6.6 استنكار العرب قاطبة لنصر المسلمين في معركة بدر:
شده العرب قاطبة للنصر الحاسم الذي ناله المسلمون في بدر. بل إن أهل مكة استنكروا الخبر أول ما جاءهم، وحسبوه هذيان مجنون، فلما استبان صدقه صعق نفر منهم فهلك لتوِّه، وماج بعضهم في بعض من هول المصاب لا يدري ما يفعل.
وكما استبعد أهل مكة الهزيمة على أنفسهم حتى جوبهوا بعارها، استبعد مشركوا المدينة ويهودها ما قرع آذانهم من بشريات الفوز، وذهب بعضهم إلى حد اتهام المسلمين بأن ما يذاع عن نصرهم محض اختلاق، وظلوا يكابرون حتى رأوا الأسرى مقرَّنين في الأصفاد، فسُقطَ في أيديهم.
وقد اختلفت مسالك الأحزاب الكافرة بإزاء المسلمين بعد هذا الغلب الذي مكن لللإسلام وأهله، وجعل سلطانهم مهيباً في المدينة وما حولها، ومدَّ نفوذهم على طريق القوافل في شمال الجزيرة، فأصبح لا يمر بها أحد إلا بإذنهم.
فأما أهل مكة فقد انطووا على أنفسهم يداوون جراحهم، ويستعيدون قواهم، ويستعدون لنيل ثأرهم، ويعلنون أن يوم الانتقام قريب. ولم تزدهم الهزيمة إلا كرهاً للإسلام، ونقمة على محمد وصحبه، واضطهاداً لمن يدخل في دينه، فكان من ينشرح صدره للإسلام يختفي به أو يعيش ذليلاً مستضعفاً.
ذلك في مكة حيث كانت الدولة للكفر.
أما في المدينة حيث المسلمون كثرة مكينة ظاهرة، فقد اتخذت العداوة للإسلام طريقة الدس والنفاق والمخاتلة، فأسلم فريق من المشركين واليهود ظاهراً وقلوبهم تغلي حقداً وكفراً، وعلى رأس هؤلاء عبدالله بن أبي.
روى أسامة بن زيد قال: كان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب -كما أمرهم الله تعالى- ويصبرون على الأذى:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}.
فكان النبي (صلَّى الله عليه وسلم) يتأول من العفو ما أمره الله به -حتى أذن فيهم بالقتل.
فلما غزا بدراً وقتل الله من قتل من صناديد قريش، وقفل رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه منصورين غانمين معهم أساراهم، قال "عبدالله بن أبي" ومن معه من المشركين عبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه (أي استمر فلا مطمع في إزالته) فبايَعوا رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) على الإسلام فأسلَموا..
على أن هذا الخداع لاذ به فريق من الكفار في الوقت الذي عالن فيه فريق آخر من اليهود بسخطهم على محمد، وألمهم للهزيمة التي أصابت قريشاً في "بدر"؛ بل إن كعب بن الأشرف -من رجالات اليهود- أرسل القصائد في رثاء قتلاهم والمطالبة بثأرهم!.
ولقد اتسعت شقة العداوة بين المسلمين واليهود إثر هذا الموقف النابي.
ثم حاول اليهود أن يحقروا من شأن النصر الذي حظي به الإسلام، مما مهد للأحداث العنيفة التي وقعت بعد، ودفع اليهود ثمنها من دمهم أفراداً وجماعات.
أما البدو الضاربون حول المدينة وعلى طرق القوافل فهم قوم هَمَل، لا يهمهم شيء من قضايا الكفر والإيمان، إنما يهمهم اكتساب القوت من أي وجه، والحصول عليه ولو عن طريق السلب والنهب. وتاريخهم الحديث مع قوافل الحجاج شاهد صدق على أنهم لا يرعون حرمة ولا يخشون إلا القوة، ولولا بطش السعوديين بهم ما أمن طريق الحج قط! وقد سبق لهم استياق نعم المدينة، وما ورثوه من جاهلية طامسة، جعل قلوبهم مع مشركي الجزيرة، وقد ذعروا لانتصار المسلمين في بدر، وأخذت جموعهم تحتشد تبغي انتهاز فرصة للإغارة على المدينة، ولكن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) نهض إلى جموعهم فشتتها ولم يلق في إرهابهم متاعب ذات بال.