5.5 المصطفون الأخيار من صحابة رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وخبر الأذان للاجتماع للصلاة:
إن المؤمنين الذين صحبوا الأنبياء واقتربوا من حياتهم أتيح لهم ما لم يتح لغيرهم من منابع الصفاء، ووسائل الارتقاء.
إن مشاعرك ترق عندما تسمع النغم العذب، وعواطفك تسمو عندما تقرأ البطولة الرائعة، بل إنَّ الذين يحضرون تمثيل بعض الروايات المثيرة يصبغهم جو القصة المفتعلة، فيضحكون ويبكون، ويهدأون ويضجون.. فما ظنك بقوم يتبعون رجلاً تكلِّمه السماء، ويتفجر من جوانبه الكمال، ويسكب على من حوله آيات الطهر؟ فإذا ثقلت نفوسهم عن خير، دفع بها إلى الأمام، وإذا علقت بمسالكهم شهوة، نقّاها فرد عليها سناءها. إن للعظماء إشعاعاً يغمر البيئة التي يظهرون فيها، وكما يقترب المصباح الخامد من المصباح المشتعل فيضيء منه، تقترب النفوس المعتادة من الفرد الممتاز، فتنطوي في مجاله وتمشي في آثاره!!
وقد التف بمحمد (صلَّى الله عليه وسلم) فريق من الربانيين الأتقياء، كانوا له تلاميذ مخلصين، فزكت -بصحبته- نفوسهم، وشفت طباعهم، حتى أشرق عليها من أنوار الإلهام ما جعلها تنطق بالحكمة وفصل الخطاب.
ولا تحسبن العقل الجبار -مهما أوتي من نفاذ- يستطيع إدراك الكمال بقوته الخاصة، فإذا لم تسدده عناية عليا فإنه سيجوب كل أفق دون أن يبصر غاية أو يهتدي طريقاً، كالطيار الذي يضل في الجو عندما يتكاثر أمام عينيه الضباب. إنه يحكم القيادة، ويضبط الآلات، ويرسل أنوار مصابيحه في أحشاء الغيوم المتراكمة فإذا لم يتلق إرشاداً يحدد له مكانه وبعده وكيف يهبط.. فإنه سيظل يحلق عبثاً..ثم تهوي به الريح في مكان سحيق.
وكم من فلاسفة عالجوا شؤون الكون والحياة. فمنهم من ضل عن الحق على طول بحثه عنه، فلم يصل إليه قط. ومنهم من استغرق في الوصول إليه أعواماً طوالاً، ولو مشى وراء الرسل لانتهى إليه في أيام قصار، وهو في مأمن من الشرود والعثار
ثم إن الإنسان ليس عقلاً فحسب، إنه -قبل ذلك- قلب ينبغي أن يسلم من الأهواء والآثام، وأن ينجو من الشقاوة والظلام، وأن يكون في حنايا صاحبه قوة تسوق إلى الخير والحب، وحادياً يهفو إلى الجمال والرحمة..
والمرسلون الكرام يتعهدون ضمائر البشر بالتعليم والتربية.
وأشبه الناس بهم من اقتفى آثارهم وأخذ في طريقهم، وأول أولئك قاطبة من صحبوهم في حياتهم، وقاسموهم أعباء دعوتهم ومغارم جهادهم..
قال عبدالله بن مسعود: "من كان مستناً فليستنّ بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام. كانوا أفضل هذه الأمة، أبرّها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً. اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم..".
ولا شك أن أصحاب محمد يرجحون أصحاب موسى وعيسى.
فإن تاريخهم في الإيمان والجهاد وإبلاغ الدعوة إلى الأخلاف كاملة مضبوطة غير منقوصة ولا محرفة، لا يشبه أي تاريخ آخر..
ونحن نسوق هذه المقدمة بين يدي الكلام عن الأذان، وكيف شرع؟ فإن ميلاد هذه الشعيرة العظيمة، يحمل معه آيات بيِّنة عن عظمة النفوس إذا صفت فنضحت بالحق، وسكن إليها الإلهام..
قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) حين قدم المدينة إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهمَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن يجعل بوقاً كبوق اليهود الذين يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس، فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة. فبينما هم على ذلك رأى عبدالله بن زيد بن ثعلبة أخو بني الحارث النداء، فأتى رسول الله فقال: يا رسول الله، إنه طاف بي هذه الليلة طائف، مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبدالله، أتبيع هذا الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قال: قلت ندعو به إلى الصلاة. قال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ قلت ما هو؟ قال: تقول الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله. حيَّ على الصلاة حيَّ على الصلاة. حيَّ على الفلاح حيَّ على الفلاح. الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله. فلما أخبر بها الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) قال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله! فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها، فإنه أندى صوتاً منك. فلما أذن بها بلال سمعه عمر وهو في بيته فخرج إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يجر رداءه يقول: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذي رأى!! فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): فلله الحمد. وفي رواية: فأمر رسول الله بلالاً فأذن به. قال الزهري: وزاد بلال في نداء صلاة الغداة: الصلاة خير من النوم مرتين. فأقرها رسول الله.
وفي رواية أخرى رأى عمر في المنام: لا تجعلوا الناقوس، بل أذِّنوا للصلاة، فذهب عمر إلى النبي (صلَّى الله عليه وسلم) ليخبره بما رأى وقد جاء النبي عليه الصلاة والسلام الوحي بذلك.
فما راع عمر إلا بلال يؤذن فقال رسول الله حين أخبره بذلك: قد سبقك بذلك الوحي.
وهذا يدل على أن الوحي قد جاء بتقرير ما رآه عبدالله بن زيد..
هذه الكلمات الطيبة التي ترتفع بين الحين والحين تقرع الآذان، وتوقظ القلوب، وتصيح بالناس: هلموا إلى الله..وعاها في رؤيا صالحة ذهن نيِّر، فأسرع بها إلى رسول الله يرويها كما ألقيت في روعه، لتكون نداء المسلمين إلى الصلاة ما أقيمت على ظهر الأرض صلاة..
وتجاوب النفوس مع الوحي هو غاية التألق وقمة الحق، وهو أمارة على أن الهدى أصبح غريزة فيها، فهي تستقيم عليه في اليقظة والنوم، وتتجه إليه على البديهة وبعد التروي، وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يربط أصحابه بالوحي النازل عليه من السماء ربطاً موثقاً، يقرؤه عليهم ويقرأونه عليه، لتكون هذه المدارسة إشعاراً بما على الصحاب من حقوق الدعوة وتبعات الرسالة، فضلاً عن ضرورة الفهم والتدبر!!
عن عبدالله بن مسعود قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): اقرأ علي القرآن!! فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري! قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال حسبك الآن، فالتفت إليه، فإذا عيناه تذرفان..
زاد في رواية (شهيداً ما كنت فيهم..).
وإذا كان الاهتداء إلى ألفاظ الأذان قد ترشحت له سريرة مصفّاة، مشغوفة بالعبادة، مشغولة بالحق، فإن من أصحاب محمد (صلَّى الله عليه وسلم) كذلك من اندمجوا في معاني الإيمان، وخلصوا لمعين الرسالة؛ حتى إن الله أمر رسوله أن يقرأ عليهم بعض سور القرآن، تنويهاً بمكانهم عند الله ورسوخهم في آياته.
عن أنس بن مالك قال رسول الله لأبيِّ بن كعب: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك": {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ..} قال أبيِّ: وسمّاني؟ قال: نعم، وفي رواية آلله سماني لك؟ قال: نعم. قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: نعم، قال: فذرفت عيناه...