسوله وحُرماته ، وإن الأقطار الإسلامية تشتعل ناراً وتتوقد حمية وحماسة ، فإذا الحادث لم يؤثر في العالم الإسلامي التأثير المنتظر ، وإذا النظر ضئيل والسخط خافت ، وإذا العالم الإسلامي كعادته – في غدواته وروحاته – منهمك في لذاته وشهواته ، كأن لم يحدث كبير شيء ، فعرف أن الحملة الدينية قد ضعفت في العالم الإسلامي ، وأن شعلة الجهاد قد انطفأت أو كادت ، وهنالك عرف الناس ضعف العالم الإسلامي وخذلانه وهوأنه على أنفسهم .

فالمهم الأهم لقادة العالم الإسلامي ، وجمعياته وهيئاته الدينية وللدول الإسلامية غرس الإيمان في قلوب المسلمين وإشعال العاطفة الدينية ، ونشر الدعوة إلى الله ورسوله ، والإيمان بالآخرة على منهاج الدعوة الإسلامية الأولى ، لا تدخر في ذلك وسعاً ، وتستخدم لذلك جميع الوسائل القديمة والحديثة . وطرق النشر والتعليم ، كتجوال الدعاة في القرى والمدن . وتنظيم الخطب والدروس ، ونشر الكتب والمقالات ، ومدارسة كتب السيرة ، وأخبار الصحابة ، وكتب المغازي والفتوح الإسلامية ، وأخبار أبطال الإسلام وشهدائه ، ومذاكرة أبواب الجهاد ، وفضائل الشهداء ، وتستخدم لذلك الراديو والصحافة وكتب الأدب ، وجميع القوى والوسائل العصرية .

والقرآن وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم قوتان عظيمتان تستطيعان أن تشعلا في العالم الإسلامي نار الحماسة والإيمان ، وتحدثا في كل وقت ثورة عظيمة على العصر الجاهلي ، وتجعلا من أمة مستسلمة ، منخذلة ناعسة ، أمة فتية متلهبة حماسة وغيرة وحنقاً على الجاهلية وسخطاً على النظم الجائرة .

أن علة العالم الإسلامي هو الرضا بالحياة الدنيا والاطمئنان بها ، والارتياح إلى الأوضاع الفاسدة والهدوء الزائد في الحياة ، فلا يقلقه فساد ، ولا يزعجه انحراف ، ولا يهيجه منكر ، ولا يهمه غير مسائل الطعام واللباس ، ولكن بتأثير القرآن والسيرة النبوية – إن وجدا إلى القلب سبيلا – يحدث صراع بين الإيمان والنفاق ، واليقين والشك ، بين المنافع العاجلة والدار الآخرة ، وبين راحة الجسم ونعيم القلب ، وبين حياة البطالة وموت الشهادة ، وصراع أحدثه كلا نبي في وقته ، ولا يصلح العالم به ؛ حينئذ يقوم في كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي ، بل في كل أسرة إسلامية في كل بلد إسلامي {فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى{13} وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً }

هنالك تتجدد ذكرى بلال ، وعمار ، وخباب ، وحبيب ، وخُبيب ، ومصعب بن عمير ، وعثمان بن مظعون ، وأنس بن النضر ، هنالك تفوح روائح الجنة ، وتهب نفحات القرن الأول ، ويولد للإسلام عالم جديد لا يشبه العالم القديم في شيء ...

 

الاستعداد الصناعي والحربي :

ولكن مهمة العالم الإسلامي لا تنتهي هنا ، فإذا أراد أن يضطلع برسالة الإسلام ويملك قيادة العالم فعليه بالمقدرة الفائقة ، والاستعداد التام في العلوم والصناعة والتجارة وفن الحرب ، وأن يستغني عن الغرب في كل مرفق من مرافق الحياة ، وفي كل حاجة من الحاجات ، يقوت ويكسو نفسه ، ويصنع سلاحه ، وينظم شؤون حياته ، ويستخرج كنوز أرضه وينتفع بها ، ويدير حكوماته برجاله وماله ، ويمخر بحار المحيط به بسفنه وأساطيله ، ويحارب العدو ببوارجه ودباباته وأسلحة بلاده ، وتزيد صادراته على وارداته ، ولا يحتاج إلى الاستدانة من الغرب ، ولا يضطر إلى أن يلجأ إلى راية من راياته وينظم إلى معسكر من معسكراته .

أما ما دام العالم الإسلامي خاضعاً للغرب في العلم والسياسة والصناعة والتجارة ، يمتص الغرب دمه ، ويحفر أرضه فيستخرج منها ماء الحياة ، وتغزو بضائعه أسواق العالم الإسلامي وبيوته وجيوبه كل يوم فتستخرج منها كل شيء ، وما دام العالم الإسلامي يستدين من الغرب الأموال ، ويستعير منه الرجال ، ليديروا حكومته ، ويشغلوا الوظائف الخطيرة ويدربوا جيوشه ويستورد منه البضائع ويجلب منه الصنائع ، وينظر إليه كأستاذ ومرب ، وسيد ورب ، لا يبرم أمراً إلا بإذنه ولا يصدر إلا عن رأيه ، فلا يستطيع أبداً أن يواجه الغرب فضلاً عن أن يناهضه ويغالبه .

هذه هي الناحية العلمية والصناعية التي أخل بها العالم الإسلامي في الماضي فعوقب بالعبودية الطويلة والحياة الذليلة ، وابتلي العالم الإسلامي بالسيادة الأوربية الجائرة التي ساقت العالم إلى النار والدمار والتناحر والانتحار ، فإن فرط العالم الإسلامي مرة ثانية في الاستعداد العلمي والصناعي والاستقلال في شئون حياته كتب الشقاء للعالم وطالت محنة الإنسانية وبلاؤها .

 

تبوء الزعامة في العالم والتحقيق :

وقد تنازل العالم الإسلامي – بما فيه العالم العربي – منذ زمن طويل عن مكانته في القيادة العلمية والتوجيه ، والاستقلال الفكري ، وأصبح عيالاً على الغرب متطفلاً على مائدته حتى في اللغة العربية وآداب اللغة وعلومها ، وحتى في علوم الدين كالتفسير والحديث والفقه . وأصبح المستشرقون هم المرشدين الموجّهِين في البحث والتحقيق ، والدراسة والتأليف ، وهم المنتهى والمرجع والحجة في الأحكام والآراء  الإسلامية والنظريات العلمية والتاريخية ، وهم الأسوة في النقض والإبرام . وعدد كبير منهم قسوس وإرساليون ويهود ومسيحيون متعصبون ، يضمرون للإسلام وصاحب رسالته – صلى الله عليه وسلم – العداء والبغضاء ، وللحضارة الإسلامية السخرية والاستهزاء ، ويخونون في النصوص والنقول ، ويحرّفون الكلم عن مواضعه . ومنهم عدد لم يتقن اللغة العربية ولم يبرع فيها ، وهم يخطئون في فهم النصوص وترجمتها أخطاء فاحشة ، وقد تغلغلت أفكارهم ودعاياتهم في الأوساط العلمية الحديثة في العالم الإسلامي وتجلت بصورة واضحة في الدعوة إلى فضل الدين عن السياسة ، وأن الدين قضية شخصية لا شأن له بالمجتمع ، وفي الدعوة إلى تغيير مفهوم الدين وأحكام الشريعة الإسلامية على أساس الحضارة الغربية وفلسفتها .. إلى غير ذلك من الأفكار التي يدعو إليها تلاميذ المستشرقين والخاضعون لهم في الشرق الإسلامي .

وقد عجز كتاب الشرق المسلمون والمفكرون الشرقيون عن مواجهة الحضارة الغربية وجهاً لوجه ونقد أسسها وقيمها نقداً حُرّاً جريئاً فيه الابتكار ، وفيه الاستقلال ، وقد بلغ بعضهم من ضعف التفكير ، والإغراق في التقليد منزلة رأى فيها أن الحضارة الغربية هي آخر ما وصل إليه العقل البشري وأنه لا منزلة وراءها ، ومنهم من دعا إلى تطبيق الحضارة الغربية برُمتها ، وعلى علاتها في الشرق ، ودعا بعض الأقطار الإسلامية وإذابتها فيها واختيار الثقافة اليونانية التي هي أصل الثقافات الأوربية .

وندر في هذه الطبقة وجود (( عملاق )) يكفر بالحضارة الغربية وفلسفة حياتها وقيمها ويشرّح الحضارة الغربية وأُسسها التي قامت عليها في ثقة واعتداد وعلم وبصيرة ، ونستثني من هذه الكلية بعض الأفراد الأفذاذ كالعلامة (( محمد إقبال )) من المسلمين القدامى ، والأستاذ (( محمد أسد )) من الأوربيين المهتدين بالإسلام .

ولابد – إذا أراد العالم الإسلامي أن يقوم على قدميه ويفكر بعقله – أن يقاوم هذا الخضوع ويكون فيه علماء عماليق وكتاب جهابذة يتناولون الحضارة الغربية بالنقد والتشريح ، وكتابات المستشرقين وآرائهم بالجرح والتعديل . ويتبحرون في العلوم الإسلامية ويتعمقون فيها حتى يفيد منهم كبار المستشرقين في أوربا وأمريكا ويصححون بهم آراءهم وأخطاءهم ، ويتوجه رواد العلم والتحقيق والدراسات العالية إلى عواصم العالم العربي وحواضر العالم الإسلامي ، كما اعتادوا أن يتوجهوا إلى عواصم أوربا وأمريكا . فهذه المدن الإسلامية أولى بأن تكون مركزاً للثقافة الإسلامية والعلوم الدينية وآداب اللغة العربية من العواصم الأوربية وجامعات أوربا ، ومن سقوط الهمة والقناعة بالدون أن تتخلى هذه العواصم العريقة في العلم والدين عن زعامتها العلمية ومكانتها الرئيسية .

 

التنظيم العلمي الجديد :

ولابد للعالم الإسلامي من تنظيم العلم الجديد بما يوافق روحه ورسالته . وقد ساد العالم الإسلامي على العالم القديم بزعامته العلمية ، فتسرب بذلك في عقلية العالم وثقافته ، وتغلغل في أحشاء الأدب والفلسفة ، وظل العالم المتمدن قروناً يفكر بعقله ويكتب بقلمه ويؤلف بلغته ، فكان المؤلفون في إيران وتركستان وأفغانستان والهند لا يؤلفون كتاباً له شأن إلا باللغة العربية ، وكان بعضهم يؤلف الأصل بالعربية ويلخصه بالفارسية كما فعل الغزالي في : (( كيمياء السعادة )) .

وإن كانت هذه الحركة العلمية التي ظهرت في صدر الدولة العباسية متأثرة باليونان والعجم ، وغير مؤسسة على الفكرة الإسلامي النقي والروح الإسلامي ؛ وإن كانت فيها مواضع ضعف من الناحية العلمية والدينية ، ولكنها سادت على العالم بقوتها ونشاطها ، واضمحلت أمامها النظم العلمية القديمة .

وجاءت نهضة فنسخت هذا النظام القديم باختباراتها ونقدها العلمي ، ووضعت منهاجاً جديداً للعلم والدراسة كان نسخة صادقة لروحها وعقليتها ونفسيتها المادية ، فلا يخرج منه الطالب إلا وهو متشبع بهذه الروح ، وخضع العالم مرة ثانية لهذا النظام التعليمي ، وخضع له العالم الإسلامي بطبيعة الحال – إذا كان مصاباً بالانحطاط العلمي والشلل الفكري من زمان ، وكان لا يجد المدد والغوث إلا في أوربا – فقبل هذا النظام التعليمي على علاته ، فهو النظام السائد اليوم في أنحاء العالم الإسلامي .

وكانت نتيجة هذا النظام الطبيعية ، صراعاً بين النفسية الإسلامية – إن كانت لا تزال في الشباب لم تقتلها البيئة – وبين النفسية الجديدة ، وبين وجهة الأخلاق الإسلامية ووجهة الأخلاقية الأوربية ، وبين الميزان القديم والجديد للأشياء وقيمتها ، وكانت نتيجة هذا النظام حديث الشك والنفاق في الطبقة المثقفة ، وقلة الصبر ونهامة الحياة وترجيح العاجل على الآجل ، إلى غير ذلك مما هو من طبائع المدينة الأوربية .

فإذا أراد العالم الإسلامي أن يستأنف حياته ، ويتحرر من رق غيره وإذا كان يطمح إلى القيادة ، فلا بد إذن من الاستقلال التعليمي ، بل لابد من الزعامة العلمية وما هي بالأمر الهين ، إنها تحتاج إلى تفكير عميق ، وحركة التدوين والتأليف الواسعة ، وخبرة إلى درجة التحقيق والنقد بعلوم العصر مع التشبع بروح الإسلام والإيمان الراسخ بأصوله وتعاليمه ، إنها لمهمة تنوء بالعصبة أولي القوة ، إنما هي من شأن الحكومات الإسلامية ، فتنظم لذلك جمعيات ، وتختار لها أساتذة بارعين في كل فن فيضعون منهاجاً تعليمياً يجمع بين محكمات الكتاب والسنة وحقائق الدين التي لا تتبدل وبين العلوم العصرية النافعة والتجربة والاختبار ، ويدونون العلوم العصرية للشباب الإسلامي على أساس الإسلام وبروح الإسلام وفيها كل ما يحتاج إليه النشء الجديد ، مما ينظمون به حياتهم ويحافظون به على كيانهم ويستغنون به عن الغرب ويستعدون للحرب ، ويستخرجون به كنوز أرضهم وينتفعون بخيرات بلادهم ، وينظمون مالية البلاد الإسلامية ، ويديرون حكوماتها على تعاليم الإسلام بحيث يظهر فضل النظام الإسلامي في إدارة البلاد ، وتنظيم الشئون المالية على النظم الأوربية ، وتنحل مشاكل اقتصادية عجزت أوربا عن حلها .

بالاستعداد الروحي والاستعداد الصناعي والحربي والاستقلال التعليمي ينهض العالم الإسلامي ، ويؤدي رسالته وينقذ العالم من الانهيار الذي يهدده . فليست القيادة بالهزل ، إنما هي جد الجد ، فتحتاج إلى جد واجتهاد ، وكفاح وجهاد ، واستعداد أي استعداد :

كل امرئ يجري إلى *** يوم الهياج بما استعدا


الفصل الثاني

زعامة العالم العربي

أهمية العالم العربي :

       إن العالم العربي له أهمية كبيرة في خريطة العالم السياسية وذلك لأنه وطن أمم لعبت أكبر دور في التاريخ الإنساني ، ولأنه يحتضن منابع الثروة والقوة الكبرى : الذهب الأسود الذي هو دم الجسم الصناعي والحربي اليوم ؛ ولأنه صلة بين أوربا وأمريكا ، وبين الشرق الأقصى ، ولأنه قلب العالم الإسلامي النابض يتجه إليه روحياً ودينياً ويدين بحبه وولائه ، ولأنه عسى – لاقدر الله – أن يكون ميدان الحرب الثالثة ، ولأن فيه الأيدي العاملة ، والعقول المفكرة ، والأجسام المقاتلة ، والأسواق التجارية ، والأراضي الزراعية ، ولأن فيها مصر ذات النيل السعيد بنتاجها ومحصولها وخصبها وثروتها ورقيها ومدنيتها ، وفيه سورية وفلسطين وجاراتها ، باعتدال مناخها وجمال إقليمها وأهميتها الاستراتيجية ، وبلاد الرافدين بشكيمة أهلها ومنابع فيها ، والجزيرة العربية بمركزها الروحي وسلطانها الديني ، واجتماع الحج السنوي الذي لا مثيل له في العالم وآبار البترول الغزيرة . كل ذلك قد جعل العالم العربي محصر أنظار الغربيين ، وملتقى مطامعهم وميدان تنافس لقيادتهم ، وكان رد فعله أن نشأ في العالم العربي شعور عميق بالقومية العربية ، وكثر التغني ((بالوطن العربي)) و ((المجد العربي)) .

 

محمد رسول الله روح العالم العربي :

       ولكن المسلم ينظر إلى العالم العربي بغير العين التي ينظر بها الأوربي ،وبغير العين التي ينظر بها الوطني العربي ،إنه ينظر بها الوطني العربي ، إنه ينظر إليه كمعهد الإسلام ومشرق نوره ومعقل الإنسانية , وموضع القيادة العالمية , ويعقد أن سيدنا محمداً العربي هو روح العالم العربي وأساسه وعنوان مجده ؛ وأن العالم العربي – بما فيه من موارد الثروة والقوة و بما فيه من خيرات وحسنات – جسم بلا روح , وخط بلا وضوح إذا انفصل – لا سمح الله بذلك – عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم   وقطع صلته عن تعاليمه ودينه ؛ وأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أبرز العالم العربي للوجود , فقد كان هذا العالم وحدات مفككة , وقبائل متناحرة , وشعوباً مستعبدة ومواهب ضائعة , وبلادا ًتتسكع في الجهل والضلالات , فكان العرب لا يحلمون بمناجزة الدولة الرومية والفارسية ولا يخطر ذلك منهم على بال , ولا يصدقون بذلك إذا قيل لهم في حال من الأحوال , وكانت سورية التي تكون جزءاً مهماً من العالم العربي مستعمرة رومية تعاني الملكية المطلقة والحكم الجائز المستبد , لا تعرف معنى الحرية والعدل , وكان العراق مطية لشهوات الدولة الكيانية مثقلة بالضرائب المحفة والإتاوات الفادحة . وكانت مصر قد اتخذها الرومان ناقة حلوباً ركوبا ً , يجزون صوفها و يظلمونها في علفها , ثم إنها تعاني الاضطهاد الديني مع الاستبداد السياسي ، فما لبث هذا العالم المفكك المنحل ، المظلوم المضطهد ، أن هبت عليه نفحة من نفحات الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، أدرك رسول الله من هذا العالم وهو ضائع هالك وأخذ بيبده وهو ساقط متهالك ، فأحياه بإذن الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس ، وعلمه الكتاب والحكمة وزكاه ؛ فكان هذا العالم بعد البعثة المحمدية سفير الإسلام ، ورسول الأمن والسلام ، ورائد العلم والحكمة ، ومشعل الثقافة والحضارة . كان غوثاً للأمم ، غيثاً للعالم ، هنالك كانت الشام وكان العراق ، وكانت مصر ، وكان العالم العربي الذي نتحدث عنه ، فلولا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولولا رسالته ، ولولا ملته ، لما كانت سورية ، ولا كان العراق ، ولا كانت مصر ، ولا كان العالم العربي ، بل ولا كانت الدنيا كما هي الآن حضارة وعقلاً ، وديانة وخلقاً ، فمن استغنى عن دين الإسلام من شعوب العالم العربي وحكوماته ، وولى وجهه شطر الغرب أو أيام العرب الأولى ، أو استلهم قوانين حياته أو سياسته من شرائع الغرب ودساتيره أو أسس حياته على العنصرية أو العروبة التي لا شأن لها بالإسلام , ولم يرض برسول الله قائداً ورائداً وإماماً وقدوة , فليرد على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم نعمته ويرجع إلى جاهليته الأولى , حيث الحكم الروماني والإيراني , وحيث الجهل والضلالة , وحيث الغفلة والبطالة وحيث العزلة عن العالم , والخمول والجمود , فإن هذا التاريخ المجيد , وهذه الحضارة الزاهية , وهذا الأدب الزاخر , وهذه الدول العربية , ليست إلا حسنة من حسنات محمد عليه الصلاة والسلام .

الإيمان هو قوة العالم العربي :

فالإسلام هو قومية العالم العربي , ومحمد صلى الله عليه وسلم هو روح العالم العربي وإمامة وقائده والإيمان هو قوة العالم العربي التي حارب بها العالم البشري كله فانتصر عليه , وهو قوته وسلاحه اليوم كما كان بالأمس , به يقهر أعداءه , ويحفظ كيانه ويودي رسالته . إن العالم العربي لا يستطيع أن يحارب الصهيونية أو الشيوعية أو عدواً  آخر بالمال الذي ترضخه بريطانيا أو تتصدق به أمريكا ,أو تعطيه مقابل ما تأخذ من أرضه من الذهب الأسود , إنما يحارب عدوه بالإيمان والقوة المعنوية , وبالروح التي حارب بها الدولة الرومية والإمبراطورية الفارسية في ساعة واحدة فانتصر عليهما جميعاً. إنه لا يستطيع أن يحارب أعداءه بقلب يحب الحياة ويكره الموت , ويجسم يميل إلى الدعة والراحة , وعقل يخامره الشك وتتنازع فيه الأفكار والأهواء , أو بيد مضطربة وقلب متشك ضعيف الإيمان وقوة متخاذلة في الميدان ، فالمهم لأمراء العرب وزعمائهم وقادة الجامعة العربية أن يغرسوا الإيمان في الشعوب العربية ، وجماهير الأمة وأولياء الأمور ، والجيوش العربية والفلاحين والتجار ، وفي كل طبقة من طبقات الجمهور ، ويشعلوا فيها شعلة الجهاد في سبيل الله ، والتوق إلى الجنة ، ويبعثوا فيها الاستهانة بالمظاهر الجوفاء وزخارف الدنيا ، ويعلموهم كيف يتغلبون على شهوات النفس ومألوفات الحياة ، وكيف يتحملون الشدائد في سبيل الله ، وكيف يستقبلون الموت بثغر باسم ، وكيف يتهافتون عليه تهافت الفراش على النور .

 

تضحية شباب العرب قنطرة إلى سعادة البشرية :

بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغت شقاوة الإنسانية غاية ما وراءها غاية ، وكانت قضية الإنسانية أعظم من أن يقوم لها أفراد متنعمون لا يتعرضون لخطر ولا لخسارة ولا محنة ، لهم النعيم الحاضر والغد المضمون ، إنما تحتاج هذه القضية إلى أناس يضحون  بإمكانياتهم ومستقبلهم في سبل خدمة الإنسانية وأداء رسالتهم المقدسة ، ويعرضون نفوسهم وأموالهم ومعائشهم وحظوظهم من الدنيا للخطر والضياع ، وتجاراتهم وحرفهم ومكاسبهم للتلف والكساد ، ويخيبون آمال آبائهم وأصدقائهم فيهم ، حتى يقولوا للواحد منهم كما قال قوم صالح : {قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا } .

إنه لا بقاء للإنسانية ولا قيام لدعوة كريمة بغير هؤلاء المجاهدين ، وبشقاء هذه الحفنة من البشر في الدنيا – كما يعتقد كثير من معاصريهم – تنعم الإنسانية وتسعد الأمم ، ويتحول تيار العالم من الشر إلى الخير ، ومن السعادة أن يشقى أفراد وتنعم أمم ، وتضيع أموال وتكسد تجارات لبعض الأفراد وتنمو نفوس وأرواح لا يحصيها إلا الله من عذاب الله ومن نار جهنم .

علم الله عند بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أن الروم والفرس والأمم المتحضرة المتصرفة بزمام العالم المتمدن لا تستطيع بحكم حياتها المصطنعة المترفة أن تتعرض للخطر وتتحمل المتاعب والمصاعب في سبيل الدعوة والجهاد وخدمة الإنسانية البائسة , ولا تستطيع أن تضحي بشيء من دقائق مدنيتها في الملبس والمأكل وأن تتنزل عن حظوظها ولذاتها وزخارفها فضلاً عن حاجاتها ، وأنه لا يوجد فيها أفراد يقوون على قهر شهواتهم ، والحد من طموحهم ، والزهد في فضول الحياة ومطامع الدنيا ، والقناعة بالكفاف ، فاختار لرسالة الإسلام وصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام أُمة تضطلع بأعباء الدعوة والجهاد وتقوى على التضحية والإيثار ، تلك هي الأمة العربية القوية السليمة التي لم تبتلعها المدنية ولم ينخرها البذخ والترف وأولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر الناس قلوباً وأعمقهم علماً وأقلهم تكلفاً .

قام الرسول بهذه الدعوة العظيمة فأدى حقوقها : من الجهاد في سبيلها وإيثارها على كل ما يقف في وجهها ، والعزوف عن الشهوات ومطامع الدنيا فكان في ذلك أسوة وإماماً للعالم كله ، وفد قريش وعرض عليه كل ما يغري الشباب ويرضي الطامحين من رئاسة وشرف ومال عظيم وزواج كريم ، فرفض كل ذلك في صرامة وصراحة ، وكلمة عمه وحاول أن يحد من نشاطه في سبيل الدعوة فقال : (( يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته )) ثم كان أسوة للناس في عصره وبعد عصره بقيامه بأكبر قسط من الجهاد والإيثار ، والزهد وشظف العيش وأقل قسط من العيش وأسباب الحياة ، فقد أوصد على نفسه الأبواب وسد في وجهه الطرق وتعدى ذلك إلى أسرته وأهل بيته والمتصلين به ، فكان أكثر الناس اتصالاً به وأقربهم إيه أقلهم حظاً في الحياة , وأعظمهم نصيباً في الجهاد والإيثار , فإذا أراد أن يحرم شيئاً بدأ ذلك بشيرته وبيته , وإذا سن حقاً أو فتح باباً لمنفعة قدم الآخرين وربما حرمه على عشيرته الأقربين . أراد أن يحرم الربا فبدأ بربا عمه عباس بن عبد المطلب فوضعه كله , وأراد أن يهدر دماء الجاهلية فبدأ بدم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فأبطله , وسن الزكاة وهي منفعة مالية عظيمة مستمرة إلى يوم القيامة فحرمها على عشيرته بني هاشم إلى آخر الأبد , وكلمه علي بن أبي طالب يوم الفتح أن يجمع لبني هاشم الحجابة مع السقاية فأبي وطلب عثمان بن طلحة وناوله مفتاح الكعبة وقال : هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء ، وقال خذوها خالدة تالدة فيكم لا ينزعها منكم إلا ظالم ، وحمل أزواجه على الزهد والقناعة وشظف العيش وخيرهن بين عشرته مع الفقر وضيق العيش ، ومفارقته مع السعة والرخاء وتلا عليهن قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً{28} وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيما } فاخترن الله والرسول ، وتأتيه فاطمة تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى وبلغها أنه جاءه رقيق فيوصيها بالتسبيح والتحميد والتكبير ويقول لها إنه خير لها من خادم .. وهكذا كان شأنه مع أهل بيته والمتصلين به فالأقرب ثم الأقرب . وآمن به رجال من قريش في مكة فاضطربت حياتهم الاقتصادية اضطراباً عظيماً ، وكسدت تجارتهم وحرم بعضهم رأس ماله الذي جمعه في حياته ، وحرم بعضهم أسباب الترف والرخاء وأناقة اللباس التي كان فيها مضرب المثل ، وكسدت تجارة بعضهم لاشتغاله بالدعوة وانصراف الزبائن عنه وحرم بعضهم نصيبه في ثروة أبيه .

ثم لما هاجر الرسول إلى المدينة وتبعه الأنصار تأثرت بذلك بساتينهم ومزارعهم فلما أرادوا أن يقبلوا عليها بعض الوقت ويصلحوها لم يسمح لهم بذلك وأنذرهم الله به فقال : {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } .

وهكذا كان شأن العرب والذين احتضنوا هذه الدعوة منهم فقد كان نصيبهم من متاعب الجهاد وخسائر النفوس والأموال أعظم من نصيب أي أمة في العالم وقد خاطبهم الله بقوله : {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وقال : {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } لأن سعادة البشرية إنما كانت تتوقف على ما يقدمونه من تضحية وإيثار ما يتحملون من خسائر ونكبات فقال : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ } وقال : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } وكان إحجام العرب عن هذه المكرمة وترددهم في ذلك امتداداً لشقاء الإنسانية واستمراراً للأوضاع السيئة في العالم فقال : {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } .

وقد وقف العالم في القرن السادس المسيحي على مفترق الطرق إما أن يتقدم العرب ويعرضوا نفوسهم وأموالهم وأولادهم وكل ما يعز عليهم للخطر ويزهدوا في مطامع الدنيا ويضحوا في سبيل المصلحة الاجتماعية بأنانيتهم فيسعد العالم وتستقيم البشرية وتقوم سوق الجنة وتروج بضاعة الإيمان ، وإما أن يؤثروا شهواتهم ومطامعهم وخظوظهم الفردية على سعادة البشرية وصلاح العالم فيبقى العالم في حمأ الضلالة والشقاء إلى ما شاء الله ، وقد أراد الله بالإنسانية خيراً وتشجع العرب – بما نفخ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم من روح الإيمان والإيثار وحبب إليهم الدار الآخرة وثوابها – فقدموا أنفسهم فداء للإنسانية كلها وزهدوا في مطامع الدنيا طمعاً في ثواب الله وسعادة النوع الإنساني وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، وضحوا بكل ما يحرص عليه الناس من مطامع وشهوات وآمال وأحلام وأخلصوا لله العمل والجهاد فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين .

وقد استدار الزمان كهيئته يوم بعث الرسول ووقف العالم على مفترق الطرق مرة ثانية إما أن يتقدم العرب – وهم أمة الرسول وعشيرته – إلى الميدان ويغامروا بنفوسهم وإمكانياتهم ومطامحهم ويخاطروا فيما هم فيه من رخاء وثراء ودنيا واسعة ، وفرص متاحة للعيش وأسباب ميسورة فينهض العالم من غثاره وتتبدل الأرض غير الأرض وإما أن يستمروا فيما هم فيه من طمع وطموح ، وتنافس في الوظائف والمرتبات وتفكر في كثرة الدخل والإيراد وزيادة غلة الأملاك وربح التجارات والحصول على أسباب الترف والتنعم فيبقى العالم في هذا المستنقع الذي يتردى فيه منذ قرون .

إن العالم لا يسعد وخيرة الشباب في العواصم العربية عاكفون على شهواتهم تدور حياتهم حول المادة والمعدة لا يفكرون في غيرهما ولا يترفعون عن الجهاد في سبيلهما ولقد كان شباب بعض الأمم الجاهلية الذين ضحوا بمستقبلهم في سبيل المبادئ التي اعتنقوها أكبر منهم نفساً ، وأوسع منهم فكراً ، بل كان الشاعر الجاهلي (( امرؤ القيس )) أعلى منهم همة ، إذ قال :

ولو أنني أسعى لأدنى معيشة *** كفاني ولم أطلب قليل من المال

ولكنما أسعى لمجد مؤثل *** وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

إن العالم لا يمكن أن يصل إلى السعادة إلا على قنطرة من جهاد ومتاعب يقدمها الشباب المسلم ، إن الأرض لفي حاجة إلى سماد ، وسماد أرض البشرية الذي تصلح به وتنبت زرع الإسلام الكريم هي الشهوات والمطامع الفردية التي يضحي بها الشباب العربي في سبيل علو الإسلام وبسط الأمن والسلام على العالم وانتقال الناس من الطريق المؤدية إلى جهنم إلى الطريق المؤدية إلى الجنة .

إنه لثمن قليل جداً لسلعة غالية جداً .

 

العناية بالفروسية والحياة العسكرية :

من الحقائق المؤلمة أن الشعوب العربية قد فقدت كثيراً من خصائصها العسكرية ، ورزئت في فروسيتها التي كانت معروفة بها في العالم ، فكانت رزيئة كبيرة وخسارة فادحة ، وكانت سبباً من أسباب ضعفها وعجزها في ميدان الجهاد ، فقد اضمحلت الروح العسكرية ، وضعفت الأجسام ونشأ الناس على التنعم ، وقد حلت السيارات محل الجياد حتى كادت الخيل العربية تنقرض من الجزيرة العربية ، وهجر الناس المصارعة والمناضلة وسباق الخيل وأنواع الرياضة البدنية والتدريبات العسكرية ، واستبدلوا بها ألعاباً لا تفيدهم شيئاً ، فالمهم لرجال التعليم والتربية قادة الشعوب العربية أن يربوا الشبيبة العربية على الفروسية والحياة العسكرية ، وعلى البساطة في المعيشة وخشونة العيش والجلادة وتحمل المشاق والمتاعب ، والصبر على المكروه !.

وقد كتب المربي الكبير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى بعض عماله العرب وهم في بلاد العجم : (( إياكم والتنعم وزي العجم وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب ، وتمعددوا(254) ، واخشوشنوا(155) ، واخشوشبوا(256) ، واخلولقوا(257) ، وأعطوا الركب أسنتها ، وانزوا نزوا ، وارموا الأغراض (258))) .

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً(259) )) وقال : (( ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي(260) )) . 

ومن واجب رجال التربية وولاة الأمر أن يحاربوا بكل قوتهم ما يضعف روح الرجولة والجلادة ويبعث على التخنث والعجز ، من عادات وأدب وصحافة وتعليم ، ويأخذوا على يد الصحافة الماجنة والأدب الخليع الملحد ، الذي ينشر في الشباب النفاق والدعارة والفسوق ، وعبادة اللذة والشهوات ، ولا يسمحوا لهؤلاء التجارة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا أن يدخلوا في معسكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاث ، ويفسدوا على الناشئة الإسلامية قلبها وأخلاقهم ، ويزينوا لها الفسوق والعصيان ، وحب الفحشاء ، بثمن بخس دراهم معدودة ، وقد شهد التاريخ بأن كل أمة أصيب رجالها في رجولتهم وغيرتهم ، ونساؤها في أنوثتهن وأمومتهن ، وطغى فيهن التبرج ، ومزاحمة الرجال في كل شيء ، والزهد في الحياة المنزلية ، وحبب إليهن العقم ، أفل نجمها وكسفت شمسها ، فأصبحت أثراً بعد عين .

هذه كانت عاقبة اليونان والرومان والفرس ، وإن أوربا لفي طريقها إلى هذه العاقبة ، فليحذر العالم العربي من هذا المصير الهائل .

 

محاربة التبذير والفرق الهائل بين الغني والصعلوك :

 وقد اعتاد العرب لأسباب كثيرة وبتأثير الحضارة الغربية حياة الترف والدعة والاعتداد الزائد بالكماليات وفضول الحياة والإسراف والتبذير ، والاستهانة بمال الله في سبيل اللذة والشهوة والفخر والزينة .

وبجانب هذا الترف والنعيم وحياة البذخ والتبذير ، جوع وعري وفقر فاضح ، يرى الناظر مناظرة الشائنة في عواصم البلاد العربية فتدمع العين ويحزن القلب وينتكس الرأس حياء وخجلاً ، فبينا هنالك رجل عنده فضول الثياب وزائدة الطعام والشراب لا يعرف كيف يستهلكه ، إذ ببدوي لا يجد قوت يومه وكسوة جسمه ، وبينما أمراء العرب وأغنياؤهم على سيارات تباري الريح وتثير النقع ، إذا بفوج من النساء والأطفال عليه ثياب سوداء قد أصبحت خيوطاً من طول اللبس يعدو لأجل فلس أو قرص ، فما دامت المدن العربية تجمع بين القصور الشامخة والسيارات الفاخرة ، وبين الأكواخ الحقيرة والبيوت المتداعية الضيقة المظلمة ، وما دامت التخمة والجوع يزخران في مدينة واحدة ، فالباب مفتوح على مصراعيه للشيوعية والثورات والاضطراب والقلق لا تقفها دعاية ولا قوة ، وإذا لم يسد النظام الإسلامي في بلاده بجماله واعتداله يحل محله نظام جائر بعسفه وقهره عقاباً من الله كرد فعل عنيف .

 

التخلص من أنواع الأثرة :

لقد أتى على العالم العربي عهد في التاريخ كانت الحياة فيه تدور حول فرد واحد – وهو شخص الخليفة أو الملك – أو حول حفنة من الرجال – هم الوزراء وأبناء الملك – وكانت البلاد تعتبر ملكاً شخصياً لذلك الفرد السعيد والأمة كلها فوجاً من المماليك والعبيد ، ويتحكم في أموالهم وأملاكهم ونفوسهم وأغراضهم ، ولم تكن الأمة التي كانت يحكم عليها إلا ظلاً لشخصه ولم تكن حياته إلا امتداداً لحياته .

لقد كانت الحياة تدور حول هذا الفرد بتاريخها وعلومها وآدابها وشعرها وانتاجها ، فإذا استعرض أحد تاريخ هذا العهد أو أدب تلك الفترة من الزمان وجد هذه الشخصية تسيطر على الأمة أو المجتمع ، كما تسيطر شجرة باسقة على الحشائش والشجيرات التي تنبت في ظلها وتمنعها من الشمس والهواء ، كذلك تضمحل هذه الأمة في شخص هذا الفرد وتذوب فيه وتصبح أمة هزيلة لا شخصية لها ولا إرادة ، ولا حرية لها ولا كرامة .

وكان هذا الفرد هو الذي تدور لأجله عجلة الحياة ، فلأجله يتعب الفلاح ويشتغل التاجر ويجتهد الصانع ، ويؤلف المؤلف وينظم الشاعر ، ولأجله تلد الأمهات ، وفي سبيله يموت الرجال وتقاتل الجيوش ، بل ولأجله تلفظ الأرض خزائنها ويقذف البحر نفائسه وتستخرج كنوز الأرض خيراتها .

وكانت الأمة – وهي صاحبة الإنتاج وصاحبة الفضل في هذه الرفاهية كلها- تعيش عيش الصعاليك ، أو الأرقاء المماليك ، وقد تسعد بفتات مائدة الملك وبما يفضل عن حاشيته فتشكر ، وقد تُحرم ذلك أيضاً فتصبر ، وقد تموت فيها الإنسانية فلا تنكر شيئاً بل تتسابق في التزلف وانتهاز الفرص .

هذا هو العهد الذي ازدهر في الشرق طويلاً وترك رواسب في حياة هذه الأمة ونفوسها وفي أدبها وشعرها ، وأخلاقها واجتماعاتها ، وخلّف آثاراً باقية في المكتبة العربية ، ومن هذه الآثار الناطقة كتاب (( ألف ليلة وليلة )) الذي يصور ذلك العهد تصويراً بارعاً ، يوم كان الخليفة في بغداد أو الملك في دمشق أو القاهرة ، هو كل شيء ، وبطل رواية الحياة ومركز الدائرة إن هذا العهد الذي يمثله كتاب (( ألف ليلة وليلة )) بأساطيره وقصصه ، وكتاب الأغاني بتاريخه وأدبه ، لم يكن عهداً إسلامياً ، ولا عهداً طبيعياً معقولاً ، فلا يرضاه الإسلام ولا يقرّه العقل ، بل إنما جاء الإسلام بهدمه والقضاء عليه ، فقد كان هذا هو العهد الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم فسماه الجاهلية ونعى عليه وأنكر على ملوكه – ككسرى وقيصر – وعلى أثرتهم وترفهم أشد الإنكار .

إن هذا العهد غير قابل للبقاء والاستمرار في أي مكان وفي أي زمان ولا سبيل إليه إلا إذا كانت الأمة مغلوبة على أمرها أم مصابة في عقلها أو فاقد الوعي والشعور أو ميتة النفس والروح .

إن هذا الوضع لا يقره عقل ، ومن الذي يسوّغ أن يتخم فرد أو بضعة أفراد بأنواع الطعام والشراب ويموت آلاف جوعاً ومسبغة ، ومن الذي يسوغ أن يعبث ملك أو أبناء ملك بالمال عيث المجانين ، والناس لا يجدون من القوت ما يقيم صلبهم ومن الكسوة ما يستر جسمهم ، ومن الذي يسوغ أن يكون حظ طبقة – وهي الكثرة – الإنتاج وحده والكدح في الحياة والعمل المضني الذي لا نهاية له ، وحظ طبقة – وهي لا تجاوز عدد الأصابع – إلا التلهي بثمرات تعب الطبقة الأولى من غير شكر وتقدير وفي غير عقل ووعي ، ومن الذي يسوغ أن يشقى أهل الصناعة وأهل الذكاء وأهل الاجتهاد وأهل المواهب وأهل الصلاح ، وينعم رجال لا يحسنون غير التبذير ولا يعرفون صناعة غير صناعة الفجور وشرب الخمور ؟! ومن الذي يسوغ أن تُجفى أهل الكفاية وأهل النبوغ وأهلا الأمانة ويقصوا كالمنبوذين ويجتمع حول ملك أو أمير فوج من خساس النفوس وسخفاء العقول وفاقدي الضمائر ممن لا همَّ لهم إلا ابتزاز الأموال وإرضاء الشهوات ، ولا يحسنون فناً من فنون الدنيا غير التملق والإطراء والمؤامرة ضد الأبرياء ، ولا يتصفون بشيء غير فقدان الشعور وقلة الحياء .

     إنه وضع شاذ لا ينبغي أن يبقى يوماً فضلاً عن أن يبقى أعواماً .

إنه إن سبق في عهد من عهود التاريخ وبقي مدة طويلة فقد كان ذلك على غفلة من الأمة أو على الرغم منها ، وبسبب ضعف الإسلام وقوة الجاهلية ، ولكنه خليق بأن ينهار ويتداعى كلما أشرقت شمس الإسلام واستيقظ الوعي وهبت الأمة تحاسب نفسها وأفرادها .

فالذين لا يزالون يعيشون في عالم (( ألف ليلة وليلة )) إنما يعيشون في عالم الأحلام ، إنما يعيشون في بيت أوهن من بيت العنكبوت ، إنما يعيشون في بيت مهدد بالأخطار لا يدرون متى يكبس ، ولا يدرون متى تعمل فيه معاول الهدم ، وإن سلموا من كل هذا فلا يدرون متى يخر عليهم السقف من فوقهم فإنه بيت قائم على غير أساس متين وعلى غير دعائم قوية .

ألا إن عهد ألف ليلة وليلة قد مضى فلا يخدعنّ أقوام أنفسهم ولا يربطوا نفوسهم يعجلة قد تكسرت وتحطمت ، إن الملوكية مصباح – إن جاز هذا التعبير – قد نفذ زيته واحترقت فتيلته ، فهو إلا إنطفاء عاجل ولو لم تهب عاصفة .

إنه لا مجل في الإسلام لأي نوع من أنواع الأثرة ، إنه لا محل فيه للأثرة الفردية أو العائلية التي نراها في بعض الأمم الشرقية والأقطار الإسلامية ولا محل فيه للأثرة المنظمة التي نراها في أوربا وأمريكا وفي روسيا ، فهي في أوربا أثرة حزب من الأحزاب ، وفي أمريكا أثرة الرأسماليين ، وفي روسيا قلة آمنت بالشيوعية المتطرفة وفرضت نفسها على الكثرة وهي تعامل العمال والمعتقلين بقسوة نادرة ووحشية ربما لا يوجد لها نظير في تاريخ السخرة الظالمة(261) .

إن الأثرة يجمع أنواعها ستنتهي وإن الإنسانية ستثور عليها وتنتقم منها انتقاماً شديداً ، إنه لا مستقبل في العالم إلا للإسلام السمح العادل الوسط وإن طال أجل هذه (( الأثرات )) وأرخي لها العنان وتمادت في غيها وطغيانها مدة من الزمان .

إن الأثرة – فردية كانت أو عائلية أو حزبية أو طبقية – غير طبيعية في حياة الأمة وإنها تتخلص منها في أول فرصة إنه لا محل لها في الإسلام ولا محل لها في مجتمع واع بلغ الرشد ولا أمل في استمرارها ؛ فخير للمسلمين وخير للعرب وخير لقادتهم وولاة أمورهم أن يخلصوا أنفسهم منها ويقطعوا صلتهم بها قبل أن تغرق فيغرقوا معها .

 

إيجاد الوعي في الأمة :

إن أخوف ما يخاف على أمة ويعرضها لكل خطر ويجعلها فريسة للمنافقين ولعبة للعابثين هو فقدان الوعي في هذه الأمة ، وافتتانها بكل دعوة واندفاعها إلى كل موجة وخضوعها لكل متسلط وسكونها على كل فظيعة وتحملها لكل ضيم ، وأن لا تعقل الأمور ولا تضعها في مواضعها لكل ضيم ، وأن لا تعقل الأمور ولا تضعها في مواضعها ولا تميز بين الصديق والعدو وبين الناصح والغاش وأن تلدغ من جحر مرة بعد مرة ولا تنصحها الحوادث ، ولا تروعها التجارب ، ولا تنتفع بالكوارث ، ولا تزال تولي قيادها من جربت عليه الغش والخديعة والخيانة والأثرة والأنانية ، ولا تزال تضع ثقتها فيه وتمكنه من نفسها وأموالها وأعراضها ومفاتيح ملكها وتنسى سريعاً ما لاقت على يده الخسائر والنكبات فيجترئ بذلك السياسيون المحترفون ، والقادة الخائنون ويأمنون سخط الأمة ومحاسبتها ويتمادون في غيهم ويسترسلون في خياناتهم وعبثهم ثقة ببلاهة الأمة وسذاجة الشعب وفقدان الوعي .

إن الشعوب الإسلامية والبلاد العربية – مع الأسف – ضعيفة الوعي – إذا تحرجنا أن نقول : فاقدة الوعي – فهي لا تعرف صديقها من عدوها ولا تزال تعاملها معاملة سواء أو تعامل العدو أحسن مما تعامل الصديق الناصح وقد يكون الصديق في تعب وجهاد معها طول حياته بخلاف العدو ، ولا تزال تلدغ من جحر واحد ألف مرة ولا تعتبر بالحوادث والتجارب ، وهي ضعيفة الذاكرة سريعة النسيان تنسى ماضي الزعماء والقادة ، وتنسى الحوادث القريبة والبعيدة ، وهي ضعيفة في الوعي الاجتماعي وأضعف في الوعي السياسي ، وذلك ما جر عليها وبلاً عظيماً وشقاء كبيراً وسلط عليها القيادة الزائفة وفضحها في كل معركة .

إن الأمم الأوربية – برغم إفلاسها في الروح والأخلاق وبرغم عيوبها الكثيرة التي بحثنا عنها في هذا الكتاب – قوية الوعي المدني والسياسي – قد بلغت سن الرشد في السياسة ، وأصبحت تعرف نفعها من ضررها ، وتميز بين الناصح والخادع ، وبين المخلص والمنافق ، وبين الكفؤ والعاجز ، فلا تولي قيادها إلا الأكفاء الأقوياء الأمناء ، ثم لا توليهم أمورهم إلا على حذر ، فإذا رأت منهم عجزاً أو خيانة أو رأت أنهم مثلوا دورهم وانتهوا من أمرهم استغنت عنهم وأبدلت بهم رجالاً أقوى منهم وأعظم كفاءة وأجدر بالموقف ، ولم يمنعها من إقالتهم أو إقصائهم من الحكم ماضيهم الرائع وأعمالهم الجليلة وانتصارهم في حرب ، أو نجاحهم في قضية وبذلك أمنت السياسيين المحترفين ، والقيادة الضعيفة أو الخائنة ، وخوف ذلك الزعماء ورجال الحكم وكانوا حذرين ساهرين يخافون رقابة الأمة وعقابها وبطش الرأي العام .

فمن أعظم ما تخدم به هذه الأمة وتؤمن من المهازل والمآسي التي لا تكاد تنتهي هو إيجاد الوعي في طبقاتها ودهمائها وتربية الجماهير التربية العقلية والمدنية والسياسية ، ولا يخفى أن الوعي غير فشو التعليم وزوال الأمية وإن كانت هذه الأخيرة من أنجح وسائلها ، وليعرف الزعماء السياسيون والقادة أن الأمة التي يعوزها الوعي غير جديرة بالثقة ولا تبعث حالتها على الارتياح وإن أطرت الزعامة والزعماء وقدستهم فإنها – ما دامت ضعيفة الوعي – عرضة لكل دعاية وتهريج وسخرية كريشة في فلاة تلعب بها الرياح ولا نستقر في مكان .

 

استقلال البلاد العربية في تجارتها وماليتها :

وكذلك لابد للعالم العربي – كالعالم الإسلامي – من الاستقلال في تجارته وماليته وصناعته وتعليمه ، لا تلبس شعوبه وجماهيره إلا ما تنبته أرضه وتنسجه يده ، وتستغني عن الغرب في جميع شئون حياتها ، وفي كل ما تحتاج إليه من كسوة ، وطعام ، وبضائع ، ومصنوعات ، وأسلحة وجهاز حربي ، وآلات وماكينات ، وأدوية ، فلا تكون كلاً على الغرب وعيالاً عليه في معيشتها ومتطفلة على مائدته .

إن العالم العربي لا يستطيع أن يحارب الغرب – إذا احتاج إلى ذلك ودعت إليه الظروف – وهو مدين له في ماله ، عيال عليه في لباسه وبضائعه ، لا يجد قلماً يوقع به على ميثاق مع الغرب ، إلا الرصاص الذي أفرغ في الغرب ، إن عاراً على الأمة يجري ماء الحياة في عروقها وشرايينها إلى أجسام غيرها ، وأن يدرب جيوشها وكلاء الغرب وضباطه ، ويدير بعض مصالح حكومتها رجاله ، فلابد للعالم العربي أن يقوم هو نفسه بحجاته : تنظيم التجارة والمالية ، وحركة التوريد والتصدير ، والصناعة الوطنية ، وتدرب الجيش ، وصنع الآلات والماكينات وتربية الرجال الذين يضطلعون بجميع مهمات الدولة ووظائف الحكومة في خبرة ومهارة فنية ، وأمانة ونصيحة .

 

تقدم مصر في ميدان التجارة والصناعة والعلم :

ولابد هنا من الاعتراف بأن مصر قد أثبتت كفايتها واستعدادها الكبير في ميدان العلم والصناعة ، وتربية الرجال ، ونشر الثقافة ، ونقل العلوم العصرية إلى اللغة العربية ، وبواسطتها إلى الأمة العربية ، وعنايتها بالصناعة الوطنية ، وتنظيم شئون دولتها وماليتها على أساس العلم العصري ، أما فضلها على اللغة العربية وإحياؤُها للكتب العربية ، وتقدم الصحافة والطباعة وحركة النشر فيها ، فمن المأثر والمفاخر التي سيسجلها التاريخ ، ويردد صداها المستقبل ، ويدين بفضلها العرب جميعاً .

 

رجاء العالم الإسلامي من العالم العربي :

والعالم العربي بمواهبه وخصائصه وحسن موقعه الجغرافي وأهميته السياسية يحسن الاضطلاع برسالة الإسلام ، ويستطع أن يتقلد زعامة العالم الإسلامي ، ويزاحم أوربا بعد الاستعداد الكامل ، وينتصر عليها بإيمانه وقوة رسالته ونصر من الله ، ويحول العالم من الشر إلى الخير ، ومن النار والدمار إلى الهدوء والسلام .

 

إلى قمة القبلة العلمية :

ما أعظم التطور الذي حدث في تاريخ العرب على إثر بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونادت به سورة الإسراء وقصة المعرج في لغة صريحة بليغة وفي أسلوب مبين مشرق(262) ، وما أعظم النعمة التي أسبغها الله على العرب . نقلهم من جزيرتهم التي يتناحرون فيها إلى العالم الفسيح الذي يقودونه بناصيته ، ومن الحياة القبلية المحدودة التي ضاقوا بها إلى الإنسانية الواسعة التي يشرفون عليها ويوجهونها ، وأصبحوا بفضل هذا التطور العظيم الذي فاجأ العرب وفاجأ العالم يقولون بكل وضوح وشجاعة لإمبراطور المملكة الفارسية العظيمة وأركان دولته : ((الله ابتعثنا لنخرج بنا من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ،ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام )) .

نعم لقد خرجوا من ضيق الدنيا أولاً إلى سعتها ثم أخرجوا الأمم من ضيق الدنيا إلى سعتها آخراً ، وهل أضيق من الحياة القبلية والجنسية ، وأوسع من الحياة الإنسانية الآفاق ؟ وهل أضيق من الحياة التي لا يفكر فيها إلا في المادة الزائلة والحياة الفانية ولا يجاهد إلا في سبيلها من الحياة الإيمانية الروحانية التي لا نهاية لها ولا تحديد . !؟ .

لقد خرجوا من ضيق جزيرة العرب ، ومن ضيق الحياة فيها ، ومن ضيق التفكير في مسائلها ومصالحها ، ومن ضيق التناحر على سيادتها ، ومن ضيق التكالب على حطامها القليل وملكها الضئيل وعيشها الذليل ، إلى عالم جديد من السيادة الروحية والخلقية والعلمية والسياسية ، ليس الدانوب الفائض والنيل السعيد والفرات العذب والسند الطويل إلا سواقي حقيرة وترعاً صغيرة فيه ، وليست جبال الألب والبرانس وعقاب لبنان وقمم همالايا إلا تلالاً  متواضعة وسدوداً صغيرة ، وليست البلاد كالهند والصين وتركستان إلا أحياء ضيقة وحارات صغيرة ، ونقطاً مغمورة في هذا العالم ، وليست هذه الأرض كلها – إذا نظر إليها من ارتقى إلى قمة هذه السيادة – إلا خريطة صغيرة ملونة يراها الطائر المحلق في السماء ، وليست الأمم الكبيرة – مع ثقافتها وحضاراتها وآدابها – إلا أسراً صغيرة في أمة كبيرة .

لقد قام العالم الكبيرة على أساس العقيدة الواحدة ، والإيمان العميق والصلة الروحية القوية ، وكان أوسع عالم عرفه التاريخ وكانت الشعوب التي تكون هذا العالم أقوى أسرة عرفها التاريخ ، تنصهر فيها الثقافات المختلفة ، والعبقريات المختلفة ، فتكون منها ثقافة واحدة هي الثقافة الإسلامية ، التي لم تزل تظهر في نوابغ الإسلام الذين لا يحصيهم عدد وفي المآثر الإسلامية – بين علمية وعملية – التي لا يستقصيها التاريخ .

لقد كانت – ولا تزال – قيادة هذا العالم بجدارة واستحقاق أشرف قيادة وأعظمها وأقواها في تاريخ الزعامة والقيادة ، وقد أكرم الله بها العرب لما أخلصوا لهذه الدعوة الإسلامية وتفانوا في سبيلها ، فأحبهم الناس في العالم حباً لم يعرف له نظير ، وقلدوهم في كل شيء تقليداً لم يعرف له نظير ، وخضعت للغتهم اللغات ، ولثقافتهم الثقافات ، ولحضارتهم الحضارات ، فكانت لغتهم هي لغة العلم والتأليف في العالم المتمدن من أقصاه إلى قصاه ، وهي اللغة المقدسة الحبيبة التي يؤثرها الناس على لغاتهم التي نشأوا عليها ، ويؤلفون فيها أعظم مؤلفاتهم وأحب مؤلفاتهم ، ويتقنونها كأبنائها وأحسن ، وينبغ فيها أدباء ومؤلفون يخضع لهم المثقفون في العالم العربي ، ويقر بفضلهم وإمامتهم أدباء العرب ونقادهم .

وكانت حضارتهم هي الحضارة المثلي التي يتمجد الناس ويتظرفون بتقليدها ، ويحث علماء الدين على تفضيلها على الحضارات الأخرى ويطلقون على كل ما يخالفها من الحضارات – اسم (( الجاهلية )) و (( العجمية )) وينهون عن اتخاذ شعائرها ومظاهرها .

وبقيت هذه القيادة الشاملة الكاملة مدة طويلة والناس لا يفكرون في ثورة عليها ، وفي التخلص منها ، كما هي عادة المفتوحين والأمم المغلوبة على أمرها في كل عهد ، لأن صلتهم بهذه القيادة ليست صلة المفتوح بالفاتح أو المحكوم بالحاكم أو الرقيق بالسيد القاهر ، إنما هي صلة المتدين بالمتدين ، وصلة المؤمن بالمؤمن ، وعلى الأكثر إنما هي صلة التابع بالمتبوع الذي سبقه بمعرفة الحق والإيمان بالدعوة والتفاني في سبيلها ، فلا محل للثورة ، ولا محل للتذمر ، ولا محل لنكران الجميل ، إنما اللائق أن يعترفون لهم بالفضل ، وتلهج ألسنتهم بالشكر والدعاء ، وأن يقولوا : {  رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } .

وهكذا كان ، فقد ظلت هذه الأمم المفتوحة تعتبر العرب المنقذ من الجاهلية والوثنية ، والداعي إلى دار السلام ، والقائد إلى الجنة ، والمعلم للحضارة ، والأستاذ في الأدب .

هذه هي القيادة العالمية التي هيأتها البعثة المحمدية ، وهي القيادة التي يجب أن يحرص عليها العرب أشد الحرص ، ويعضوا عليها بالنواجذ ، ويسعوا إليها بكل ما أوتوا من مواهب ويتواصى بها الآبار والأبناء ، ولا يجوز لهم – في شريعة العقل والدين والغيرة – أن يتخلوا عنها في زمن من الأزمان ، ففيها عوض عن كل قيادة مع زيادة ، وليس في غيرها عوض عنها وكفاية ، وهي القيادة التي تشمل جميع أنواع القيادة والسيارة ، وهي تسيطر على القلوب والأرواح ، أكثر من سيطرتها على الأجسام والأشباح .

إن الطريق إلى هذه القيادة ممهدة ميسورة للعرب ، وهي الطريق التي جربوها في عهدهم الأول (( الإخلاص للدعوة الإسلامية واحتضانها وتنبيها والتفاني في سبيلها وتفضيل منهج الحياة الإسلامي على جميع مناهج الحياة )) .

وبذلك – من غير قصد وإرادة لنيل هذه القيادة وتبوئها – تخضع لهم الأمم الإسلامية في أنحاء العالم ، وتتهالك على حبهم وإجلالهم وتقاليدهم ، وبذلك تنفتح لهم أبواب جديدة وميادين جديدة في مشارق الأرض ومغاربها ، الميادين التي استعصت على غزاة الغرب ومستعمريه وثارة عليه ، وتدخل أمم جديدة في الإسلام ، أمم فتية في مواهبها وقواها وذخائرها ،أمم تستطيع أن تعارض أوربا في مدنيتها وعلومها إذا وجدت إيماناً جديداً ، وديناً جديداً ، وروحاً جديداً ، ورسالة جديدة .

إلى متى أيها العرب تصرفون قواكم الجبارة التي فتحتم بها العالم القديم في ميادين ضيقة محدودة  ؟ وإلى متى ينحصر هذا السيل العرم – الذي جرف بالأمس بالمدنيات والحكومات – في خدود هذا الوادي الضيق ، تصطرع أمواجه ويلتهم بعضها بعضاً ؟ إليكم هذا العالم الإنساني الفسيح الذي اختاركم الله لقيادته واجتباكم لهدايته ، وكانت البعثة المحمدية فاتحة هذا العهد الجديد في تاريخ أمتكم وفي تاريخ العالم جميعاً ، وفي مصيركم ومصير العالم جميعاً فاحتضنوا هذه الدعوة الإسلامية من جديد وتفانوا في سبيلها وجاهدوا فيها  {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } .

 

**************************************

 

http://www.saaid.net/



(1)  ظهرت ترجمة الكتاب الانكليزية باسم Islam and the world  من جامعة بنجاب في لاهور باكستان ، وظهرت الطبعة الثالثة لترجمة الكتاب الأوردية في لكهنؤ الهند .

(2)  انظر في هذا الكتاب (( الدعوة إلى الإسلام )) للسير توماس أرنولد الإنجليزي المعروف ص 7 من الترجمة العربية للدكتور حسن إبراهيم وآخرين .

(3)  ص 82- 83 من الكتاب المذكور .

(4)  من بحث للأستاذ أبي الحسن الندوي نفسه عنوانه : - شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال 66 – 68 .

(5)  ظهرت سبعة مجلدات من هذا الكتاب من دائرة المعارف في حيدر أباد الهند ، والكتاب يشتمل على خمسة آلاف ترجمة لأعيان الهند ، وظهر للمؤلف كتاب (( الثقافة الإسلامية في الهند )) طبعه المجمع العلمي العربي في دمشق .

(6)  توفي إلى رحمة الله في 21 ذي العقيدة 1380 هـ الموافق 7 مايو 1961 م

(7)  توفي إلى رحمة الله تعالى عام 1363 هـ - وللسيد أبي الحسن تأليف في سيرته في أردو وحديث عنه في محاضرته (( الدعوة الإسلامية في الهند وتطوراتها )) .

(8)  هو من نفس أسرة السيد أبي الحسن ومن أشهر رجالها ورجال الهند . ولد سنة 1201 هـ في راي بريلي (الهند) واستشهد في سبيل الله في بالاكوت ( باكستان الآن ) سنة 1246 هـ .

(9)  طبعت مذكراته في القاهرة بعنوان (( سائح في الشرق العربي )) .

(10)  ظهر مجموع هذه المحاضرات التي ألقاها الأستاذ أبو الحسن في مدرج الجامعة الكبير في دمشق وهي اثنتا عشرة محاضرة باسم (( رجال الفكر والدعوة في الإسلام )) من مطبعة جامعة دمشق سنة 1960 م .

(11)  Sale's Translation, p. 62 ( 1896)

(12)  فتح العرب لمصر ، تعريب محمد فريد أبو حديد ، ص 37 – 38 .

(13)  Encyclopeadia Britanica .See Justin

(14)  The History of Decline and Fall of the Roman Empire by Edward Gippon v. 3 . p .

(15)  Sale's Translation, p.72 ( 1896)

(16) The History of Decline and Fall of the Roman Empire V. Y . P . 13 .

(17)  The History of Decline and Fall of the Roman Empire V. Y . P . 13 .

(18)  Historian's History of the World V . VII p . 175 .

(19)  حضارة العرب ، تعريب عادل زعيتر ، الفصل الرابع (( العرب في مصر صفحة 336 .

(20)  فتح العرب لمصر ، ص 47 .

(21)  المصدر السابق .

(22)  Historian's History of the World , V . VII p. 173 .

(23) A Short History of the World .H . G . Wels  

(24)  The Making of Humanity, Robert Briffault P . 164 .

(25)  كتاب الخطط المقريزية ، ج4 ص 392 .

(26)  Historian's History of the World V . 8 . P . 84 .

(27)  تاريخ الطبري ج3 ص 138 .

(28)  إيران في عهد الساسانيين ، ترجمة الدكتور محمد إقبال من الفرنسية إلى الأردية ص 439 . 

(29)  (( إيران في عهد الساسانيين )) ص 430

(30)  الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 86 .

(31)  تاريخ الطبري ج 2 ص 88 .

(32)  المصدر السابق .

(33)  راجع تاريخ الطبري ج 2 ، وتاريخ إيران لمكاريوس .

(34)  (( إيران في عهد الساسانيين )) ص 590 .

(35)  أيضاً ص 420 .

(36)  أيضاً ص 418 .

(37)  أيضاً ص 418 .

(38)  أيضاً ص 422 .

(39)  أيضاً ص 422 .

(40)  (( إيران في عهد الساسانيين )) ص 421 .

(41)  الطبري ج4 ص 108 .

(42)  انظر تاريخ إيران تأليف شاهين مكاريوس ص 221 – 224 .

(43)  الزائر لمتحف تكسلا في غربي بنجاب (( باكستان )) يندهش من رؤية كثرة التماثيل البوذية التي استخرجت من حفائر المدن البوذية المطورة ويعرف أن هذه الديانة والمدنية أصبحتا وثنيتين تماماً .

(44)  الهند القديمة (( اردو )) للأستاذ ايشور اتويا .

(45)  Jawahar Dal Nehru : The Discovery of India P . 201 202 .

(46)  أيضاً .

(47)  اقرأ مقالة (( بوذا )) في دائرة المعارف البريطانية .

(49)  رحلة هوئن سوئنج (( فوكوي كي )) الدولة الغربية .

(50)  أيضاً .

(51)  ستيارته بركاش لديالند سرسوتي الهندكي ص 344 .

(52)  منوشاستر : الباب الأول .

(53)  أيضاً .

(54)  الباب الثامن .

(55)  الباب التاسع .

(56)  الباب التاسع .

(57)  الباب الثاني .

(58)  منوشاستر الباب الحادي عشر .

(59)  أيضاً .

(60)  الباب العاشر .

(61)  أيضاً .

(62)  الباب الثامن .

(63)  منوشاستر

(64)  R . C . Dutt 342 – 343 .

(65)  اقرأ استهلال قصة مها بهارات ( الملحمة الهندية الكبرى ) .

(66)  R . C . Dutt 331 .

(67)  صاعد الأندلسي م 462 ، طبقات الأمم ص 11 .

(68)  راجع كتاب (( بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن )) – للأستاذ محمد عزت دروزة .

(69)  كتاب الأصنام ص 33 .

(70)  كتاب الأصنام ص 33 .

(71)  الجامع الصحيح للبخاري كتاب المغازي باب فتح مكة .

(72)  الجامع الصحيح للبخاري كتاب المغازي باب وفد بني حنيفة  .

(73)  كتاب الأصنام .

(74)  كتاب الأصنام ص 44 .

(75)  أيضاً ص 34 .

(76)  طبقات الأمم لصاعد ص 430 .

(77)  أيضاً ص 44 .

(78)  اقرأ كتاب المخصص لابن سيده ج 11 ص 82 – 101 .

(79)  السبع المعلقات ، معلقة لبيد .

(80)  ديوان الحماسة .

(81)  ديوان الحماسة .

(82)  ديوان الحماسة .

(83)  تفسير الطبري : تفسير آية ((إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء )) الآية .

(84)  تفسير الطبري (( ج 4 ص 59 )) .

(85)  تفسير الطبري ، ص 69 .

(86)  تفسير الطبري ،ج18 ص 401 .  .

(87)  الجامع الصحيح للبخاري كتاب النكاح باب من قال : لا نكاح إلا بولي .

(88)  سورة البقرة ، آية 232 .

(89)  النساء آية 19 .

(90)  تفسير الطبري ج 4 ص 308 .

(91)  سورة البقرة ، آية 231 .

(92)  النساء : آية 139 .

(93)  الأنعام 140 .

(94)  النساء آية 3 .

(95)  اقرأ بلوغ الأرب في أحوال العرب للآلوسي .

(96)  كتاب الأغاني .

(97)  بلوغ الأرب .

(98)  أيضاً .

(99)  سورة البقرة آية 199 .

(100)  ديون الحماسة .

(101)  انظر أيام العرب .

(102)  انظر أيام العرب .

(103)  البذرقة : الخفارة والحراسة .

(104)  تاريخ الطبري ج2 ص 133 .

(105)  رواه الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس عن سلمان ورواه الحاكم في مستدركه . والرواية لاتصال سندها وعدالة رواتها من أصح الوثائق التاريخية عن الجاهلية وحالتها الدينية .

(106)  تاريخ الصين لجميز كاركرن .

(107)  The Making of Humanity, by Robert Briffault p 159 .

(108)  فتح العرب لمصر للدكتور الفرد .ج . بتلر ، تعريب محمد فريد أبو حديد .

(109)  خطط الشام للأستاذ كرد علي ج 1 ص 101 .

(110)  أيضاً ج 1 ص 103 .

(111)  إيران في عهد الساسانيين ص 161 .

(112)  إيران في عهد الساسانيين ص 162.

(113)  إيران في عهد الساسانيين ص 611 .

(114)  إيران في عهد الساسانيين ص 590 .

(115)  The Making of Humanity p 160 .

(116)  أيضاً ص 424 .

(117)  أيضاً ص 424 .

(118)  تاريخ إيران لشاهين مكاريوس طبع 1898 ص 90 .

(119)  أيضاً ص 211 .

(120)  تاريخ الطبري .

(121)  تاريخ الطبري  ج4 ص 178 .

(122)  الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني ج14 ، ص 2 .

(123)  تاريخ الطبري  ج 4 ص 6 .

(124)  أيضاً ص 11 .

(125)  أيضاً ص 134 .

(126)  (( إيران في عهد الساسانيين )) لأرتهر كرستن : ص 681 .

(127)  تاريخ الطبري  ج4 ص 161 .

(128)  (( إيران في عهد الساسانيين )) لأرتهر كرستن : ص 681 .

(129)  خطط الشام للأستاذ كرد علي ج5 ص 47 .

(130)  خطط الشام للأستاذ كرد علي ج5 ص 47 .

(131)  وهو شيخ الإسلام ولي الله بن عبدالرحيم الدهلوي ( م 1176 هـ ) .

(132)  فسقية .

(133)  حجة الله البالغة (( باب إقامة الارتفاقات وإصلاح الرسوم ))

(134) منعت حكومة أمريكا الخمر ، وطاردتها في بلادها واستعملت جميع وسائل المدينة الحاضرة كالمجلات والجرائد والمحاضرات والصور والسينما لتهجين شربها وبيان مضارها ومفاسدها ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على 60 مليون دولار ، وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على 10 بلايين صفحة ، وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاماً لا يقل عن 250 مليون جنيه ، وقد أعدم فيها 300 نفس ؛ وسجن 532335 نفس ، وبلغت الغرامات إلى 16 مليون جنيه ، وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة ملايين جنيه ، ولكن كل ذلك لم يزد الأمة الأمريكية إلا غراما بالخمر وعناداً في تعاطيها ، حتى اضطرت الحكومة سنة 1933 م إلى سحب القانون وإباحة الخمر في مملكتها إباحة مطلقة (( من كتاب تنقيحات للأستاذ أبي الاعلى المودودي )) 

(135)  البداية والنهاية لابن كثير الدمشقي ص 43 ج 3 .

(136)  إن غاندي الزعيم الهندي الكبير هدف من أول حياته السياسية والروحية إلى مبدأين عظيمين حصر فيهما زعامته السياسية وشخصيته الروحية القوية النادرتين في هذا العصر جعلهما شعاراً لمبدئه : الأول " لا عنف ولا مقاومة " وقد دعا إلى هذا المبدأ كديانة وفلسفة ، وظل سنين طوالا يدعو إليه بخطبه ومقالاته وصحفه ، واستنفد في ذلك جهوده ولما لم يكن ذلك عن طريق التغيير النفسي وعن طريق الدعوة الدينية الأساسية لم تؤثر دعوته في نفسية أمته تأثيراً عميقاً ، وقد جعلت هذه الأمة دعوته هباء منثورا في الاضطرابات الطائفية العظيمة التي وقعت في بنجاب الشرقية ودلهي عاصمة الهند في سبتمبر سنة 1947م التي قتل فيها من المسلمين أكثر من نصف مليون ، وكانت مجزرة هائلة وقع فيها من القسوة والهمجية والاعتداء على الأطفال والنساء والأعراض ما لا يكاد يصدقه المؤرخون ، حتى انتهت باغتيال هذا الرجل العظيم الذي بلغت به أمته حد التقديس والتأليه .

والمبدأ الثاني : نسخ اللمس المنبوذ ، ولم ينجح في مهمته هذه كذلك نجاحاً يعتد به ، فكان ذلك برهاناً سطعاً على أن طريق الأنبياء هو الطبيعي الصحيح في الإصلاح والتغيير . 

(137)  البداية والنهاية ج 3 ص 33 .

(138)  صحيح مسلم ، كتاب الحدود .

(139)  تاريخ الطبري ج 4 ص 16 .

(140)  البداية ج 3 .

(141)  متفق عليه .

(142)  رواه مسلم .

(143)   رواه مسلم .

(144)  زاد المعاد ج3 ص 135 .

(145)  زاد المعاد ج3 ص 190.

(146)  زاد المعاد ج2 ص 332 .

(147)  تفسير ابن كثير ، سورة الحجرات .

(148)  رواه ابن أبي حاتم .

(149)  رواه الإمام أحمد .

(150)  رواه أبو داود .

(151)  رواه أبو داود .

(152)  رواه البخاري .

(153)  تفسير ابن كثير

(154)  حديث متفق عليه .

(155)  حديث متفق عليه .

(156)  البداية والنهاية ج3 ص 30 .

(157)  رواه ابن إسحاق إمام المغازي ، ورواه البيهقي مرسلاً ، والجلل : الحقيرة

(158)  البداية والنهاية ج4 ص 63 .

(159)  زاد المعاد ج2 ص 134 .

(160)  أيضاً ص 130 .

(161)  أيضاً ص 136 .

(162)  سيرة ابن هشام ، ذكر الأسباب الموجبة للمسير إلى مكة .

(163)  زاد المعاد ، ج3 ص 125 .

(164)  أيضاً .

(165)  متفق عليه .

(166)  متفق عليه .

(167)  متفق عليه .

(168)  الباطية : إناء من زجاج يملأ من الشراب .

(169)  رواه ابن جرير بسنده في التفسير عند قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ } الآية ، تفسير الطبري 7 .

(170)  تفسير الطبري ج28 .

(171) حديث متفق عليه .

(172)  البداية والنهاية لابن كثير .

(173)  من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع .

(174)  القصة بتمامها في تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي .

(175)  عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به )) . رواه البخاري في الجامع الصحيح ، كتاب العلم .

(176)  يعني سواء في ذلك العلوم الشرعية والعلوم العقلية .

(177)  المقدمة ص 499 .

(178)  رواه أحمد بن مروان المالكي في المجالسة .

(179)  البداية والنهاية ج 7 ص 53 .

(180)  البداية والنهاية ج 7 ص 16.

(181)  سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي .

(182)  Mohammad Asad "Leopold Weiss " , Islam At The Cross Roads Fifth Edition p . 29 .

(183)  سبتمانيا مقاطعة فرنسية قديمة في الجنوب الغربي لفرنسا على البحر الأبيض المتوسط

(184)  السهوة : النافذة بين الدارين . والقرام : الستر

(185)  Haine's Christianity of Islam in Spain p. 116 .

(186)  ضحى الإسلام ج1 ص 164 – 165 .

(187)  Influence of Islam on Indian Culture by Doctor Tara Chand .

(188)  A Survey of Indian . History p . 132 .

(189)  p . 190 .

(190)  p. 202 .

(191)  اقرأ في هذا الموضوع كتاب المؤلف (( رجال الفكر والدعوة في الإسلام )) طبع في دمشق .

(192)  المجدار : ما ينصب في الزرع لطرد الطير والوحش .

(193)  غزا الأسطول العربي القسطنطينية بقيادة بسر بن أرطأة سنة 44 للهجرة وفق سنة 664 للمسيح ، وحاصر يزيد بن معاوية القسطنطينية سنة 52 هجرية وفق سنة 672 مسيحية ، وحصرها العرب أربع مرات على الأقل بعد ذلك ، ولم يفتحوها لمنعتها .

(194)  من حواشي الأمير شكيب ارسلان على (( حاضر العالم الإسلامي )) الجزء الأول ، ص 220 ، الطبعة الثانية .

(195)  فلسفة التاريخ العثماني لمحمد جميل بيهم . ص 280 – 281

(196)  (( صراع الشرق والغرب في تركيا )) : محاضرات في الإنجليزية لخالدة أديب ألقتها في الجامعة الملية الإسلامية ، الخطبة الثانية (( انحطاط العثمانيين )) ص 40 – 43 .

Conflict of East and West in Turkey by Halide Edib P . 40 – 43 .  

(197)  انظر تراجمهم في كتاب نزهة الخواطر للعلامة عبدالحي الحسني المجلد الخامس والسادس والسابع .

(198)  تاريخ أخلاق أوربا .

History of European morals ( The pagan empire ) .

(199)  المصدر نفسه .

(200)  Islam at the Cross Roads p . 38 – 39 .

(201)  Conflict of Religion & Science .

(202)  اقرأ تاريخ أخلاق أوربا (( ليكي ))

Lecky : History of European Morals Chapter IV .

(203)  History of European Morals .part II Chapter IV, from Constantine to Charlemagne .

(204)  من كلام شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية م 727هـ في كتابه ((اقتضاء الصراط المستقيم ومخالفة أصحاب الجحيم)) ص143 .

(205)  ابن تيمية في كتابه (( النبوات )) .

(206)  رواه أبو داود بإسناده عن أنس ، وأحمد ، والنسائي .

(207)  حديث متفق عليه .

(208)  History of European Morals II Chapter IV

(209)  Conflict of Religion and Science .

(210)  Islam At the Cross Roads, p . 50 . Fifth Edition .

(211)   . Islam At the Cross Roads, p, 40

(212)  Guide to Modern Wickedness p . 114 – 115 .

(213)  الغارات الجوية لأغا محمد أشرف الدهلوي ص 71 .

(214)  أيضاً ص 70 .

(215)  Guide to Modern Wickedness p .  235 – 236 .

(216)  Convocation Adress of Lord Lothian at Muslim University Aligarh . 

(217)  محاضرات (( خالدة أديب هانم )) في الجامعة الملية بدلهي .

(218)  من حواشي الأمير (( شكيب أرسلان )) على حاضر العالم الإسلامي الجزء الأول ص 158 – 159 .

(219)  حواشي حاضر العالم الإسلامي الجزء الأول ص 164 – 165 .

(220)  Guide to Modern Wickedness . p . 150 .

(221)  عولنا في هذه الأعداد على إحصاء مؤلف السيرة النبوية الشهيرة القاضي محمد سليمان المنصور فوري في المجلد الثاني من كتاب سيرة رحمة للعالمين ولم يغادر من الغزوات والبعوث والمناوشات صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، أما احصاءات غيره من المؤلفين فإنها تمثل عدداً أقل من هذه الأعداد .

(222)  وقد حقق المستر هـ . تاونسند E. H. Tawansend  في مقالة له نشرتها صحيفة هندو الانكليزية اليومية ( 31 يناير 1943 م ) أن عدد المصابين في الحرب الكبرى لا يقل عن 37,513,886 المقتولون منهم 8,543،515 .

(223) من مقالة لتاونسند في صحيفة هندو .

(224)  وقد صدقت فراسته ووقع تحت أعيننا ما تنبأ به وقد فاقت هذه الحرب الجارية الماضية فتكاً بالأرواح للعمران وتدميراً للبلدان ووقائع تشيب لهولها الوالدان وغلاء في السلع وارتفاعاً في الأسعار وأصابت الناس مجاعات شديدة في كثير من الأقطار 

(225)  Guide to Modern Wickedness . p . 153 .

(226)  Guide to Modern Wickedness . p . 180 .

(227)  Guide to Modern Wickedness . p . 180 .

(228) حرب منافسة وطمع اشتركت فيها فرنسا واسبانيا وإنجلترا وهولندة لتناول غنائم انتقصت فيها أطراف النمسا وممتلكاتها ونشبت على أثر وفاة فريدريك ملك النمسا وجلوس ابنته ماريا تيريزا على العرش بوصيته ورضا الدول سنة 1740 وانتهت سنة 1748 .

(229)  حروب اشتركت فيها فرنسا وروسيا وسويدن وأكثر إمارات الدول الألمانية وبروسيا وانجلترا حماية لبعضها ، واعتداء على بعضها ابتدأت سنة 1756 وانتهت سنة 1763 .

(230)  Guide to Modern Wickedness . p . 191 .

(231)  Guide to Modern Wickedness . p . 241.

(232)  Guide to Modern Wickedness . p . 261.

(233)  Guide to Modern Wickedness . p .293.

(234)  Guide to Modern Wickedness . p . 247 .

(235)  Guide to Modern Wickedness . p .262  .

(236)  Guide to Modern Wickedness . p .262  .

(237)  ( Man the Unknown )

(238)  المصدر السابق .

(239)  المصدر السابق .

(240)  المصدر السابق .

(241)  تنقيحات ، مقالة أمم العصر المريضة ص 24 – 25 – 26 .

(242)  حديث الشيخ الصالح السيد علي الهجويري دفين لاهور أن شيخه أمره بالرحلة إلى لاهور والإقامة فيها ، فاعتذر بأن هناك  زميله الشيخ حسين الزنجاني فلا لزوم لذهابه ، فقال : لا بد أن تذهب وتقيم بها : قال : فشددت رحلي وامتثلت أمر الشيخ ووصلت إلى لاهور في الليل وقد غلقت أبوابها فبت ليلتي خارج السور . ولما أصبحت وفتح باب السور إذا بالناس يحملون جنازة الشيخ حسين ، فعرفت سر أمر الشيخ ودخلت البلد . وخلفته في عمله دعاء الخلق إلى الله ( كشف المحجوب للهجويري )

(243)  التذكرة الآدمية ( الفارسية ) .

(244)  نزهة الخواطر ، المجلد الخامس ، للشيخ عبدالحي الحسني .

(245)  ذيل الرشحات ( الفارسية )

(246)  در المعارف ( الفارسية ) ، نزهة الخواطر ( العربية ) .

(247)  در المعارف

(248)  هو السير السيد أحمد خان صاحب الدعوة إلى التعليم الإنجليزي في الهند ومؤسس الجامعة الشهيرة في عليكرة .

(249)  آثار الصناديد ( الأوردية )

(250)  در المعارف ( الفارسية ) .

(251)  الكلمات التي بين القوسين منقولة لفظاً .

(252)  نزهة الخواطر للشيخ عبدالحي الحسني ( المجلد السادس ) .

(253)  { َأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } . ( الحديد )

(254)  تمعدد الغلام : شب وغلظ . وقيل معناه : تشبهوا بعيش معد بن عدنان وكان ذا غلظ وتقشف .

(155)  اخشوشن : تخشن في المطعم والملبس .

(256)  اخشوشب : صار صلباً كالخشب في أحواله وصيره على الجهد .

(257)  تبذلوا في الملابس .

(258)  رواه البغوي عن أبي عثمان النهدي .

(259)  رواه البخاري .

(260)  رواه مسلم .

(261)  اقرأ في ذلك كتاب : Forced Labour in Russia

لمؤلفه : Professor Ernest Tallgren

(262)  تضم سورة الإسراء وقصة المعرج وإعلانات بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو نبى القبيلتين وإمام المشرقين والمغربين ووارث الأنبياء قبله وإمام الأجيال بعده .