12.4 دعاء رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) عند خروجه من مكة مهاجراً:
إن أسفار الصحراء توهي العمالقة الآمنين. فكيف بركب مهدر الدم مستباح الحق؟.
ما يحس هذه المتاعب إلا من صلي نارها، لقد برزنا لوهج الظهيرة يوماً فكادت الأشعة البيضاء المنعكسة على الرمال تخطف أبصارنا، فعدنا مغمضين نستبقي من عيوننا ما خفنا ضياعه.
وعندما تصبح وتمسي وسط وهاد ونجاد لا تنتهي حتى تبدأ، تخال العالم كله مهامه مغبرة الأرجاء داكنة الأرض والسماء.
وجرت عادة المسافرين أن يأووا في القيلولة إلى أي ظل في بطاح ينتعل كل شيء فيها ظله، حتى إذا جنحت الشمس للمغيب تحركت المطايا اللاغبة تغالب الجفاف والكرى.
وللعرب طاقةٌ على احتمال هذا الشظف مع قلة الزاد والري.
وقد مر بك أن الرسول -وهو طفل- قطع هذه الطريق، ذهب مع أمه لزيارة قبر أبيه ثم عاد وحده!.
وإنه الآن ليقطعها وقد بلغ الثالثة والخمسين، لا لزيارة أبويه اللذين ماتا بالمدينة؛ بل لرعاية رسالته التي تشبثت بأرض يثرب جذورها، بعد ما تبرمت مكة بها وبصاحبها وبمن حوله...
إنه أرسخ أهل الأرض يقيناً بأن الله ناصره ومظهر دينه، بيد أنه أسيف للفظاظة التي قوبل بها، وللجحود الذي لاحقه من بدء رسالته حتى اضطره إلى الهجرة على هذا النحو العنيف، ها هو ذا يخرج من مكة وقد أعلن سادتها عن الجوائز المغرية لمن يغتاله...
روى أبو نعيم أن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) لما خرج من مكة مهاجراً إلى الله قال:
الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئاً. اللهم أعنِّي على هول الدنيا وبوائق الدهر ومصائب الليالي والأيام. اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذلِّلني، وعلى صالح خُلُقي فقوِّمني، وإليك ربِّ فحببني، وإلى الناس فلا تكلني. رب المستضعفين وأنت ربي. أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين أن تحل علي غضبك، وتُنزل بي سخطك. وأعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحوّل عافيتك، وجميع سخطك. لك العتبى عندي خير ما استطعت. ولا حول ولا قوة إلا بك.
ومما يلفت النظر أن انطلاق الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) من مكة شاع في جوانب الصحراء، وكأن أسلاك البرق طيرته إلى أقصى البقاع. فعلم به البدو والحضر على طول الطريق حتى يثرب، بل إن المحال التي عرج بها وصل نبؤها إلى أهل مكة بعد أن انصرف عنها.
والناس يعجبون بقصص البطولة، وتستثيرهم ألوان التحدي، وهم يتناقلون الأخبار السيالة على الألسن، فيضفون عليها ثياب الأساطير، وقد سُرَّت قلوب كثيرة بغلب محمد عليه الصلاة والسلام على من تبعوه، وترجمت عواطفها هذه شعراً يتغنى به ولا يعرف قائله!!..
من ذلك ما روي عن أسماء بنت أبي بكر قالت: مكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) حتى أقبل رجل من أسفل مكة يتغنى بأبيات من الشعر:
جزى الله رب الناس خير جزائه | رفيقين حلاَّ خيمتي أم معبد |
هما نزلا بالبر ثم تروَّحا..!
ليَهْنِ بني كعب مكان فَتاتِهمْ
قالت أسماء: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، وأن وجهه إلى المدينة !
من القائل؟ تذكر الرواية أنه من الجن! وتلك عادة العرب في نسبة شعرها فلكل شاعر عندهم شيطان..!
والراجح أن الأبيات المذكورة من إنشاد مؤمن يكتم إيمانه بمكة ويتسمع أخبار المهاجرين، فيبدي فرحته بما يلقَون من توفيق، ويجد متنفساً لمشاعره المتوارية في هذا الغناء المرسل.
والأبيات تشير إلى واقعة عرضت للرسول عليه الصلاة والسلام في أثناء رحلته، فقد مرَّ على منازل خزاعة ، ودخل خيمة أم معبد، فاستراح بها قليلا، وشرب من لبن شاتها.