4.4 بيعة العقبة الأولى بين رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ونفر من مسلمي المدينة:
وقد لقيهم النبي بالعقبة، وعقد معهم بيعة على الإيمان بالله وحده، والاستمساك بفضائل الأعمال والبعد عن مناكرها.
عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله ليلة العقبة الأولى "أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف".
قال: "فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له. وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة، فأمركم إلى الله. إن شاء عذب، وإن شاء غفر".
هذا ما كان محمد (صلَّى الله عليه وسلم) يدعو إليه، وكانت الجاهلية تنكره عليه.
أيكره هذه العهود إلا مجرم يحب للناس الريبة ويود للأرض الفساد؟؟
أتم وفد الأنصار هذه البيعة ثم قفل عائداً إلى "يثرب"، فرأى النبي أن يبعث معهم أحد الثقات من رجاله، ليتعهد نماء الإسلام في المدينة ، ويقرأ على أهلها القرآن، ويفقههم في الدين، ووقع اختياره على "مصعب بن عمير" ليكون هذا المعلِّم الأمين.
ونجح "مصعب" أيّما نجاح في نشر الإسلام وجمع الناس عليه، واستطاع أن يتخطى الصعاب التي توجد -دائماً- في طريق كل نازح غريب، يحاول أن ينقل الناس من موروثات ألفوها إلى نظام جديد، يشمل الحاضر والمستقبل، ويعم الإيمان والعمل، والخلق والسلوك...
ولا تحسبنَّ "مصعباً" كأولئك المرتزقة من المبشرين الذين دسهم الإستعمار الغربي بين يدي زحفه على الشرق، فترى الواحد منهم يقبع تحت سرير مريض ليقول له: هذه القارورة تقدمها لك العذراء! وهذا الرغيف يهديه إليك المسيح!
وربما فتح مدرسة ظاهرها الثقافة المجردة، أو ملجأ ظاهره البر الخالص، ثم لوى زمام الناشئة من حيث لا يدرون، ومال بهم حيث يريد...!!
هذا ضرب من التلصص الروحي يتوارى تحت اسم الدعوة إلى الدين. والذين يمثلون هذه المساخر يجدون الجرأة على عملهم من الدول التي تبعث بهم، فإذا رأيت إصرارهم ومغامراتهم فلا تنس القوى التي تساند ظهورهم في البر والبحر والجو.
أما مصعب فكان من ورائه نبيٌّ مضطهد ورسالة معتبرة ضد القانون السائد، وما كان يملك من وسائل الإغراء ما يطمع طلاب الدنيا ونهازي الفرص، كل ما لديه ثروة من الكياسة والفطنة، قبسها من محمد (صلَّى الله عليه وسلم)، وإخلاص لله، جعله يضحي بمال أسرته وجاهها في سبيل عقيدته.. ثم هذا القرآن الذي يتأنق في تلاوته، ويتخير من روائعه ما يغزو به الألباب، فإذا الأفئدة ترق له، وتتفتح للدين الجديد.
وعاد "مصعب" إلى رسول الله بمكة قبيل الموسم الحافل، يخبره بما لقي الإسلام من قبول حسن في "يثرب"، ويبشره بأن جموعاً غفيرة دخلت فيه عن اقتناع مسَّ شغافهم، وبصر أنار أفكارهم، وسوف يرى من وفودهم بهذا الموسم ما تقر به العين.