11.3 هجرة المسلمين إلى الحبشة خفاءً:
كان الرحيل إلى الحبشة
تسللاً في الخفاء، حتى لا تستيقظ
قريش للأمر فتحبطه، ولم يبدأ كذلك
على نطاق واسع، بل كان الفوج الأول
مكوَّناً من بضع أسر، فيهم رقية ابنة
النبي عليه الصلاة والسلام وزوجها
عثمان بن عفان، ونفر آخر من
المهاجرين لم يزيدوا جميعاً عن ستة
عشر. وقد يمَّموا شطر البحر حيث قيضت
لهم الأقدار سفينتين تجاريتين
أبحرتا بهم إلى الحبشة ، فلما خرجت
قريش في آثارهم إلى الشاطىء كانوا قد
انطلقوا آمنين. ولم يمكث أولئك
المهاجرون طويلاً حتى ترامت إليهم
الأخبار بأن المشركين هادنوا
الإسلام وتركوا أهله أحراراً، وأن
الإيذاء القديم انقطع فلا بأس عليهم
إن عادوا.
وتركت هذه الإشاعة أثرها في قلوب
المؤمنين، فقرروا العودة إلى وطنهم.
حتى إذا اقتربوا من مكة تبينت لهم
الحقيقة المحزنة، وعرفوا أن
المشركين أشد ما يكونون خصاماً لله
ورسوله والمؤمنين، وأن عدوانهم لم
ينقطع يوماً...
ويزعم بعض المغفَّلين أنه وقعت هدنة
حقاً بين الإسلام والوثنية أساسها أن
محمداً (صلَّى الله عليه وسلم) تقرب
من المشركين بمدح أصنامهم والاعتراف
بمنزلتها! وأن هذه الهدنة الواقعة هي
التي أعادت المسلمين من الحبشة ...
وماذا قال محمد عليه الصلاة والسلام
في مدح الأصنام؟ يجيب هؤلاء
المغفَّلون بأنه قال: تلك الغرانيق
العلا . وإن شفاعتهن لترتجى؟.
وأين وضع هذه الكلمات؟ وضعها في سورة
"النجم" مقحمة وسط الآيات التي
جاء فيها ذكر هذه الأصنام. فأصبحت
هكذا "أفرأيتم اللات
والعزّى. ومَنَاة الثالثة الأخرى.
تلك الغرانيق العلا . وإن شفاعتهن
لترتجى. ألكم الذكر وله الأنثى. تلك
إذاً قسمة ضِيزَى. إنْ هي إلا أسماءٌ
سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله
بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما
تهوى الأنفس...".
ويكون معنى الكلام عن هذا: خبِّروني
عن أصنامكم: أهي كذا وكذا؟ إن شفاعتها
مرجوة، إنها أسماء لا حقائق لها.
إنّها خرافات ابتدعت واتبعت. مالكم
جعلتموها إناثاً ونسبتموها لله
وأنتم تكرهون نسبة الإناث لكم؟ تلك
قسمة جائرة!
فهل هذا كلام يصدر عن عاقل فضلاً عن
أن ينزل به وحي حكيم؟.
ولكن هذا السخف وجد من يكتبه وينقله!
إن محمداً (صلَّى الله عليه وسلم) لو
كذب على الله باختلاق كلام عليه لقطع
عنقه بنص الكتاب الذي جاء به. قال
الله جل شأنه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ
عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ.
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ.
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ
الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}.
بيد أن كتب التاريخ والتفسير التي
تركت للوراقين والزنادقة يشحنونها
المفتريات اتسعت صفحاتها لذكر هذا
اللغو القبيح؛ ومع أن زيفه وفساده لم
يخفيا على عالم إلا أنه ما كان يجوز
أن يدوَّن مثله...
إنك تفتح "الخازن" في تفسير
القرآن (سورة هود) فتقرأ ما يلي: لما
كثرت الأرواث في سفينة نوح أوحى الله
إليه أن اغمز ذنب الفيل، فغمزه فوقع
منه خنزير وخنزيرة، ومسح على الخنزير
فوقع منه الفأرة، فأقبلوا على الروث
فأكلوه، فلما أفسد الفأر السفينة
وجعل يقرضها ويقطع حبالها، أوحى الله
إليه أن اضرب بين عيني الأسد، فضرب
فخرج من منخره قط وقطة، فأقبلا على
الفأر فأكلاه.
أرأيت هذا الكلام الفارغ؟ أرأيت من
قبله حديث الغرانيق؟ إن كثيراً من
هذه الخرافات الصغيرة توجد في كتب
شتى عندنا. ولا ندري متى تنظف هذه
الكتب القديمة منها، فهي لا ريب
مدخولة عليها أيام غفلة المسلمين
وغلبة الدسائس اليهودية على أفكارهم
ومخطوطاتهم.
والذي ورد في الصحيح أن الرسول عليه
الصلاة والسلام قرأ سورة "النجم"
في محفل يضم مسلمين ومشركين، وخواتيم
هذه السورة قوارع تطير لها القلوب.
فلما أخذ صوت رسول الله (صلَّى الله
عليه وسلم) يهدر بها ويرعد بنذرها حتى
وصل إلى قول الله:
{...وَالْمُؤْتَفِكَةَ
أَهْوَى. فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى.
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ
تَتَمَارَى. هَذَا نَذِيرٌ مِنْ
النُّذُرِ الْأُولَى. أَزِفَتْ
الْآزِفَةُ. لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ
اللَّهِ كَاشِفَةٌ. أَفَمِنْ هَذَا
الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ.
وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ.
وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ}.
كانت روعة الحق قد صدعت العناد في
نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما
تمالكوا أن يخرّوا لله ساجدين، مع
غيرهم من المسلمين.
فلما نكسوا على رؤوسهم وأحسوا أن
جلال الإيمان لوى زمامهم، ندموا على
ما كان منهم، وأحبوا أن يعتذروا عنه،
بأنهم ما سجدوا مع محمد (صلَّى الله
عليه وسلم) إلا لأن محمداً (صلَّى
الله عليه وسلم) عطف على أصنامهم
بكلمة تقدير (كذا) وليس يستغرب هذا من
قوم كانوا يؤلفون النكت للضحك من
المسلمين. ولا يستحي أحدهم -وهو ابن
خال النبي عليه الصلاة والسلام- أن
يقول له ساخراً: أما كُلِّمت اليوم من
السماء يا محمد؟.
وليس أسمج من اعتذار المشركين عن
سجودهم إلا تصديق هذا الاعتذار، وقد
حاول المشركون أن ينشروا فريتهم هذه
ليعكروا على الرسول عليه الصلاة
والسلام ويشوشوا على الوحي وليوهموا
بأن محمداً (صلَّى الله عليه وسلم) في
بعض أحيانه مال إليهم، وهيهات، فإن
الحرب التي شنّها محمد (صلَّى الله
عليه وسلم) على الوثنية لم تزدها
الليالي إلا ضراماً، ولم تزده من
عبيدها إلا خصاماً.
عاد من هاجر إلى الحبشة ليباغت بأن
الاضطهاد الواقع على الإسلام أحدّ
وأشد، فدخل بعضهم مكة مستجيراً بمن
يعرف من كبرائها، وتوارى الآخرون،
لكن قريش أبت إلا أن تنكل بالقادمين
وأن تغري سائر القبائل بمضاعفة الأذى
للمسلمين، فلم ير الرسول (صلَّى الله
عليه وسلم) بداً من أن يشير على
أصحابه بالهجرة مرة أخرى إلى الحبشة .
وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من
سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت
إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا
أسرع، فخرج منهم في هذا الفوج ثلاثة
وثمانون رجلاً وتسع عشرة امرأة، ويسر
الله لهم السفر فانحازوا إلى نجاشي
الحبشة . ووجدوا عنده ما يبغون من
أمان وطيب جوار وكرم وِفادة.
والظاهر أن هذا النجاشي كان رجلاً
راشداً نظيف العقل، حسن المعرفة لله،
سليم الاعتقاد في عيسى عبدالله
ورسوله عليه السلام. وكانت مرونة
فكره سر المعاملة الجميلة التي وفرها
لأولئك اللاجئين إلى مملكته، فارين
بدينهم من الفتن.
عزَّ على المشركين أن يجد المهاجرون
مأمناً لأنفسهم ودينهم، وأغرتهم
كراهيتهم للإسلام أن يبعثوا إلى
النجاشي وفداً منهم محمّلاً
بالهدايا والتحف، كي يحرم المسلمين
ودّه، ويطوي عنهم بِشْره.
وكان الوفد من عمرو بن العاص
وعبدالله بن أبي ربيعة -قبل أن يسلما-
واستعان الوفد على النجاشي برجال
حاشيته بعد أن ساقوا إليهم الهدايا،
وزوّدوهم بالحجج التي يُطرد بها
أولئك المسلمون! قالوا إنَّ ناساً من
سفهائنا فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا
في دين الملك وجاءوا بدين مبتدع لا
نعرفه نحن ولا أنتم..."
واتفقوا معهم أن يشيروا على النجاشي
بإقصائهم.
فلما فوتح النجاشي في الأمر وأشير
عليه بإبعاد القوم، رأى أن لابد من
تمحيص القضية وسماع أطرافها جميعاً.
ثم أرسل إلى أصحاب النبي (صلَّى الله
عليه وسلم) فدعاهم، فحضروا، وقد
أجمعوا على صدقه، فيما ساءه وسرَّه.
وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب،
فقال لهم النجاشي:
ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم،
ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من
الناس؟
فقال جعفر: أيها الملك، كنا أهل
جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل
الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع
الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي
منا الضعيف. حتى بعث الله إلينا
رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته
وعفافه، فدعانا لتوحيد الله وأن لا
نشرك به شيئاً، ونخلع ما كنا نعبد من
الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء
الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار،
والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن
الفواحش، وقول الزور، وأكل مال
اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام...وعدد
عليه أمور الإسلام. قال جعفر: فآمنا
به، وصدقناه، وحرّمنا ما حرم علينا،
وحللنا ما أحل لنا. فتعدى علينا
قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا
ليردونا إلى عبادة الأوثان فلما
قهرونا وظلمونا، وحالوا بيننا وبين
ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على
من سواك ورجونا أن لا نُظلم عندك...
فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن
الله شيء! قال: نعم. فقرأ عليه صدراً
من سورة مريم، فبكى النجاشي
وأساقفته، وقال النجاشي: "إنّ
هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة
واحدة. انطلقا، والله لا أسلمه
إليكما أبداً" -يخاطب عمرو بن العاص
وصاحبه-فخرجا وقال "عمرو"
لعبدالله بن أبي ربيعة : والله لآتينه
غداً بما يبيد خضراءهم.
فلما كان الغد قال للنجاشي إنّ هؤلاء
يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً.
فأرسل النجاشي يسألهم عن قولهم في
المسيح. فقال جعفر: نقول فيه الذي
جاءنا به نبينا، هو عبدالله ورسوله
وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم
العذراء البتول.
فأخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال: ما
عدا عيسى ما قلت قدر هذا العود فنخرت
بطارقته! فقال: وإن نخرتم! وقال
للمسلمين: اذهبوا فأنتم آمنون، ما
أحب أن لي جبلاً من ذهب وأنني آذيت
رجلاً منكم! ورد هدية قريش وقال: ما
أخذ الله الرشوة مني حتى آخذها منكم
ولا أطاع الناس فيَّ حتى أطيعهم فيه
وأقام المسلمون عنده بخير دار.
أخفقت حيلة عمرو، وعاد الوفد إلى مكة
يجر أذيال الخيبة. وعرفت قريش أنها لن
تشبع ضغينتها على الإسلام وأهله إلا
في حدود سلطانها، فعزمت أن تشفي
غيظها ممن يقع تحت أيديها.