13.4 وصول رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إلى المدينة عند هجرته إليها:

وكذلك ترامت أخبار المهاجر العظيم وصاحبه إلى المدينة ، فكان أهلها يخرجون كل صباح يمدون أبصارهم إلى الأفق البعيد، ويتشوفون إلى مقدمه بلهفة. فإذا اشتد عليهم الحر عادوا إلى بيوتهم يتواعدون الغد، وملء جوانحهم الترقب، والقلق، والرجاء.
وفي اليوم الثاني عشر من ربيع الأول لثلاث عشرة سنة من البعثة برز الأنصار على عادتهم منذ سمعوا بمخرج الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم، ووقفوا بظاهر المدينة ينتظرون طلعته ويودون رؤيته. فلما حميت الظهيرة وكادوا ييأسون من مجيئه وينقلبون إلى بيوتهم؛ صعد رجل من اليهود على أطم من آطامهم لبعض شأنه، فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام وصحبه يتقاذفهم السراب، وتدنو بهم الرواحل رويداً رويداً إلى المدينة إلى وطن الإسلام الجديد، فصرخ اليهودي بأعلى صوته: يا بني قَيْلة، هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدكم الذي تنتظرون...
فأسرع الأنصار إلى السلاح يستقبلون به رسولهم، وسمع التكبير يرُج أنحاء المدينة ، ولبست "يثرب" حلة العيد ومباهجه.
قال البراء: أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم. فجعلا يقرئان الناس القرآن، ثم جاء عمار، وبلال، وسعد، ثمَّ جاء عمر بن الخطاب في عشرين راكباً. ثم جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، فما رأيت الناس فرحوا بشيء كفرحهم به، حتى رأيت النساء والصبيان والإماء يقولون: هذا رسول الله قد جاء.
يا عجباً لنقائض الحياة واختلاف الناس! إن الذي شهرت مكة سلاحها لتقتله، ولم ترجع عنه إلا مقهورة؛ استقبلته المدينة وهي جَذْلانة طروب، وتنافس رجالها يعرضون عليه المنعة والعدة والعدد...
ومن الطريف أن كثيراً من أهل المدينة لم يكن رأى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، فلما قدم الركب لم يعرفوه من أبي بكر لأول وهلة، حتى إن العواتق كنَّ يتراءينه فوق البيوت يقلن: أيهم هو؟.
ونزل النبي (صلَّى الله عليه وسلم) في بني عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة أسس خلالها مسجد قباء . وهو أول مسجد أسس في الإسلام. وفيه نزل قوله تعالى:
{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}.