6.5 الارتقاء الروحي والجماعي الذي أدركه الصحابة لمعنى العبادة:

وسر الارتقاء الروحي والجماعي الذي أدركه صحابة محمد أنهم كانوا موصولين بالله على أساس صحيح، فلم يشعروا في العمل له بما يشعر به الكثيرون من عنت وتكلف، ولا بما يعانون من شرود وحيرة.
هناك طبيعتان في الإنسان غير منكورتين: الإعجاب بالعظمة، والعرفان بالجميل، فعندما ترى آلة دقيقة أو جهازاً عجيباً أو صورة رائعة أو مقالاً بليغاً فإنك لا تنتهي من تبين حسنه حتى تنطوي جوانحك على الإعجاب بصاحبه، فإن الذكاء العميق والاقتدار البارز يجعلانك تهتز من تلقاء نفسك احتراماً للرجل الذكي القدير!.
وكذلك عندما يسدى إليك معروف أو تمتد يد إليك بنعمة إنك تذكر هذا الصنيع لمن تطوع به، وعلى ضخامة ما نلت من خير يلهج لسانك بالثناء ويمتلىء فؤادك بالحمد، كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة

يدي، ولساني، والضمير المحجبا!!

ورسول الإسلام جاء يثير هاتين الطبيعتين نحو أحق شيء بهما، ألست تعجب بالعظمة وتحتفي بصاحبها! ألست تقدر النعمة وتشكر مسديها!
إنك ترمق بإجلال مخترع الطيارة، وكلما رأيتها تشق الفضاء زدت إشادة بعبقريته! فما رأيك فيمن يدفع الألوف المؤلفة من الكواكب تطير في جو السماء من غير توقف ولا عوج! وما رأيك فيمن خلق عقل هذا المخترع، وأودع في تلافيف مخه الذكاء الذي وصل به إلى ما راعك واستثار إعجابك؟
أليس ربك ورب كل شيء أحق بأن تعرف عظمته وتفتح عيونك على آثار قدرته...؟
فإذا عرفت عظمته من عظمة الوجود الذي يحيط بك خجلت من التهجم عليه ونسبة مالا يليق إليه!! وقلت مع العارفين: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
إنك لو استضافك شخص كريم ورأيت البشاشة في وجهه والسماحة في قراه حفظت له -ما حييت- هذه المنة، وسعيت جهدك كي تكافئه عليها، وحدثت من تعرف بسجايا هذا المضياف الكريم، فما رأيك فيمن تولى أمرك بنعمائه من المهد إلى اللحد؟ فأنت لا تطعم إلا من رزقه، ولا تكسى إلا من ستره، ولا تأوي إلا إلى كنفه، ولا تنجو من شدة إلاّ بإنقاذه...!!
إن محمداً (صلَّى الله عليه وسلم) وصل الناس بربهم على ومضات لطاف من تقدير العظمة ورعاية النعمة، فهم إذا انبعثوا لطاعته كانوا مدفوعين إلى أداء هذه الطاعات بأشواق من نفوسهم ورغبات كامنة تجيش بتوقير العظيم وحمد المنعم...
والعبادة ليست طاعة القهر والسخط، ولكنها طاعة الرضا والحب!
والعبادة ليست طاعة الجهل والغفلة، ولكنها طاعة المعرفة والحصافة!
قد تصدر الحكومة أمراً بتسعير البضائع فيقبل التجار كارهين؛ أو أمراً بخفض الرواتب فيقبل الموظفون ساخطين.
وقد تشير إلى البهيمة العجماء فتنقاد إليك لا تدري إلى مرتعها تسير أم إلى مصرعها.
تلك أنواع من الطاعات بعيدة عن معنى العبادة التي شرع الله للناس، فالعبادة التي أجراها الله على الألسنة في الآية الكريمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والتي جعلها حكمة الوجود وغاية الأحياء في قوله:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي}.
تعني الخضوع المقرون بالمعرفة والمحبة، أي الناشىء عن الإعجاب بالعظمة والعرفان للجميل..
وقد اطَّردت آيات القرآن تبني سلوك المؤمنين على هذه العمد الراسية.
فهي -إذ تعرِّف الناس بالله- تريهم صحائف مشرقة من خلقه البديع، وفضله الجزيل، تمزق ما نسجته الغفلة على الأعين من جهالة وجحود.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْأَنهَارَ. وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
إن الرجل لا يقوم بالعمل العظيم وهو منساق إليه بالسياط الكاوية، إنما تولد الإجادة ويبلغ الشيء درجة الإحسان بما يقارنه من رغبة ورضا.
فإذا أقبل المرء بفكره وقلبه على معتقد وهب له نفسه وحسه، وعاش يحلم به في منامه، وينشط له في يقظته، فذلك يرقى به صعداً في فهم مبدئه وإجادة خدمته.
ومن ثَمَّ فإن الإسلام لا يحفل بالإيمان النظري البحت ولا يقبله إلا ليكون سُلّماً إلى ما بعده، وهو الإيمان بالعقل والعاطفة معاً.
لابد من تلوين الوجدان في قضايا الإيمان، ليس بمسلم من يعرف الله ويكرهه، ولا قيمة لمسلم يعرف الله ووجدانه خال باهت، فلا إعجاب فيه ولا شكران، كما أنه لا غمط فيه ولا جحود.
والمسلم كل المسلم هو الذي يعرف الله معرفة اليقين، ويضم إلى هذه المعرفة إحساساً يعترف بمجادة المجيد ونعماء المنعم، تباركت أسماؤه!
والإيمان بهذه المثابة هو الإيمان المنتج، وهو صانع العجائب، وباني الدول، ومقيم الحضارات السنية، هو الذي يجعل الفرد يستحلي التكاليف المنوطة بعنقه، فيقبل على أدائها وكأنها رغبات نفس لا واجبات دين..
أتظن أن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) عندما قام يصلي حتى تورمت أقدامه كان يغالب الألم الناتج في بدنه كما يغالبه التلميذ المذنب، عندما يوقف الساعات الطوال معذباً مهاناً؟
كلا..كلا..إن استعذابه للمناجاة واستغراقه في الخشوع أذهلاه عما به، وغلبا على بوادر الألم الناشىء من طول الوقوف.
والرجل الموفور الحماس، الفائر العاطفة، قد يظل يعمل ويدأب حتى يصل في عمله ودأبه إلى درجة يصعب منالها على القاعدين الباردين.
ووزن الأمور عند أصحاب الإيمان والهمم غير وزنها عند أصحاب الريبة والعجز، ألا ترى حذيفة بن اليمان عندما انطلق يتعرف أحوال المشركين في غزوة الخندق، في ليلة باردة قارصة الجو لافحة السبرات:
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة

حتى يلف على خيشومه الذنبا!

لقد انطلق وهو يقول عن نفسه: كأنما أسير في حَمّام..
هذه حرارة الإيمان غمرت -بدفئها- الرجل، وجعلته ينفذ في كبد الليل البارد وكأنه سهم مسدد.
هذا الإيمان المرتكز على العواطف المتقدة، هو الذي أشعل المعارك الطاحنة، وقاد إلى النصر المظفر، وهو الذي هدم ما تركز قروناً طويلة في سلطان الظلم والبغي، بعدما ظن أنه لن يطيح أبداً.
وأساسه ما علمت من تغلغل الإيمان في العقل والعاطفة معاً، يغذو شجرته الباسقة مزيد من معرفة الله والشعور بعظمته ونعمته.
ذلكم أسلوب القرآن في تعريف الناس بالله. إنه أسلوب يقيمهم على عبودية الحب والتفاني، لا على عبودية التحقير والهوان، عبودية الإعجاب بالعظمة والإقرار بالإحسان، لا العبودية المبهمة التي تصادر الإرادة وتزري بالإنسان.
{قل: الحمدُ لله وسلامٌ على عبادِهِ الذين اصطفى؛ آللهُ خيرٌ أمّا يشركون؟ أمَّنْ خلق السموات والأرضَ، وأنزلَ لكم من السماءِ ماءً، فأنبتنا به حدائق ذاتَ بهجةٍ ما كان لكم أن تنبتوا شَجَرها؛ أإلهٌ مع اللهِ؛ بل هم قومٌ يَعدِلون!. أَمَّنْ جَعل الأرضَ قراراً، وجعل خلالها أنهاراً، وجعلَ لها رَواسيَ، وجعل بين البحرين حاجزاً؟ أإِلهٌ مع اللهِ، بل أكثرهم لا يعلمون!. أمَّنْ يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشفُ السوءَ، ويجعلكم خلفاءَ الأرضِ؛ أَإِلهٌ مع اللهِ! قليلاً ما تذكَّرون! أمَّنْ يهديكم في ظُلماتِ البرِّ والبحر، ومنْ يُرسلُ الرِّياح بُشْراً بين يدَي رحمته؛ أإلهٌ مع الله! تعالى عما يشركون!. أَمَّنْ يبدأ الخلق ثم يعيده، ومن يرزُقكم مِنَ السماءِ والأرضِ؛ أإلهٌ مع الله! قل هاتوا بُرهانكم إن كنتم صادقين}.
إن هذا التساؤل المتواصل السريع يفتح على النفس آفاقاً بعيدة من الإيمان الذكي، ويجعلها تهرع إلى الله متجردة، تنفر من شوائب الشرك نفور الرجال الكبار من عبث الصبية.
وآيات النظر والتفكير يدور -أغلبها- على هذا المحور الثابت.
وربما احتاجت النفس -في ساعات غرورها- إلى لون من أدب القمع والتوعد يكبح جماحها، وهذا لا يتنافى -البتة- مع الأصل الذي قررناه آنفاً، فإن قسوة الأب مع ولده -حيناً- لا تغير من طبيعة الحنان فيه.
والقرآن إذ يحرك المواهب السامية في الإنسان -بعرض آثار القدرة العليا عليه- قد يردف ذلك بوخزات الإحساس المخدر، ليلتفت ويعقل، لا لينكمش ويجبن.
قال تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ}.
ويقول بعد ذلك:
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.
وقد سلك رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) المنهج نفسه في غرس الإيمان ورعاية ثماره.
وكانت سيرته في الإقبال على الله درساً حياً، يفعم الأفئدة بإجلال الله وإعظامه والمسارعة إلى طاعته، والنفور من عصيانه.
وكانت القلوب تتفتّح على هدى الله ورسوله، فما تسع بعده شيئاً.
عن جُبير بن مُطعم سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ الآية:
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَأَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ}.
كاد قلبي أن يطير..!!.

ومد الإيمان من فكرة في الرأس إلى عاطفة في القلب تجعل الرجل ينبض باليقين والإخلاص هو من صميم السنة. وهو مهاد الخلال الفاضلة التي سادت المسلمين وأعلت شأنهم، وهو معنى الحديث المشهور "ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار".
ومن ذلك أيضاً أن يتغلغل الإيمان بالرسالة والمغالاة بصاحبها إلى حد ينسى الإنسان معه نفسه فهو -عن حب واندفاع، لا عن تكليف ورهبة- يفدي الرسالة وصاحبها بالنفس والنفيس.
عن عبدالله بن هشام: قال: كنا مع النبي عليه الصلاة والسلام وهو آخذ بيد عمر، فقال عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي! فقال الرسول (صلَّى الله عليه وسلم): لا -والذي نفسي بيده- حتى أكون أحبّ إليك من نفسك، فقال عمر: فإنه الآن لأنت أحبُّ إلي من نفسي! فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): الآن يا عمر.."، أي الآن فقط تم إيمانك.
وهذا الحديث يحتاج إلى إيضاح. إن الفضائل لا يجوز أن تطيش بها كفة.
وقد احترم الناس خلق الوفاء في السموأل لمّا ترك ابنه يذبح، مؤثراً أن تسلم ذمته، ويرد إلى من ائتمنه وديعته.
والمرء إذا ضحى بنفسه فداء شرفه، فقد أدى واجبه.
ومحمد (صلَّى الله عليه وسلم) لم يطلب من الناس أن يقدسوا فيه صورة اللحم والدم، ولا أن يرغبوا بنفسه عن أنفسهم ليموتوا كي يحيا أو ليهونوا كي يعظم، أو ليفتدوا أمجاده الخاصة بأرواحهم وأموالهم، أو ليتأله فوقهم كما تأله فرعون وأمثاله من الجبارين.
كلا كلا، فمحمد يريد من المؤمنين أن يقدسوا فيه معنى الرسالة وأن يقتدوا فيه مثلها العالية، وأن يصونوا -في شخصه- معالم الحق المنزل ومآثر الرحمة العامة.
إن الأنبياء لم يحيَوا لأنفسهم، والمصيبة فيهم لا تنزل بهم أو بأهلهم خاصة.
إنهم يحيون للعالم كله. أليسوا مناط هدايته التامة وسعادته العامة؟
فلا غرو إذ كانت تفديتهم من أصول الإيمان ومعاقد الكمال.
وقد كان محمد (صلَّى الله عليه وسلم) أهلاً لأن يحب؛ وما تعرف الدنيا رجلاً فاضت القلوب بإجلاله، وتفانى الرجال في حياطته وإكباره مثل ما يعرف ذلك لصاحب الرسالة العظمى محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام.