3.5 الأخوة بين المهاجرين والأنصار في المدينة:

أما عن الأمر الثاني -وهو صلة الأمة بعضها بالبعض الآخر- فقد أقامه الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) على الإخاء الكامل. الإخاء الذي تمحى فيه كلمة "أنا" ويتحرك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها، فلا يرى لنفسه كياناً دونها، ولا امتداداً إلا فيها...
ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام.
وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه.
وقد جعل الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) هذه الأخوة عقداً نافذاً؛ لا لفظاً فارغاً، وعملا يرتبط بالدماء والأموال؛ لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر..!!
وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال...
حرص الأنصار على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين، فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة!! وقدر المهاجرون هذا البذل الخالص فما استغلُّوه، ولا نالوا منه إلا بقدر ما يتوجهون إلى العمل الحر الشريف.
روى البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك، فسمِّها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟؟
فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن!! ثم تابع الغدُوَ..ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة، فقال النبي (صلَّى الله عليه وسلم): "مَهْيَمْ"؟ قال: تزوجتُ. قال: "كم سقتَ إليها". قال: نواة من ذهب!
وإعجاب المرء بسماحة "سعد" لا يعدله إلا إعجابه بنبل عبد الرحمن، هذا الذي زاحم اليهود في سوقهم، وبزَّهم في ميدانهم، واستطاع-بعد أيام-أن يكسب ما يعف به نفسه ويحصن به فرجه!! إن علو الهمة من خلائق الإيمان؛ وقبح الله وجوه أقوام انتسبوا للإسلام فأكلوه، وأكلوا به حتى أضاعوا كرامة الحق في هذا العالم.
وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) الأخ الأكبر لهذه الجماعة المؤمنة. لم يتميز عنهم بلقب إعظام خاص، وفي الحديث: "لو كنت متخذاً من أمتي خليلا لاتخذته -يعني أبا بكر- خليلا، ولكن إخوة الإسلام أفضل".
والإخاء الحق لا ينبت في البيئات الخسيسة، فحيث يشيع الجهل والغش والجبن والبخل والجشع، لا يمكن أن يصح إخاء، أو تترعرع محبة، ولولا أن أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) جبلوا على شمائل نقية، واجتمعوا على مبادىء رضية، ما سجلت لهم الدنيا هذا التآخي الوثيق في ذات الله.
فسموّ الغاية التي التقوا عليها وجلال الأسوة التي قادتهم إليها، نمَّيا فيهم خلال الفضل والشرف، ولم يدعا مكاناً لنجوم خلة رديئة.
ذلك، ثم إن محمداً عليه الصلاة والسلام كان إنساناً تجمَّع فيه ما تفرق في عالم الإنسان كله من أمجاد ومواهب وخيرات، فكان صورة لأعلى قمة من الكمال يمكن أن يبلغها بشر، فلا غرو إذا كان الذين قبسوا منه، وداروا في فلكه رجالاً يحيون بالنجدة والوفاء والسخاء.
إن الحب كالنبع الدافق يسيل وحده، ولا يتكلف استخراجه بالآلات والأثقال، والأخوة لا تفرض بقوانين ومراسيم، وإنما هي أثر من تخلِّص الناس من نوازع الأثرة والشح والضِّعة.
وقد تبودلت الأخوة بين المسلمين الأولين لأنهم ارتقوا -بالإسلام- في نواحي حياتهم كلها، فكانوا عباد الله إخوانا. ولو كانوا عبيد أنفسهم ما أبقى بعضهم على بعض!!
على أن تنويهنا بقيمة التسامي النفساني في تأسيس الإخاء، لا يمنع الحاكم من فرضه على الناس نظاماً يؤخذون بحقوقه أخذاً، فإذا لم يؤدوها طوعاً أدوها كرهاً، وذلك كما يجبرون على العلم، والجندية، وأداء الضرائب وغير ذلك.
وقد ظلَّت عقود الإخاء مقدمة على حقوق القرابة في توارث التركات إلى موقعة "بدر" حتى نزل قوله تعالى:
{وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
فألغي التوارث بعقد الأخوة، ورجع إلى ذوي الرحم. وروى البخاري عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى:
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ...}.
قال: كان المهاجرون -لما قدموا المدينة- يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى النبي عليه الصلاة والسلام بينهم. فلما نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ...} نسخت ذلك ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث، ويوصي له.
وروي في تفصيل هذا الإخاء أن النبي (صلَّى الله عليه وسلم) تآخى مع علي، وتآخى حمزة مع زيد، وأبو بكر مع خارجة، وعمر مع عتبان بن مالك...الخ.
ومن العلماء من يشك في أخوة الرسول عليه الصلاة والسلام مع علي.
ولكن ما صح أن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) جعل عليا منه بمنزلة هارون من موسى يؤيد هذه الرواية، وليس يخدش هذا من منزلة أبي بكر ولا استحقاقه الصدارة.