13.6 ذكر شهداء أحد:
أخذت قريش طريقها إلى مكة وقد استخفها النصر الذي أحرزته. أني لريبِ الدهر لا أتضعضع
إنها طارت به على عجل، كأنها غير واثقة مما نالت بعد الهزيمة التي حاقت بها أول القتال!!.
وأقبل المسلمون يتحسَّسون مصابهم في الرجال، ويجهِّزون القتلى لمضاجعهم التي يبرزون منها للقاء الله يوم ينفخ في الصور.
روى ابن إسحاق: أن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) قال: من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا. فنظر، فوجده جريحاً في القتلى وبه رمق. فقال له: إن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أمرني أن أنظر، أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) سلامي! وقل له: إن "سعد بن الربيع" يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته! وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن "سعد بن الربيع" يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خُلِص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف...!!
قال: ثم لم أبرح حتى مات، وجئت النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرته خبره.
وأمر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بدفن الشهداء حيث قتلوا، ورفض أن ينقلوا إلى مقابر أسرهم.
قال جابر بن عبدالله: لما كان يوم أحد جاءت عمتي بأبي لتدفنه في مقابرنا، فنادى منادي رسول الله: ردُّوا القتلى إلى مضاجعهم.
وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يجمع بين الرجلين من قتلى "أحد" في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء! وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصلِّ عليهم، ولم يغسلهم..
ولما انصرف عنهم قال: "أنا شهيد على هؤلاء، أنَّه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم، والريح ريح مسك".
إن معركة "أحد" تركت آثاراً غائرة في نفس النبي عليه الصلاة والسلام ظلت تلازمه إلى آخر عهده بالدنيا. في هذا الجبل الداكن الجاثم حول "يثرب" أودع (محمد) أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه.فالصفوة النقية التي حملت أعباء الدعوة، وعادت في سبيل الله الأقربين والأبعدين، واغتربت بعقائدها قبل الهجرة وبعدها، وأنفقت وقاتلت، وصبرت وصابرت، هذه الصفوة اختط لها القدر مثواها الأخير في هذا الجبل الأشم، فتوسدت ثراه راضية مرضية. وكان رسول الله يتذكر سِيَر أولئك الأبطال ومصائرهم فيقول:
"أُحُدٌ جبل يحبنا ونحبه".
فلما حانت وفاته جعل آخر عهده بذكريات البطولة أن يزور قتلى "أحد" وأن يدعو الله لهم، وأن يعظ الناس بهم!!.
عن عقبة بن عامر قال: صلَّى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) على قتلى "أحد" بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: "إني بين أيديكم فَرَط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا. وإني لست أخشى عليكم أن تُشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها!!".
قال عقبة: فكان آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله.
على أن المسلمين دفنوا موجدتهم في أفئدتهم، ولم يستسلموا لأحزان المصاب الذي حل بهم، وكان تكاثر خصومهم حولهم سبباً في أن يقاوموا عوامل الخور، وأن يبدوا للناس بقية من قوة ترد عنهم كيد المتربصين. على نحو ما قال الشاعر:
وتجلدي للشامتين أريهـــــــــــــــم
وقد كانت الهزيمة في "أحد" فرصة انتهزها المنافقون واليهود، وكل ذي غَمْر على محمد عليه الصلاة والسلام ودينه وأصحابه، ففارت المدينة كالمرجل المتقد، وكشف عن عداوته من كان قبلاً يواريها، وتحدث الكافرون بالإسلام عن خذلان السماء للنبيِّ المرسل من عند الله.
فرأى الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) أن يعيد تنظيم رجاله على عجل، وأن يتحامل الجريح مع السليم على تكوين جيش جديد، يخرج في أعقاب قريش ليطاردها ويمنع ما قد يجد من تكرار عدوانها!!.
كانت معركة "أُحد" في يوم السبت لخمسة عشر من شوال، وكان خروج هذا الجيش في الأحد لستة عشر منه...
وسار رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد، واقتربوا من جيش أبي سفيان. وكان رجال قريش -بعد أن ضمَّهم الفضاء الرحب- قد عادوا إلى التفكير فيما حدث، وأخذوا يتلاومون يقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكة القوم، ثم تركتموهم ولم تبتروهم، وقد بقيت منهم رؤوس يجمعون لكم!.
إلا أن هذا التفكير تزلزل إثر ما عرفت قريش أن المسلمين عبأوا قواهم وخرجوا يستأنفون القتال.
وحار المشركون في أمرهم: أيعودون لحرب لا يأمنون مغبتها، وربما أفقدتهم ثمار النصر الذي أحرزوه؟ أم يمضون -لتوهم- إلى مكة ؟ وفي هذه الحال يتحسن مركز المسلمين، وتخف مرارة الهزيمة التي لحقتهم.
وقد رأى "أبو سفيان" أن يغنم الأوبة الرابحة، وأن يبعث إلى المسلمين من يقذف بالرعب في قلوبهم، ويخبرهم أن قريشاً عادت لاستئصال شأفتهم بعد أن تبين لها خطؤها في تركهم..!
وعسكر المسلمون بـ "حمراء الأسد" ثم جاءهم دسيس أبي سفيان يغريهم بالعودة إلى يثرب نجاة بأنفسهم من كرّة المشركين عليهم، وهم لا يقدرون على ملاقاتهم!.
بيد أن المسلمين قبلوا التحدِّي، وظلوا في معسكرهم يوقدون النار طيلة ثلاث ليال في انتظار قريش التي ترجَّح لديها أن النجاة بنفسها أولى، فعادت إلى مكة ، وعاد المسلمون إلى المدينة ليدخلوها مرة أخرى، أرفع رؤوساً، وأعز جانباً.
وفي هذه المظاهرة الناجحة، وفيمن اشتركوا فيها على ألم الجراح وإرهاق التعب، وفي ثباتهم على التثبيط واطمئنانهم إلى جانب الله، نزلت الآيات الكريمة:
{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.