16.3 حديث الإسراء والمعراج:

يقصد بالإسراء الرحلة العجيبة التي بدأت من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس. ويقصد بالمعراج ما عقب هذه الرحلة من ارتفاع في طباق السموات حتى الوصول إلى مستوى تنقطع عنده علوم الخلائق ولا يعرف كنهه أحد، ثم الأوبة -بعد ذلك- إلى المسجد الحرام بمكة. وقد أشار القرآن الكريم إلى كلتا الرحلتين في سورتين مختلفتين، وذكر قصة الإسراء وحكمته بقوله:
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
وذكر قصة المعراج وثمرته بقوله:
{وَلَقَدْ رَآهُ-يعني جبريل- نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}.
فتعليل الإسراء -كما نصت الآية- أن الله يريد أن يري عبده بعض آياته.
ثم أوضحت آيات المعراج أن الرسول عليه الصلاة والسلام شهد -بالفعل- بعض هذه الآيات الكبرى.
وقد اختلف العلماء من قديم: أكان هذا السُّرى الخارق بالروح وحده، أم بالروح والجسد جميعاً؟ والجمهور على القول الأخير.
وللدكتور هيكل رأي غريب، فقد اعتبره استجماعاً ذهنياً ونفسياً لوحدة الوجود الأول من الأزل إلى الأبد، في فترة من فترات التألق النفساني الفذّ، الذي اختص به بشر نقيٌّ جليل مثل محمد (صلَّى الله عليه وسلم). وفي إبان هذا التألق الذي استعلى به على كل شيء -استعرض حقائق الدين والدنيا، وشاهد صور الثواب والعقاب..الخ.
فالإسراء حق..وهو عنده -روحي لا مادي، ولكنه في اليقظة لا في المنام، فليس رؤيا صادقة كما يرى البعض، بل هو حقيقة واقعة على النحو الذي صوره، ثم قال فيه بعدئذ: "وليس يستطيع هذا السمو إلا قوة فوق ما تعرف الطبائع الإنسانية".
والحق أن الحدود بين القوى الروحية والقوى المادية أخذت تضمحل وتزول، وأن ما يراه الإنسان ميسوراً في عالم الروح ليس بمستوعر في عالم المادة.
وأحسب أنه بعدما مزق العلم من أستار عن أسرار الوجود؛ فإن أمر المادة أضحى كأمر الروح، لا يعرف مداه إلا قيوم السموات والأرض.
وإن الإنسان ليقف مشدوهاً، عندما يعلم أن الذرة تمثل في داخلها نظام المجموعة الشمسية الدوارة في الفلك، وأنها -وهي هباءة تافهة- تكمن فيها حرارة هائلة عندما أطلقت أحرقت الأخضر واليابس.
إن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) أسري به وعُرج. كيف؟ هل ركب آلة تسير بأقصى من سرعة الصوت كما اخترع الناس أخيراً؟
لقد امتطى البراق، وهو كائن يضع خطوه عند أقصى طرفه، كأنه يمشي بسرعة الضوء. وكلمة "براق" يشير اشتقاقها إلى البرق، أي أن قوة الكهرباء سخرت في هذه الرحلة.
لكن الجسم -في حالته المعتادة- يتعذر عليه التنقل في الآفاق بسرعة البرق الخاطف، لابد من إعداد خاص، يحصن أجهزته ومسامه لهذا السفر البعيد.
وأحسب أن ما روي عن شق الصدر، وغسل القلب وحشوه، إنما هو رمز هذا الإعداد المحتوم.. وقصة الإسراء مشحونة بهذه الرموز، ذات الدلالة التي تدق على السذج.
إن الإسراء والمعراج وقعا للرسول عليه الصلاة والسلام بشخصه في طور بلغ الروح فيه قمة الإشراق، وخفّت فيه كثافة الجسد حتى تفصَّى من أغلب القوانين التي تحكمه.
واستكناه حقيقة هذه الرحلة، وتتبع مراحلها بالوصف الدقيق، مرتبط بإدراك العقل الإنساني لحقيقة المادة والروح، وما أودع الله فيهما من قوى وخصائص.
ولذلك سنتجاوز هذا البحث إلى ما هو أيسر وأجدى، أي إلى تسجيل المعالم المتصلة بالإسلام باعتباره رسالة عامة وتشاريع محددة.
وقصة الإسراء والمعراج تهمنا من هذه الناحية.
ألم تر أن "علم النفس" لم يستبحر وينطلق إلا يوم تحرر من البحث في الروح والخبط في مدلولها؟؟
لماذا كانت الرحلة إلى بيت المقدس، ولم تبدأ من المسجد الحرام إلى سدرة المنتهى مباشرة؟.
إن هذا يرجع بنا إلى تاريخ قديم، فقد ظلت النبوات دهوراً طوالاً وهي وقف على بني إسرائيل، وظل بيت المقدس مهبط الوحي، ومشرق أنواره على الأرض، وقصبة الوطن المحبب إلى شعب الله المختار.
فلما أهدر اليهود كرامة الوحي وأسقطوا أحكام السماء، حلت بهم لعنة الله، وتقرر تحويل النبوة عنهم إلى الأبد! ومن ثم كان مجيء الرسالة إلى محمد (صلَّى الله عليه وسلم) انتقالاً بالقيادة الروحية في العالم، من أمة إلى أمة، ومن بلد إلى بلد، ومن ذرية إسرائيل إلى ذرية إسماعيل.
وقد كان غضب اليهود مشتعلاً لهذا التحول، مما دعاهم إلى المسارعة بإنكاره {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}.
لكن إرادة الله مضت وحمَّلت الأمة الجديدة رسالتها، وورث النبي العربي تعاليم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقام يكافح لنشرها وجمع الناس عليها، فكان من وصل الحاضر بالماضي وإدماج الكل في حقيقة واحدة أن يعتبر المسجد الأقصى ثالث الحرمين في الإسلام، وأن ينتقل إليه الرسول في إسرائه، فيكون هذا الانتقال احتراماً للإيمان الذي درج -قديماً- في رحابه..
ثم يجمع الله المرسلين السابقين من حملة الهداية في هذه الأرض وما حولها ليستقبلوا صاحب الرسالة الخاتمة. إن النبوات يصدق بعضها بعضاً، ويمهد السابق منها للاحق. وقد أخذ الله الميثاق على أنبياء بني إسرائيل بذلك.
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ}.
وفي السنة الصحيحة أن الرسول صلَّى بإخوانه الأنبياء ركعتين في المسجد الأقصى فكانت هذه الإمامة إقراراً مبيناً بأن الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، أخذت تمامها على يد محمد بعد أن وطّأ لها العباد الصالحون من رسل الله الأولين.
والكشف عن منزلة محمد (صلَّى الله عليه وسلم) ودينه ليس مدحاً يساق في حفل تكريم. بل هو بيان حقيقة مقررة في عالم الهداية، منذ تولت السماء إرشاد الأرض، ولكنه جاء في إبّانه المناسب.
فإن جهاد الدعوة الذي حمله محمد (صلَّى الله عليه وسلم) على كواهله، عرَّضه لعواصف عاتية من البغضاء والافتراء، ومزق شمل أتباعه، فما ذاقوا -مذ آمنوا به- راحة الركون إلى الأهل والمال. وكان آخر العهد بمشاق الدعوة، طرد "ثقيف" له، ثم دخوله البلد الحرام في جوار مشرك. إنّ هوانه على الناس -منذ دعاهم إلى الله- جعله يجأر إلى ربِّ الناس، شاكياً راجياً.
فمن تطمين الله له، ومن نعمائه عليه أن يهيىء له هذه الرحلة السماوية لتمس فؤاده المعنَّى ببرد الراحة. وليشعر أنه بعين الله، مذ قام يوحده ويعبده، ويعلم البشر توحيده وعبادته..
كان يقول: "إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي" فالليلة علم أن حظه من رضوان الله جزيل، وأن مكانته بين المصطَفين الأخيار موطدة مقدمة.
إن الإسراء والمعراج يقعان قريباً من منتصف فترة الرسالة التي مكثت ثلاثة وعشرين عاماً، وبذلك كانا علاجاً مسح متاعب الماضي، ووضع بذور النجاح للمستقبل.
إن رؤية طرف من آيات الله الكبرى في ملكوت السموات والأرض له أثره الحاسم في توهين كيد الكافرين، وتصغير جموعهم، ومعرفة عقباهم.
وقد عرف محمد في هذه الرحلة أن رسالته ستنساح في الأرض، وتتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات، وتنتزع هذه البقاع من مجوسية الفرس وتثليث الروم.
بل إن أهل هذه الأودية سيكونون حملة الإسلام جيلاً في أعقاب جيل. وهذا معنى رؤية النيل والفرات في الجنة، وليس أن مياه النهرين تنبع من الجنة كما يظن السذّج والبله.
لقد روى الترمذي مثلاً أن رسول الله قال: "إذا أُعطي أحدكم الريحان فلا يرده فإنه خرج من الجنة" فهل ذلك يدل على أن الريحان من الجنة، ونحن نقطف أزهاره من الحقول والحدائق؟