18.6 ذكر غزوة بني المصطلق:

عندما كان الإسلام دعوة تغالب النظام السائد كانت مخاصمته تتخذ طريق الجهرة والتهجم دون مبالاة. فلما استقر له الأمر وتوفرت لأبنائه أسباب القوة، سلكت عداوته المسارب التي تسلكها الغرائز المكبوتة، فأمسى الكيد له يقوم على المكر والدس إلى جانب الوسائل الأخرى التي يعالن بها الأقوياء. وائتمار الضعفاء في جنح الظلام لا يقل خطورة عن نكاية الأقوياء في ميادين الصدام؛ بل إن المرء قد يألم لإشاعة ملفقة أكثر مما يألم لطعنة مواجِهة.
وفي الحروب الفاجرة تستخدم جميع الوسائل التي تصيب العدو؛ وإن كان بعضها يستحيي من استخدامه الرجل الشريف!.
وقد لجأ المنافقون في المدينة إلى مناوأة النبي (صلَّى الله عليه وسلم) ودعوته بأسلوب تظهر فيه خسة النفس الإنسانية عندما يستبد بها الحقد، ويغلب عليها الضعف، أسلوب اللمز والتعريض حيناً، والإفك حيناً آخر.
وكلما توطدت سلطة المسلمين ورسخت مكانتهم ازداد خصومهم المنافقون ضغناً عليهم وتربصاً بهم. وقد حاولوا تأييد اليهود عندما تأذنهم الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) بالجلاء، فلما لم يقف مدَّ الإسلام شيء، ولم تهدَّه هزيمة، وأخذت القبائل العادية تختفي واحدة تلو أخرى، التحق أولئك المنافقون بصفوف المسلمين ولم تنكشف نياتهم السوء إلا على فلتات الألسنة ومزالق الطباع، فكانت سيرتهم تلك مثار فتن شداد تأذى منها رسول الله والمؤمنون شيئاً غير قليل.
وظهر ذلك جلياً في "غزوة بني المصطلق". فإن الأنباء أتت الرسول عليه الصلاة والسلام بأن هذه القبيلة تجمع له وتستعد لقتاله، وأن سيدها الحارث بن أبي ضرار قد استكمل عدته لهذا المسير، فسارع رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بالمسلمين ليطفىء الفتنة قبل اندلاعها.
وخرج مع الرسول عليه الصلاة والسلام هذه المرة جمعٌ من المنافقين الذين لم يعتادوا الخروج قبلاً، ولعل ثقتهم بانتصار محمد عليه الصلاة والسلام أغرتهم بالذهاب معه ابتغاء الدنيا لا انتصاراً لدين.
وانتهى المسلمون إلى ماء يسمى "المُرَيسيع" اجتمع لديه بنو المصطلق ، فأمر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) عمر بن الخطاب أن يعرض الإسلام على القوم، فنادى عمر فيهم: قولوا: لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأولادكم، فأَبَوا، وترامى الفريقان بالنبل.
ثم أمر النبي (صلَّى الله عليه وسلم) صحابته فحملوا عليهم حملة رجل واحد، فلم يفلت من المشركين أحد، إذ وقعوا جميعاً أسرى بعد ما قتل منهم عشرة أشخاص، ولم يستشهد من المسلمين إلا رجل واحد قتل خطأ، وسقطت القبيلة بما تملك في أيدي المسلمين.
ورأى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن يعامل المهزومين بالإحسان، فلما جاء الحارث قائد القبيلة المنكسرة يطلب ابنته التي وقعت في الأسر ردها عليه، ثم خطبها منه وتزوجها، فاستحيى الناس أن يسترقوا أصهار رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، فأطلقوا مَنْ بأيديهم من الأسرى، فكانت جويرية بنت الحارث من أيمَنِ الناس على أهلها، فقد أعتق في زواجها مائة أهل بيت من بني المصطلق!!.
على أن هذا النصر الميسر شابه من أعمال المنافقين ما عكر صفوه وأنسى المسلمين حلاوته، فإن خادماً لعمر كان يسقي له من ماء المريسيع ازدحم مع مولى لبني عوف من الخزرج وكادا يقتتلان على الورود -شأن الخدم الطائشين-، فصاح الأول: ياللمهاجرين، وصاح الآخر ياللأنصار! واستمع إلى صياح الأتباع عبدالله بن أبي -وكان في رهط من قومه- فرأى الفرصة سانحة لإثارة حفائظهم وإحياء ما أماته الإسلام من نعرات الجاهلية، فقال: أوقد فعلوها؟ نافرونا وكاثرونا في بلادنا، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعز منها الأذل. ثم أقبل على قومه -ولم تزل له فيهم بقية وجاهة- يلومهم ويحرضهم على التنكر للرسول عليه الصلاة والسلام وصحبه، فذهب "زيد بن أرقم" إلى النبي (صلَّى الله عليه وسلم) يقص عليه الخبر وأسرع ابن أبي إلى رسول الله يبرىء نفسه وينفي ما قاله!!.
ورأى الحاضرون أن يقبلوا كلام ابن أبي رعاية لمنزلته، وقالوا: لعلّ الغلام -يعنون زيد بن أرقم- أوهم، ولم يحفظ ما قيل.
على أن الحقيقة لم تفت النبي (صلَّى الله عليه وسلم) فأحزنه ما وقع، ووجد خير علاج له شغل الناس عنه حتى يعفّي على آثاره، فأصدر أمره بالارتحال في ساعة ما كان يروح في مثلها، ومشى بالناس سائر اليوم حتى أمسوا، وطيلة الليل حتى أصبحوا، وصدر يومهم الجديد حتى آذتهم الشمس ثم نزل بهم.
فما إن وجدوا مسَّ الأرض حتى وقعوا نياماً! وتابع الرسول عليه الصلاة والسلام رواحه حتى عاد إلى المدينة .
ونزلت سورة المنافقين وفيها تصديق ما روى زيد بن أرقم {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
لم يدُر بخاطر أحد أن هذه الأوبة المتعجلة سوف تتمخض عن أكذوبة دنيئة يحيك أطرافها "عبدالله بن أبي" ثم يرمي بها بين الناس، فتسير مسير الوباء الفاتك.
إن هذا الرجل حلف كاذباً بعد أن أنكر مقالته الثابتة، ولو ان الجبان ذهب يطلب النجاة من عقباها لكان ذلك أجدى عليه، لكنه لم يزدد -على السماح الذي قوبل به- إلا خسة وخصاما، والبون بعيد بين أصناف الرجال الذين عادوا الإسلام ورسوله. لقد كان "أبو جهل" خصماً لدوداً لكل من دخل هذا الدين، وكان طاغية عنيداً لا تنتهي لجاجته، إلا أنه كان كالضبع المفترس لا يحسن الالتواء والوقيعة، حمل السيف في وضح النهار، وما زال يقاتل به حتى صرع.
أما عبدالله بن أبي فقد اختفى كالعقرب الخائنة، ثم شرع يلسع الغافلين..
قَبَعَ هذا المنافق في جنح الظلام وبدأ ينفث الإشاعات المريبة.
وتدلى -في غوايته- إلى حضيض بعيد، فلم يبال أن يتهجم على الأعراض المصونة، وأن ينسج حولها مفتريات يندى لها جبين الحرائر العفيفات.
في عودة الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) من غزوة بني المصطلق إلى المدينة ، نبت حديث الإفك وشاع، واجتهد خصوم الله ورسوله أن ينقلوا شرره في كل مكان قاصدين -من وراء هذا الأسلوب الجديد في حرب الإسلام- أن يدمروا على الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) بيته، وأن يسقطوا مكانة أقرب الرجال لديه، وأن يدعوا جمهور المسلمين -بعد ذلك- يضطرب في عماية من الأسى والغم!!.
وللوصول إلى هذه الغاية استباح ابن أبي لنفسه أن يرمي بالفحشاء سيدة لما تجاوز مرحلة الطفولة البريئة، لا تعرف الشر، ولا تهمّ بمنكر، ولا تحسن الحياة إلا في فلك النبوة العالي. وهي التي تربت في حجر صدِّيق، وأعدت لصحبة نبي في الدنيا والآخرة. وتلقف العامة هذا الحديث الغريب، وهم في غمرة الدهشة لا يدرون مبلغ الخطر الكامن في قبوله ونقله.
وإليك سرداً لهذا الحديث المفتعل على لسان السيدة التي تعرضت له وبُرّئت منه.