15.6 إجلاء بني النضير عن المدينة بعد المكيدة التي حاكوها من أجل القضاء على محمد (صلَّى الله عليه وسلم):

وتفصيل ذاك الغدر أن النبي عليه الصلاة والسلام ذهب إلى منازل بني النضير ليستعين بهم في دية القتيلين اللذين قتلهما "عمرو بن أمية" مرجعه من بئر معونة، فلما فاوضهم الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) في الأمر أظهروا الرضا بمعونته، فجلس في جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا. لكن يهود خلا بعضهم إلى بعض، ثم قالوا:
إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه -خلوّ بال واطمئنان نفْسٍ- فَمنْ رجل يعلو ظهر هذا البيت، فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه؟.
وحين أوشك اليهود على إنفاذ مكيدتهم أُلهم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) الخطر المدبر له، فنهض -عجلاً- من جوار البيت الذي جلس إلى جنب جداره، وقفل راجعاً إلى المدينة.
وشعر أصحاب النبي (صلَّى الله عليه وسلم) بمغيبه، فقاموا في طلبه، فإذا رجل مقبل من المدينة يخبرهم أنه رآه يدخلها، فأسرعوا يلحقون به، فلما انتهوا إليه أخبرهم بما كادت له يهود، وقد عرف -بعد- أن عمرو بن جحَّاش هو الذي أراد قتل النبي بإلقاء الرحى عليه، ولم ينج الشقي من عواقب جرمه، ولا نجا قومه، فإن رسول الله ما لبث أن استدعى محمد بن مسلمة وقال له: اذهب إلى بني النضير فمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يساكنوني بها، وقد أجلتهم عشراً فمن وجدت بعد ذلك ضربت عنقه.
ولم يجد يهود مناصاً من الخروج، فأخذوا يتجهزون للرحيل، بيد أن منافقي المدينة وعلى رأسهم عبدالله بن أبي أرسلوا إليهم: أن اثبتوا ونحن ننصركم على محمد وصحبه! فعادت لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناوأة، وأرسلوا للنبي يقولون له: لن نخرج، فافعل ما بدا لك، ثم احْتمَوا بحصونهم واستعدوا للقتال، وزادهم إصراراً على المقاومة ما ترامى إليهم من أن ابن أبيّ أعدّ ألفي مقاتل لنصرتهم.
ونهض النبي (صلَّى الله عليه وسلم) لمناجزة القوم وتحدَّى من ينضم إليهم من قبائل اليهود الأخرى أو من مشركي العرب، وفرض الحصار على مساكن بني النضير، وأمر بتقطيع نخلهم. ثم جد الجدّ ورأى اليهود الموت، ووقع الرعب في قلوب أعوانهم، فلم يحاول أحد أن يسوق لهم خيراً أو يدفع عنهم شراً مع أن اشتباك المسلمين بخصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم لم يكن مأمون العواقب، وقد رأيت كَلَب العرب عليهم وفتكهم الشنيع ببعوثهم، ثم إن يهود بني النضير كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال وتجعل فرض القتال معهم محفوفاً بالمكاره؛ إلا أن الحال التي جدّت بعد مأساة "بئر معونة" وما قبلها، زادت حساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر التي أخذوا يتعرضون لها جماعات وأفراداً، وضاعفت نقمتهم على مقترفيها، ومن ثَمَّ قرروا أن يقاتلوا بني النضير بعد همهم باغتيال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) مهما تكن النتائج.
وقد جاءت النتيجة في مصلحتهم بأسرع مما يتصورون، فاندحر اليهود، ونزلوا على حكم المنتصر الذي أذن لهم بالجلاء عن ديارهم، ولهم ما حملت إبلهم من أموال عدا السلاح.
وفي هذه المعركة نزلت سورة الحشر بأكملها، فوصفت طرد اليهود في صدرها بقول الله عزّ وجل:
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ}.
ثم فضح القرآن مسلك منافقي المدينة الذين حاولوا إعانة يهود في غدرها وحربها، وحرضوها على مقاتلة المسلمين بما وعدوها من أمداد وعتاد فقال:
{أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ}.
وبهذا النصر الذي أحرزه المسلمون دون تضحيات، توطد سلطانهم في المدينة، وتخاذل المنافقون عن الجهر بكيدهم، وأمكن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن يتفرغ لقمع الأعراب الذين آذَوا المسلمين بعد "أحد" وتواثبوا على بعوث الدعاة يقتلون رجالها في نذالة وكفران.
وتأديباً لأولئك الغادرين خرج النبي عليه الصلاة والسلام يجوس فيافي نجد، ويطلب ثأر أصحابه الذين قتلوا في "الرجيع" و"بئر معونة"، ويلقي بذور الخوف في أفئدة أولئك البدو القساة حتى لا يعاودوا مناكرهم التي ارتكبوها مع المسلمين.
وقام النبي (صلَّى الله عليه وسلم) تحقيقاً لهذا الغرض- بغزوات شتى أرهبت القبائل المغيرة وخلطت بمشاعرها الرعب... فأضحى الأعراب الذين مردوا على النهب والسطو لا يسمعون بمقدم المسلمين إلا حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال بعدما قطعوا الطرق على الدعوة ردحاً من الزمن، وفي مقدمة هؤلاء: بنو لحيان وبنو محارب، وبنو ثعلبة من غطفان.
فلما خضد المسلمون شوكتهم، وكفكفوا شرهم، أخذوا يتجهزون لملاقاة عدوهم الأكبر، فقد استدار العام وحضر الموعد المضروب مع قريش.
وحُقَّ لمحمد وصحبه أن يخرجوا ليواجهوا أبا سفيان وقومه، وأن يديروا رحى الحرب كرة أخرى، حتى يستقر الأمر لأهدى الفريقين وأجدرهما بالبقاء.