1.6 مقدمة الكفاح الدامي:
دخل الإسلام المدينة وأحزاب الكفر تطارده من كل ناحية، فأوى المسلمون إلى مهجرهم كما يأوي الجندي إلى قلعته الشامخة، وأخذوا يستعدون حتى لا تقتحم عليهم من أقطارها. وهم تعلموا من السنين الغبر التي مرت عليهم في مكة أن الضعف مدرجة إلى الهوان مزلقة إلى الفتنة، والمرء لا يقدِّر العافية حق قدرها إلا بعد الإبلال من المرض، ولا يعرف قيمة الغنى إلا عند التخلص من ذلِّ الحاجة.
ومن أولى من المهاجرين والأنصار بالإفادة من عبر الماضي؟.
ذلك نبيهم تعقبه القتلة ألف ميل ليغتالوه، وذلك سواد المهاجرين نهب مالهم وسلبت دورهم وشردوا من البلد الحرام. إن "حالة الحرب" قائمة يقيناً بين طغاة مكة وبين المسلمين في وطنهم الجديد، ومن السفه تحميل المسلمين أوزار هذا الخصام.
على أن العداوة للنبي (صلَّى الله عليه وسلم) وصحبه تجاوزت قريشاً إلى غيرهم من مشركي الجزيرة الضالة، ولن تذهب الفروض بنا بعيداً فإن عبدة الأصنام من أهل المدينة نفسها شرعوا يجاهرون بخصومتهم للإسلام، وانضم إلى هؤلاء وأولئك اليهود الذين أوجسوا خيفة من انتشار هذا الدين واندحار الوثنية العربية أمامه...
فما بد-إذاً- من التأهب لكل طارىء، والتربص بكل هاجم، وتجهيز القوة التي تؤدب المجرمين يوم يتطاولون.
والقتال الذي شرعه الإسلام وخاض معاركه الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته هو أشرف أنواع الجهاد، وقد بينا في كتبنا الأخرى بالاستدلال العلمي والاستقراء التاريخي أن الحروب التي اشتبك فيها الإسلام -على عهد الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) وخلفائه- كانت فريضة لحماية الحق، ورد المظالم، وقمع العدوان، وكسر الجبابرة.
أما تخرّص المستشرقين والحقدة على الإسلام من أهل الأديان الأخرى والادعاء بأن المسلمين جنحوا إلى القوة حيث لا مبرر لها، فذلك كله لغو طائش، وهو جزء من الحملة المدبرة لمحو الإسلام من الأرض واستبقاء أهله عبيداً للصليبية والصهيونية وما إليهما.
وما من أيام القتالُ فيهن أوجب على المسلمين من أيام يهدد فيها الإسلام وآله بالفناء، وتتألب عليه شتى القوى، بل يصطلح ضده الخصوم الألداء محاولين سحقه إلى الأبد.
وقد وقع ذلك في صدر الإسلام قبل الهجرة وبعدها، ووقع في هذه الأيام فسقطت أوطان الإسلام في أيدي لصوص الأرض، ثم رسمت أخبث السياسات للذهاب به رويداً رويداً.
فكيف تستغرب الدعوة الى التسلح، والإهابة بأهل النجدة أن يوطنوا أنفسهم على التضحية في سبيل الله.
كيف تستنكر صناعة الموت في أمة يتواثب حولها الجزارون من كل فج؟ كلا، كلا.
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ}.
وتمشياً مع توجيه الوحي وسياسة الواقع، وحفاظاً على حق الله وحق الحياة؛ درَّب النبي (صلَّى الله عليه وسلم) رجاله على فنون الحرب، واشترك معهم في التمارين والمناورات والمعارك، وعدَّ السعي في هذه الميادين خطوات إلى أجلِّ القرَب وأقدس العبادات، لعله بذلك يفل شوكة الكفر، ويكسر عن المسلمين أذاه.
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا}.
عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وهو على المنبر يقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي.
والحديث ينوّه بما لإصابة الأهداف من أثر حاسم في كسب المعارك.
والرمي أعم من أن يكون بالسهم أو بالرصاص أو بالقنابل.
وعن فقيم اللخمي، قال: قلت لعقبة بن عامر: تختلف بين هذين الغرضين -تتردد بينهما- وأنت شيخ كبير يشق عليك؟ قال عقبة: لولا كلام سمعته من رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) لم أعانه. قال: وما ذاك؟ قال سمعته يقول:
من تعلَّم الرمي ثم تركه فليس منا!
فانظر كيف يبقى الشيوخ المسنُّون على دربتهم في إصابة الهدف ومهارة اليد ونشاط الحركة، إن الإسلام يفرض المقدرة على القتال فيوجبها على الشباب والشيوخ جميعاً.
وعن أبي نجَيح السُّلَمي قال: سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يقول: "من بلغ بسهم فهو له درجة في الجنة" فبلغت يومئذ عشرة أسهم، وسمعته يقول: "من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل رقبة محررة".
وعن عقبة بن عامر سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يقول: "إن الله عز وجل ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: 1-صانعه يحتسب في عمله الخير، 2- والرامي به، 3- ومنبله، الممدَّ به، فارموا واركبوا. وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، كل لهو باطل، ليس من اللهو محموداً إلا ثلاثة:
1- تأديب الرجل فرسه.
2- وملاعبته لأهله.
3- ورميه بقوسه، فإنهن من الحق، ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه، فإنها نعمة تركها أو كفرها".
وعن ابن عمر "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والغنيمة".
وهذا ترغيب من رسول الله عليه الصلاة والسلام في تعليم الفروسية، وإبراز لون معين من ألوان القتال لا يحط من قيمة الألوان الأخرى، أو يؤخر منزلتها.
ألا ترى كيف حض النبي على تعلم القتال في البحر فقال: "غزوة في البحر خير من عشر غزوات في البر، ومن أجاز البحر فكأنما أجاز الأودية كلها، والمائد فيه -الذي يصيبه الدّوار والقيء- كالمتشحط في دمه".
والدول تحتاج إلى كتائب البر والأساطيل في البحر والجو، وكل سلاح عون لأخيه في إدراك النصر، وأسبق الجند إلى رضوان الله أعظمهم نَيْلاً من العدو، وأرعاهم لذمام أمته وشرف عقيدته، سواء مشى، أم رمى، أم أبحر، أم طار.