10.4 اختباء الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) مع أبي بكر في الغار أثناء هجرته من مكة إلى المدينة:

وسارت الأمور على ما قدّرا، وكان أبو بكر قد أمر ابنه عبدالله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك من أخبار. وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار. فكان عبدالله بن أبي بكر في قريش يسمع ما يأتمرون به وما يقولون في شأن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيقص عليهما ما علم، وكان عامر في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبدالله من عندهما إلى مكة، أتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم يعفِّي عليه. وتلك هي الحيطة البالغة كما تفرضها الضرورات المعتادة على أي إنسان..
وانطلق مشركو مكة في آثار المهاجرين يرصدون الطرق ويفتشون كل مهرب، وراحوا ينقِّبون في جبال مكة، وكهوفها، حتى وصلوا -في دأبهم- قريباً من غار ثور، وأنصت الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) وصاحبه إلى أقدام المطاردين تخفق إلى جوارهم، فأخذ الروع أبا بكر، وهمس يحدث رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): "لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا" فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
ويظهر أن المطاردين داخلهم القنوط من العثور عليهما في هذا الفج، فتراكضوا عائدين، وروى أحمد: "أن المشركين اقتفوا الأثر حتى إذا بلغوا الجبل -جبل ثور- اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت. فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه. فمكث فيه ثلاث ليال".
ورواية أحمد حسنة، وإن لم ترد بها السنن الصحاح، ولم يرد كذلك ذكر لحمائم باضت على فم الغار أو غير ذلك.
قال الله تعالى في ذكر الهجرة:
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
والجنود التي يخذل بها الباطل وينصر بها الحق ليست مقصورة على نوع معين من السلاح ولا صورة خاصة من الخوارق، إنها أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإن خطرها لا يتمثل في ضخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}.
ومن صنع الله لنبيه أن تعمى عنه عيون عداته وهو منهم على مد الطرف، ولم يكن ذلك محاباة من القدر لقوم فرَّطوا في استكمال أسباب النجاة، بل هو مكافأة من القدر لقوم لم يدعوا وسيلة من وسائل الحذر إلا اتخذوها، وكم من خطة يضعها أصحابها فيبلغون بها نهاية الإتقان تمر بها فترات عصيبة لأمور فوق الإرادة أو وراء الحسبان، ثم تستقر أخيراً وفق مقتضيات الحكمة العليا وفي حدود قوله تعالى:
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.