4.3 أمر الله سبحانه بإظهار الدعوة لعشيرته الأقربين:

قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت الآية {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، صعد النبي (صلَّى الله عليه وسلم) على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي -لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الذي لم يستطع أن يخرج يرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال النبي (صلَّى الله عليه وسلم): أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدِّقي؟ قالوا: ما جرَّبْنا عليك كذباً. قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد!! فقال أبو لهب: تبّاً لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا! فنزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ...}.
وعن أبي هريرة قال: قام رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) حين أنزل الله عليه
{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فقال: "يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت رسول الله سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً".
هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ. فقد فاصل الرسول عليه الصلاة والسلام قومه على دعوته، وأوضح لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند الله.
لقد كان محمد عليه الصلاة والسلام كبير المنزلة في بلده مرموقاً بالثقة والمحبة، وها هو ذا يواجه مكة بما تكره، ويتعرض لخصام السفهاء والكبراء، وأول قوم يغامر بخسران مودّتهم هم عشيرته الأقربون. لكن هذه الآلام تهون في سبيل الحق الذي شرح الله به صدره، فلا عليه أن يبيت بعد هذا الإنذار ومكة تموج بالغرابة والاستنكار، وتستعد لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتة وتخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها.
وبدأت قريش تسير في طريقها، طريق اللدد، ومجانبة الصواب. ومضى محمد (صلَّى الله عليه وسلم) كذلك في طريقه يدعو إلى الله، ويتلطف في عرض الإسلام، ويكشف النقاب عن مخازي الوثنية، ويسمع ويجيب، ويهاجم ويدافع.. غير أن حرصه على هداية آله الأقربين جعله يجدد مسعاه محاولا عرض الإسلام عليهم مرة أخرى، فإن منزلتهم الكبيرة في العرب تجعل كسبهم عظيم النتائج.
وهم -قبل ذلك- أهله الذين يودّ لهم الخير، ويكره لهم الوقوع في مساخط الله، روى ابن الأثير: قال جعفر بن عبدالله بن أبي الحكم: لما أنزل الله على رسوله
{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} اشتد ذلك عليه، وضاق به ذرعاً فجلس في بيته كالمريض، فأتته عماته يعدنه، فقال: ما اشتكيت شيئاً. ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي. فقلن له: فادعهم، ولا تدع أبا لهب فيهم، فإنه غير مجيبك. فدعاهم فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين رجلا، فبادره أبو لهب وقال: "هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصُّباة! واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة! وأنا أحق من أخذك! فحسبك بنو أبيك. وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش و تمُدّهم العرب، فما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشرٍّ مما جئتهم به".
فسكت رسول الله ولم يتكلم في ذلك المجلس. ثم دعاهم ثانية، وقال:
"الحمد لله أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله. والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة. والله لتموتُنَّ كما تنامون. ولتبعثنَّ كما تستيقظون، ولتحاسبنَّ بما تعملون، وإنها للجنة أبداً أو النار أبداً".
فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقنا لحديثك!! وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب فامض لما أمِرْت به.
فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك؛ غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.
فقال أبو لهب: هذه والله السوأة!!!خذوا على يديه قبل أن يأخذكم غيركم.
فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا.