10.3 مفاوضات المشركين لرد الرسول عن دعوته التوحيدية:
ظن المشركون أن بطشهم
بالمستضعفين ونيلهم من غيرهم سوف
يصرف الناس عن الاستجابة لداعي الله،
وظنوا أن وسائل السخرية والتهكم التي
جنحوا إليها ستهدّ قوى المسلمين
المعنوية فيتوارون خجلاً من دينهم
ويعودون كما كانوا إلى دين آبائهم،
غير أن ظنونهم سقطت جميعاً، فإن
أحداً من المسلمين لم يرتد عن الحق
الذي شرفه الله به بل كان المسلمون
يتزايدون! ولم تفلح طرق الاستهزاء في
الصد عن سبيل الله أو تشويه معالمها،
إنها زادت شعور المسلمين بما تزخر به
الوثنية من معرَّات ومخاز تستحق
الفضيحة والاستئصال. ما تصنع سخرية
الجهول بالعالم؟!
{...إِنْ
تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا
نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا
تَسْخَرُونَ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ
وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ..}.
رأت قريش أن تجرِّب أسلوباً آخر تجمع
فيه بين الترغيب والترهيب، فلترسل
إلى محمد (صلَّى الله عليه وسلم) تعرض
عليه من الدنيا ما يشاء، ولترسل إلى
عمه الذي يحميه تحذره مغبة هذا
التأييد، حتى يكلم هو الآخر محمداً
أن يسكت، فلا يجر المتاعب على كافله
ووليه.
أرسلت قريش "عتبة بن ربيعة" -وهو
رجل رزين هادىء- فذهب إلى رسول الله (صلَّى
الله عليه وسلم) يقول: يا ابن أخي، إنك
منا حيث قد علمت من المكان في النسب،
وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به
جماعتهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً
لعلك تقبل بعضها.
إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالاً
جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا
مالاً. وإن كنت تريد شرفاً سوّدناك
علينا فلا نقطع أمراً دونك. وإن كنت
تريد ملكاً ملكناك علينا. وإن كان هذا
الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع
ردَّه عن نفسك، طلبنا لك الطب،
وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ.
فلما فرغ من قوله تلا رسول الله عليه
الصلاة والسلام عليه صدر سورة فصِّلت:
{حم.
تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَانِ
الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ
آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا
وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ
أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا
يَسْمَعُونَ. وَقَالُوا قُلُوبُنَا
فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا
إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ
وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ
حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا
عَامِلُونَ. قُلْ إِنَّمَا أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ
أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ
وَاسْتَغْفِرُوه ُوَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لَا
يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ..}.
حتى وصل إلى قوله تعالى {..
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ
أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ
صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}.
تخير رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)
هذه الآيات من الوحي المبارك ليعرِّف
محدثه حقيقة الرسالة والرسول. إن
محمداً عليه الصلاة والسلام يحمل
كتاباً من الخالق إلى خلقه يهديهم من
ضلال وينقذهم من خبال. وهو -قبل غيره-
مكلف بتصديقه والعمل به والنزول عند
أحكامه. فإذا كان الله يطلب من عباده
أن يستقيموا إليه ويستغفروه فمحمد
عليه الصلاة والسلام ألهج الناس
بالاستغفار وألزمهم للاستقامة، وما
يطلب ملكاً ولا مالاً ولا جاهاً، لقد
أمكنه الله من هذا كله فعفَّ عنه
وترفع أن يمد يده إليه. وبسط العطاء
مما سيق إليه من خيرات، فأنفق وادياً
من المال في ساعة من نهار، وترك
الحياة غير معقِّب لذريته درهماً.
إن عتبة -باسم قريش - يريد أن يترك
محمد عليه الصلاة والسلام الدعوة إلى
الله وإقامة العدالة بين الناس. ماذا
تصير إليه الحياة لو أن صخرة من الأرض
انخلعت عنها وصعدت إلى دارات الفلك
تطلب من الشمس أو أي كوكب آخر أن يقف
مسيره وإشعاعه، ويحرم الوجود من
ضيائه وحرارته!!؟
ألا ما أغرب هذا الطلب؟ وما أجدر
صاحبه أن يرتد إلى مكانته لا يعدوها!
ولذلك بعدما استمع عتبة إلى آيات
القرآن توقظ ما كان نائماً من فكره،
استمع إلى الوعيد يهدر فيحرك ما كان
هاجعاً من عاطفته: {فَإِنْ
أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ
صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ
وَثَمُودَ} لقد وضع عتبة يده على
جنبه وقام كأن الصواعق ستلاحقه، وعاد
إلى قريش يقترح عليها أن تدع محمداً
وشأنه!!
أما وفد قريش إلى أبي طالب، فقد أخذ
يقول. يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبَّ
آلهتنا، وعاب ديننا، وسفَّه
أحلامنا، وضلَّل آباءنا. فإما أن
تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه،
فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه،
فقال لهم أبو طالب قولاً جميلاً،
وردَّهم ردّاً رفيقاً فانصرفوا عنه.
ومضى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)
بما هو عليه، ثم استشرى الأمر بينه
وبينهم حتى تباعد الرجال فتضاغنوا،
وأكثرت قريش ذكر رسول الله (صلَّى
الله عليه وسلم)، وتآمروا فيه فمشَوا
إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا: يا أبا
طالب إن لك فينا سِنّاً وشرفاً، وإنا
قد استنهيناك أن تنهي ابن أخيك فلم
تفعل، وإنا -والله- لا نصبر على هذا من
شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه أحلامنا
حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك؛
إلى أن يهلك أحد الفريقين، ثم
انصرفوا عنه.
عظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم
له، ولم تطب نفسه بإسلام رسول الله (صلَّى
الله عليه وسلم) وخذلانه، وبعث إلى
رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)،
فأعلمه ما قالت قريش وقال له: أبقِ
على نفسك وعلي، ولا تحملني من الأمر
ما لا أطيق. فظن رسول الله (صلَّى الله
عليه وسلم) أنه قد بدا لعمه رأي، وأنه
خذله وضعف عن نصرته، فقال رسول الله
صلوات الله وسلامه عليه: يا عماه،
والله لو وضعوا الشمس في يميني
والقمر في شمالي على أن أترك هذا
الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما
تركته.
ثم بكى رسول الله وقام، فلما ولَّى
ناداه عمه أبو طالب فأقبل عليه وقال:
اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله
لا أسلمك لشيء أبداً، وأنشد:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسَّد في التراب دفينا |
وهكذا أخفق
الإغراء والإرهاب في تعويق الدعوة،
وأدركت قريش أن ما تصبو إليه بعيد
المنال، فعادت سيرتها الأولى، تصب
جام غضبها على المؤمنين، وتبذل آخر
ما في وسعها للتنكيل بهم ومحاولة
فتنهم عن دينهم.
وحزن الرسول الكريم للمآسي التي تقع
لأصحابه وهو عاجز عن كفها، فأوعز إلى
من قلّ نصيره، ونبا به المقام في مكة
أن يهجرها إلى الحبشة ، وكان ذلك لخمس
سنين من مبعثه، أو بعد سنتين من جهره
بالبلاغ.