7.7 ذكر غزوة مؤتة:
عزَّ على المسلمين مصرع رسولهم إلى أمير بصرى، والطريقة الشائنة التي عومل بها، فقد أوثق شرحبيل بن عمرو رباطه ثم قدمه فضرب عنقه، ولم يقتل أحد غيره من بعوث الرسول الكثيرة إلى الآفاق، والرسل لا يقتلون، لذلك كان وقْع هذه الإهانة شديداً على المسلمين، فعزموا على الاقتصاص لرجلهم، وعلى زلزلة الوالي الأثيم الذي صنع ما صنع لحساب الرومان. وضربة ذات فرع تقذف الزبدا! بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا! يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا! طيبةً، وبارداً شرابهــــــــــــــــــا! كافرة بعيدة أنسابها! هذا حِمام الموت قد صليت! إن تفعلي فعلهما هديت!
وتجهز المسلمون في جيش يعتبر بالنسبة لهم كبيراً، إذ بلغت عدته ثلاثة آلاف، وخرج أهل المدينة يودِّعون الجيش الزاحف وهم يقولون: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال عبدالله بن رواحة يردُّ على هذا الوداع:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة
أو طعنةً بيديْ حرَّانَ مُجْهِزَةً
حتى يقال -إذا مروا على جدثي-
ورتب النبيُّ قادة الجيش، فجعل الأمير زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر، فعبدالله بن رواحة.
وانطلق الجيش إلى مشارف الشام.
إلا أن أخباره سبقته إلى الروم، ولابد أن تهاويل كثيرة أحاطت بسمعة المسلمين وطاقاتهم الحربية مما جعل القوم يستعدون للقتال بجيش كثيف.
فلما وصل المسلمون إلى "معان" عرفوا أن في انتظارهم مائة ألف من الروم، ومائة ألف أخرى من نصارى العرب.
والهجوم على جيش تلك عدته مجازفة مخوفة، فأقام المسلمون ليلتين بـ "معان" يتدبرون أمرهم، وقال نفر منهم: نكتب إلى رسول الله نخبره بعدد عدونا، فإما أن يُمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، ولم يرُقْ لعبدالله بن رواحة فشجَّع الناس قائلاً: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون. -الشهادة-! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنييْن: إما ظهور وإما شهادة.
وكان لهذه الكلمة الملتهبة أثرها، فاختفت من صفوف المسلمين مشاعر التردد وقرروا القتال مهما كانت النتائج.
وابن رواحة شاعر حاد العاطفة، وقد أحس منذ خروجه أن الاستشهاد مقبل عليه فهو يتهيأ له بقلبه ولسانه، وقد تكون الحكمة العسكرية في تصرف غير ما أوحى به، غير أن المسلمين ما إن سمعوا حديث الفداء والموت في سبيل الله حتى جاشت بأنفسهم محبة الآخرة، ثم ذكروا أنهم نُصروا في معارك سابقة باستعداد أقل من عدوهم فأقدموا مطمئنين.
عن أبي هريرة قال: شهدت مؤتة ، فلما دنا المشركون رأينا ما لا قبل لأحد به من العدّة والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري!! فقال لي ثابت بن أقرم: يا أبا هريرة كأنك ترى جموعاً كثيرة؟ قلت: نعم -وأبو هريرة ممن أسلموا بعد الحديبية - فقال له ثابت: إنك لم تشهد بدراً معنا، إنا لم ننصر بالكثرة.
والتقى الجمعان، وعبثٌ أن ننتظر من ثلاثة آلاف بطل أن يصاولوا في ميدان مكشوف فيالق تربو عليهم سبعين ضعفاً.
قاتل زيد بن حارثة براية رسول الله حتى شاط في رماح القوم.
وتلقف الراية جعفر بن أبي طالب فأقبل على الروم يجالدهم بعنف.
روى أبو داود حديث شاهد عيان يقول: لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم على فرس له شقراء ثم عقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل وهو ينشد:
يا حبذا الجنة واقترابـــــــــــها!
والروم روم قد دنا عذابها
عليَّ إن لاقيتها ضرابــــــــــــها!
قيل إن رجلا من الروم ضَرَبه ضربةً قطعه نصفين...
وقيل: أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل، وقد رزق جعفر هذه الشهادة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
فلما قتل حمل عبدالله بن رواحة الراية، ثم تقدم بها وهو على فرسه، فلما أحس دقة الموقف وشدة الضغط عراه بعض التردد، ثم أقنع نفسه بورود المصير الذي ذاق صاحباه، فأقبل على الساحة المضطرمة وهو يقول:
يا نفس إن لا تقتلي تموتي!
وما تمنَّيتِ فقد أعطيتِ!
ثم أقدم، وجاءه ابن عم له بقطعة لحم فناولها إياه وهو يقول: شُدَّ بها صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فما كاد يقطع منها مضغة حتى سمع الحطمة في ناحية من الجبهة استعرت بها الحرب، فقال لنفسه: وأنت في الدنيا ؟ ورمى بالطعام من يده..ثم انتضى سيفه وتقدم حتى قتل...
وأخذ الراية التي تداولتها أيدي الأمراء الثلاثة ثابت بن أقرم، وصاح يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم! قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل! فاصطلح الناس على "خالد بن الوليد"، وثابت أبى القيادة لا نكوصاً عن الموت بل شعوراً بوجود الأكفأ منه في الجماعة، وحملانه الراية خشية أن تسقط من آيات الجرأة في هذا الموقف العصيب. وليت كل امرىء يعرف أقدار الناس ينزلهم منازلهم التي يستحقونها، فلا يكلف أمته أن تحمل عجزه وأثرته..
وأخذ الراية "خالد" فشرع يقاتل ويحتال للخلوص بالجيش من هذا المأزق المتضايق.
وقتال الانسحاب شاق مرهق، خصوصاً وخالد لا يريد إشعار الروم بهذه الخطة. روى البخاري عن خالد: اندقت في يدي يوم "مؤتة" تسعة أسياف، وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية، ودخل الليل على المتحاربين فكان هدنة مؤقتة فلما طلع الصبح كان خالد قد أعاد تنظيم قواته القليلة، فجعل المقدمة ساقة والميمنة ميسرة.
وجعل هدفه مناوشة الرومان بحيث يلحق بهم أفدح الخسائر دون أن يعرض كتلة الجيش لالتحام عام، وقد أفلحت هذه الخطة في إنقاذ الآلاف القليلة التي معه، وإنقاذ سمعة المسلمين في أول معركة لهم مع الدولة الكبرى.
والعجيب أن الرومان أعياهم هذا القتال وأصيبوا فيه بخسائر كبيرة؛ بل إن بعض فرقهم انكشف، وولَّى مهزوماً. واكتفى خالد بهذه النتيجة، وآثر الانصراف بمن معه.
عن أنس بن مالك أن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب -وعيناه تذرفان- قال: ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم. وروى ابن إسحاق عن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، لقد رفعوا إلى الجنة -فيما يرى النائم- على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبدالله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه، فقلت: ممَّ هذا؟ فقيل لي: مَضَيا، وتردد عبدالله بعض التردد، ثم مضى.
والدلالة التي تعلو على الريب في هذه المعركة أن شجاعة المسلمين وبسالتهم بلغتا حداً لم تعرفه أمة معاصرة، وقد أكسبهم هذا الروح العالي إقداماً حقَّر أمامهم كبرياء الأمم التي عاشت مع التاريخ دهراً تصول وتجول لا يقفها شيء.
إن الاستهتار بالخطر والطيران إلى الموت ليس فروسية احتكرها الرجال المقاتلون وحدهم، بل هي قوة غامرة قاهرة تعدت الرجال إلى الأطفال، فأصبحت الأمة كلها أمة كفاح غال عزيز. وحسبك أن جيش "مؤتة" لما عاد إلى المدينة قابله الصبية بصيحات الاستنكار يقولون: يا فُرَّار، فررتم في سبيل الله؟ إن أولئك الصغار الأغرار يرون انسحاب خالد ومن معه فراراُ يُقابل بِحَثْوِ التراب. أي جيل قوي نابه هذا الجيل الذي صنعه الإيمان بالحق!؟ أي نجاح بلغته رسالة الإسلام في صياغة أولئك الأطفال العظام؟ من آباؤهم؟ من أمهاتهم؟ كيف كان الآباء يربون؟ وكيف كانت الأمهات يدللن؟.
إن مسلمة اليوم بحاجة ماسة إلى أن تعرفَ هذه الدروس..
تحدث النبي (صلَّى الله عليه وسلم) عن قادة الجيش الذين قتلوا، فقال لأصحابه: "ما يسرهم أنهم عندنا" أجل، إن الجوار الذي صاروا إليه أحب لنفوسهم وأقرُّ لعيونهم من الدنيا وما فيها ومن فيها. أما أسَرُهم ففي كفالة الله، وهو نعم المولى ونعم النصير.
عن عبدالله بن جعفر -ابن الشهيد- جاءنا النبي (صلَّى الله عليه وسلم)، بعد ثلاث من موت جعفر فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم، وادعوا لي بني أخي".
قال عبدالله: فجيء بنا كأننا أفراخ، فقال: ادعوا إليَّ الحلاق، فجيء بالحلاق فحلق رؤوسنا، ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام -مداعباً-: أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب. وأما عبدالله فشبيه خَلْقي وخلقي. ثم أخذ بيدي فأشالها وقال: اللهم اخلُف جعفراً في أهله، وبارك لعبدالله في صفقة يمينه -قالها ثلاث مرات.
قال عبدالله: وجاءت أمنا فذكرت له يتمنا، وجعلت تحزِّنه، فقال لها النبي: "العَيْلَة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة".؟؟
ولم يرَ المسلمون في نتائج "مؤتة" ما يسكن ثائرتهم، فإن القبائل المتنصرة بالشمال استظهرت بالرومان على مقاتلتهم، واستطاعت بذلك النجاة من عدوانها على الحارث بن عمير، ولابد من قذف الرعب في قلوبها، وإشعارها بأن بعوث الإسلام لا تلقى هذا الهوان. وهكذا اتجه نشاط المسلمين العسكري إلى ميدان جديد بعيد.