9.4 درس في سياسة الأمور حول موضوع هجرة الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة:
ويلاحظ أن النبي عليه الصلاة والسلام كتم أسرار مسيره، فلم يطلع عليها إلا من لهم صلة ماسة، ولم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم.
وقد استأجر دليلاً خبيراً بطريق الصحراء ليستعين بخبرته على مغالبة المطاردين ونظر في هذا الاختيار إلى الكفاية وحدها. فإذا اكتملت في أحد -ولو مشركاً- استخدمه وانتفع بموهبته.
ومع هذه المرونة في وضع الخطة فإن النبي عليه الصلاة والسلام أصر أن يدفع ثمن راحلته، وأبى أن يتطوع أبوبكر به، لأن البذل في هذه الهجرة ضرب من العبادة ينبغي الحرص عليه وتستبعد النيابة فيه.
واتفق الرسول عليه الصلاة والسلام مع أبي بكر على تفاصيل الخروج، وتخيروا الغار الذي يأوون إليه، تخيروه جنوباً في اتجاه اليمن لتضليل المطاردين، وحددوا الأشخاص الذين يتصلون بهم في أثناء اللجأ إليه، ومهمة كل شخص.
ثم عاد الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بيته، فوجد قريشاً بدأت تضرب الحصار حوله، وبعثت بالفتيان الذين وكل إليهم اغتيال محمد عليه الصلاة والسلام وتفريق دمه بين القبائل.
وأوعز الرسول عليه الصلاة والسلام إلى علي بن أبي طالب في هذه الليلة الرهيبة أن يرتدي برده الذي ينام فيه، وأن يتسجى به على سريره. وفي هجعة الليل وغفلة من الحرس، نَسَلَ الرسول عليه الصلاة والسلام من بيته إلى دار أبي بكر، ثم خرج الرجلان من خوخة في ظهرها إلى غار ثور.. إلى الغار الذي استودعته العناية مصير الرسالة الخاتمة، ومستقبل حضارة كاملة، وتركته في حراسة الصمت والوحشة والانقطاع..