10.6 مناوشات مع قريش وغزوة السويق:
لم يغتر المسلمون بالنصر الذي نالوه في "بدر" ولم يفتروا عن مراقبة خصومهم والإعداد لهم، وقد علموا علم اليقين أن مكة لن تني عن الانتقام لنفسها ولن تستكين للكارثة التي حلَّت بها.
ورأى أبو سفيان -حفظاً لمكانة قومه وإبراز لما لديهم من قوة- أن يتعجل عملاً قليل المغارم ظاهر الأثر، فقرر أن يفاجىء المدينة بغارة خاطفة يعود عقيبها وقد رد لقريش بعض سمعتها، وألحق بالمسلمين ما يستطيع من خسائر.
ثم إن أبا سفيان كان نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً (صلَّى الله عليه وسلم)، وينبغي أن يبر في قسمه.
فخرج في مائتي راكب حتى وصل إلى مساكن بني النضير في جنح الليل -بأطراف المدينة - ونزل على "سَلاّم بن مِشْكم" من سادة اليهود. فتعرف منه أخبار المسلمين، وتدارسا أجدى الطرق لإيذائهم والإفلات من قواهم.
واهتدى أبو سفيان إلى العمل الذي وفّى به يمينه، وحقق به غايته، فهجم برجاله على ناحية يقال لها: العريض، وحرقوا أسواراً من نخيل بها، ووجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلوهما، ثم لاذوا بالفرار عائدين إلى مكة .
وشعر المسلمون بما حدث، فانطلقوا وراء أبي سفيان ورجاله يطاردونهم ويبتغون الإيقاع بهم، وأحس المشركون بالطلب فجدوا في الهرب والمسلمون يقطعون الصحراء خلفهم راغبين في اللحاق بهم، فلما أحس أبو سفيان بالخطر أخذ يتخفف من الأزواد التي يحملها حتى تمكن من النجاة، وعثر المسلمون في طريق المطاردة على هذه المؤن وأكثرها من السويق فسموا هذه المناوشة الطريفة غزوة السويق!
ولم تنل قريش من هذه الغارة الفاشلة شيئاً يرفع رأسها، ففكرت أن تتجنب الصدام بالمسلمين حتى تحين الفرصة المواتية، ولكن أنى لها ذلك وتجارتهم تمر في الغدو والرواح بالمدينة؟.
قال صفوان بن أمية لقريش: "إن محمداً وصحبه عوّروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، هم لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعوهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء. وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف وإلى الحبشة في الشتاء" فقال له الأسود بن المطلب: تنكب الطريق إلى الساحل، وخذ طريق العراق. ودلَّه على فرات بن حيان من بني بكر بن وائل ليكون رائدهم في هذه الرحلة.
وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية آخذة الطريق الجديدة، إلا أن نُعيم بن مسعود قدم المدينة يحمل أنباء هذه القافلة وخطة سيرها، واجتمع في مجلس شرب -قبل تحريم الخمر- بسليط بن النعمان فباح له بسرها. فأسرع سليط إلى النبي (صلَّى الله عليه وسلم) يروي له القصة، فبعث النبي لوقته "زيد بن حارثة" في مائة راكب يعترضون القافلة، فلقيها زيد عند ماء يقال له القردة، فاستولى عليها، وكانت تحمل مقادير كبيرة من الفضة، وفرَّ المشركون مذعورين، فلم يقع في الأسر غير فرات بن حيان.
فلما جيء به إلى المدينة دخل في الإسلام..
ولقد حزنت مكة لهذه النكبة الجديدة، وزادها ذلك إصراراً على المطالبة بثأرها، والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئة كاملة، فكان ذلك وما سبقه من أحداث التمهيد القوي لمعركة "أحد" في السنة الثالثة للهجرة.
ولا يفوتنا إذ نتابع النشاط العسكري للإسلام في سنتيه الأوليين بالمدينة، أن نذكر بعض الشؤون الهامة الأخرى. فقد توفي خنيس بن حذافة السهمي زوج حفصة ابنة عمر بن الخطاب، وهو رجل صالح ممن شهدوا بدراً، فلما تأيمت منه، أراد أبوها أن يتخير لها زوجاً. قال عمر: فلقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر!! فقال: سأنظر في أمري! فلبث ليالي ثم لقيته فعرضت عليه، فقال: قد بدا لي ألا أتزوج.
قال عمر: فلقيت أبا بكر فقلت له: إن شئت أنكحتك حفصة ابنة عمر، فصمت ولم يَرجع إليَّ شيئاً! فكنت عليه أوجد مني على عثمان..
فلبثت ليالي فخطبها مني رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدتَ عليَّ حين عرضتَ عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ فقلت: نعم، فقال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضتَ عليَّ إلا أني كنت علمت أن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله، ولو تركها لقبلتها.
واتجاه الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) إلى مصاهرة عمر بعد مصاهرة أبي بكر، ثم تزويجه ابنته فاطمة لعلي بن أبي طالب، وتزويجه ابنته أم كلثوم لعثمان -بعد وفاة رقية- يشير إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام يبغي من وراء ذلك توثيق الصلات بالرجال الأربعة الذين عرف بلاؤهم وفداؤهم للإسلام، في الأزمات التي مرت به وشاء الله أن يجتازها بسلام.
وفي السنة الثانية للهجرة فرض صيام رمضان، وزكاة الفطر، وبيِّنت أنصبة الزكاة الأخرى. ومن أجلِّ ما وقع في هذه السنة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المطهرة، وقد كان هذا الانتقال مثار تغيظ اليهود واستنكارهم الشديد.
كانوا قبله -يؤملون في متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام لهم! ولعل أساس موادعتهم له ظنهم الإفادة منه واستغلال أنصاره! فلما تميز الإسلام بقبلته الجديدة امتلأت نفوسهم باليأس، ودفعتهم خيبة الرجاء إلى تشديد الحملة على الإسلام وتبييت السوء له.
وقد أحبط القرآن حرب الجدل التي شنها اليهود إثر تغيير القبلة.
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ...}.
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...}.
إن الله رب الأزمنة والأمكنة جميعاً، وتوجيه أمة إلى قبلة معينة لا يعني انحصاراً في إحاطته، أو قصوراً في ربوبيته. لقد كانت عودة المسلمين إلى الكعبة رجوعاً إلى الأصل الذي بناه أبو الأنبياء إبراهيم، وفي العودة إلى الأصل تنزه عن الانحرافات التي حدثت بَعْدُ من الذراري الضالِّين، وخصوصاً بني إسرائيل.