8.4 هجرة الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) إلى المدينة:

حين عزم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) على ترك مكة إلى المدينة؛ ألقى الوحي الكريم في قلبه وعلى لسانه هذا الدعاء الجميل: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}.
ولا نعرف بشراً أحق بنصر الله وأجدر بتأييده مثل هذا الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) الذي لاقى في جنب الله ما لاقى. ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلى لا يعني التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه، وتوفير وسائله.
ومن ثَمَّ فإن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أحكم خطة هجرته، وأعدَّ لكل فرض عدته، ولم يدع في حسبانه مكاناً للحظوظ العمياء.
وشأن المؤمن مع الأسباب المعتادة، أن يقوم بها كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل -بعد ذلك- على الله، لأن كل شيء لا قيام له إلا بالله.
فإذا استفرغ المرء جهوده في أداء واجبه فأخفق بعد ذلك، فإن الله لا يلومه على هزيمة بلي بها، وقلّما يحدث ذلك إلا عن قَدَر قاهر يعذر المرء فيه!!
وكثيراً ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيباً حسناً، ثم يجيء عون أعلى يجعل هذا النصر مضاعف الثمار.
كالسفينة التي يشق عباب الماء بها ربّان ماهر، فإذا التيار يساعدها والريح تهب إلى وجهتها، فلا تمكث غير بعيد حتى تنتهي إلى غايتها في أقصر من وقتها المقرر.
وهجرة رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة جرت على هذا الغرار، فقد استبقى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) معه علياً وأبا بكر ، وأذن لسائر المؤمنين بتقدمه إلى المدينة .
فأما أبو بكر فإن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) قال له حين استأذنه ليهاجر: لا تعجل، لعل الله أن يجعل لك صاحبا. وأحس أبو بكر كأن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) يعني نفسه بهذا الرد‍.
فابتاع راحلتين فحبسهما في داره، يعلفهما إعداداً لذلك.
وأما علي فإن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) هيأه لدور خاص، يؤديه في هذه المغامرة المحفوفة بالأخطار‍.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار: إما بكرة، وإما عشياً، حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها. قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) في هذه الساعة إلا لأمر حدث. فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وليس عند رسول الله أحد إلا أنا وأختي أسماء، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): أخرج عني من عندك، قال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي.
وما ذاك -فداك أبي وأمي-؟.
قال: إن الله أذن لي بالخروج والهجرة. فقال أبو بكر : الصحبةَ يا رسول الله؟ قال: الصحبة.
قالت عائشة: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي.
ثم قال: يا نبي الله إنَّ هاتين الراحلتين كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبدالله بن أريقط -وهو مشرك- يدلهما على الطريق. ودفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما..
قال ابن إسحاق: ولم يعلم -فيما بلغني- بخروج رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أحد حين خرج -يقصد نوى الخروج- إلا علي وأبو بكر وآله. أما علي فإن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أمره أن يتخلف حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس. وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)؛ ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته..