5.6 محاسبة وعتاب بشأن مغانم بدر وأسراها:

برغم ما سجله التاريخ من تجمّل ومواساة بين الأنصار والمهاجرين فإن متاعب العَيْلة ومشكلات الفقر تمشت خلال المجتمع الجديد؛ إن سترها التعفف حيناً أبرزتها الحاجة حيناً آخر، والأزمات التي تصاحب تكوين دولة من العدم وسط أمم تكيد لها وتتربص بها الدوائر، يجب أن تتوقع وأن توطَّن النفوس على احتمالها، وألا تكون حدّة الشعور بها سبباً في ضعف السيرة وعجز الهمة..
وقد آخذ الله المسلمين -قبل معركة بدر وبعدها- بأمور بدرت منهم يحبُّ لهم أن يتنزهوا عنها مهما بلغ من شدة الدوافع والمبررات لارتكابها.
فهم يوم خرجوا من يثرب لملاقاة مشركي مكة تعلقت أمانيهم بإحراز العير وما تحمل من ذخائر ونفائس.
حقاً إنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وضحُّوا في سبيل الله بأنفسهم وأولادهم...فليمضوا في طريق الفداء إلى المرحلة الأخيرة، ومهما عضَّهم الفقر بنابه، فليكن التنكيل بالكافرين أرجح في ميزانهم من الإستيلاء على الغنيمة.
{وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}.
ومن هذا القبيل تسابقهم بعد النصر إلى حيازة الغنائم ومحاولة كل فريق الاستئثار بها. عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع النبي فشهدت معه بدراً فالتقى الناس، فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يطاردون ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم أحق بها منا نحن نحينا منها العدو وهزمناه؛ وقال الذين أحدقوا برسول الله: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به، فأنزل الله:
{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
فقسمها رسول الله بين المسلمين.
هذا التنازع المؤسف إثر البأساء الشاملة التي لحقت بالمهاجرين والأنصار على السواء. وقد نظر رسول الله إلى مظاهر البؤس على أصحابه وهم خارجون إلى بدر؛ فرثى لحالهم، وتألم لِمَا بهم، وسأل الله أن يكشف كرباتهم، فعن عبدالله بن عمرو قال: خرج رسول الله يوم "بدر" في ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً من أصحابه، فلما انتهى إليها قال: "اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، ففتح الله له يوم بدر ، فانقلبوا حين انقلبوا، وما منهم رجل إلا قد رجع بحمل أو حملين واكتسبوا وشبعوا".
إن الجوع والعري عندما يطول أمدهما يتركان في النفوس ندوباً سيئة، ويدفعان الأفكار في مجرى ضيق كالح، على أن هذه الأزمات إن أحرجت العامة وأهاجتهم إلى طلب الغذاء والكساء لأنفسهم وذراريهم بحرص ومجاهرة، فإن المؤمنين الكبار ينبغي أن يتماسكوا، وأن يكتموا أحاسيس الفاقة الملحة فلا يتنازعوا على شيء. وذلك الأدب هو ما أخذ الله به المسلمين، وافتتح به السورة التي تحدثت عن القتال في بدر .
ذلك أن الخاصة من الرجال هم قدوة غيرهم، فإذا ساءت أخلاقهم للضوائق العارضة واضطرب مسلكهم فسيكون سواد الشعب إلى مزالق الفوضى أسرع.
وقد رأينا "الألمان" في الحرب العالمية الأولى و"الإنكليز" في الحرب العالمية الثانية شدد عليهم الحصار حتى هزلت الأجسام واصفرت الوجوه، وما صابرت الجماهير هذه المجاعات إلا وراء قادتها المصابرين المتجمِّلين.
ومما حاسب الله عليه المسلمين حساباً شديداً موقفهم بإزاء الأسرى، فإن الرغبة في استبقائهم للانتفاع من ثرواتهم غلبت الآراء الأخرى بضرورة الاقتصاص من مآثمهم السابقة، حتى يكونوا نكالاً لما بين أيديهم وما خلفهم وموعظة للمتقين.
استشار رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أبا بكر وعمر وعلياً، فقال أبو بكر : يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً.
فقال رسول الله: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت والله ما أرى وما رأى أبو بكر ، ولكن أرى أن تمكنني من فلان -قريب لعمر- فأضرب عنقه. وتمكن علياً من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان -أخيه- فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.
فهوي رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ما قال أبو بكر ، ولم يهوَ ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر: فغدوت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وهما يبكيان! فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما! فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، قد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة -لشجرة قريبة-.
وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
إن الوقوع في الأسر لا يعني صدور عفو عام عن الجرائم التي اقترفها الأسرى أيام حريتهم، وهؤلاء الطغمة من كبراء مكة لهم ماض شنيع في إيذاء الله ورسوله، وقد أبطرتهم منازلهم فساقوا عامة أهل مكة إلى حرب ما كان لها من داع، فكيف يُتركون بعد أن استمكنت الأيدي من خناقهم؟.
أذلك لأن لهم ثروة يفتدون بها؟ ما كان يليق أن ينظر المؤمنون إلى هذه الأعراض التافهة متناسين ما فرط من أولئك الكفار في جنب الله.
إنهم مجرمو حرب -بالإصطلاح الحديث- لا أسرى حرب، وقد ندّد القرآن بخيانتهم لقومهم بعد كفرهم بنعمة الله عليهم فقال:
{أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}.
وهناك نصوص توصي برعاية الأسرى وإطعامهم، وتشرع القوانين الرحيمة في معاملتهم، وهذا ينطبق على جماهير الأسرى من الأتباع والعامة.
أما الذين تاجروا بالحروب لإشباع مطامعهم الخاصة فيجب استئصال شأفتهم، وذلك هو الإثخان في الأرض.
إن الحياة كما تتقدم بالرجال الأخيار، فإنها تتأخر بالعناصر الخبيثة؛ وإذا كان من حق الشجرة لكي تنمو أن تقلَّم؛ فمن حق الحياة لكي تصلح أن تنقَّى من السفهاء والعتاة والآثمين. ولن يقوم عِوَضٌ أبداً عن هذا الحق، ولو كان القناطير المقنطرة من الذهب، وقد أسمع الله نبيه وصحابته هذا الدرس، حتى إذا وعَوهْ وتدبروه عفا عنهم، ثم أباح لهم -من رحمته بهم- الانتفاع بما أخذوا من فداء فقال:
{فكُلُوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله إنَّ الله غفورٌ رحيمٌ...}.