15.3 ذهاب الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) إلى الطائف لعرض رسالته على ثقيف:

ذهب رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إلى الطائف حيث تقطن ثقيف وهي تبعد عن مكة نحو الخمسين ميلاً، سارها محمد (صلَّى الله عليه وسلم) على قدميه جيئة وذهوباً، فلما انتهى إليها قصد إلى نفر من رجالاتها الذين ينتهي إليهم أمرها، ثم كلمهم في الإسلام ودعاهم إلى الله، فردوه -جميعاً- رداً منكراً، وأغلظوا له الجواب. ومكث عشرة أيام، يتردد على منازلهم دون جدوى.
فلما يئس الرسول عليه الصلاة والسلام من خيرهم قال لهم: إذا أبيتم، فاكتموا عليَّ ذلك -كراهية أن يبلغ أهل مكة ، فتزداد عداوتهم وشماتتهم- لكن القوم كانوا أخس مما ينتظر. قالوا له: اخرج من بلدنا، وحرّشوا عليه الصبيان والرعاع فوقفوا له صفين يرمونه بالحجارة. و"زيد بن حارثة" يحاول -عبثاً الدفاع عنه حتى شج في ذلك رأسه.
وأصيب الرسول عليه الصلاة والسلام في أقدامه، فسالت منها الدماء واضطره المطاردون إلى أن يلجأ إلى بستان لعتبة، وشيبة، ابني ربيعة، حيث جلس في ظل كرمة يلتمس الراحة والأمن.
وكان أصحاب البستان فيه، فصرفوا الأوباش عنه، واستوحش الرسول عليه الصلاة والسلام لهذا الحاضر المرير، وثابت إلى نفسه ذكريات الأيام التي عاناها مع أهل مكة ، إنه يجر وراءه سلسلة ثقيلة من المآسي المتلاحقة فهتف يقول:
اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس...أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي... إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي..!!
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك...

وتحركت عاطفة القرابة في قلوب ابنَيْ ربيعة فدَعَوا غلاماً لهما نصرانياً، يدعى "عدّاساً" وقالا له: خذ قطفاً من العنب، واذهب به إلى الرجل.
فلما وضعه بين يدي رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) مد يده إليه قائلاً: باسم الله، ثم أكل.
فقال "عدّاس" إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة! فقال له النبي: من أي البلاد أنت! قال أنا نصراني من "نينوى" فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ قال له: وما يدريك ما يونس؟ قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): ذلك أخي، كان نبياً وأنا نبي. فأكب "عدّاس" على يدي رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ورجليه يقبلهما.
فقال ابنا ربيعة أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك! فلما جاء "عدّاس" قالا له: ويحك ما هذا؟ قال: ما في الأرض خير من هذا الرجل.
فحاول الرجلان توهين أمر محمد، وتمسيك الرجل بدينه القديم. كأنما عز عليهما أن يخرج محمد (صلَّى الله عليه وسلم) من الطائف بأي كسب.
وقفل الرسول عليه الصلاة والسلام عائداً إلى مكة ، إلى البلد الذي لفظ خيرة أهله، فهاجر بعضهم إلى الحبشة وأكره الباقي على معاناة العذاب الواصب، أو الفرار إلى شعف الجبال.
وقال زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟
فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فَرَجاً...
ولابد أن أخبار ثقيف قد سبقته إلى قريش ، ومن ثَمّ رأى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ألا يدخل مكة حتى يستوثق لنفسه ودعوته. فبعث إلى "المطعم بن عدي" يعرض عليه أن يجيره حتى يبلغ رسالة ربه! فقبل "المطعم" واستنهض أبناءه فحملوا أسلحتهم ووقفوا عند أركان البيت الحرام، وتسنَّم "المطعم" ناقته ثم نادى: يا معشر قريش ، قد أجرت محمداً، فلا يَهْجِه أحد منكم! فلما انتهى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إلى الكعبة صلى ركعتين ثم انصرف إلى بيته، و"مطعم" وأهله يحرسونه بأسلحتهم...
وقيل: إن أبا جهل سأل مطعماً: أمجير أم متابع -مسلم-؟ قال: بل مجيرٌ. قال: قد أجرنا من أجرت....!
وحفظ رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) للمطعم هذا الصنيع. فقال يوم أسرى بدر: لو كان المطعم حياً لتركت له هؤلاء النَّتنى.
كان المطعم -كأبي طالب- على دين أجداده، وكان كذلك مثله في المروءة والنجدة. وقد أراد أبو جهل أن يتهكم بنبي يحتاج إلى جوار، وكأنه يتساءل:
لِم لم تنزل كوكبة من الملائكة لحفظه؟.
ولذلك قال -لما رآه-: هذا نبيكم يا بني عبد مناف؟
فرد عليه عتبة بن ربيعة : وما ينكر أن يكون منا نبي وملك؟
فلما أخبر رسول الله بسؤال أبي جهل ورد عتبة قال:
أما أنت يا عتبة فما حميت لله، وإنما حميت لنفسك -وذلك أنه قالها عصبية لا إيماناً-.
وأما أنت يا أبا جهل فوالله لا يأتي عليك غير بعيد حتى تضحك قليلاً وتبكي كثيراً.
وأما أنتم يا معشر قريش فوالله لا يأتي عليكم غير كثير حتى تدخلوا فيما تنكرون...

وفي هذا التعليق ما يدل على ثقة الرسول عليه الصلاة والسلام من المستقبل مهما اكتنفه -في الحاضر- من الآلام.
عاد الرسول إلى مكة ليستأنف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله.
وبينا هو ماض في جهاده، إذ وقعت له قصة الإسراء والمعراج....