3.3 الرعيل الأول الذي صدق بنبوة محمد (صلَّى الله عليه وسلم) ورسالته:

أخذت الدعاية للإسلام تنتشر في مكة وتعمل عملها في أصحاب الأفئدة الكبيرة، فسرعان ما يطرحون جاهليتهم الأولى ويخفُّون إلى اعتناق الدين الجديد، وكانت آيات القرآن تنزل على القلوب التي استودعت بذور الإيمان كما ينزل الوابل على التربة الخصبة:
{فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.
كان أصحاب العقائد يتجمعون -في تؤدة- حول عقائدهم، ويلتفون -في حب وإعجاب- حول إمامهم، ويشرحون -في حذر- أصول فكرتهم.
والإيمان قوة ساحرة، إذا استمكنت من شعاب القلب وتغلغلت في أعماقه تكاد تجعل المستحيل ممكناً.
ولقد رأينا شباباً وشيوخاً يلتقون عند فكرة من الفكر. ويحلونها من أنفسهم محل العقائد الراسخة. ومع أنها فكرة مادية بحتة. إلا أنهم يجعلون من حياتهم وقود حركتها، ويتحملون أقبح الأذى في سبيل نصرتها.
وفي السجون -الآن- رجالٌ تخرجوا من جامعات الغرب، يقضون شطراً من أعمارهم مع القتلة وتجار المخدرات...!
ويرون ذلك بعض الجهد الواجب لإنجاح مبادئهم ودفعها إلى الأمام. فكيف إذا كان الإيمان الذي ظهر في صدر الإسلام إيماناً بالله رب السماوات والأرض، وإيماناً بالدار الآخرة حيث ينفلت الإنسان من هذه الدنيا لتستقبله في جوار الله الحدائق الغناء. والقصور الزهر، من تحتها الأنهار الجارية والنعيم المقيم؟....إن الرعيل الأول أخذ يتكون ويتزايد على الأيام.
ومن الطبيعي أن يعرض الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) أولا- الإسلام على ألصق الناس به من آل بيته وأصدقائه، وهؤلاء لم تخالجهم ريبة قط في عظمة محمد عليه الصلاة والسلام، وجلال نفسه وصدق خبره، فلا جرم أنهم السابقون إلى مؤازرته واتباعه.
آمنت به زوجته "خديجة" ومولاه "زيد بن حارثة"، وابن عمه "علي بن أبي طالب" -وكان صبياً يحيا في كفالة الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) وصديقه الحميم أبو بكر، ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام فأدخل فيه أهل ثقته ومودته: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيدالله، وسعد بن أبي وقاص. وآمن القس ورقة بن نوفل.
وقد روي أن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) رآه في المنام -بعد مماته- في هيئة حسنة تشهد بكرامته عند الله. وأسلم الزبير بن العوام، وأبو ذر الغفاري، وعمرو بن عبسة، وخالد بن سعيد بن العاص، وفشا الإسلام في مكة بين من نوَّر الله قلوبهم. مع أن الإعلام به كان يقع في استخفاء، ودون مظاهرة من التحمس المكشوف أو التحدي السافر...
وترامت هذه الأنباء إلى قريش فلم تعرها اهتماما. ولعلها حسبت محمداً عليه الصلاة والسلام أحد أولئك الديّانين الذين يتكلمون في الألوهية وحقوقها كما صنع أمية بن أبي الصلت، وقس بن ساعدة. وزيد بن عمرو بن نفيل وأشباههم. إلا أنها توجست خيفة من ذيوع خبره، وامتداد أثره، وأخذت ترقب على الأيام مصيره ودعوته.
واستمر هذا الطور السرِّي للدعوة ثلاث سنين، ثم نزل الوحي يكلف الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) بمعالنة قومه، ومجابهة باطلهم، ومهاجمة أصنامهم جهاراً.