3.9 عودة الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) وصحبه إلى المدينة بعد تأدية حجة الوداع:

فلما قضى الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) مناسكه حثَّ الركاب إلى المدينة المطهرة لا ليأخذ حظاً من الراحة، بل ليستأنف حياة الكفاح والكدح لله.
إن المبطلين لا يدعون لأهل الحق مهلة يستجمُّون فيها.
وأصحاب الرسالات أنفسهم لا يستعيدون نشاطهم في القعود عن العمل، بل يستمدون الطاقة على العمل من الشعور بالواجب.
وراحتهم الكاملة يوم يرون بواكير نجاحه دانية القطاف.
قفل الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) إلى المدينة ليعبىء جيشاً آخر يقاتل به الروم.
فإن كبرياء هذه الدولة على الإسلام، جعلتها تأبى عليه حق الحياة، وحملها على أن تقتل من أتباعها من يدخل فيه.
كان "فروة بن عمر الجذامي" والياً من قبل الروم على
"معان" وما حولها من أرض الشام، فاعتنق الإسلام وبعث إلى النبي يخبره بذلك.
وغضب الرومان، فجردوا على "فروة" حملة جاءت به، وألقي في السجن حتى صدر الحكم بقتله، فضرب عنقه على ماءٍ لهم يقال له
"عفراء" بفلسطين، وترك مصلوباً ليرهب غيره أن يسلك مسلكه! وقيل إنه لما قدم للقتل قال:
بلغ سَراةَ المسلمين بأنني

 

سَلْمٌ لربي، أعظمي ودمائي

فأعد رسول الله جيشاً كبيراً وأمَّر عليه أسامة بن زيد بن حارثة.
وأمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحسبنَّ أحد أن بطش الكنيسة لا معقب له، وأن الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الحتوف فحسب.
ولما كان "أسامة" شاباً لا يتجاوز الثمانية عشرة، فإن بعض الجهّال ساءتهم هذه الإمارة، واعترضوا أن يقود الرجال الكبار شابٌ حَدَث.
ولا شك أن النبي لا يلتفت في ولايته إلا إلى الجدارة.
فمن استحق منصباً بكفايته قدَّمه له، غير مكترث بحداثة سنه.
فإن كبر السن لا يهب للأغبياء عقلاً، ولا الصغر ينقص الأتقياء فضلاً.
فما الحداثة عن حلم بمانعة

 

قد يوجد الحلم في الشبان والشيب

ولذلك قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) رداً على اعتراض الناقدين-: "لئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبلُ، وايم الله إن كان لخليقاً بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليقاً بها، وإن كان لَمِنْ أحبِّ الناس إليّ".
وانتدب الناس يلتفون حول "أسامة" وينتظمون في جيشه.
إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أكرهتهم على التريث حتى يعرفوا ما يقضي به الله...