21.3 قريش وخبرحادثة الإسراء:

فلما كانت صبيحة هذه الليلة المشهودة حدث رسول الله الناس بما تم له وما شهد من آيات ربه الكبرى.
والذين كذّبوا أن يقع وحي على الأرض أتراهم يصدِّقون به في السماء؟
لقد طاروا يجمع بعضهم بعضاً، ليسمعوا هذه الأعجوبة فيزدادوا إنكاراً لرسالة محمد (صلَّى الله عليه وسلم) وريبة من أمره، وتحداه بعضهم أن يصف بيت المقدس، إن كان رآه هذه الليلة حقاً؟
عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): "لما كذبتني قريش ، قمت في الحجر، فجلّى الله لي بيت المقدس. فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه"!!
ويقول الدكتور هيكل: "أحسبك لو سألت الذين يقولون بالإسراء بالروح في هذا لما رأوا فيه عجباً، بعد الذي عرف العلم في وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسي للتحدث عن أشياء واقعة في جهات نائية..
فما بالك بروح يجمع وحدة الحياة الروحية في الكون كله؟ ويستطيع -بما وهب الله له من قوة- أن يتصل بسر الحياة من أزل الكون إلى أبده!".
ونحن لا نعلق كبير اهتمام لمعرفة الطريقة التي تم بها الإسراء والمعراج، كلا الأمرين حق، ترك ثماره في نفس الرسول (صلَّى الله عليه وسلم)، فاستراح إلى حمد الخالق، وقل اكتراثه لذم الهمل من الجاحدين والجاهلين. ثم نشط إلى متابعة الدعوة، موقناً أن كل يوم يمر بها هو خطوة إلى النصر القريب..
ويزعم بعض الكتاب أن فريقاً من المسلمين ارتد عقب الإسراء والمعراج إنكاراً لهما، بل يزيد الدكتور "هيكل" أن المسلمين تضعضعوا على أثر انتشار القصة على الأفواه، واستبعاد المشركين لوقوعها. وهذا كله خطأ، فلا الآثار التاريخية تدل عليه، ولا الاستنتاج الحصيف ينتهي به، ولا ندري كيف يقال هذا؟
مضى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) على نهجه القديم، ينذر بالوحي كل من يلقى، ويخوض -بدعوته- المجامع، ويغشى المواسم، ويتبع الحجيج في منازلهم، ويغبر قدميه إلى أسواق "عكاظ" و"مجنة" و"ذي المجاز" داعياً الناس إلى نبذ الأوثان، والاستماع إلى هدي القرآن، وكان يسأل عن منازل القبائل العربية قبيلة قبيلة، ويعرض عليهم نفسه ليؤمنوا به ويتابعوه ويمنعوه...
وكان عمه "أبو لهب" يمشي وراءه ويقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كذّاب! فيكون جواب القبائل: أسرتك وعشيرتك أعلم بك! ثم يردونه أقبح الردّ.
ومن القبائل التي أتاها الرسول عليه الصلاة والسلام ودعاها إلى الله، فأبت الاستجابة له "فزارة" و"غسان" و"مرة" و"حنيفة" و"سليم" و"عبس" و"بنو النضر" و"كندة" و"كلب" و"عذرة" و"الحضارمة" و"بنو عامر بن صعصعة" و"محارب بن حفصة"...الخ.
ما وجد في هؤلاء قلباً مفتوحاً، ولا صدراً مشروحاً، بل كان الراحلون والمقيمون يتواصَون بالبعد عنه، ويشيرون إليه بالأصابع.
وكان الرجل يجيء من الآفاق البعيدة فيزوده قومه بهذه الوصاة: احذر غلام قريش لا يفتنك!!!
مع ذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام -في هذا الجو القابض- لم يخامر اليأس قلبه؛ واستمر مثابراً في جهاد الدعوة حتى تأذّن الحق -أخيراً- بالفرَج.