14.4 استقرار المدينة بوصول سيد الخلق إليها:

رجل العقيدة يسير طوعاً لها، ويجد طمأنينته حيث تقر عقيدته وتلقى الرحب والسعة.
والناس ينشدون سعادتهم فيما تعلقت به هممهم وجاشت به أمانيهم، وهم ينظرون إلى الدنيا وحظوظهم منها على ضوء ما رسب في نفوسهم من عواطف وأفكار..
فطالب الزعامة يرضى أو ينقم، وينشط أو يكسل بمقدار قربه أو بعده من أمله الحبيب.
انظر المتنبي كم مدح وهجا؟ وكيف انتقل من الشام إلى مصر، ومن مصر إلى غيرها، وانظر إلى ذكره أحاديث الناس عنه وعن بغيته.
يقولون لي: ما أنت في كل بلدة

وما تبتغي؟ ما أبتغي جَلَّ أن يُسْمى

والذي جلَّ أن يسمى صرح به في مكان آخر، فطلب أن تناط به ضيعة أو ولاية!! أي بعض ما وضعته الحظوظ في أيدي الملوك والملاك؛ وإنه ليتعجل هذا الأمل من كافور فيقول:
أبا المسك هل في الكأس فضل أنا له؟

فإني أغنِّي منذ حين وتشرب!

والمتنبي في نظري أهل -بكفايته- للمناصب الرفيعة. ولكن التطلع إلى الدنيا بهذا النزق والإلحاح، محكوم بالمشيئة التي ذكرتها الآية الكريمة:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ...}.
ومن الناس من يتعشق الجمال ويجري وراء النساء ويجد في المتعة بهن نهمته التي يسكن بعدها ويستكين ويقول:
لا أرى الدنيا على نور الضحى

بل أرى الدنيا على نور العيون

ومنهم من يبحث عن المال ويقضي سحابة نهاره وشطر ليله يتتبع الأرقام في دفاتره، يحصي ما وقع في يده ويتربص بما لم يقع، وربما ذهل عن طعامه ولباسه في غريزة الاقتناء التي سدّت عليه المنافذ.
إلى جانب هذه الأصناف تجد فريقاً آخر من البشر لا يطيق الكف عن إسداء الجميل، وبذل النصيحة، ورعاية الصالح العام، وإفناء ذاته في سبيل الفضائل التي ملكت لبه وعمرت قلبه...
إنه يبيت مسهَّداً لو فرَّط في واجب... راحته الكبرى في نشدان الكمال وسعادته القصوى يوم يدرك منه سهماً...
وأصحاب الرسالات رهناء ما تحملوا من أمانات ضخمة، فمغانمهم ومغارمهم وحلهم وترحالهم وصداقتهم وخصومتهم ترجع كلها إلى المعاني التي ارتبطوا بها وحَيُوا لأجلها...
وصاحب الرسالة العظمى محمد بن عبدالله ضرب من نفسه المثل الفذ للمكافحين، فمنذ أخذ على عاتقه تمزيق الأسداف التي ألقت على العالم ليلا كثيفاً من الشرك والخرافة؛ لم يفلح أحد في ثنيه عن عزمه أو تعويق مسيره أو ترضيته برغبة أو ردعه برهبة، وفنيت أمام عينيه فوارق الزمان والمكان، فالغريب عنه إذا عرف الحق قريب، ووطنه إذا تنكر للهدى فهو منه بريء، والمؤمنون به آخر الدهر هم إخوانه وإن لم يشاهدوه.
ولقد عاش في مكة ثلاثة وخمسين عاماً حتى ألفها وألفته، لكنه اليوم يخرج منها إلى وطن جديد يرى فيه امتداد قلبه وثمار غرسه.
والرجال الذين تنبع سعادتهم من قلوبهم ويرتبطون أمام ضمائرهم بمبادئهم لا يكرمون بيئة بعينها إلا أن تكون صدى لما يرون.
فلا غرو إذا دخل محمد (صلَّى الله عليه وسلم) المدينة دخول الوامق المعتز..واستبشر بما آتاه الله فيها من فتح، وتوسم من وراء هذه الهجرة بشائر الخير والنصر.
ثَوَى في قريش بضع عشرة حجة

يذكِّر لو يلقى حبيباً مواتياً

ويعرض في أهل المواسم نفسه

فلم ير من يؤوي ولم ير واعياً

فلما أتانا واستقرت به النوى

وأصبح مسروراً بطيبة راضياً

وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم

بعيد ولا يخشى من الناس باغياً

بذلنا له الأموال من جل مالنا

وأنفسنا عند الوغى والتآسيا

نعادي الذي عادى من الناس كلهم

جميعاً وإن كان الحبيب المصافيا

ونعلم أن الله لا رب غيره

وأن كتاب الله أصبح هاديا

إن تنظيم الهجرة واستقبال اللاجئين الفارين بدينهم من شتى البقاع ليس بالعمل الهين، وفي عصرنا الحاضر تعتبر هذه الحال مشكلة تحتاج إلى الحل السريع؟
ومتى خلت حياة الرجل العظيم من المشكلات؟
وصادف إبان الهجرة أن كانت المدينة موبوءة (بحمّى) الملاريا، فلم تمض أيام حتى مرض بها أبو بكر، وبلال.
واستوخم الصحابة جو المهجر الذي آواهم، ثم أخذت تستيقظ غرائز الحنين إلى الوطن المفقود.
وكان النبي (صلَّى الله عليه وسلم) يصبِّر الصحابة على احتمال الشدائد، ويطالبهم بالمزيد من الجهد والتضحية لنصرة الإسلام، وقال: "لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة، ولا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه".
وهذا ضرب من جمع القلوب على المهجر الجديد حتى تطيب به وتنفر من مغادرته.
وعن عائشة قالت: لما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة وعك أبو بكر وبلال، فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ وكان أبو بكر إذا أخذته الحمّى يقول:
كل امرىء مصبّح في أهله

والموت أدنى من شراك نعله

وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة

بوادٍ، وحولي إذخر وجليل

وهل أرِدَنْ يوماً مياه مجنّة

وهل يبدوَنْ لي شامة وطفيل؟

قالت: فأخبرت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بذلك فقال: "اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة، أو أشد، اللهم وصحِّحها وبارك لنا في مدِّها وصاعها، وانقل حمّاها واجعلها بالجحفة".
وعن أنس قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): "اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلت بمكة من البركة".
وعن أبي هريرة قال: "كان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إذا أتي بأول الثمر قال: "اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي ثمارنا وفي مدِّنا وفي صاعنا، بركة مع بركة، اللهم إنَّ إبراهيم عبدك ونبيك وخليلك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه" ثم يعطيه أصغر من يحضر من الولدان..."
بهذا التشويق والإقبال ارتفع الروح المعنوي بين المسلمين، واتجهت القوى الفتية إلى البناء، متناسية الماضي وما يضم من ذكريات. إن الهجرة الخالصة لا تعود في هِبَة ولا ترجع عن تضحية، ولا تبكي على فائت، بل هي كما قال الشاعر:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد

إليه بوجه آخر الدهر تقبل...!!