1.9 استقرار الجزيرة بعد انتشار الإسلام وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن لنشر الإسلام هناك:

زالت غبرة الجاهلية عن آفاق الجزيرة كما تزول بقايا الليل أمام طلائع الشروق، وصحت العقول العليلة فلم تعد تخشى وترجو إلا الله بعدما ظلت دهوراً تعبد أصناماً جامدة، وسُمع الأذان للصلوات يشق أجواز الفضاء خلال الصحراء التي أحياها الإيمان الجديد، وانطلق القرَّاء شمالاً وجنوباً يتلون آيات الكتاب، ويقيمون أحكام الله، ويعلِّمون العرب ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم.
إن هذه الجزيرة-منذ نشأ فوقها عمران-لم تهتز بمثل هذه النهضة المباركة، ولم يتألق تاريخها تألقه في هذه الأيام الفريدة من عمرها.
وكان النبيُّ في المدينة يستقبل الوفود ويشيِّعها بعدما ينفخ فيها من روحه الكبير، ويزودها بحكمته الباهرة، فتعود من حيث أتت لتنشىء في مواطنها القصية معاقل للإسلام وصحائف بيضاً في تاريخ أمة.
ولم يكتف النبي بترقب الوفود المقبلة، بل أرسل رجاله الكبار إلى الجنوب ليزيد رقعة الإسلام هناك اتساعاً.
فإن في اليمن وما حولها قبائل كثيفة العدد ولأهل الكتاب السابقين نشاط قديم، وقد نشأ الإسلام هناك حقاً وتقلَّص ظل الفرس لغير عودة.
إلا أن هذه البقاع النائية تحتاج مزيداً من رعاية وتفقّد.
ومن ثَمَّ بعث النبيّ خالد بن الوليد، ثم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري، ثم علياً بن أبي طالب.
وكأنَّ هاتفاً خفياً انبعث في قلب رسول الله يشعره أن مقامه في الدنيا يوشك على النهاية! فإنه بعد أن علَّم معاذ بن جبل كيف يدعو من يلقاهم، وكيف يعرفهم دينهم خرج معه إلى ظاهر المدينة يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله يمشي تحت راحلته!.
فلما فرغ قال:
يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا! ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري! فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول الله.
ثم التفت النبي بوجهه نحو المدينة فقال:
إن أولى الناس بي المتقون، مَنْ كانوا وحيث كانوا.
وقد وقع ما أومأ إليه الرسول، فإن معاذاً أقام باليمن حتى كانت حجة الوداع ثم كانت وفاة النبي بعد الحج الأكبر بواحد وثمانين يوماً، ومعاذ باليمن.
وقد كان للعناية باليمن ما يبررها، فقد ظهر فيها وفي بني حنيفة دجَّالان يزعمان النبوة.
ولم يكن لكلا الدجّالين من خلال الرجولة وآيات الخير ما يجمع عليه حفنة من الرجال.
ولكن داء العصبية العمياء، جعل قبيلاً كبيراً من الرعاع يقول:
نحن نعلم أن مسيلمة كذاب، ولكن كذاب ربيعة خير من صادق مضر!!
وقد اشتعلت فتن المتنبئين حيناً، ثم داستها أقدام المجاهدين بعد، فأخمدت جذوتها، وذهبت نبوة مسيلمة وغيره كما تذهب بولة شاة على أديم الثرى.