13.3 حصار المسلمين ومن يحميهم وإعلان المقاطعة العامة ضدهم:

وتمخض حقد المشركين عن عقد معاهدة تعتبر المسلمين ومن يرضى بدينهم، أو يعطف عليهم أو يحمي أحداً منهم حزباً واحداً دون سائر الناس، ثم اتفقوا ألا يبيعوهم أو يبتاعوا منهم شيئاً، وألا يزوجوهم أو يتزوجوا منهم، وكتبوا ذلك في صحيفة علقوها في جوف الكعبة توكيداً لنصوصها.
ولاشك أن المتطرفين من ذوي النزق والحدّة نجحوا في فرض رأيهم وإشباع ضغنهم، فاضطر الرسول ومن معه إلى الاحتباس في شِعْب بني هاشم، وانحاز إليهم بنو المطلب كافرهم ومؤمنهم على سواء ما عدا أبا لهب فقد آزر قريشاً في خصومتها لقومه.
وضيق الحصار على المسلمين، وانقطع عنهم العون، وقلَّ الغذاء حتى بلغ بهم الجهد أقصاه، وسمع بكاء أطفالهم من وراء الشِّعْب، وعضتهم الأزمات العصيبة حتى رثى لحالهم الخصوم. ومع اكفهرار الجو في وجوههم فقد تحملوا في ذات الله الويلات.
ولم تفتر حدة الوثنيين في الحملة على الإسلام ورجاله، وفي تأليب العرب عليهم من كل فج.
قال السهيلي: كانت الصحابة إذا قدمت عير إلى مكة ، يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئاً من الطعام قوتاً لعياله، فيقوم أبو لهب فيقول: يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً، وقد علمتم مالي ووفاء ذمتي فأنا ضامن أن لا خسار عليكم. فيزيدون عليهم السلعة قيمتها أضعافاً حتى يرجع أحدهم إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يده شيء يطعمهم به، ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعاً وعرياً.
وروى يونس عن سعد بن أبي وقاص قال: خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها ورضضتها وسففتها بالماء، فقويت بها ثلاثاً.
فانظر كيف انتهى الحصار بالمسلمين. وكيف أضناهم الحرمان وألجأهم أن يطعموا مالا مساغ له؟؟. وقد أحزنت تلك الآلام بعض ذوي الرحمة من قريش ، فكان أحدهم يوقر البعير زاداً ثم يضربه في اتجاه الشعب ويترك زمامه ليصل إلى المحصورين فيخفف شيئاً مما بهم من إعياء وفاقة..
كم بقيت هذه الضائقة؟ ثلاث سنين كالحة كان رباط الإيمان وحده هو الذي يمسك القلوب ويصبر على اللأواء..
ومن الطبيعي أن يستعجل المسلمون الخروج من هذه المآزق. لطالما وعدوا بالنصر والتمكين، فما وجدوا إلا الرَّوْع والسَّغب! وها هم أولاء محرجون في أرض تنكرت لهم، واقشعرَّت تحت أقدامهم. ولا ريب أن قلوبهم امتلأت غيظاً على أولئك المشركين الذين سخروا من جميع القيم الفاضلة، وكفروا بانتصارها في الدنيا كفرهمْ بمجيء اليوم الآخر. ولو لم يطلب أولئك المعذبون النصر لينقذهم من بأسائهم، لطلبوه كي يخزوا به المكذبين ويؤدبوا المتوقحين، بيد أن الوحي كان ينزل فيطالب المسلمين باليقين والثبات دون ارتقاب لهذه النتائج المتوقعة، يجب أن يجمدوا على حقائق الإيمان التي عرفوها، وأن يستمدوا من سموِّها وصدقها ما يراغمون به الأيام والأحداث.
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.
وكان المشركون أيضاً يتعجلون خاتمة الصراع بينهم وبين أولئك المسلمين، يتعجلون لأنهم يضحكون منها فما يثقون ببعث أو جزاء. ولا يظنون أبداً أن يوماً قريباً أو بعيداً سينشق فجره، فإذا مكة خالية من الأصنام، وإذا أذان التوحيد يرنُّ في أرجائها، وإذا المحصورون في الشعب هم أصحاب الأمر والنهي، والسادة الحاكمون بأمرهم اليوم أسرى يرجون العفو وكان يقينهم من أن اليوم والغد لهم يزين لهم الاستهزاء بهذا الوعد والتعريض به.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ. أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ أَالْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}؟.
وكان الدخول في الإسلام والبقاء عليه أبعد ما يكون عن التهمة، ربما اعتنق فريق من الناس مبدأ ما -عن صدق وإقناع- وليس يمنعهم ذلك من التماس النفع به والتقدم من ورائه.
أما أولئك السابقون الأولون فقد علموا أن فقدان المنافع وهلاك المصالح الخاصة أول ما يلقون من تضحية في سبيل عقيدتهم.
ولا أحسب شيئاً يربي النفوس على التجرُّد كهذا التفاني في الحق، للحق ذاته، ثم إن القرآن كان صارماً في قمع المتاجرة بالعقائد، والإثراء على حسابها والعلوّ في الأرض باسمها:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وقد أفاد الصحابة من ذلك عفة ونقاءً وإخلاصاً لا يعرف لها في التاريخ نظير؛ فلما تعثرت تيجان الملوك بأقدامهم؛ واستسلمت الأقطار المكتظة بالخير لجيوشهم؛ كانت دوافع العقيدة وأهدافها هي التي تشغل بالهم قبل الفتح وبعده فلم يكترثوا لذهب أو فضة..إنما عناهم -أولاً وآخراً- إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وفي أيام الشعب كان المسلمون يلقون غيرهم في موسم الحج، ولم تشغلهم آلامهم عن تبليغ الدعوة وعرضها على كل وافد؛ فإن الاضطهاد لا يقتل الدعوات بل يزيد جذورها عمقاً وفروعها امتداداً؛ وقد كسب الإسلام أنصاراً كثراً في هذه المرحلة؛ وكسب -إلى جانب ذلك- أن المشركين قد بدأوا ينقسمون على أنفسهم ويتساءلون عن صواب ما فعلوا، وشرع فريق منهم يعمل على إبطال هذه المقاطعة ونقض الصحيفة التي تضمنتها.
وأول من أبلى في ذلك بلاء حسناً "هشام بن عمرو" فقد ساءته حال المسلمين ورأى ما هم فيه من عناء؛ فمشى إلى زهير بن أبي أمية؛ وكان شديد الغيرة على النبي (صلَّى الله عليه وسلم) والمسلمين، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب. فقال: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت؟
أما إني أحلف بالله: لو كانوا أخوال أبي الحكم -يعني أبا جهل- ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه ما أجابك أبداً‍ فقال: فماذا أصنع وإنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لنقضتها‍ فقال: قد وجدتَ رجلاً، قال: ومن هو؟ قال: أنا. قال زهير: ابغنا ثالثاً، فذهب إلى المطعم بن عدي فقال له: أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد ذلك موافق فيه؟ أما والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنَّهم إلى مثلها منكم أسرع قال: ما أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال: قد وجدت ثانياً. قال: من هو؟ قال: أنا. قال: ابغنا ثالثاً. قال: قد فعلت. قال: من هو قال زهير بن أبي أمية: قال: ابغنا رابعاً. فذهب إلى أبي البختري بن هشام؛ وقال له نحواً مما قال للمطعم. وقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: أنا وزهير والمطعم قال: ابغنا خامساً. فذهب إلى زمعة بن الأسود، فكلمه وذكر له قرابته، قال: وهل على هذا الأمر معين؟ قال: "نعم" وسمّى له القوم.
فاتعدوا "خَطْم الحَجُون" الذي بأعلى مكة ، فاجتمعوا هنالك وتعاقدوا على القيام في نقض الصحيفة فقال زهير: أنا أبدؤكم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير فطاف بالبيت. ثم أقبل على الناس: فقال: يا أهل مكة ، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة‍ قال أبو جهل: كذبت والله لا تشق. قال زمعة ابن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا بها حين كتبت وقال أبو البختري: صدق والله زمعة لا نرضى ما كتب فيها. وقال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، وقال هشام بن عمرو نحواً من هذا. فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا كلمة "باسمك اللهم".
وكانت العرب تفتتح بها كتبها..