4.6 معركة بدر:

ترامت الأنباء إلى "يثرب" أن قافلة ضخمة لقريش تهبط من مشارف الشام عائدة إلى مكة، تحمل لأهلها الثروة الطائلة. ألف بعير موقرة بالأموال يقودها "أبو سفيان بن حرب" مع رجال لا يزيدون عن الثلاثين أو الأربعين!
إن الضربة التي تنزل بأهل مكة -لو فقدوا هذه الثروة- موجعة حقاً، وفيها عوض كامل لما لَحقَ المسلمين من خسائر في أثناء هجرتهم الأخيرة. لذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه: هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعل الله ينفلكموها.
لم يعزم الرسول على أحد بالخروج ولم يستحث متخلفاً، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة ثم سار -بعد- بمن أمكنه الخروج.
وكان الذين صحبوا الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) هذه المرة يحسبون أن مضيّهم في هذا الوجه لن يعدوا ما ألفوا في السرايا الماضية، ولم يَدُرْ بخلد واحد منهم أنه مقبل على يوم من أخطر أيام الإسلام! ولو علموا لاتخذوا أهبتهم كاملة، ولما سمح لمسلم أن يبقى في المدينة لحظة. لذلك فترت الهمم عندما وردت أخبار أخرى بأن القافلة المطلوبة غيّرت طريقها، واستطاع قائدها "أبو سفيان" أن ينجو من الخطر المحدق به، بعد أن أرسل إلى أهل مكة يستنفرهم لحماية أموالهم، ويستثير حميتهم للخروج في تعبئة ترد كل هجوم.
وغالب النبي (صلَّى الله عليه وسلم) هذا الفتور العارض، وحذّر صحابته من عقبى العود السريع إلى المدينة أن فاتهم مال مكة وخرج إليهم رجالها!
وأصر على ضرورة تعقب المشركين كيف كانوا.
وذلك قوله تعالى:
{كما أخرجَكَ ربُّك من بَيتِك بالحقِّ، وإنَّ فريقاً من المؤْمنينَ لكارِهون. يُجادِلونك في الحقِّ بَعدما تبيَّن كأنما يُساقون إلى الموْت وهُم يَنظرونَ}.
والذين كرهوا لقاء قريش ما كانوا ليهابوا الموت، ولكنهم لم يعرفوا الحكمة في خوض معركة مباغتة دون إتقان ما ينبغي لها من عدة وعدد، بيد أن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وزن الظروف الملابسة للأمر كله، فوجد الإقدام خير من الإحجام، ومن ثَمَّ قرر أن يمضي، فإن الحكمة من توجيه هذه البعوث المسلحة تضيع سدى لو عاد على هذا النحو.
وقد اختفت على -عجل- مشاعر التردد، وانطلق الجميع خفافاً إلى غايتهم.
والمسير بإزاء طريق القوافل إلى "بدر" ليس سفراً قاصداً أو نزهة لطيفة، فالمسافة بين "المدينة" و"بدر" تربو على 160 كيلو متراً، ولم يكن مع الرسول وصحبه غير سبعين بعيراً يعتقبونها.
روى أحمد عن عبدالله بن مسعود، قال: "كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير-أي يتعاقبون-. وكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، قال: فكانت عقبة رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، فقالا له: نحن نمشي عنك -ليظل راكباً- فقال: "ما أنتما بأقوى مني على المشي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما".!!
وبثَّ المسلمون عيونهم يتعرفون أخبار قريش : أين القافلة وأين الرجال الذين قدموا لحمايتها؟
حين أحس أبو سفيان الخطر على قافلته، بعث "ضمضم بن عمرو الغفاري" إلى مكة يستصرخ أهلها حتى يسارعوا إلى استنقاذ أموالهم.
واستطاع "ضمضم" هذا إزعاج البلدة قاطبة؛ فقد وقف على بعيره بعد أن جدع أنفه، وحول رحله، وشق قميصه، يصيح: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان عرض لها محمد وأصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث!
فتجهز الناس جميعاً، فهم إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً، وانطلق سواد مكة وهو يغلي يمتطي الصعب والذلول، فكانوا تسعمائة وخمسين مقاتلاً، معهم مائتا فرس يقودونها. ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين..
وولوا وجوههم إلى الشمال ليدركوا القافلة المارة تجاه يثرب هابطة إليهم.
لكن أبو سفيان لم يستنم في انتظار النجدة المقبلة، بل بذل أقصى ما لديه من حذر ودهاء لمخاتلة المسلمين والإفلات من قبضتهم، وقد كاد يسقط بالعير جمعاء في أيديهم وهم يشتدون في مسيرهم نحو بدر، غير أن الحظ أسعفه!
روي أنه لقي مجدي بن عمرو فسأله: هل أحسست أحداً؟ فقال: ما رأيت أحداً أنكره؛ إلا أني رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا، فأتى أبو سفيان مناخهما، وتناول بعرات من فضلات الراحلتين ثم فتها فإذا النوى، فقال: هذه -والله- علائف يثرب! وأدرك أن الرجلين من أصحاب محمد وأن جيشه هنا قريب.
فرجع إلى العير يضرب وجهها عن الطريق شارداً نحو الساحل، تاركاً بدراً إلى يساره...فنجا.
ورأى أبو سفيان أنه أحرز القافلة فأرسل إلى قريش يقول: إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم. وقد نجاها الله، فارجعوا. فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدراً، فنقيم ثلاثاً، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً.
وهذا الذي عالن به أبو جهل هو ما كان يحاذره الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن تدعيم مكانة قريش وامتداد سطوتها في هذه البقاع -بعد أن فعلت بالمسلمين ما فعلت- يعتبر كارثة للإسلام ووقفاً لنفوذه، وهل كانت السرايا تخرج من المدينة إلا لإعلاء كلمة الله وتوهين كلمة الشرك، وإظهار عبدة الأصنام بمظهر الذي لا يملك نفعاً ولا ضراً؟
لذلك لم يلتفت الرسول لفرار القافلة التفاته لضرورة التجوال المسلح في هذه الأنحاء، إبرازاً لهذه المعاني القوية، وتمكيناً لصداها في القلوب.
ومضت قريش في مسيرها مستجيبة لرأي أبي جهل حتى نزلت بالعدوة القصوى من وادي بدر، وكان المسلمون قد انتهوا من رحيلهم المضني إلى العدوة الدنيا .
وهكذا اقترب كلا الفريقين من الآخر وهو لا يدري ما وراء هذا اللقاء الرهيب.
وهبط الليل فأرسل النبي (صلَّى الله عليه وسلم) علياً والزبير وسعداً يتحسسون الأحوال ويلتمسون الأخبار، فأصابوا غلامين لقريش كانا يمدانهم بالماء، فأتوا بهما، وسألوهما -ورسول الله قائم يصلي- فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء.
فكره القوم هذا الخبر ورجوا أن يكونا لأبي سفيان -لا تزال في نفوسهم بقايا أمل في الاستيلاء على القافلة!- فضربوهما ضرباً موجعاً حتى اضطر الغلامان أن يقولا: نحن لأبي سفيان! فتركوهما؛ وركع رسول الله وسجد سجدتيه وسلم وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما!! صَدَقا والله إنهما لقريش.
ثم قال للغلامين: أخبراني عن قريش؟ قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما: كم القوم؟ قالا: كثير. قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوماً تسعاً، ويوماً عشراً، فقال رسول الله: القوم ما بين التسعمائة إلى الألف، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وعمرو بن هشام، وأمية بن خلف...الخ.
فأقبل رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها...
وانكشف وجه الجد في الأمر. إن اللقاء المرتقب سوف يكون مرَّ المذاق، لقد أقبلت قريش تخب في خيلائها، تريد أن تعمل العمل الذي يرويه القصيد، وتذرع المطايا به البطاح، وتحسم به صراع خمسة عشر عاماً مع الإسلام، لتنفرد -بعدها- الوثنية بالحكم النافذ...
ونظر الرسول حوله فوجد أولئك المؤمنين بين مهاجر باع في سبيل الله نفسه وماله، وأنصاري ربط مصيره وحاضره بهذا الدين الذي افتداه وآوى أصحابه؛ فأحب أن يشعر القوم بحقيقة الموقف، حتى يبصروا -على ضوئه- ما يفعلون. إن المرء قد تفجؤه أحداث عابرة -وهو ماض في طريقه- يحتاج في مواجهتها لأن يستجمع مواهبه، وأن يستحضر تجاربه، وأن يقف أمامها حاد الانتباه مرهف الأعصاب، وهذه الامتحانات المباغتة أدق في الحكم على الناس وأدل على قيمهم من الامتحانات التي يعرفون ميعادها ويتقدمون إليها واثقين مستعدين. والمسلمون الذين خرجوا لأمر يسير ما لبثوا أن ألفَوا أنفسهم أمام امتحان شاق تيقظت له مشاعرهم، فشرعوا يقلبون -على عجل- تكاليفه ونتائجه، وثار منطق اليقين القديم فأهاج القوم إلى الخطة الفذة التي لا محيص عنها لمؤمن.
استشار رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) الناس فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغِماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه!!
فقال له الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) خيراً ودعا له.
ثم قال: أشيروا علي أيها الناس -وإنما يريد الأنصار- وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا بُرَءاء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يتخوف ألاَّ تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممّن دهمه بالمدينة. فلما قال ذلك قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل، فقال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك مواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً. إنا لَصُبُرٌ في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله.
وفي رواية: لعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض، فَصِلْ حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعادِ من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت.
فسرَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بقول "سعد" ونشَّطه ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم...
تأهب المسلمون لخوض المعركة، وعسكرو في أدنى ماء من بدر .
فجاء الحباب بن المنذر إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) فقال: أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، امضِ بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فنعسكر فيه، ثم نغوِّر ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): لقد أشرت بالرأي، ثم أمر بإنفاذه، فلم يجيء نصف الليل حتى تحولوا كما رأى الحباب، وامتلكوا مواقع الماء.
وقضى المسلمون ليلاً هادىء الأنفاس منير الآفاق، غمرت الثقة قلوبهم وأخذوا من الراحة قسطهم، وتساقط عليهم مطر خفيف رطَّب حولهم الجو وجعل نسائم الصباح تهب عليهم فتنعش صدورهم وتجدد أملهم، وكان الرمل تحت أقدامهم دَهِسا فتلبد وتماسك، وجعل حركتهم عليه ميسَّرة.
{إذ يُغشِّيكم النُّعاسَ أمنَةً منه، وَينزِّلُ عليكم من السماء ماء ليطهرَكم به، ويُذهبَ عنكم رجزَ الشيطان، وَليربطَ على قلوبكم، ويثبتَ به الأقدامَ}.
وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يتفقد الرجال، وينظم الصفوف، ويسدي النصائح، ويذكِّر بالله والدار الآخرة. ثم يعود إلى عريش هيء له فيستغرق في الدعاء الخاشع، ويستغيث بأمداد الرحمن...
ووقف أبو بكر إلى جوار الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يكثر الابتهال والتضرع. ويقول فيما يدعو به: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض" وجعل يهتف بربه عز وجل ويقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك" ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط رداؤه عن منكبيه.
وجعل أبو بكر يلتزمه من ورائه ويسوِّي عليه رداءه ويقول -مشفقاً عليه من كثرة الابتهال-: يا رسول الله، بعض مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.
وتزاحف الجمعان، وبدأ الهجوم من قبل المشركين، إذ هجم الأسود بن عبد الأسد على الحوض الذي بناه المسلمون قائلاً: أعاهد الله لأشربنَّ من حوضهم أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه، فتصدى له حمزة بن عبد المطلب فضربه ضربة أطارت نصف ساقه، ومع ذلك حبا إلى الحوض يبغي اقتحامه، وتبعه حمزة يقاتله حتى قتله فيه!.
وبرز من المشركين عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، فخرج للقائهم فتية من الأنصار، فنادوا يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، -وقيل إن الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه هو الذي استرجع أولئك الأنصار رغبة منه أن تكون عشيرته أول من يواجه العدو في مثل هذا الموقف- فقال: قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي. فبارز عبيدة عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد.
فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وكذلك فعل علي مع خصمه، وأما عبيدة وعتبة فقد جرح كلاهما الآخر، فكرَّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه، واحتملا صاحبهما، فجاءوا به إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) فأفرشه الرسول قدمه، فوضع خده على قدمه الشريف وقال: يا رسول الله لو رآني أبو طالب لعلم أني أحق بقوله:
ونسلمه حتى نُصرّع دونــــــــه

ونذهل عن أبنائنا والحلائــــــل

ثم أسلم الروح.
واستشاط الكفار غضباً للبداية السيئة التي صادفتهم فأمطروا المسلمون وابلاً من سهامهم، ثم حمي الوطيس وتهاوت السيوف، وتصايح المسلمون أحد أحد، وأمرهم الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) أن يكسروا هجمات المشركين؛ وهم مرابطون في مواقعهم وقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل، ولا تحملوا عليهم حتى تؤذَنوا.
فلما اتسع نطاق المعركة واقتربت من قمتها كان المسلمون قد استنفدوا جهد أعدائهم وألحقوا بهم خسائر جسيمة. والنبي في عريشه يدعو الله ويرقب بطولة رجاله وجلدهم. قال ابن إسحاق: خفق النبي عليه الصلاة والسلام خفقة في العريش ثم انتبه فقال: "أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله؛ هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع!!".
لقد انعقد الغبار فوق رؤوس المقاتلين وهم بين كرٍّ وفر، جند الحق يستبسلون لنصرة الرحمن، وجند الباطل قد ملكهم الغرور فأغراهم أن يغالبوا القدر.
فلا عجب إذا نزلت ملائكة الخير تنفث في قلوب المسلمين روح اليقين، وتحضهم على الثبات والإقدام.
وخرج رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) من مكانه إلى الناس فحرضهم قائلاً: "والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر؛ إلا أدخله الله الجنة".
إن التأميل في الآخرة هو بضاعة الأنبياء، وهل لأصحاب العقائد وفداة الحق من راحة إلا هناك؟.
وعمل هذا التحريض عمله في القلوب المؤمنة.
روى أحمد أن المشركين لما دنَوا، قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) لأصحابه: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض! فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض! قال: نعم. قال: بَخٍ بَخٍ، فقال رسول الله: وما يحملك على قول بَخٍ بَخٍ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلاَّ رجاء أن أكون من أهلها!
قال: فإنك من أهلها...
فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن. ثم قال لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها حياة طويلة، فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم وهو يقول:
ركضاً إلى الله بغير زاد

إلاَّ التقى وعمل المعاد

والصبر في الله على الجهاد

وكل زاد عرضه النفاد

غير التقــــــى والبر والرشـــــــــــاد
فما زال حتى قتل!.
ووهت صفوف المشركين تحت مطارق هذا الإيمان الزاهد في متاع الحياة الدنيا، وراعهم محمد عليه الصلاة والسلام وقد نزل بنفسه إلى الميدان يقاتل أشد القتال، ومعه أصحابه يشتدون نحو عدوهم لا يبالون شيئاً، فانكسرت قريش وأخذها الفزع.
وصاح النبي عليه الصلاة والسلام -وهو يرى كبرياء الكفر تَمَرَّغ في التراب-: "شاهت الوجوه...".
فانهزمت قريش .
وذلك قول الله في كتابه:
{إذْ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا، سألقي في قلوب الذين كفروا الرُّعب، فاضربوا فَوْقَ الأعناق وَاضْربوا منهم كلَّ بنان. ذلك بأنهم شاقُّوا الله ورَسولهُ، ومَنْ يُشاقِق الله ورسوله فإنَّ الله شديدُ العقابِ، ذلِكم فذُوقوهُ، وأنَّ للكافرين عَذابَ النَّارِ}.
وحاول "أبو جهل" أن يقف سيل الهزيمة النازل بقومه، فأقبل يصرخ بهم وغشاوة الغرور ضاربة على عينيه: "واللات والعزّى، لا نرجع حتى نفرقهم في الجبال. خذوهم أخذاً".
وماذا تفعل صيحات الطيش بإزاء الحقائق المكتسحة؟ لكن أبا جهل -والحق يقال- كان تمثالاً للعناد إلى آخر رمق، والطمس المنسوج على بصيرته جزء من كيانه لا ينفك عنه أبداً، لذلك أقبل يقاتل في شراسة وغضب وهو يقول:
ما تنقم الحرب الشموس مني؟

بازل عامين حديثٌ سنِّي

لمثل هذا ولــــــــدتني أمــــــــــــــــــــي
وأحاطت به فلول المشركين يقولون: أبو الحكم لا يُخلَص إليه، فكان بينهم وسط غابة ملتفة. بيد أن هذه الغابة لم تلبث أن تهاوت جِذْعاً جِذْعاً أمام حماس المؤمنين الذين اشتد بأسهم، وأغرتهم بشائر الفوز، وساد هتافهم الموقعة وهم يقولون: أحد أحد!
قال عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فَتَيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي ما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه! وقال لي الآخر سراً من صاحبه مثله.
قال: فما سرني أنني بين رجلين مكانهما.
فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين، فضرباه حتى قتلاه، وهما ابنا عفراء. ويظهر أنهما تركاه بين الحياة والموت، وقد استشهد البطلان في هذه الواقعة، ووقف رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) على مصرعهما يدعو لهما ويذكر صنيعهما.
أما أبو جهل فقد سقط مكانه يلفظ أنفاسه، وتفرق المشركون بعده بدداً، وتركوا سيقانهم للريح تبعثرهم في فجاج الصحراء كما تبعثر كثيباً من الرمل المنهار.
ومر عبدالله بن مسعود بالقتلى فوجد أبا جهل فيهم لا يزال به رمق، فجثم على صدره يبغي الإجهاز عليه، وتحرك "أبو جهل" يسأل: لمن الدائرة اليوم؟ فقال عبدالله:
لله ولرسوله، ثم استتلى عبدالله: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال له: وبماذا أخزاني؟ هل أعمد من رجل قتله قومه؟ وتفرس في عبدالله ثم قال له: ألست رُوَيعينا بمكة؟.
فجعل عبدالله يهوي عليه بسيفه حتى خمد.
ولقي مثل هذا المصير الفاجع سبعون صنديداً من رؤوس الكفر بمكة دارت عليهم كؤوس الردى فتجرعوها صاغرين، وسقط في الأسر سبعون كذلك، وفرَّ بقية التسعمائة والخمسون يروون لمن خلفهم أن الظلم مرتعه وخيم، وأن البطر يجر في أعقابه الخزي والعار.
وفتح المسلمون عيونهم على بشاشة الفوز تضحك لهم خلال الأرض والسماء. إن هذا الظفر المتاح رد عليهم الحياة والأمل والكرامة، وخلصهم من أغلال ثقال.
{ولقدْ نَصَركم الله بِبدرٍ وأنتم أذلةٌ، فاتقوا اللهَ لعلكم تَشكرونَ}.
وكانت عدة من استشهد منهم أربعة عشر رجلاً، استأثرت بهم رحمة الله فذهبوا إلى عليِّين. ثبت عن أنس بن مالك أن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر، وكان في النظَّارة أصابه سهم طائش فقتله، فجاءت أمه فقالت: يا رسول الله، أخبرني عن حارثة؟ فإن كان في الجنة صبرت، وإلا فليرينَّ الله ما أصنع -تعني من النياحة- وكانت لم تحرَّم بعد!! فقال لها الرسول: ويحك أَهَبِلْتِ؟ إنها جنان ثمان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى..".
فإن كان هذا جزاء النظَّارة الذين اختطفتهم سهام طائشة، فكيف بمن خاض إلى المنايا الغمرات الصعاب؟.
في هذه المعركة التقى الآباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، خالفت بينهم المبادىء ففصلت بينهم السيوف، وفي عصرنا هذا قاتل الشيوعيون مواطنيهم، ومزقوا أغلى الأواصر الإنسانية في سبيل ما يعتقدون؛ فلا عجب إذا رأيت الابن المؤمن يغاضب أباه الملحد ويخاصمه في ذات الله!! والقتال الذي دار بـ "بدر" سجل صوراً من هذا النوع الحاد: كان أبو بكر مع رسول الله، وكان ابنه عبد الرحمن يقاتله مع أبي جهل، وكان عتبة بن ربيعة أول من بارز المسلمين، وكان ولده أبو حذيفة من خيار أصحاب النبي، فلما سحبت جثة عتبة لترمى في القليب نظر الرسول إلى أبي حذيفة فإذا هو كئيب قد تغير لونه، فقال له: يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟ فقال: لا والله يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك!.
فدعا له رسول الله بخير، وقال له خيراً...
وأمر رسول الله بقتلى المشركين فطرحوا في القليب. وروى أنه قال عند مرآهم بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس. فلما وُوريت جثثهم وأهيل التراب على رفاتهم، انصرف الناس وهم يشعرون أن أئمة الكفر قد استراح الدين والدنيا من شرورهم؛ إلا أن النبي استعاد ماضيه الطويل في جهاد أولئك القوم، كم عالج مغاليقهم وحاول هدايتهم؟! وكم ناشدهم الله وخوفهم عصيانه وتلا عليهم قرآنه؟!
وهم -على طول التذكير- يتبجحون، وبالله وآياته ورسوله يستهزئون، فخرج النبي في جوف الليل حتى بلغ القليب المطوي على أهله، وسمعه الصحابة يقول: "يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام؛ هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً!".
فقال المسلمون: يا رسول الله أتنادي قوماً جُيِّفوا؟ قال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم! ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني".
كانت واقعة بدر في السابع عشر من رمضان لسنتين من الهجرة، وقد أقام رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ببدر ثلاثاً، ثم قفل عائداً إلى المدينة يسوق أمامه الأسرى والغنائم، ورأى قبل دخولها أن يعجِّل البشرى إلى المسلمين المقيمين فيها لا يدرون مما حدث شيئاً.
فأرسل "عبدالله بن رواحة" و"زيد بن حارثة" مبشّرَيْن يؤْذِنان الناس بالنصر العظيم.
قال "أسامة بن زيد": فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله، وكان زوجها عثمان بن عفان قد احتبس عندها يمرّضها بأمره، وضرب رسول الله له بسهمه وأجره في بدر.