1.4 مقدمة الهجرة من مكة إلى المدينة:

حرم مشركو مكة الخير كله منذ جحدوا الرسالة، وقعدوا بكل صراط يوعدون، ويصدون عن سبيل الله من آمن به، ويبغونها عوجا.
ولئن نجحت دعايتهم الكاذبة في منع قبائل كثيرة من دخول الإسلام، فإن الحق لابدّ أن يعلو، وأن يثوب إليه المضلَّلون والمخدوعون على شرط أن يظل أهله أوفياء له، حراصاً عليه، صابرين محتسبين.
وقد قيض الله للإسلام من استنقذه من البيئة التي صادرته، فأنس بعد وحشة، واستوطن بعد غربة، وشق طريقه في الحياة، بعد أن زالت الجلامد الصلدة الملقاة في مجراه.
وبدأ هذا التحول على أيدي الوفود القادمة من "يثرب" إلى مكة في موسم الحج..
كان أهل يثرب يمتازون عن سائر العرب بجوارهم لليهود، وإلفهم عقيدة التوحيد. وربما حاورهم اليهود في شؤون الأديان، ونَعوا عليهم عبادة الأوثان فإذا اشتد الجدل وطالت اللجاجة قال لهم اليهود: يوشك أن يبعث الله نبياً فنتبعه؛ ونقتلكم معه قتل عاد وإرم...!!
والغريب أن اليهود كانوا أول من كفر بهذا النبي يوم ظهر فيهم واقترب منهم، ولذلك ندَّد القرآن بمسلكهم المتناقض:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}.
أما العرب الأميون الذين هُدِّدوا بمبعثه، فقد فتحوا مسامعهم له!
فعندما وافى الموسم وقدمت قبائل "يثرب" ورأوا الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) يدعو الناس إلى الله، قال بعضهم لبعض: تعلمون والله يا قوم أن هذا الذي تَوَعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه..
وأخذ ذكر الإسلام يشيع في المدينة رويداً رويداً؛ فإن لم يستقبل بترحيب لم يستقبل بالسباب والحراب.
إن عناصر النفور والمقاومة التي عهدها في "مكة" تحولت -هنا- إلى عناصر احترام وإقبال، ولم تمض ثلاثة أعوام على تسامع الأنصار الجدد بالإسلام حتى أصبحوا كهفه الحصين، وموئله القريب..