4.1 بداية الإشاعات بظهور رسول معلم:
كانت الإشاعات قد فاضت بين أهل الكتاب الأولين أن نبياً قد اقترب ظهوره، ولهذه الإشاعات ما يبررها، فإن عهد الناس بالرسل أن يتتابعوا فلا تطول فترة الانقطاع بين أحدهم والآخر، وكثيراً ما تعاصر المرسلون فجمعتهم أقطار واحدة أو متجاورة، ولكن الأمر تغير بعد عيسى فكادت المائة السادسة تتم بعد بعثته، ولما يأتِ نبي جديد.
فلما اكتظت الأرض بالمفاسد والضلالات زاد التطلع إلى مقدم هذا المصلح المرتقب، وكان هناك رجال ممن ينكرون الجهالة السائدة يستشرفون للمنصب الجليل، ويتمنون لو اختيروا له. منهم "أمية بن أبي الصلت" الذي حفل شعره بالتحدث عن الله وما يجب له من محامد، حتى قال الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) فيه: "كاد أمية أن يسلم". وعن عمرو بن الشريد عن أبيه: ردفت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يوما فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت؟ قلت: نعم؟ قال: هيه، فأنشدت بيتاً، فقال: هيه حتى أنشدته مائة بيت.
غير أن القدر الأعلى تجاوز أولئك المتطلعين من شعراء وناثرين، وألقى بالأمانة الكبرى على رجل لم يتطلع إليها ولم يفكر فيها:
(وما كنت ترجو أن يُلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيراً للكافرين).
إن الاصطفاء للرسالات العظيمة ليس بالأمل فيها ولكن بالطاقة عليها.
وكم في الحياة من طامحين لا يملكون إلا الجرأة على الأمل، وكم من راسخين يطويهم الصمت، حتى إذا كلفوا أتوا بالعجب العجاب.
ولا يعلم أقدار النفوس إلا بارئها، والذي يريد هداية العالم أجمع يختار للغاية العظيمة أنفساً عظيمة، وقد كان العرب في جاهليتهم يرمقون محمداً (صلَّى الله عليه وسلم) بالاجلال، ويحترمون في سيرته شارات الرجولة الكاملة، إلاّ أنهم لم يتخيلوا قط أن مستقبل الحياة قد ارتبط بمستقبله، وأن الحكمة ستتفجر من ذلك الفم الطهور، فتطوي السهوب والجدوب وتثب الوهاد والنجاد.
إنهم لا يرون منه إلا ما يراه الطفل من سطح البحر، تشغله الصفحة الهادئة عن الغور البعيد.
كان اصطفاء الله لمحمد مفاجأة لم تلبث روعتها أن تكشفت عنه، ثم ثبت الكاهل الجلد لما ألقي عليه، ومضى على النهج مسدداً مؤيداً.
ومكث الوحي ينزل ثلاثاً وعشرين سنة كانت الآيات تنزل خلالها حسب الحوادث والأحوال، وهذه الفترة الطويلة الحافلة هي فترة تعلم وتعليم.
الله عز وجل يعلم رسوله، والرسول يتلقى هذه المعارف الحية، فيديرها في نفسه حتى يحيلها جزءاً من كيانه، ثم يعلمها الناس ويأخذهم بها أخذاً.
ونزول القرآن على هذه الوتيرة مقصودة للشارع الحكيم، فإن الزمن جزء من علاج النفوس وسياسة الأمم وتقرير الأحكام.
واتساق القرآن في أغراضه ومعانيه -على طول المدة التي استغرقها في تجمعه- يعتبر من وجوه إعجازه؛ فإن خواتيمه -بعد ربع قرن- جاءت مطابقة مساوقة لفواتحه، يصدق بعضها بعضاً ويكمله، كأنما أرسلت في نفَس واحد.
وقد تساءل العرب. لم نزل القرآن كذلك؟ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا. وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}.
إن القرآن يشرح حقيقة الدين عند الله وتاريخ هذه الحقيقة، وهو -في دعوته العامة- يبسط الشبهات العارضة ويفندها، ويسوق أدلته وهو على بينة من آراء خصومه، ويتتبع أقصى ما يثار ضده ثم يكر عليه بالحجة فيمحقه، وقد بدأ القرآن بين قوم تشعب الكفر في نفوسهم، ومرنت على الجدل ألسنتهم، وكأن القدر تخير هذه البيئة لتكون مجتمعاً يمثل آخر ما يحيك في القلوب من ريبة، وآخر ما يبذله الباطل من التحدي، فإذا أفلح الإسلام في تبديد هذه الريب، وتذليل هذه العوائق، فهو على ما دونها أقدر..!
والأسئلة التي توجه للنبي (صلَّى الله عليه وسلم)، أو التي ينتظر أن توجه إليه في مختلف العقائد والأحكام وجدت إجابتها الشافية في القرآن، باعتبار أن السؤال لا يمثل حاجة صاحبه وحدها، بل حاجات الناس على مر الأيام.
وفي هذا الجو المليء بالتساؤل استفهاماً أو استنكاراً كان الإلهام يلاحق الرسول (صلَّى الله عليه وسلم): قل كذا، قل كذا.
وما أكثر الآيات التي صدرت بهذا الأمر إجابة لسؤال ورد أو سؤال مفترض.
وأنت تحس -إذ تقرأ هذه الأجوبة المستفيضة- فيضاً من اليقين ينساب إلى قلبك، كأنها حسمت وساوس عرضت لك أو في الإمكان أن تعرض. والرسالة الخالدة هي التي تصلها بضمائر الناس هذه الأواصر المتينة.
إن القرآن رسول حي، تسائله فيجاوبك، وتستمع إليه فيقنعك.
انظر: كيف يؤسس عقيدة البعث والجزاء، وينوِّه بشمول الإرادة والقدرة في ثنايا إجابة على سؤال موجه، وكيف صيغت المعاني في أخذ ورد، واعتراض ودفع. كأنها حوار سيال، يتحدى أصحابه حتى يجمع الناس إلى آخر الدهر:
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
إن هذا مثلٌ للاستدلال القائم على النظر الصائب، لا يختص به زمان دون زمان ولا مكان دون مكان، فهو خطاب للعقل العام في البشر أجمعين، وهو بيان لحكمة نزول القرآن منجماً إذ جاءت الآيات للرسول: قل كذا، رداً على ما عرض له من أسئلة في أثناء تطوافه هنا وهناك يدعو إلى الله، ثم ثبت السؤال والجواب ليكون منهما علم ينفع الناس آخر الدهر.
وقد استوقف الأمر بـ "قل" نظر العلماء إنه تعليم من الله لرسوله؛ وتعليم من الرسول للناس، وقد سيقت بعد هذا الأمر الأقوال التي تضمنت ما شاء الله من النصائح والعظات والأحكام.
فعندما أحب المشركون -على عادتهم- أن ينقلوا ميدان الجدل من حقيقة الدين، إلى شخص الرسول وأتباعه نزلت الآيات:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِي اللَّهُ وَمَنْ مَعِي أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. قُلْ هُوَ الرَّحْمَانُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.
فانظر كيف يستخلص اللباب وسط غبار الجدل! ما يجديكم تنقُّص الرسول ومن معه؟ فكروا في أنفسكم كيف أهلكتها الخرافات وشردت بها عن الجادة؟ إنه ليس لرسول الله ومن معه تفكير في أنفسهم وحظوظها، إنهم دعاة للرحمن، آمنوا به، وتوكلوا عليه فإن شئتم فالطريق إلى الرحمن ميسرة!!.
وليس من الضروري أن يقع سؤال ما لتأتي الإجابة عليه من لدن الله "قل"!! فربما يجيء السياق على هذا النحو ابتداء عند عرض أصول الدعوة وآدابها، وتكون الغاية منه التعريف بالإسلام ونبيه تعريفاً مشبعاً مقنعاً يستأصل الريب قبل أن تولد:
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.....}.
فالخطاب للرسول هنا يتضمن أمراً إلى كل حي وجد في عهده، أو يوجد من بعده أن يتدبر -بعقله- ما يلقى إليه، وأن يحكم -بضميره- على مدى صحته وإخلاصه.
فإذا تعلق بقلبه إيمان فهو إيمان برب كل شيء، وعمل الرسول ينتهي عند هذا الحد، عند وصل العقول والقلوب ببارئها وإيضاح الصراط المستقيم لها، وعلى كل إنسان تحمل تبعته في فعل الخير أو الشر بعد ذلك.
فليس الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) وسيطاً يحمل لك خيراً قدمته، ولا قرباناً يحمل عنك عقاباً استحققته، لأنه لا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى... وهنا يبدو بعد الشقة بين المسيحية والإسلام.
الإسلام يغالي بقدر الإنسان، ويعطيه جزاءه الحق على الرفعة والضعة.
أما النصرانية فالمرء عندها أنزل قدراً من أن يتصل برب العالمين من تلقاء نفسه، لا بد من آخر يحمل قربته ويقبل توبته، ومن ذلك الآخر؟ شخص دعي! فإذا اقترف ذنباً فليس هو الذي يلقى قصاصه، إن القربان ذبح قديماً من أجل خطيئته تلك، وعليه أن يصدق بذلك لينجو إن أراد النجاة....!!
هذا الخبط يحتاج إلى جرارات ثقيلة ليسير في الحياة مراغماً للمنطق والعدالة، أما الإسلام فإن الله يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام قولاً تتفتح له الأعين والأفهام:
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
إن هذه الإستفهامات المترادفة سياط تلدغ الباطل، وتجعل العقل النائم يصحو من سباته، وتحفز الإنسان إلى اعتناق الحقيقة والتسامي بها.
وذلك ما يعلنه ويعمل له رسول الإسلام.
وقد لقي الإسلام مقاومة عنيفة أشد العنف من الوثنية السائدة، فهي لم تلفظ أنفاسها في معركة أو معركتين؛ بل قاتلت بيأس شديد على كل شبر من الأرض، وكان الظن أن قواها خارت وانماعت عندما أدى الرسول أمانته وذهب إلى الرفيق الأعلى، بيد أن الجزيرة انتفضت بأسرها في عهد أبي بكر ، وانحصر المسلمون وسط طوفان من الردة العمياء شرعوا يكافحونه مرة أخرى، فما استطاعوا كسر شوكته إلا بعد ما تكبدوا من الخسائر أكثر مما فقدوا على عهد النبي عليه الصلاة والسلام في مقاتلة أولئك المشركين.
إن الرجال الذين ثبتوا على الحق بعد رحيل نبيهم عنهم هم المسلمون حقاً، فإن الإسلام رباط بمبادىء لا بأشخاص، وقد علم الله نبيه وعلم المسلمين في شخصه أن يلتزموا الحق الذي عرفوا، وأن يتشبثوا به مهما غولبوا وحوربوا.
والدنيا طافحة بأسباب الزيغ، وهي تحاول أولا ألا تبقي للإيمان مكاناً بها، فإذا ظفر بكسب بعد طول عناء حاولت أن تلاينه حتى ينزل عن شيء ويكتفي بشيء، ولو أفلحت في استدراجه إلى هذه المنزلة لأمكنها الإجهاز عليه، ولذلك جاءت أوامر الله في كتابه حاسمة تقضي بأن الإيمان كلٌّ لا يتجزأ، وأن مناجزة الكافرين، على هذه الحقيقة لا يجوز أن تهدأ، فلا بد من الاستمساك بهذه التعاليم المترابطة! والحب والبغض عليها، والمسالمة أو المحاربة دونها، فإن نصيب العاطفة في خدمة العقيدة، لا يقل عن نصيب العقل.
والآيات الواردة في ذلك هي أوامر للمسلمين تنزلت في شكل خطاب للرسول (صلَّى الله عليه وسلم):
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}.
فليس الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) مظنة أن يطيع الكافرين والمنافقين حتى ينبه إلى التحرز منهم، ولكننا نحن المعنيون بهذا الإرشاد.
ومن ذلك: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}.
لقد كان الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) من بدء دعوته حرباً على الشرك، وعلى الآلهة الأخرى. ومنه تعلم الناس هذه الخصومة ويستحيل أن يتوقع منه غيرها.
ومن ذلك: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا. وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ}.
{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ المُمْتَرِينَ. وَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنْ الْخَاسِرِينَ}.
قال المفسرون: خوطبت الأمة في شخص رسولها كما تصدر الأوامر إلى القائد مع أن الجند هم المنفذون.
وقيل: بل الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام على طريق الإهاجة واستثارة الهمة، يقال للقوي البادي العزم: لا تهن. وللعاقل الصحيح الذهن: لا تغفل. وليس يخاف عليهما وهن ولا غفلة، ولكن الأمر تحريض على استدامة القوة والذكاء. والشجاع يزداد على الموت إقبالاً إذا قيل له: لا تجبن...
وسواء كان هذا أم ذاك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام مناط الأسوة الحسنة، ومن سلوكه يأخذ الناس مثلهم الأعلى. وقد أمر وأمرنا معه بالتوجس من الضالين، والتنائي عن خلقهم وعملهم، وازدراء متاعهم وغرورهم.
وذلك لأن هناك أحياناً شتى يضعف فيها الحق ويعز التمسك به ويقوى فيها الباطل وتكثر المغريات على مصادقته، أو مهادنته.
ومن حق العقائد على أصحابها أن يتشددوا في تدعيم جانبها، وأن يتنكروا لما يمسها من بعيد.
والأوامر التي تنظم هذه المشاعر لن تنقصها الصرامة، وماذا بعد أن يقول الله لنبيه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ. بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ}.
إن هذا الخطاب يقرع آذاننا وله مغزاه، كما قيل: "إياك أعني واسمعي يا جارة" وقد كان لهذا الأسلوب أثره في تأليب المسلمين على الفساد وترهيبهم من الركون إليه، بله الوقوع فيه.
وأقوال المفسرين التي سردناها تنطبق أيضاً على الآية {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ المُمْتَرِينَ}.
الخطاب للقارئ، أو السامع أو للرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على جهة التهييج والتحريض كما علمت: إذ إن الرسول عليه الصلاة والسلام لن يقع منه شك في أمر نبوته، والكلام هنا فرض للمستحيل كما قيل في سورة أخرى {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} ولكن ما معنى سؤال أهل الكتاب!
قالوا: المراد الثقات المنصفون منهم، فهم لن يكتموا شهادة الحق إذا طلبت إليهم.
وعندي أن العدول الصادقين من أهل الكتاب قلة لا يعول على حكمها وما أظن الآية تعني ذلك.
ولكن المرء يزداد تبصراً بنفاسة ما عنده من خير إذا رأى ما عند غيره من خلط، ولو ارتبت لحظة في أن القرآن من عند الله، ثم تصفحت كتب العهدين القديم والجديد، لعدت -على عجل- إلى كتابك تتشبث به، وتحمد الله ألف مرة أن هديت إليه!!
وأحسب أن هذا ما تشير إليه الآية، فإن تبين ما في الإسلام من حق يزداد قوة عند اكتشاف ما طرأ على الأديان الأولى من تشويه، وهذا يتفق مع قوله تعالى: {وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}. ويزكي فهمنا هذا في الآية الكريمة ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: "يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب؟ وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الكتب بالله، تقرؤونه محضاً لم يُشَب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ ولا، والله ما رأينا منهم رجلاً قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم"!!
إن الإسلام من الناحية العقلية معرفة للحقيقة، ومن الناحية العاطفية حب لها وإعزاز، وكراهية للباطل وعداء صريح.
إن هناك أناساً في مشاعرهم برودة يلقون بها الرأي وضده! وقد يتصور هذا في بعض المسائل التافهة. أما أن يتعلق الأمر بالإيمان والإلحاد، والفجور والعفاف، فلا...
إن الله علم رسوله الكتاب، والإيمان، فكان من عرفان الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) بهذا الفضل الإلهي أن غالى بإيمانه واعتز بقرآنه، فعاش بهما وعاش لهما، وخاصم وسالم فيهما، وطالما تمنى عداته أن يركن إليهم شيئاً قليلاً ولكن هيهات! {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}.
والأمة الجديرة بالانتماء إليه هي الأمة التي تناضل على الحق فلا تسمح بانتقاص له ولا حيف عليه، ومن خصائصها أنها أمة فكرة ومنهاج، يقوم كيانها المادي والأدبي على ما تبذل في ذلك من جهد وتثمر من نتاج.