11.6 خروج المشركين لحرب المسلمين ومعركة أحد:

لم يهدأ بال قريش مذ غشيها في "بدر" ما غشيها، وكان ما جدّ من الحوادث بعد لا يزيد أحقادها إلا ضراماً، فلما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها أحلافها من المشركين، وانضم إليهم كل ناقم على الإسلام وأهله.
فخرج الجيش الثائر في عدد يربو على ثلاثة آلاف.
ورأى أبو سفيان -قائده- أن يستصحب النساء معه، حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم؟ وكانت التِرات القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب، ويشف عما سوف يقع من قتال مرير.
وفي أوائل شوال من السنة الثالثة وصل الجيش الزاحف إلى المدينة ، فنزل قريباً من جبل "أحد" وأرسل خيله ترعى زروعها الممتدة هناك.
واجتمع المسلمون حول رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يتدبرون أمرهم.
أيخرجون لمقاتلة العدو في العراء أم يستدرجونه إلى أزقة المدينة ، حتى إذا دخلها قاتله الرجال في الطرق، وقاتلته النساء من فوق أسطح البيوت؟؟.
وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يميل إلى الرأي الأخير، وأيده فيه رجال من أولي النظر والروية. وقال عبدالله بن أبي: هذا هو الرأي. لكن الرجال الذين لم يشهدوا بدراً تحمسوا للخروج، وقالوا: كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير! وظاهرهم الشباب الطامح في الاستشهاد، وبدا أن كثرة المسلمين تميل إلى البروز لملاقاة العدو، فدخل الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) بيته وخرج منه لابساً عدته متهيئاً للقتال.
وشعر القوم أنهم استكرهوا الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) على رأيهم وأظهروا الرغبة في النزول على رأيه. بَيْد أن النبي (صلَّى الله عليه وسلم) وجد غضاضة من الاضطراب بين شتى الآراء، فقال: ما ينبغي لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه.
وقال: قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج. فعليكم بتقوى الله، والصبر عند البأس، وانظروا ما أمركم الله به فافعلوه.
ثم خرج في ألف رجل حتى نزل بـ "أحد"؛ إلا أن عبدالله بن أبي انسحب في الطريق بثلث الناس قائلاً: ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ومحتجاً بأن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) ترك رأيه وأطاع غيره..!!
فتبعهم عبدالله بن عمرو -والد جابر بن عبدالله- ينصحهم بالثبات، ويؤنبهم على العودة، ويذكرهم بواجب الدفاع عن المدينة ضد المغيرين إذا لم يكن لهم إيمان بالله واليوم الآخر وثقة بالإسلام ورسوله.
فأبى "ابن أبيّ" الاستماع إليه، وفيه ومن انسحب معه نزلت الآية:
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ}.
عسكر المسلمون بالشِّعْب من "أحد" في عدوة الوادي جاعلين ظهرهم إلى الجبل، ورسم النبي (صلَّى الله عليه وسلم) الخطة لكسب المعركة، فجاءت محكمة رائعة. وزع الرماة على أماكنهم وأمّر عليهم عبد اللله بن جبير -وكانوا خمسين رجلاً- وقال: انضحوا الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا! إن كانت الدائرة لنا أو علينا فالزموا أماكنكم، لا نؤتينَّ من قبلكم!! وفي رواية قال لهم: احموا ظهورنا، إن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا!.
واطمأن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إلى أن فرقة الرماة قد أمَّنت بهذه الأوامر المشددة مؤخرة جيشه، فأقبل يتعهد مقدمته، وأمر ألا ينشب قتال إلا بإذنه.
وظاهر هو نفسه بين درعين، وأخذ يتخير الرجال أولي النجدة والبأس ليكونوا طليعة المؤمنين حين يلتحم الجمعان. إن عدد المسلمين على الربع من المشركين، ولن يعوض هذا التفاوت إلا الأشخاص الذين يوزنون بالألوف وهم آحاد.
روى ثابت عن النبي (صلَّى الله عليه وسلم) أنه أمسك يوم "أحد" بسيف ثم قال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فأحجم القوم. فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، فأخذه ففلق به هام المشركين. قال ابن إسحاق كان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها عُلِم أنه سيقاتل حتى الموت، فلما أخذ السيف من يد رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) تعصَّب وخرج يقول:
أنا الذي عاهدني خليلـــــــي

ونحن بالسفح لدى النخيـــــــل

ألاَّ أقوم الدهر في الكيــــــول

أضرب بسيف الله والرســـــول

ويعني بعدم قيامه في الكيول: ألا يقاتل في مؤخرة الصفوف، بل يظل أبداً في المقدمة.
ثم تدانت الفئتان، وأذن النبي (صلَّى الله عليه وسلم) لرجاله أن يجالدوا العدو، وبدأت مراحل القتال الأولى تثير الغرابة. كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم، لا بضع مئات قلائل! وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين.
خرج حنظلة بن أبي عامر من بيته حين سمع هواتف الحرب، وكان حديث عهد بعرس، فانخلع من أحضان زوجته، وهرع إلى ساحة الوغى حتى لا يفوته الجهاد!.
إن حادي التضحية كان أملك لنفسه وأملأ لحسه من داعي اللذة، فاستشهد البطل وهو جُنُب!!
وسادت روح الإيمان المحض صفوف المجاهدين، فانطلقوا خلال جنود الشرك انطلاق الفيضان تقطعت أمامه السدود.
وقف طلحة بن أبي طلحة العبدري حامل لواء قريش يتحدى، داعياً إلى البراز، فوثب إليه الزبير بن العوام حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه!!
أقبل أبو دجانة مُعْلمَاً بعصابته الحمراء لا يلقى مشركاً إلا قتله، وكان أحد المشركين قد شغل نفسه بالإجهاز على جرحى المسلمين في المعركة. قال كعب بن مالك: وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه ثم قمت أقدِّر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف فبلغت وركه، وتفرق فرقتين!! ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة...
وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة، وصمد لحملة اللواء من بني عبد الدار، فاقتنص أرواحهم فرداً فرداً!!
قال "وحشي" غلام جبير بن مطعم: قال لي جبير: إن قتلت حمزة عم محمد فأنت عتيق، قال: فخرجت مع الناس، وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطىء بها شيئاً. فلما التقى الناس فخرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته كأنه الجمل الأورق يهدُّ الناس بسيفه هدّاً، ما يقوم له شيء!! فوالله إني لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني؛ إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزّى، فلما رآه حمزة قال: هلمَّ إليَّ يا ابن مقطِّعة البظور؟ قال: فضربه ضربة كأنما اختطفت رأسه. فهززت حربتي، حتى إذا رضيت عنها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته -أحشائه- حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغُلب، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي ورجعت إلى المعسكر فقعدت فيه، إذ لم تكن لي بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق.
ومع الخسارة الفادحة التي نالت المسلمين بقتل حمزة فإن جيشهم القليل ظل مسيطراً على الموقف كله، وحمل لواء المسلمين في هذا القتال "مصعب بن عمير" الداعية العظيم، فلما استشهد حمل اللواء علي بن أبي طالب، واستبق المهاجرون والأنصار في ميدان الشرف، وأخذ اللواء الإسلاميُّ يتقدم خطوة خطوة وشعار المسلمين في هذا الالتحام "أمِتْ، أمِتْ".
وكانت نسوة قريش دائبات على استنهاض رجالهم، يضربن بالدفوف، ويحرضن على القتال، تقودهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان.
فكانت تقول -حاثّة بني عبد الدار على إبقاء لواء مكة مرفوعاً-:
ويْهاً بني عبد الـــــــــــدار

ويْهاً حمـــــــــاة الأدبار

ضرباً بكل بتّــــــــــــار!!
وتؤز قومها على القتال منشدة:
إن تقبلوا نعانقِ

ونفرش النمارقِ!!

أو تدبروا نفارقِ

فراقَ غيرِ وامقِ!!

وقد بذلت قريش أقصى جهدها لتحطم عنفوان المسلمين، لكنها أحست العجز وانكسرت همتها أمام ثبات المسلمين وإقدامهم.
قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره وصدق وعده، فحسُّوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها.
روى عبدالله بن الزبير عن أبيه قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم سوق هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير!!.
قد يجد المرء نفسه في حفل يموج بالأنوار، وتنتشر في أجوائه الأشعة المبصرة، ثم يقع خلل مفاجىء يقطع التيار، فإذا المصابيح تعتم، ثم يسود المكان ظلام موحش سقيم!!.
إن هذا مثل للتحول المستنكر الذي قلب سير الحوادث في معرك "أحد".
لحظة يسيرة من لحظات الضعف الإنساني عرضت لفريق من الجند، فأوقعت الارتباك في صفوف الجيش كله، فضاعت في ساعة نزق كل المكاسب التي أحرزتها الشجاعة النادرة والتضحية البالغة!.
لقد علمتَ كيف شدّد الرسول عليه الصلاة والسلام على الرماة أن يلزموا أماكنهم صيانة لمؤخرة المسلمين، وأوصاهم ألا يبرحوها أبداً ولو رأوا الجيش تتخطفه الطير؟ غير أن أثارة من حُبِّ الدنيا عصفت بهذه الوصاة في ساعة غفلة؟ فما أن رأى الرماة الهزيمة حلت بقريش والنساء يهمن في الجبل، والرجال يولون الأدبار، والغنائم التي خلفها ثلاثة آلاف مشرك تزحم الوادي...حتى غادروا مواقعهم هابطين إلى الميدان، يبغون انتهاب أنصبتهم من الأسلاب والأموال!.
وكان فرسان المشركين بقيادة (خالد بن الوليد) محصورين لا يجدون ثغرة ينفذون منها إلى قلب المسلمين إلى أن حلت الهزيمة، فلما رأى خالد أن مؤخرة المسلمين انكشفت فلم يبق عليها حارس، اهتبل الفرصة على عجل، فاستدار بالخيل وأحدق بخصومه منحدراً عليهم من حيث لا يحتسبون. ورأى الفارّون من قريش بوادر هذا التغير الطارىء، فتراجعوا حتى إن امرأة تدعى عمرة بنت علقمة الحارثية هي التي رفعت لواء قريش من التراب بعد أن سقط وصرع حَمَلته، وثاب المشركون إلى رايتهم وخيالتهم، فأحيط بالصحابة من الأمام والخلف ووقعوا بين شقي الرحى..
على أن الرجال الأحرار لا يصادون بسهولة، إنهم شدهوا لما حدث.
ولكنهم أخذوا يقاتلون بحرارة، وإن كان هدفهم هذه المرة أن ينجوا فحسب!
أن يبصروا طريقاً يخلصهم من هذا المأزق العضوض!.
واستشهد كثير وهم يحاولون شق طريقهم، واستطاع المشركون أن يخلصوا قريباً من النبي، فرماه أحدهم بحجر كسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفجر منه الدم. وشاع أن محمداً قتل، فتفرق المسلمون، ودخل بعضهم المدينة وانطلقت طائفة فوق الجبل، واختلطت على الصحابة أحوالهم فما يدرون كيف يفعلون..
إلا أن النبي (صلَّى الله عليه وسلم) جعل يصيح بالمؤمنين: إلي عباد الله. إليّ عباد الله! فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلاً، غير أن المشركين بصروا بهم فهاجموهم! ووقف طلحة بن عبيدالله، وسهل بن حنيف، إلى جوار الرسول عليه الصلاة والسلام، فأصيب طلحة بسهم في يده فشلّها.
وأقبل أبي بن خلف الجمحي على النبي عليه الصلاة والسلام -وكان قد حلف أن يقتله- وأيقن أن الفرصة سانحة، فجاء يقول: يا كذّاب أين تفر! وحمل على الرسول بسيفه.
فقال النبي (صلَّى الله عليه وسلم): بل أنا قاتله إن شاء الله، وطعنه في جيب درعه طعنة وقع منها يخور خوار الثور، فلم يلبث إلا يوماً أو بعض يوم حتى مات.
ومضى النبي (صلَّى الله عليه وسلم) يدعو المسلمين إليه، واستطاع -بالرجال القلائل الذين معه- أن يصعد فوق الجبل، فانحازت إليه الطائفة التي اعتصمت بالصخرة وقت الفرار.
وفرح النبي عليه الصلاة والسلام أن وجد بقية من رجاله يمتنع بهم، وعاد لهؤلاء صوابهم إذ وجدوا الرسول حياً وهم يحسبونه مات.
ويبدو أن إشاعة قتل النبي سرت على أفواه كثيرة، فقد مر أنس بن النضر بقوم من المسلمين ألقوا أيديهم وانكسرت نفوسهم فقال: ما تنتظرون: قالوا: قتل رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)! فقال: وما تصنعون بالحياة بعده؟.
قوموا فموتوا على ما مات عليه...ثم استقبل المشركين فما زال يقاتلهم حتى قتل...
ولم تتوان قريش من جانبها في مهاجمة الرسول ومن انحاز إليه من أصحابه بغية الإجهاز عليه وعليهم. ومرت ساعة عصيبة من أحرج الساعات في تاريخ الدنيا ، وفرسان المشركين ورماتهم يحملون -بعناد وإلحاح- لتحقيق أمنيتهم. فقتل بين يدي النبي خلق كثير وهم ينافحون دونه، جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه، ثم سقط بين حي وميت، وترَّس عليه أبو دجانة بظهره فكان النبل يقع فيه وهو لا يتحرك.
روى مسلم: أن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أفرد يوم "أحد" في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش ، فلما أرهقه المشركون قال: من يردهم عني وله الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل! ثم رهقوه، فقال من يردهم عني وله الجنة، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة. فقال رسول الله: ما أنصفنا أصحابنا -يعني من فَرُّوا وتركوه.
وتركت هذه الاستماتة أثرها، ففترت حدَّة قريش في محاولة قتل الرسول، وثاب إليه أصحابه من كل ناحية وأخذوا يلمون شملهم ويزيلون شعثهم.
وأمر النبي صحبه أن ينزلوا قريشاً من القمة التي احتلوها في الجبل قائلاً:
ليس لهم أن يعلونا، فحصبوهم بالحجارة حتى أجلوهم عنها.
إن الإفلات من عواقب هذا الانكسار الشنيع عمل لا يقل -في خطره- عن الانتصار الأول، وقد اتجه عزم الرسول إلى بذل كل جهد ممكن في سبيل مقاومة قريش حتى لا تظفر بشيء من غنيمة باردة. بل حتى تثقل بها مغارمها فلا تطمع في مزيد من إيذاء المسلمين، فكان ينثل السهام من كنانته ويعطيها سعد بن أبي وقاص ويقول: ارم فداك أبي وأمي. وكان أبو طلحة الأنصاري رامياً ماهراً في إصابة الهدف، قاتل دون رسول الله فكان إذا رمى رفع رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) شخصه ينظر أين يقع سهمه، ويرفع أبو طلحة صدره قائلاً: هكذا بأبي أنت وأمي، لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك، ويقول: إني جَلْد يا رسول الله فوجهني في حوائجك ومرني بما شئت!! وقد نجح الرماة حول رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) في رد المشركين الذين حاولوا صعود الجبل، وبذلك أمكن المسلمين الشاردين أن يلحقوا بالنبي ومن معه.
إلا أنهم جاؤوا وكأنما خرجوا من عماية، حتى إن بعضهم -من فرط الغيظ والذهول- قاتل أمامه لا يدري من يقاتل، فقتل اليمان والد الصحابي المعروف حذيفة، وصرخ حذيفة: أبي أبي! دون جدوى.
ولما تجمعت فلول المسلمين بعد هذا الكر والفر كان الإعياء قد نال منهم أي منال، لولا أن الله قذف في قلوبهم السكينة، وأعاد إليهم -بعد هذا الزلزال- الأمل والثقة، فسكنوا حول رسول الله يرقبون ما يجد، وداعب الكرى أجفان البعض من طول التعب والسهر، فإذا أغفى وسقط من يده السيف عاودته اليقظة فتأهب للعراك من جديد! وهذا من نعمة الله على القوم {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}.
ولم تكن قريش أقل من المسلمين معاناة لأهوال ذلك اليوم العصيب.
فقد تعبت جدَّ التعب في الجولة الأولى، فلما أدِيل لها وطمعت أن تجعل المعركة حاسمة قاصمة وجدت المسلمين أصلب عوداً؛ دون إفنائهم صعاب لا تستطيع احتمالها، فاكتفت مما ظفرت بالإياب.
وظن المسلمون -لأول وهلة- أن قريشاً تنسحب لتهاجم المدينة نفسها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ فإن هم جنَّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة ، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة؛ فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنَّ إليهم ثم لأناجزنهم فيها.
قال علي: فخرجت في آثارهم فرأيتهم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل واتجهوا إلى مكة.
قال ابن إسحاق: ثم إن أبا سفيان حين أراد الإنصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر ، أعلُ هُبَلْ!
فقال رسول الله لعمر: قم يا عمر فأجبه فقل: الله أعلى وأجل. لا سواء. قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
فقال له أبو سفيان: هلم إليّ يا عمر.
فقال رسول الله لعمر: ائته فانظر ما شأنه، فجاءه.
فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمداً؟
فقال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن. قال: أنت عندي أصدق من ابن قميئة -وهو الذي زعم أنه قتل النبي-.
ثم نادى أبو سفيان: إنه قد كان في قتلاكم مُثْلَة، والله ما رضيت ولا سخطت وما نهيت ولا أمرت.
ولما انصرف أبو سفيان نادى: إن موعدكم بدر العام المقبل، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) لرجل من أصحابه: قل: نعم هو بيننا وبينك موعد.