3.4 صنع اليهود في المدينة وفتنهم فيها:

واليهود الذين استقروا في المدينة وأرباضها هبطوا صحراء الجزيرة فارين بدينهم من الاضطهاد الصليبي الذي عمل -من قديم- على تنصيرهم أو إفنائهم، ذلك لأن رأي اليهود في عيسى وأمه شنيع.
والنصارى يعتقدون أن اليهود هم قتلة عيسى، والموعزون بصلبه!!.
ولا شك أن اليهود شعب نشيط، وأنهم -حيث حلّوا- يبذلون جهوداً مذكورة للسيطرة على زمام التوجيه المالي، ولا يبالون بأساليب الختل والمكر لبلوغ أهدافهم، وقد ألْفَوا أنفسهم قلة بين أصحاب البلاد، وخشوا أن يفنوا إذا اشتبكوا معهم في صراع سافر. فاحتالوا حتى زرعوا الضغائن بين الأقرباء، وما زالوا بها حتى آتت ثمرها المر ، فأخذ العرب يأكل بعضهم بعضاً في سلسلة متصلة من المعارك التي لا مبرر لها، على حين قوي اليهود وتكاثروا، ونمت ثرواتهم، واستحكمت حصونهم، وخيف سطوهم.
وقبل الهجرة ببضع سنين وقعت بين الأوس والخزرج معركة "بُعاث" كان النصر فيها للخزرج ثم عاد للأوس، وبلغ من حدة الخصام بين الفريقين أن كليهما فكر في استئصال الآخر وإبادة خضرائه، لولا أن تدخل أولو النهى بالنصح أن يبقوا على أنفسهم وإخوانهم، فجوارهم أفضل من جوار الثعالب -يعني اليهود-!.
وهذه الفتن المتلاحقة جعلت أهل المدينة عندما ترامت إليهم أنباء الإسلام يؤملون من ورائه الخير. من يدري؟ لعله يجدد حياتهم فيعيد السلام إلى صفوفهم ويهب لهم حياة روحية ترجح بكفتهم على اليهود...
قال ابن إسحاق: فلما أراد الله إظهار دينه، وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له خرج رسول الله في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج . قال: من موالي يهود؟ قالوا نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى ! فجلسوا معه فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن...
قال: فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك. فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك!!ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم، قد آمنوا وصدقوا.
كان أولئك النفر، طليعة الدعاية الموفقة للإسلام في يثرب، وقد أثمرت جهودهم على عجل، فلم تبق دار إلاَّ دخلها الإسلام.
حتى إذا استدار العام، وأقبل موسم الحج، خرج من المدينة اثنا عشر رجلاً من الذين أسلموا -فيهم الستة الذين كلمهم النبي (صلَّى الله عليه وسلم) في الموسم السابق- وعزموا على الاجتماع برسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ليوثقوا معه إسلامهم.