20.6 ذكرغزوة الأحزاب (غزوة الخندق):
أيقنت طوائف الكفار أنها لن تستطيع مغالبة الإسلام إذا حاربته كل طائفة مفردة، وأنها ربما تبلغ أملها إذا رَمت الإسلام كتلة واحدة. وكان زعماء يهود في جزيرة العرب أبصر من غيرهم بهذه الحقيقة، فأجمعوا أمرهم على تأليب العرب ضد الإسلام وحشدهم في جيش كثيف ينازل محمداً (صلَّى الله عليه وسلم) وصحبه في معركة حاسمة.
وذهب نفر من قادة اليهود إلى قريش يستنفرونهم لحرب رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، وكانت قريش قد أخلفت عدتها مع النبي عاماً، وهي لابد خارجة لقتال المسلمين إنقاذاً لسمعتها وبراً بكلمتها، وهاهم أولاء رجالات يهود يحالفونهم على ما يبغون؛ فلا مكان لتوجس أو خلاف.
والغريب أن أحبار التوراة أكدوا لعبدة الأوثان في مكة أن قتال محمد (صلَّى الله عليه وسلم) حق، واستئصاله أرضى لله! لأن دين قريش أفضل من دينه! وتقاليد الجاهلية أفضل من تعاليم القرآن!. وسُرّت قريش بما سمعت، وزادها إصراراً على العدوان، فواعدت اليهود أن تكون معها في الزحف على المدينة.
وترك زعماء اليهود قريشاً إلى أعراب "غطفان" فعقدوا معهم حلفاً مشابهاً لما تم مع أهل مكة ، ودخل في هذا الحلف عدد من القبائل الناقمة على الدين الجديد.
وبذلك نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي (صلَّى الله عليه وسلم) ودعوته، وعرف المسلمون مبلغ الخطر المحدق بهم، فرسموا -على عجل- الخطة التي يدفعون بها عن دعوتهم ودولتهم، وكانت خطة فريدة لم تسمع العرب -قبلاً- بمثلها، وهم الذين لا يعرفون إلا قتال الميادين المكشوفة.
أما هذه المرة فإن المسلمين حفروا خندقاً عميقاً يحيط بالمدينة من ناحية السهل ويفصل بين المغيرين والمدافعين.
وأقبلت الأحزاب في جمع لا قِبَلَ للمسلمين برده.
قريش في عشرة آلاف من رجالها ومن تبعهم من "كنانة" و"تهامة" و"غطفان" في طليعة قبائل "نجد".
وبرز المسلمون بعدما جعلوا نساءهم وذراريهم فوق الآطام الحصينة من يثرب، ثم انتشروا على حدود مدينتهم مسندين ظهورهم إلى جبل سَلْع، ومرابطين على شاطىء الخندق الذي احتفروه بعد جهود مضنية، وبلغت عدتهم في هذه المعركة نحو ثلاثة آلاف مقاتل.
علم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن الالتحام مع هذه الجيوش الضخمة في ساحة ممهدة ليس طريق النصر؛ فما عسى أن تصنع قلة مؤمنة مكافحة مع هذا السيل الدافق؟!
لذلك لجأ إلى هذه المكيدة، ويروى أن الذي أشار بها "سلمان الفارسي" وتقدم النبي رجاله لإحكامها وإنجازها، فأخذ يحفر بيده ويحمل الأتربة والأحجار على عاتقه، وتأسى به الرجال الكبار ممن لم يألفوا هذا العمل قط، فشهدت يثرب منظراً عجيباً، وجوهاً ناصعة تتألف منها فرق شتى تضرب بالفؤوس وتحمل المكاتل، وتتعرى من لباسها وزينتها لتلبس حللاً من نسج الغبار المتراكم والعرق واللغوب.
قال البراء بن عازب، كان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبر بطنه وهو يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا
فأنزلنْ سكينة علينا
إن الألى قد بغوا علينا
وهذا الغناء من شعر "عبدالله بن رواحة" كان المشتغلون في الخندق يزيحون التعب عن أعصابهم بالاستماع إلى نغمه وترديد الكلمات الأخيرة من مقاطعه. وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يمد صوته بها معهم فيقول: لاقينا، أبينا، مما يعيد إلى أذهاننا صور "الفَعَلة" الذين يحفرون الترع بالريف، أو يبنون القصور بالمدن.
إن الدفاع عن الإسلام ومخافة الفتنة لو انتصر المشركون، جعلت الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) وصحابته يعالجون هذا العمل الثقيل ونفوسهم راضية مغتبطة مع ما يلقَون فيه من عناء وصعوبة.
ولا تحسبنَّ عمل رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) في تعميق الخندق وقذف أتربته من قبيل التمثيل الذي يحسنه بعض الزعماء في عصرنا. كلا. كلا.
إن الرجولة الكادحة الجادة في أنبل صورها كانت تقتبس من مسلك الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) في هذه المعركة. يقول البراء: لقد وارى عني التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر.
أجل إنه استغرق في العمل مع أصحابه، فالرجولة الصادقة لا تعرف التمثيل..
وكان الفصل شتاء، والجو بارداً، وهناك أزمة في الأقوات تعانيها المدينة التي توشك أن تتعرض لحصار عنيف، وليس هناك أقتل لروح المقاومة من اليأس فلو تعرَّض المحصور لسَوْراته القابضة فمزالق الاستسلام الذليل أمامه تنجرُّ به إلى الحضيض، لذلك اجتهد النبي (صلَّى الله عليه وسلم) في تدعيم القوى المعنوية لرجاله، حتى يوقنوا بأن الضائقة التي تواجههم سحابة صيف عن قليل تقشع.
ثم يستأنف الإسلام مسيره بعد، فيدخل الناس فيه أفواجاً، وتندكُّ أمامه معاقل الظلم، فلا يصدر عنها كيد ولا تخشى منها فتنة.
ومن إحكام السياسة أن يقارن هذا الأمل الواسع مراحل الجهد المضني.
قال عمرو بن عوف: كنت أنا، وسلمان، وحذيفة، والنعمان بن مقرِّن، وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً -من الأرض التي كلفوا بحفرها-، فحفرنا حتى وصلنا إلى صخرة بيضاء كسرت حديدنا وشقّت علينا، فذهب سلمان إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يخبره عن هذه الصخرة التي اعترضت عملهم وأعجزت معاولهم.
فجاء النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ من سلمان المعول، ثم ضرب الصخرة ضربة صدعتها، وتطاير منها شرر أضاء خلل هذا الجو الداكن، وكبر رسول الله عليه الصلاة والسلام تكبير فتح، وكبر المسلمون. ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك.
تفتتت الصخرة تحت ضربات الرجل الأيِّد الجلد الموصول بالسماء الراسخ على الأرض، ونظر النبي (صلَّى الله عليه وسلم) إلى صحبه وقد أشرق على نفسه الكبيرة شعاع من الثقة الغامرة والأمل الحلو، فقال -يحدث صحبه عن السنا المنقدح بين حديد المعول وحدة الصخرة-: لقد أضاء لي في الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها. وفي الثانية أضاء القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها. وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها،. فأبشروا، فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعود صادق!.
فلما انسابت الأحزاب حول المدينة وضيّقوا عليها الخناق لم تطر نفوس المسلمين شعاعاً، بل جابهوا الحاضر المرّ وهم موطدو الأمل في غد كريم.
{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}.
أما الواهنون والمرتابون ومرضى القلوب فقد تندروا بأحاديث الفتح، وظنوها أماني المغرورين، وقالوا عن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا.
وفيهم قال الله تعالى:
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}.
إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر بل معركة أعصاب.
فقتلى الفريقين من المؤمنين والكفار يعدون على الأصابع، ومع تلك الحقيقة فهي من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام؛ إذ إن مصير هذه الرسالة العظمى كان فيها أشبه بمصير رجل يمشي على حافة قمة سامقة، أو حبل ممدود، فلو اختل توازنه لحظة وفقد السيطرة على موقفه، لهوى من مرتفعه إلى وادٍ سحيق، ممزق الأعضاء، ممزع الأشلاء! ولقد أمسى المسلمون وأصبحوا فإذا هم كالجزيرة المنقطعة وسط طوفان يتهددها بالغرق ليلاً أو نهاراً. وبين الحين والحين يتطلع المدافعون: هل اقتحمت خطوطهم في ناحية ما من منطقة الدفاع؟ وكان المشركون يدورون حول المدينة غضاباً يتحسسون نقطة لينحدروا منها فينفسوا عن حنقهم المكتوم، ويقطِّعوا أوصال هذا الدين الثائر.
وعرف المسلمون ما يتربص بهم وراء هذا الحصار، فقرروا أن يرابطوا في مكانهم ينضحون بالنبل كل مقترب، ويتحملون لأواء هذه الحراسة التي تنتظم السهل والجبل، وتتسع ثغورها يوماً بعد يوم، وهم كما وصف الله تعالى:
{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}.
وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول المدينة على هذا النحو، فإن فرض الحصار وترقب نتائجه ليس من شيمهم. فخرج عمرو بن عبد ودّ وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، وأقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على حافة الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.
ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق، وضربوا خيلهم فاقتحمته، وأحس المسلمون الخطر المقترب؛ فأسرع فرسانهم يسدون هذه الثغرة يقودهم علي بن أبي طالب.
وقال علي لعمر بن عبد ود -وهو فارس شجاع معلم-: يا عمرو إنك عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه. قال: أجل، فقال علي: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام! قال عمرو: لا حاجة لي بذلك، قال علي: فإني أدعوك إلى النزال، فأجاب عمرو: ولم يا ابن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك -استصغاراً لشأنه- قال علي: لكني والله أحب أن أقتلك! فحمي عمرو، واقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ثم أقبل على عليّ، فتنازلا وتجاولا، فقتله عليّ، وخرجت خيل المشركين من الخندق منهزمة حتى اقتحمته هاربة.
وكان الأولاد في البيوت يرقبون جهاد المدافعين وحركاتهم السريعة لصد العدوان في مظانه، فعن عبدالله بن الزبير قال: جعلت يوم الخندق مع النساء والصبيان في الأطم، ومعي عمر بن أبي سلمة، فجعل يطأطىء لي فأصعد على ظهره فأنظر. قال: فنظرت إلى أبي وهو يحمل مرة هنا ومرة ها هنا، فما يرتفع له شيء إلا أتاه. فلما أمسى وجاءنا إلى الأطم قلت: يا أبت، رأيتك اليوم، وما تصنع، قال: رأيتني يا بني؟! قلت: نعم. قال الزبير -مدللاً ولده-: فدى لك أبي وأمي.
في هذه الآونة العصيبة جاءت الأخبار أن بني قريظة نقضوا معاهدتهم مع رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وانضموا إلى كتائب الأحزاب التي تحدق بالمدينة.
وذلك أن حيي بن أخطب -أحد النفر الذين حرضوا قريشاً وسائر العرب على حرب الإسلام- جاء إلى كعب بن أسد -سيد قريظة- وقرع عليه بابه، وكان كعب عند قدوم الأحزاب قد أغلق أبوابه ومنع حصونه، وقرر أن يوفي بالعهد الذي بينه وبين المسلمين، فلا يعين عليهم خصماً -وليته بقي على هذا العزم- إلا أن حيياً لزم الباب وهو يصرخ بكعب: ويحك افتح لي، فقال له كعب: إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمداً فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً! قال حيي: ويحك افتح لي أكلمك، قال: ما أنا بفاعل، فقال حيي: والله إن أغلقت بابك دوني إلا خوفاً على جشيشتك أن آكل معك منها!.
فأحفظ الرجل ففتح له..
ودخل حيي يقول: ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر وبحر طامٍّ! قال: وما ذاك؟ قال: جئتك بقريش على سادتها وقادتها حتى أنزلتهم إلى جانب "أحد" قد عاقدوني وعاهدوني على أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه.
قال كعب: جئتني -والله- بذلِّ الدهر، وبجهام قد هراق ماءه، فهو يرعدُ ويُبرق، وليس فيه شيء. دعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا وفاء وصدقاً!!
وتدخل آخرون فقالوا: إذا لم تنصروا محمداً كما يقضي الميثاق -فدعوه وعَدُوَّه.
بيد أن حيياً استطاع أن يقنع سائر اليهود بوجهة نظره، وأن يزين لهم الغدر في هذه الساعة الحرجة، وأن يضمهم إلى المشركين في قتالهم الذي أعلنوه وجعلوا الغاية منه ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه، ومضيَّاً في هذه الخطة الجائرة الخسيسة أحضرت قريظة الصحيفة التي كتب فيها الميثاق فمزقتها، فلما بعث النبي عليه الصلاة والسلام رجاله ليستجلوا موقف قريظة بإزاء عدوان الأحزاب قالوا: مَنْ رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد!.
وحاول سعد بن معاذ أن يذكرهم بعقدهم فتصامّوا عنه.
فلما خوفهم عقبى الغدر، وذكر لهم مصير بني النضير، قالوا له: أكلت أير أبيك..!
وتبين أن حرص قريظة الأول على التزام العهد كان خوفاً من عواقب الغدر فقط، فلما ظنت أن المسلمين أحيط بهم من كل جانب وأنها لن تؤاخذ على خيانة أسفرت على خيانتها وانضمت إلى المشركين المهاجمين.
ووجم المسلمون حين عادت رسلهم تحمل هذه الأنباء المقلقة، ورَبت مشاعر الكره في صدورهم لأولئك اليهود؛ حتى لأصبحوا أشوه أمام أعينهم من عباد الأصنام، ووعوا أتم الوعي أن بني إسرائيل أقدموا على قرارهم هذا وهم يعلمون معناه وعقباه، يعلمون أنه محاولة متعمدة للاجهاز على هذه الأمة ودينها، وتسليمها إلى من يقتل رجالها، ويسترق نساءها، ويبيع ذراريها في الأسواق.
وتقنع الرسول عليه الصلاة والسلام بثوبه حين أتاه غدر قريظة، فاضطجع ومكث طويلا حتى اشتد على الناس البلاء، ثم غلبته روح الأمل فنهض يقول: أبشروا بفتح الله ونصره! وفكر في أن يردَّ عن المدينة بعض القبائل التي فرضت الحصار لقاء ثلث الثمار يبذله لها ويتقي به شرها، وكاد يصل في مفاوضاته مع قواد غطفان إلى هذا الحل.
ولكن سادة الأوس والخزرج عز عليهم أن يرضوا به، وقدّروا للنبي عليه الصلاة والسلام شفقته عليهم وألمه لاجتماع العرب ضدهم؛ بيد أنهم قالوا: ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، وطال الحصار.
قال موسى بن عقبة: وأحاط المشركون بالمسلمين حتى جعلوهم في مثل حصن من كتائبهم، فحاصروهم قريباً من عشرين ليلة، وأخذوا بكل ناحية حتى لا يدري أثمَّ هم أم لا؟ -هل احتلوا البلد أم لا؟- قال: ووجهوا نحو مكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) كتيبة غليظة فقاتلها المسلمون يوماً إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت الكتيبة -من المكان- فلم يقدر النبي عليه الصلاة والسلام ولا أحد من أصحابه أن يصلُّوا الصلاة على نحو ما أرادوا.
وانكفأت الكتيبة المشركة مع الليل، فزعموا أن رسول الله قال: "شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقلوبهم ناراً".
فلما اشتد البلاء نافق ناس كثير، وتكلموا بكلام قبيح.
ورأى رسول الله ما بالناس من البلاء والكرب، فجعل يبشرهم ويقول: والذي نفسي بيده ليفرجنّ عنكم ما ترون من الشدة! وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمناً، وأن يدفع الله إليّ مفاتيح الكعبة! وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله.
ووقع ثقل المقاومة على أصحاب الإيمان الراسخ والنجدة الرائعة. كان عليهم أن يكبتوا مظاهر القلق التي انبعثت وتكاثرت في النفوس الخوارة الهلوع، وأن يشيعوا موجة من الإقدام والشجاعة تغلب أو توقف نزعات الجبن والتردد التي بدت هنا وهنالك. وطبائع النفوس تتفاوت تفاوتاً كبيراً لدى الأزمات العضوض.
منها الهش الذي سرعان ما يذوب ويحمله التيار معه كما تحمل المياه الغثاء والأوحال.
ومنها الصلب الذي تمر به العواصف المجتاحة، فتنكسر حدَّتها على متنه وتتحول رغوة خفيفة وزَبَداً.
أجل من الناس من يهجم على الشدائد ليأخذها قبل أن تأخذه. وعلى لسانه قول الشاعر:
تأخرتُ أستبقي الحياةَ فلم أجدْ | لِنفسي حياةً مِثل أن أتقدَّما |
ومنهم من إذا مسه الفزع طاش لبه فولّى الأدبار. وكلما هاجه طلب الحياة وحب البقاء أوغل في الفرار.
وقد نعى القرآن الكريم على هذا الصنف الجزوع موقفه في معركة الأحزاب فقال:
{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنْ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}.
وعندما حاولت قريش اقتحام الخندق، وعندما حاولت احتلال موقع النبي، وعندما عجمت عود المرابطين تبحث عن نقطة رخوة؛ لتثب منها إلى قلب المدينة ، كان أولئك المؤمنون الراسخون سراعاً إلى داعي الفداء، يجيئون من كل صوب ليستيقن العدو أن دون مرامه الأهوال.
روى ابن إسحاق أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة ، وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن. قالت عائشة: وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب.
فمر سعد وعليه درع مقلصة خرجت منها ذراعه كلها. وفي يده حربته يرقل بها ويقول:
لبثت قليلاً يشهد الهيجا حمل | لا بأس بالموت إذا حان الأجل!. |
فقالت له أمه: الحق يا بني فقد -والله- أخرت..
قالت عائشة: فقلت لها يا أم سعد، والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي. قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، فرُمي سعد بن معاذ بسهم قطع منه الأكحل.
ويظهر أن جراحة "سعد" كانت شديدة وليس سعد بالرجل الذي يهاب المنايا، ولكنه عميق الرغبة في متابعة الجهاد حتى يستقر أمر الإسلام وتنكس راية خصومه. فدعا الله قائلاً: "اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة".
ودعوة سعد الأخيرة تصوِّر مبلغ ما انطوت عليه قلوب المسلمين من غيظ لخيانة يهود وتمزيقها المعاهدة القائمة.
ومسلك بني إسرائيل بإزاء المعاهدات التي أمضوها قديماً وحديثاً يجعلنا نجزم بأن القوم لا يدعون خستهم أبداً، وأنهم يرعون المواثيق ما بقيت هذه المواثيق متمشية مع أطماعهم ومكاسبهم وشهواتهم، فإذا وقفت تطلعهم الحرام نبذوها نبذ النواة، ولو تركت الحمير نهيقها، والأفاعي لدغها، ترك اليهود نقضهم للعهود.
وقد نبه القرآن إلى هذه الخصلة الشنعاء في بني إسرائيل وأشار إلى أنها أحالتهم حيواناً لا أناسي، فقال:
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ}.
ونقل سعد إلى خيمة بالمسجد لتقوم على تمريضه إحدى المؤمنات الماهرات.
وجاء المسلمون إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يسألونه: هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال نعم: "اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا".
وعن عبدالله بن أوفى دعا رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) على الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب. اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم".
والله تبارك وتعالى لا يقبل الدعاء من متواكل كسول، وما يستمع لشيء استماعه لهتاف مجتهد أن يبارك له سعيه. أو دعاء صابر أن يجمِّل له العاقبة.
وقد أفرغ المسلمون جهدهم في الدفاع عن رسالتهم ومدينتهم حتى لم يبق في طوق البشر مدخر، فبقي أن تتدخل العناية العليا لتقمع صَعَر الظالم وتقيم جانب المظلوم.
ومن ثَمَّ أخذ سير المعركة يتطور على نحو لا يدرك الناس كنهه.
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}.
ضاق الأعراب النازلون بالعراء ذرعاً لهذا المقام الغريب، لقد خيموا حول أطراف يثرب أياماً لا تؤذن بدايتها بانتهاء. وهم لم يجيئوا ليستنفدوا قواهم أمام خندق صعب الاجتياز، وجبال رابط المسلمون أمامها، واستقتلوا دون أن يقترب أحد منها..
ثم إن الجو اغبرت أرجاؤه، وترادفت أنواؤه، وهبت الرياح نكباء موحشة الصفير، تكاد في هبوبها تطوي الخيام المبعثرة وتطير بها في الآفاق!.
والصلة بين أولئك الحلفاء لا تغري بدوام الثقة، إن غطفان وقبائل نجد أقبلت يحدوها السلب والنهب، وهي قد قبلت العودة من حيث أتت عندما أغريت ببعض ثمار المدينة لولا أن المسلمين كبر عليهم أن يطعموهم منها رهباً.
وماذا صنعت قريظة؟
نقضت الموثق ونكصت عن الهجوم منتظرة من العرب أن يقوموا هم به!.
إن يهودياً خرج يطيف بحصن للمسلمين فنزلت إليه صفية بنت عبد المطلب فقتلته، ولا غرو، فهي أخت حمزة!.
وتلفت أبو سفيان يمنة ويسرة، يتطلب عوناً على ما يبغي فلا يرى مأمناً، مما أوقع الوهن في قلبه وفي صفوف قريش معه.
وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يعرف هذا التصدع الخفي في صفوف الأحزاب؟ فاجتهد أن يبرزه ويوسع شقته ويستغله لجانبه، فلما جاء نُعيم بن مسعود مسلماً، أوصاه أن يكتم إسلامه ورده على المشركين يوقع بينهم، وقال له: إنما أنت فينا رجل واحد فخذِّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة.
فخرج "نعيم" حتى أتى بني قريظة -وكان لهم نديماً في الجاهلية- فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودِّي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدروا أن تحَولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلَّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خَلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رُهُناً من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه. فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم وُدِّي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر رأيت علي حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم، فاكتموا عني، فقالوا: نفعل، قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين -قريش وغطفان- رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم؟ ثم نكون معك على من بقي منهم حتّى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.
ثم خرج حتى أتى غطفان ، فقال: يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليّ، ولا أراكم تتهمونني، قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم مثل ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس كان من صنع الله لرسوله أن أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمداً، فإنا نخشى -إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال- أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك منه..
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة -حين انتهت الرسل إليهم بهذا- إن الذي ذكر لكم نُعَيم لحق، ما يريد القوم أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم.
وهكذا أفلح المسلمون في فصم عرى التحالف بين الأحزاب المجتمعة عليهم، فما مضت أسابيع ثلاثة على ذلك الحصار المضروب حتى دب القنوط والتخاذل في صفوف المهاجمين؛ على حين بقيت جبهة المدافعين سليمة لم تثلم.
وفي ليلة شاتية عاتية لفحت سبراتها الوجوه والجلود، وأقعدت الرجال في أماكنهم ينشدون الدفء، ويفرون من القر المتساقط على الصخور والرمال اتجهت نيات القوم إلى اتخاذ قرار حاسم في هذا القتال الفاشل!.
وكأنما كان زئير الرياح الهوج سوطاً يلهب المهاجمين حتى لا يتوانوا في الخلاص من هذا الموقف، ونظر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) من وراء أسوار المدينة ، وحوله أصحابه جاثمون في مكامنهم يرمقون الأفق بحذر، ويرقبون الغيب بأمل والظلام البارد الثقيل يرين على كل شيء في الصحراء المترامية.
قال حذيفة بن اليمان: رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وقريظة أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحاً منها، تطن في رياحها أصوات أمثال الصواعق، وما يستطيع أحدنا أن يرى إصبعه من قتامها السائد، ولم يكن عليَّ جُنّة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي لا يجاوز ركبتي، فأتاني الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) وأنا جاثٍ على الأرض فقال: من هذا؟ فقلت: حذيفة، فقال: حذيفة؟ فتقاصرت في موضعي وأنا أقول: بلى يا رسول الله -كراهية أن أقوم!- فندبني لما يريد وقال: إنه كائن في القوم خبر فأْتني به فخرجت وأنا أشد الناس فزعاً وأشدهم قرّاً، فدعا لي بخير، فمضيت لشأني كأنما أمشي في حمّام -إنها حرارة الإيمان وحماسة الطاعة جعلت الرجل يغلب بعاطفته المتقدة قسوة الجو.
قال حذيفة: وأوصاني الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) حين ولَّيت- ألاَّ أحدث في القوم حدثاً حتى آتيه، فلما دنوت من معسكر القوم نظرت ضوء نار توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يمد يديه إلى النار مستدفئاً ويمسح خاصرته، ويقول: الرحيل الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فوضعت سهماً في كبد قوسي وأردت أن أرميه، ثم ذكرت وصاة رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) فأمسكت، ولو رميته لأصبته.
وأحسست عصف الريح في جنبات المعسكر لا تقر قدراً ولا ناراً ولا بناء، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش ، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، قد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم...
ورجع حذيفة إلى النبي يقص عليه ما رأى...وطلع النهار فإذا ظاهر المدينة خلاء..ارتحلت الأحزاب، وانفك الحصار، وعاد الأمن، ونجح الإيمان في المحنة!، وهتف رسول الله يقول: "لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده..".
رجعت الطمأنينة إلى النفوس، وظهرت خيبة الأحزاب بعدما أقبلت من كل فج لتجتاح يثرب، وظهرت صلابة المسلمين في مواجهة الأزمات المرهقة.
ولذلك قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بعد هذه النتيجة الباهرة-: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا".