6.2 حلف الفضول شهده الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) في الجاهلية ومدحه في الإسلام:

أما "حلف الفضول" فهو دلالة على أن الحياة مهما اسودت صحائفها، وكلحت شرورها، فلن تخلو من نفوس تهزها معاني النبل، وتستجيشها إلى النجدة والبر.
ففي الجاهلية الغافلة نهض بعض الرجال من أولي الخير، وتواثقوا بينهم على إقرار العدالة وحرب المظالم، وتجديد ما اندرس من هذه الفضائل في أرض الحرم !.
قال ابن الأثير:
"...ثم إن قبائل من قريش تداعت إلى ذلك الحلف، فتحالفوا في دار عبدالله بن جدعان لشرفه وسنه. وكانوا بني هاشم، وبني المطلب، وبني أسد بن عبد العزَّى، وزهرة بن كلاب، وتَيْم بن مرة. فتحالفوا وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه؛ وكانوا على من ظلمه، حتى تردَّ مظلمته فسمّت قريش ذلك الحلف "حلف الفضول" فشهده رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وقال -حين أرسله الله تعالى-: لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبدالله بن جدعان ما أحبّ أن لي به حُمْر النَّعَم، ولو دُعيت به في الإسلام لأجبت".
إن بريق الفرح -بهذا الحلف- يظهر في ثنايا الكلمات التي عبر بها رسول الله عنه، فإن هذه الحمية للحق ضدَّ أي ظالم مهما عزَّ، ومع أي مظلوم مهما هان هي روح الإسلام الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، الواقف عند حدود الله. ووظيفة الإسلام أن يحارب البغي في سياسات الأمم، وفي صلات الأفراد على سواء..
وقيل في سبب الحلف: إن رجلاً من "زبيد" أتى بتجارة إلى مكة ، فاشتراها العاصي بن وائل السهمي. ثم حبس حقها وأبى أن يدفعه! فاستعدى عليه قبائل قريش والأحلاف فلم يكترثوا له. فوقف الغريب المظلوم عند الكعبة وأنشد:
يا آل فهر لمظلوم بضاعتـــــــــــه

 

ببطن مكة نائي الدارِ والنَّفَر!

ومحرم أشعث لم يقض عمرتـــــــه

 

يا للرجال -وبين الحِجْر والحَجَرِ!

إن الحرامَ لمَنْ تمت كرامتــــــــــــه

 

ولا حرام بثوب الفاجرِ الغدرِ

فقام الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك! فاجتمع الذين ذكرهم ابن الأثير آنفاً، وذهبوا إلى العاصي بن وائل، واستخلصوا منه حق الزبيدي. بعدما أبرموا حلف الفضول.
ويظهر أن العاصي هذا رجل مماطل سمج. فهو صاحب القصة كذلك مع خبّاب بن الأرت. وكان خباب قَيْناً، فصنع سيفاً للعاصي وأتاه لينقده ثمنه، فقال العاصي: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، فقال له خباب: لا أكفر حتى يميتك الله ثم تبعث. قال العاصي: وإني لميت ثم مبعوث؟؟ قال: بلى . قال: دعني حتى أموت وأبعث. فسأوتى مالاً وولداً، فأقضيك -حق السيف- فنزلت الآيات:
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا. أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا. كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدًّا. وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا}.
وأمثال العاصي هذا في ميدان التجارة والسياسة كثير. ومحمد (صلَّى الله عليه وسلم) أولى الناس بخصومتهم. وأولى الناس بمحمد (صلَّى الله عليه وسلم) من أعان عليهم ووثق على حربهم.