4.7 غزو المسلمين لفيافي نجد وتأديب الأعراب:

أما عبدة الأصنام من البدو فإن المسلمين شرعوا يتعقبونهم مذ خلصوا من مشكلات اليهود. وقد أشرنا إلى أن شمل هؤلاء الأعراب انتكث بعد الموادعة التي تمت في الحديبية بين قريش والمسلمين. كانوا أمس يحاصرون دار الإسلام أحزاباً متحدة، لكن الحال تبدلت اليوم. تمزق بنو إسرائيل، وانسحب أهل مكة ، وأمكن للمسلمين أن ينفردوا بأولئك القوم قبيلة إثر قبيلة، ولن يعجز المسلمون عن حسم شرورهم ووقف فوضاهم. إن البدو جنس جاف غليظ، ولن ننسى أنهم حتى القرن الأخير كانوا يستمرئون الفتك بقوافل الحجاج، وقد يذبحون الحاج لدراهم معدودة.
وعلمهم بشؤون الدنيا وحقوق الآخرة يُعنى المدرسين، وقد بذل الإسلام جهوداً جبارة في رفع مستواهم المادي و الأدبي. إلا أن اغتيال الدعاة من القراء المربين جعل الإسلام يظهر رجاله هؤلاء بالقوة التي تمنع الشغب وتقطع دابر الفساد.
وكان بث السرايا في فيافي "نجد" من أهم ما شغل المسلمين بعدما رجعوا من خيبر في صفر من السنة السابعة حيث شدوا الرحال إلى مكة لعمرة القضاء كما نص على موعدها في عهد الحديبية .
ولا يعنينا كثيراً أن نتبع هذه السرايا في مسيرها فهي -وإن وطدت هيبة المسلمين العسكرية- أقرب إلى فرق الشرطة منها إلى الجيوش المعبأة.
والهدف الأكبر من بعثها توطيد الأمن، ومنع الغارات على المدينة ، وتمكين الدعاة إلى الله من أن يجوبوا الآفاق بتعاليم الرسالة دون غدر أو خيانة.
إن أحوال هذه القبائل قريبة الشبه بأحوال قرانا في عهد الإقطاع القريب، كان العمدة يملك ألف صوت ناخب في قريته، فالحديث عن الحرية السياسية في هذا الجو حديث خرافة. كذلك كان رؤساء القبائل الأولون، تلتف حولهم عشائرهم وبطونهم ليتناصروا في الحرب والسلم على ما يهوى السادة.
فإذا كثر في أولئك الحاكمين من يوصف بالأحمق المطاع، وإذا اشتغل أولئك الحمقى بالكر والفر على نحو ما قال دريد بن الصمة:
يُغار علينا واترين فيُشْتفى

بنا إن أُصِبنا، أو نُغير على وَتْر!

قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا

فما ينقضي إلا ونحن على شطر!

أفترى أن الدعاة يسيرون عزّلاً في هذه البيئة التي تخطف الأموال والعقائد؟.
إن العمل على توطيد الأمن شيء غير إكراه الناس على الإيمان، هدف الأول إقصاء الضغط والفتنة عن المجتمع حتى إذا آمن فرد في قبيل لم يجد من يصب عليه سوط عذاب. أما الآخر فيريد بالسوط أن يحمل الناس على عقيدة معينة.
والسرايا التي كان الرسول عليه الصلاة والسلام يسيِّرها إلى كل فج كانت تحمل معها كلام الله لتقرأ منه.
{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.
فالسعي لمعاجزة الآيات أمر خطير، ولو كانت معاجزة باللسان ما اكترث لها أحد، فهيهات أن تغلب الخرافة الحق في معرض جدل حر، إنها معاجزة بالسطو والقهر.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا..}.
فإذا تأهب التالي حتى لا يروح ضحيَّة هذا السَّطْو فهو يؤدي واجبه، وإذا سُخِّرت القوة لتطهير الحياة من أسباب هذا السطو فأيُّ غبارٍ على هذا العمل؟.
وقد مضى المسلمون في نشر الدعوة داخل جزيرة العرب على ذلك الأساس العادل، ومنذ أمضوا عهد الحديبية وهم دائبون على البلاغ والتبصرة، ولذلك نجحوا نجاحاً ملحوظاً في هذا المضمار، فدخلت قبائل كثيرة في عهدهم، على حين انصرفت جموع الأعراب عن قريش فلم يدخل في عهدهم أحد، وسير الأمور في هذا الاتجاه كان التمهيد الفعّال لغلبة الإسلام، ثم لفتح مكة نفسها فيما بعد.
والدعوة إلى الإسلام داخل الجزيرة لم تشغل النبي عن حق آخر من حقوق الله عليه، وهو إعلام الناس كافة بما آتاه الله من بينات.
فليرفع السراج إلى أعلى لتصل أشعته الهادية إلى مواطن أبعد، مواطن غرقت في الظلام دهراً.
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}.
فليتجه إلى المجوس، وإلى النصارى، يدعوهم إلى توحيد الله والإسلام له والخضوع لأحكامه...