6.4 طلائع هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة:
إن نجاح الإسلام في تأسيس وطن له، وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة هو أخطر كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة له، وقد تنادى المسلمون من كل مكان: هلمّوا إلى يثرب.. فلم تكن الهجرة تخلصاً فقط من الفتنة والاستهزاء، بل كانت تعاوناً عاماً على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن. يوماً، ستدركها النكباء والحوب
وأصبح فرضاً على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، وأن يبذل جهده في تحصينه ورفع شأنه، وأصبح ترك المدينة -بعد الهجرة إليها- نكوصاً عن تكاليف الحق، وعن نصر الله ورسوله، فالحياة بها دين لأن قيام الدين يعتمد على إعزازها.
وفي عصرنا هذا أعجب اليهود بأنفسهم، وعانق بعضهم بعضاً مهنئاً لأنهم استطاعوا تأسيس وطن قومي لهم، بعد أن عاشوا -مشردين- قروناً طوالا.
ونحن لا ننكر جهد اليهود في إقامة هذا الوطن، ولا حماس المهاجرين من كل فج للعيش به، ومحاولة إحيائه وإعلائه.
ولكن ما أبعد البون بين ما صنع اليهود اليوم -أو بتعبير أدق، ما صُنع لليهود اليوم- وبين ما صنع الإسلام وبنوه لأنفسهم، يوم هاجروا إلى يثرب نجاة بدعوتهم، وإقامة لدولتهم.
إن اليهود جاؤوا على حين فرقة من العرب وغفلة وضعف، وحاكوا مؤامراتهم في ميدان السياسة الغربية الناقمة على الإسلام وأهله. فإذا بالعالم كله يهجم على فلسطين بالمال والسلاح والنساء والدهاء، فلم يستطع مليون عربي حصرتهم الخيانات في مآزق ضيقة أن يصنعوا شيئاً، فهاموا على وجوههم في الأرض، نتيجة اتفاق "أمريكا وروسيا وانكلترا وفرنسا" و..ملوك العرب على خذلان أولئك العرب التعساء، وبذلك قام الوطن القومي لليهود، وبثّت الدعاية لتشجيع الهجرة إليه، وإسداء العون له من دهاقين السياسة والمال في أنحاء الدنيا !!
أين هذا الحضيض من رجال أخلصوا لله طواياهم، وترفعت عن المآرب هممهم، وذهلوا عن المتاع المبذول والأمان المتاح، واستهوتهم المثل العليا وحدها في عالم يعج بالصم البكم، وربطوا مستقبلهم بمستقبل الرسالة المبرأة التي اعتنقوها، وتبعوا صاحبها المتجرد المكافح، وهو لا يني يقول:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ}!!
إن المدينة الفاضلة التي تعشَّقها الفلاسفة، وتخيلوا فيها الكمال، وجاءت في سطور الكتب، دون ما صنع المهاجرون الأولون، وأثبتوا به أن الإيمان الناضج يحيل البشر إلى خلائق تباهي الملائكة سناء ونضارة.
إن المسلمين -باذن رسول الله- هرعوا من مكة وغيرها إلى "يثرب" يحدوهم اليقين، وترفع رؤوسهم الثقة.
ليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلدٍ ناءٍ، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة.
إنها إكراه رجل آمنٍ في سربه، ممتد الجذور في مكانه على إهدار مصالحه، وتضحية أمواله والنجاة بشخصه فحسب، وإشعاره -وهو يصفِّي مركزه- بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها. وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان، ولو كان الأمر مغامرة فرد بنفسه لقيل: مغامر طياش، فكيف وهو ينطلق في طول البلاد وعرضها، يحمل أهله وولده؟ وكيف وهو بذلك رضيَّ الضمير، وضّاء الوجه ؟!
إنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش! وإيمان بمن؟ بالله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير.
هذه الصعاب لا يطيقها إلا مؤمن، أما الهيّاب الخوار القلق، فما يستطيع شيئاً من ذلك، إنه من أولئك الذين قال الله فيهم: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ..}.
أما الرجال الذين التقوا بمحمد (صلَّى الله عليه وسلم) في مكة ، وقبسوا منه أنوار الهدى، وتواصوا بالحق والصبر، فإنهم نفروا خفافاً ساعة قيل لهم: هاجروا إلى حيث تعزون الإسلام وتؤمنون مستقبله.
ونظر المشركون، فإذا ديار بـ (مكة) كانت عامرة بأهلها قد أقفرت، ومحال مؤنسة قد أمحلت.
مر عتبة، والعباس، وأبو جهل على دار بني جحش بعدما غُلِّقت، فقد هاجر رب الدار، وزوجه وأخوه أبو أحمد -وكان رجلاً ضرير البصر- ونظر عتبة إلى الدار تخفق أبوابها يباباً، ليس بها ساكن! فلما رآها تصفر الريح في جنباتها قال:
وكل دار وإن طالت سلامتها
ثم قال: أصبحت الدار خلاء من أهلها، فقال أبو جهل للعباس هذا من عمل ابن أخيك، فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا...
وأبو جهل بهذا الكلام تبرز فيه طبائع الطغاة كاملة.
فهم يجرمون ويرمون الوزر على أكتاف غيرهم، ويقهرون المستضعفين، فإذا أبَوا الاستكانة، فإباؤهم علّة المشكلات ومصدر القلاقل..!!
وكان من أول المهاجرين "أبو سلمة: وزوجه، وابنه" فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ وأخذوا منه زوجته. فغضب آل أبي سلمة لرجلهم، وقالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم، فخلعوا يده وذهبوا به وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة، فكانت أم سلمة -بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها- تخرج كل غداة بالأبطح، تبكي حتى تمسي، نحو سنة، فرقّ لها أحد ذويها وقال: ألا تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وهاجرت إلى المدينة ..
ولما أراد "صهيب" الهجرة قال له كفار قريش : أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلُّون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني قد جعلت لكم مالي. فبلغ ذلك رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) فقال: ربح صهيب!
وهكذا أخذ المهاجرون يتركون مكة زرافات ووحداناً، حتى كادت مكة تخلو من المسلمين. وشعرت قريش بأن الإسلام أضحت له دار يأرز إليها وحصن يحتمي به، وتوجست خيفة من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوة محمد، وهاجت في دمائها غرائز السبع المفترس حين يخاف على حياته.
إن محمداً (صلَّى الله عليه وسلم) لا يزال في مكة، وهو -لابد- مدرك أصحابه اليوم أو غداً، فلتعجل به قبل أن يستدير إليها..