4.5 علاقة المسلمين بغير المسلمين في مجتمع المدينة الجديد بعد الهجرة إليها:

أما الأمر الثالث، وهو صلة الأمة بالأجانب عنها الذين لا يدينون بدينها، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد سنَّ في ذلك قوانين السماح والتجاوز التي لم تعهد في عالم مليء بالتعصب والتغالي، والذي يظن أن الإسلام دين لا يقبل جوار دين آخر، وأن المسلمين قوم لا يستريحون إلا إذا انفردوا في العالم بالبقاء والتسلط هو رجل مخطىء بل متحامل جريء!.
عندما جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وجد بها يهود، توطنوا ومشركين مستقرين.
فلم يتجه فكره إلى رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة والخصام، بل قبل -عن طيب خاطر- وجود اليهود والوثنية، وعرض على الفريقين أن يعاهدهم معاهدة الند للند، على أن لهم دينهم وله دينه.
ونحن نقتطف فقرات من نصوص المعاهدة التي أبرمها مع اليهود دليلاً على اتجاه الإسلام في هذا الشأن.
جاء في هذه المعاهدة: أن المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة.
وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم!!
وأنه لا يجيرُ مشركٌ مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن...
وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين.
لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.
وأن ليهود بني النجار والحارث وساعدة وبني جشم وبني الأوس الخ، مثل ما ليهود بني عوف.
وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
وأن بينهم النصح والنصيحة والبر، دون الإثم.
وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره...
وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.
وأن من خرج آمن، ومن قعد بالمدينة آمن، إلا من ظلم وأثم..
وأن الله جار لمن بر واتقى..".
وهذه الوثيقة تنطق برغبة المسلمين في التعاون الخالص مع يهود المدينة لنشر السكينة في ربوعها، والضرب على أيدي العادين ومدبري الفتن أياً كان دينهم.
وقد نصت بوضوح على أن حرية الدين مكفولة.
فليس هناك أدنى تفكير في محاربة طائفة أو إكراه مستضعف. بل تكاتفت العبارات في هذه المعاهدة على نصرة المظلوم، وحماية الجار، ورعاية الحقوق الخاصة والعامة، واستنزل تأييد الله على أبر ما فيها وأنقاه، كما استنزل غضبه على من يخون ويغش..
واتفق المسلمون واليهود على الدفاع عن يثرب إذا هاجمها عدو، وأقرت حرية الخروج من المدينة لمن يبتغي تركها، والقعود فيها لمن يحفظ حرمتها.
ويلاحظ أن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه المعاهدة أشار إلى العداوة القائمة بين المسلمين ومشركي مكة وأعلن رفضه الحاسم لموالاتهم، وحرّم إسداء أي عون لهم، وهل ينتظر إلا هذا الموقف من قوم لا تزال جروحهم تقطر دماً لبغي قريش وأحلافها عليهم؟
أكان اليهود صادقين في موافقتهم على هذا العهد؟.
أغلب الظن أنهم لم يكونوا جادِّين حين ارتضوه وقبلوا إنفاذه.
وآفة العهود أن يرتبط الوفاء بها بمدى المنفعة المرجوة منها، فإذا بدا أن المعاهدة المبرمة لا تحقق المطامع المبتغاة، قلَّ التمسك بها والتمست الفرص للتحلل منها.
وقد كان اليهود يبنون عظمتهم المادية والسياسية على تفرق العرب، قبائل متناحرة، فلما دخل العرب في الإسلام وأخذت الحزازات القديمة تتلاشى وتتابعت تؤكد أن الإسلام سوف يصنع من العرب أمة واحدة..استشعر اليهود القلق وساورتهم الهموم، وشرعوا يفكرون في الكيد لهذا الدين والتربص بأتباعه.
ثم إن اليهود في المدينة يكوِّنون البيئة التي تتوافر فيها سوءات التدين المصنوع، والاحتراف السمج بمبادىء السماء، وأبرز خلال هذه البيئات الحقد والنفاق والتمسك بالقشور والولع بالجدل، ومن وراء ذلك قلوب خربة، ونفوس معوجَّة.
وربما اقتبسوا من جوارهم للعرب بعض فضائل الصحراء كالكرم والشجاعة، بيد أن انطواءهم العنصري غلب على سيرتهم، فالتصقت هذه الفضائل بنفوسهم كما تلتصق أوراق الزينة بالجدران المشوهة...
وكان المتوقع أن يرحب اليهود بالإسلام، فإذا لم يرحبوا به فليكونوا أبطأ من الوثنيين في مخاصمته، فإن محمداً (صلَّى الله عليه وسلم) يدعو إلى توحيد الله، وإصلاح العمل، والاستعداد لحياة أرقى في الدار الآخرة، والدين الذي جاء به وقّر موسى وأعلى شأنه، ونوّه بكتابه، وطلب من اليهود أن ينفِّذوا أحكامه، ويلزموا حدوده.
لكن اليهود صمتوا -أولاً- صمت المستريب، ثم بدا لهم فقرروا المعالنة بالجحود.
وهذا الترحيب المتوقع تلمح دلائله في كثير من الآيات، فإن عبدة الأصنام إذا أنكروا النبوة فأهل الكتاب يجب أن يشهدوا بها.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}.
وعبدة الأصنام إذا رفضوا التذكير بالله فأهل الكتاب أحق بأن يخشعوا إذا وجدوا من يذكرهم به {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ}.
غير أنك تدهش، إذ تجد الجرأة على الله، والنفور من أحكامه، ووصفه بما لا يليق شائعة بين اليهود، شيوعها بين المشركين!
فإذا غضب الإسلام على من ينسب إلى الله ولداً، بشراً أو حجراً، فماذا ترى فيمن يصف رب السموات والأرض بالفقر والبخل؟.
{وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا...}.
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}.
على أن الإسلام يدع أولئك الجحدة في ضلالهم، فلا يستأصل كفرهم بالسيف، ويكتفي بأن يعلن دعوته، ويكشف حقيقته، ويملأ الجو بآياته ومعالمه.
فمن استراح إليها فدخل فيها؛ فبها ونعْمَتْ، وإلا فهو وشأنه، ولا يطالبه الإسلام بشيء إلا الأدب والمسالمة، وترك الحق يسير من غير عائق أو نكير.
ولقد جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إلى المدينة فمد يده إلى اليهود مصافحاً، وتحمل الأذى مسامحاً، حتى إذا رآهم مجمعين على التنكيل به ومحو دينه، استدار إليهم، وجرت بينه وبينهم من الوقائع ما سنقص أخباره في موضعه...
بتقوى الله والإخلاص له دعمت الناحية الروحية في هذا المجتمع الجديد.
وبالإخاء الحق، تماسك بنيانه وتوثقت أركانه..
وبالعدل والمساواة، والتعاون، رُسمت سياسة الأجانب، وعومل أتباع الأديان الأخرى.
ومن ثم استقرت الأوضاع، ووجد المسلمون متسعاً لتجديد قواهم وترتيب شؤونهم.