13.7 تقسيم غنائم غزوة حنين:

وكره رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن يقسم على الناس هذه الغنائم، وتأنّى، يبتغي أن يرجع القوم إليه تائبين، فيحرزوا ما فقدوا.
ومكث ينتظرهم بضع عشرة ليلة فلم يجئه أحد.
فشرع يسكت المتطلِّعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة ، وبدأ بقسمة المال فكان المؤلفة قلوبهم أول من أعطي، بل أول من حظي بالأنصبة الجزلة.
أخذ (أبو سفيان) مائة من الإبل، وأربعين أوقية من الفضة، فقال: وابني معاوية؟ فمنح مثلها لابنه معاوية، فقال: وابني يزيد؟ فمنح مثلها لابنه يزيد وأقبل رؤساء القبائل وأولو النَّهمة يتسابقون إلى أخذ ما يمكن أخذه.
وشاع في الناس أن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
فازدحموا عليه يبغون المزيد من المال، وأكبّ عليه الأعراب يقولون: يا رسول الله اقسم علينا فيئنا، حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت رداءه! فقال:
أيها الناس، رُدَّوا عليَّ ردائي فو الذي نفسي بيده لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً.
ثم قام إلى جنب بعير فأخذ من سنامه وَبرَةً، فجعلها بين أصبعيه، ثم رفعها فقال:
أيها الناس، والله مالي من فيئكم ولا هذه الوبرة، إلا الخمس، والخمس مردود عليكم.

إن أعين القوم تكاد تخرج من المحاجر تطلعاً إلى الدنيا.
وهؤلاء الأعراب والطلقاء والرؤساء ما أغنوا عن الإسلام شيئاً في مآزقه الأولى، بل كانوا هم العقاب الصلدة التي اعترضت مسيله حتى تحطمت تحت معاول المؤمنين الراغبين في ثواب الآخرة المؤثرين ما عند الله.
ولكنهم اليوم -بعدما أعلنوا إسلامهم- يبغون من الرسول أن يفتح عليهم خزائن الدنيا؛ فحلف لهم أنه ما يستبقي منها شيئاً لشخصه، ولو امتلك ملء هذه الأودية مالا لوزَّعه عليهم.
والحق أن الرسول وسع بحلمه وكرمه مسالك بينة للطيش والجشع في سبيل تألفِ هؤلاء الناس وتحبيبهم في الإسلام.
ولو عاقبهم على جبنهم في "حنين" لنالَ منهم أي منال.
روى الإمام أحمد أن "أبا طلحة" -وهو من فرسان المسلمين المعدودين- لقي زوجته "أم سُلَيْم" ومعها خنجر، فقال لها: ما هذا؟ قالت: إن دنا مني بعض المشركين أبعج بطنه -وذلك في معركة حنين- فقال أبو طلحة لرسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): أما تسمع ما تقول أم سُلَيم ؟ فضحك النبيُّ. فقالت أم سليم: يا رسول الله، اقتل من بعدها الطلقاء...انهزموا بك! فقال: إن الله قد كفى وأحسن يا أم سليم.
والعجيب أن هؤلاء الذين فرَّوا عند الفزع، هم الذين كثروا عند الطمع. وشاء النبي أن يلطف معهم، وينسى ماضيهم تكرماً وتأليفاً.
وماذا يصنع؟ إن في الدنيا أقواماً كثيرين يقادون إلى الحق من بطونهم لا من عقولهم، فكما تهدَى الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم تظل تمد إليها فمها حتى تدخل حظيرتها آمنة! فكذلك هذه الأصناف من البشر تحتاج إلى فنون من الإغراء حتى تستأنس بالإيمان وتهشَّ له.
عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، قال: مُرْ لي من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه، فضحك: ثم أمر له بعطاء".. إن هذا الأعرابي لا يعجبه المنطق الدقيق، ولا الطبع الرقيق، قدر ما يعجبه من عطاء يملأ جيوبه، ويسكِّن مطامعه.
ومن هنا قال صفوان بن أمية: ما زال رسول الله يعطيني من غنائم "حنين" وهو أبغض الخلق إليّ، حتى ما خلق الله شيئاً أحبَّ إليَّ منه.