3.6 ذكر سرية عبدالله بن جحش:

وفي رجب من السنة الثانية بعث رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) عبدالله بن جحش في رهط من المهاجرين، وكتب له كتاباً، وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين من مسيره.
فإذا نظر فيه ووعى ما كلفه الرسول به مضى في تنفيذه غير مستكره أحداً من أصحابه، فسار عبدالله، ثم قرأ الكتاب بعد يومين، فإذا فيه: امض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً وتعلَّم لنا من أخبارهم.
فقال عبدالله: سمعاً وطاعة، وأطلع أصحابه على كتاب الرسول قائلاً: إنه نهاني أن أستكره أحداً منكم، فمن كان يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق معي، ومن كره ذلك فليرجع..فلم يتخلف منهم أحد، غير أن البعير الذي كان يتعقبه سعد بن أبي وقاص" و"عتبة بن غزوان" ندَّ منهما فشغلا بطلبه، ومضى عبدالله برفاقه حتى نزل أرض نخلة ، فمرت عير قريش فهاجمها عبدالله ومن معه، فقتل في هذه المعركة "عمرو بن الحضرمي" وأسر اثنان من المشركين، وعاد عبدالله بن جحش بالقافلة والأسيرين إلى المدينة.
ويظهر أن هذا القتال وقع في آخر رجب، أي في الشهر الحرام.
فلما قدمت السرية على رسول الله قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، ووقف التصرف في العير والأسيرين.
ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله، وكثر في ذلك القيل والقال، حتى نزل الوحي حاسماً هذه الأقاويل ومؤيداً مسلك عبدالله تجاه المشركين.
{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ}.
إن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام واضطهاد أهله! فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟
ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر قتل نبيهم وسلب أموالهم؟
لكن بعض الناس يرفع القوانين إلى السماء عندما تكون في مصلحته.
فإذا رأى هذه المصلحة مهددة بما ينتقضها هدم القوانين والدساتير جميعاً.
فالقانون المرعي -عنده في الحقيقة- هو مقتضيات هذه المصلحة الخاصة فحسب.
وقد أوضح الله عز وجل أن المشركين لن يحجزهم شهر حرام أو بلد حرام عن المضي في خطتهم الأصيلة، وهي سحق المسلمين، حتى لا تقوم لدينهم قائمة فقال:
{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا}.
ثم حذر المسلمين من الهزيمة أمام هذه القوى الباغية والتفريط في الإيمان الذي شرفهم الله به، وناط سعادتهم في الدنيا والآخرة بالبقاء عليه فقال:
{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
وزكّى القرآن عمل "عبدالله" وصحبه، فقد نفذوا أوامر الرسول بأمانة وشجاعة، وتوغلوا في أرض العدو مسافات شاسعة، متعرضين للقتل في سبيل الله، متطوعين لذلك من غير مكرهٍ أو محرج.
فكيف يجزون على هذا بالتقريع والتخويف؟ قال الله فيهم:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
والقرآن الذي نزل في فعال هذه السرية لم يدع مجالاً للهوادة مع المشركين المعتدين مما كان له أثره البعيد لدى المسلمين وخصومهم.
فبعد أن كان أغلب المكتتبين في السرايا السابقة من المهاجرين أخذت البعوث الخارجة تتألف من المهاجرين والأنصار معاً.
وزاد الشعور بأن الكفاح المرتقب قد يطول مداه وتكثر تبعاته، ولكنه كفاح مستحب، مقرون بالخير العاجل والآجل.
وأدركت مكة أنها مؤاخذة بما جدّ أو يجدّ من سيئاتها، وأن تجارتها مع الشام أمست تحت رحمة المسلمين.
وهكذا اتسعت الهوة، وزادت بين الفريقين الجفوة.
وكأن هذه الأحداث الشداد هي المقدمة لما أعدّه القدر بعد شهر واحد من وقوعها، عندما جمع رجالات مكة وخيرة أهل المدينة على موعد غير منظور في "بدر".