2.5 بناء المسجد النبوي في المدينة:
ففي الأمر الأول بادر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بناء المسجد، لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين، وتنقي القلب من أدران الأرض، ودسائس الحياة الدنيا . فاغفر للأنصار والمهاجره!! لذاك منّا العمل المضلَّل!!
والمروي أن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) بنى مسجده الجامع حيث بركت ناقته، في مربد لغلامين يكفلهما "أسعد بن زرارة" وكان الغلامان يريدان النزول عنه لله، فأبى الرسول عليه الصلاة والسلام إلا ابتياعه بثمنه، وكان المربد قبل أن يتخذ مصلّى كهذه المصليات التي تنتشر في ريفنا. كانت تنبت فيه نخيل وشجر غرقد، ويختفي في ترابه بعض قبور للمشركين.
فأمر الرسول بالنخل فقطع، وبالقبور فنبشت، وبالخرب فسُويَت، وصفّوا النخل قبلة للمسجد -والقبلة يومئذ بيت المقدس- وجعل طوله مما يلي القبلة إلى المؤخرة مائة ذراع، والجانبان مثل ذلك تقريباً، وجعلت عضادتاه من الحجارة، وحفر الأساس ثلاثة أذرع، ثم بني باللبن، واشترك الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) وأصحابه في حمل اللبنات والأحجار على كواهلهم.
وكانوا يروِّحون عن أنفسهم عناء الحمل والنقل والبناء.. بهذا الغناء:
اللهمَّ لا عيش إلا عيش الآخرة
وقد ضاعف حماس الصحابة في العمل رؤيتهم النبي عليه الصلاة والسلام يجهد كأحدهم، ويكره أن يتميز عليهم، فارتجز بعضهم هذا البيت:
لئن قعدنا والرسول يعمـــــــل
وتم المسجد في حدود البساطة، فراشه الرمال والحصباء وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تفلت الكلاب إليه فتغدو وتروح.
هذا البناء المتواضع الساذج، هو الذي ربَّى ملائكة البشر، ومؤدبي الجبابرة وملوك الدار الآخرة. في هذا المسجد أذن الرحمن لنبيٍّ يؤم بالقرآن خيرة من آمن به، أن يتعهدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلى غسق الليل.
إن مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي، تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم؛ وندوة للأدب، وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام، لكن الناس -لما أعياهم بناء النفوس على الأخلاق الجليلة- استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة، تضم مصلين أقزاماً!!.
أما الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية أنفسهم وتقويمها، فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام....
والمسجد الذي وجه الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) همته إلى بنائه قبل أي عمل آخر بالمدينة، ليس أرضاً تحتكر العبادة فوقها؛ فالأرض كلها مسجد، والمسلم لا يتقيد في عبادته بمكان.
إنما هو رمز لما يكترث له الإسلام أعظم اكتراث، ويتشبث به أشد تشبث؛ وهو وصل العباد بربهم وصلاً يتجدد مع الزمن، ويتكرر مع آناء الليل والنهار، فلا قيمة لحضارة تذهل عن الإله الواحد، وتجهل اليوم الآخر، وتخلط المعروف بالمنكر!.
والحضارة التي جاء بها الإسلام تذكِّر أبداً بالله وبلقائه، وتمسك بالمعروف، وتبغض في المنكر، وتقف على حدود الله...
ولقد شاهد يهود المدينة ومشركوها هذا الرسول الجديد يحتشد مع صحبه في إقامة المسجد، يمهده للصلاة؛ فهل رأوا سيرة تريب أو مسلكاً يغمز؟؟
روى البيهقي عن عبد الرحمن بن عوف قال: كانت أول خطبة خطبها رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بالمدينة أن قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد: أيها الناس، فقدِّموا لأنفسكم، تعلمنَّ والله ليصعقنَّ أحدكم، ثم ليدعنَّ غنمه ليس لها راع، ثم ليقولنَّ له ربه -ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه-: ألم يأتك رسولي فبلَّغك؟ وآتيتك مالاً وأفضلت عليك؟ فما قدمت لنفسك؟ فينظر يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثم ينظر قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي نفسه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم وعلى رسول الله..!!